رضا المولى في رحلة الحج الأولى (5)

رضا المَولَى

في رحلة الحج الأُولَى (5)

.. وقبل المغرب بساعة طلبوا صعود الحافلات استعدادًا للانطلاق إلى مزدلفة، فبقينا فيها ساعة، كما بقينا فيها بعض المرات أكثر، وفي مرة بقينا ساعة وثلث الساعة! وهو لحرص المسؤولين على أن تكون الأمور جاهزة؟

ركبنا حافلتنا، ولم نستعمل قطار المشاعر، لأننا قريبون منها، وقد توقفت الحافلة مرات، للازدحام الكبير في شوارع عرفات، من الناس ومن السيارات الكبيرة والصغيرة. ووصلنا إلى مزدلفة بعد ساعة أو أكثر.

نزلنا في ساحة واسعة مخصصة لضيوف الملك، مظللة، كعرَصة، أو خيمة كبيرة، وبها دورات مياه، والمكان مفروش كله، يكون مسجدًا ومكانًا للجلوس وهو مفتوح من جهاته الأربعة، ولكنه مسيَّج، حتى لا يدخله غير المصرَّح لهم. وتوزع الناس في هذه الساحة، والجو لطيف، والمشروبات الساخنة في مكان قريب، يقصده ويشرب منها من شاء. جمعنا المغرب والعشاء، وتعشينا.

مخيم الرابطة وضيوف الملك في مزدلفة

وقد شرَّفنا الشيخ مجد مكي، الكاتب المحقق، فكان هو والوالد يتباحثان في شؤون العلم والدعوة والكتب، وأنا أستمع إليهما، ثم وصل الأستاذ منقذ السقار، الذي يعمل في إدارة المؤتمرات بالرابطة، وهو حاصل على الدكتوراه في مجال مقارنة الأديان من جامعة أم القرى. وطلب الشيخ مجد أن أتصوَّر معهما.

وأحببت أن أجري مع الشيخ مجد لقاء، وأضع محتواه في هذا الكتاب، فرحب بذلك، وطرح عليه الوالد الأسئلة.. لكنه استدرك على نفسه، وربط الإجابة عنها بحصوله على كتابٍ للوالد (الطبعة الثالثة من تتمة الأعلام) وأنني المسؤول عن تأمينه، وإلا لم يجب عن الأسئلة! فضحكنا... وكان من الممكن الحصول على نتيجة هذا اللقاء بالبريد الإلكتروني، ولكني لم أتابع الموضوع.

وخُيِّر الحجاج في الساحة بين الانطلاق إلى الجمرات بعد منتصف الليل، ومنها إلى الحرم، وبين انطلاقهم بعد الفجر إلى الجمرات دون الحرم.

واخترت مع الوالد الذهاب بعد منتصف الليل، ونزلنا عند جمرة العقبة الكبرى نفسها، فرمينا فيها سبع حُصيّ.

جمرة العقبة

ووصلنا إلى الحرم ربما في أقلَّ من ساعة. وأراد الوالد أن نطوف بالبيت طواف الإفاضة في الدور الثاني، ولكن المشرفين على تنظيمه وضعوا حواجز طويلة للصعود إليه، ولما وصلنا مُنعنا، وقال العسكري: إن الطواف في الدور الثاني للعربات فقط، يعني للمعوقين الذين يُطاف بهم بالعجلات. ورأينا أكثرهم، بل معظمهم أشخاصًا عاديين يطوفون. فطفنا بالبيت ربما في نحو نصف ساعة أو أكثر بقليل، إذ لم يكن بدأ الازدحام بعد، فقد وصلنا قبل كثير من الناس إلى هناك.

وصلينا بعد الطواف قريبًا من مصلى إبراهيم عليه السلام، ودعونا، ثم إلى المسعى، لنسعى بين جبلي الصفا والمروة سبعة أشواط، وقد بقي ربع ساعة لموعد الحافلة، وكان الوالد قد سأل السائق أين يكون؟ فقال إنه لا يعرف، فقد أوقفه المرور في مكان، وربما يوقفه في المرة القادمة في مكان آخر.

وبعد انتهاء الطواف والسعي ضاع الوقت بين البحث عن السائق في مكانه السابق، وبين موقف الحافلات. ولم يجد الوالد نعله في مكانه، فكان يمشي حافيًا، أو أتبادل وإياه ما أنتعله، ولا يجد موضعًا قريبًا يشتري فيه نعلاً.

اضطررنا إلى استئجار سيارة خاصة لنذهب إلى منى حيث السكن، وذكر السائق أنه يعرف المكان - ولم يكن من أهل البلد - ثم كان يسأل عن الموقع. وبقينا نحو ساعة ونصف الساعة في السيارة من الزحام، وأخيرًا قيل له إن المرور لا يسمح بمرور السيارات الصغيرة إلى منى. وطلب منا أن ننزل عند السلالم الكهربائية القريبة من الجمرات، ومنها نتحول إلى سكننا.

وعندما وصلنا إلى هناك منعنا العسكري من الصعود، وقال: السلالم مغلقة، وما عليكم سوى المضي إلى الجسر الذي تسير فيه الحافلات وتنقل الحجاج إلى الجهة الأخرى، ومنها تذهبون إلى منى.

فانطلقنا مشيًا حتى وصلنا إلى الجسر، وكان قد أُذِّن الفجر، ولم نجد مسجدًا هناك نصلي فيه، وقد جفَّ حلق الوالد وتعب، ولا ماء هناك.

أرشدنا العسكري إلى أن هناك نفقًا يجب أن نمشي فيه حتى آخره، ونتحول إلى اليسار، وهناك يكون السكن، القريب من مسجد الخيف.

فصليت الفجر مع الوالد جماعة، ودخلنا النفق حتى تجاوزناه، ولم يكن طويلاً، وشربنا الماء.. وطلعت الشمس...

رأينا المبنى، ولكنا أردنا أن نحلق لنتحلَّل. فما وجدنا حلاقًا هناك، وإنما أشخاص يحلقون عند دورات المياه، فلم يعجبنا عملهم، خشية انتشار أمراض... فمضينا إلى صيدلية قريبة، واشترينا منها مقصًا، واكتفينا بالقصر، ثم عدنا إلى السكن، والوالد متعب مرهق... وكان يومًا طويلاً... ذهبنا فيه إلى عرفة، ومزدلفة، والجمرات، وطفنا، وسعينا، وقصَّرنا، بفضل الله وتوفيقه.

إنه يوم العيد. فطرنا، ثم اغتسلنا، ونمنا نحو ساعتين، وأفاق الوالد وقد فقد صوته، وكان قد أصيب بالزكام منذ يومين أو أكثر، فاستهل يوم العيد بالذهاب إلى الطبيب، وقاس السكر عنده فكان مرتفعًا، وأُعطي أدوية متنوعة. ولم يُجب الوالد على أحد من مهنئيه من الأهل في هذا اليوم، لعدم قدرته على ذلك، بل كنت أجيب عنه.

وما كانت هناك صلاةُ عيدٍ في المشاعر، إذ لا تجب على الحاج، وإذا حضرها فيؤجر.

وقبيل الظهر، دُقَّ باب الغرفة، فإذا بشباب يوزعون هدايا العيد، كلٌّ له صحن بسكوت، أو كعك.

وزادوا في الغداء بالمطعم يوم العيد، ولم تتغير أنواعه.

وأعلن عن ندوة بعد المغرب في قاعة السكن نفسه، في موضوع القدس والمسجد الأقصى، تحدَّث فيها اثنان: واحد أصله من فلسطين، وآخر من المغرب، وكان يديرها واحد بمرتبة وزير...

والتقينا بعد العشاء بالأديب الداعية عبد الحميد ضحا من مصر. وهو صاحب تاريخ في الدعوة، وله آثار أدبية طيبة، ونشاط في الشبكة العالمية للمعلومات، وبدا كأنه في سن الشباب، نشيطًا، حيويًا، وكان مؤدبًا رزينًا.