• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
شبكة الألوكة / ملفات خاصة / رمضان / خطب رمضان والصيام
علامة باركود

في ظلال آيات الصيام (2) (خطبة)

في ظلال آيات الصيام (2) (خطبة)
عبدالله بن عبده نعمان العواضي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 6/6/2018 ميلادي - 22/9/1439 هجري

الزيارات: 17304

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

في ظِلال آيات الصيام

الجزء الثاني [1]

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ﴾ [الأحزاب: 70-71].


أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.


أيها الصائمون الفضلاء، وقفنا في الجمعة الماضية مع ثلاث آيات من آيات الصيام الخمس في سورة البقرة، وسنقف هذا اليوم - بعون الله - مع الآيتين الأخيرتين من تلك الآيات الخمس.


الآية الأولى قول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].


ففي هذه الآية الكريمة أمران:

الأمر الأول: إذا تأملنا في هذه الآية وجدنا أنها صُدِّرت بالسؤال الذي جرت عادة القرآن بأن يكون صدر جوابه بـ: قل؛ كقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [الأنفال: 1]. أو بقوله: فقل؛ كقوله تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا ﴾ [طه: 105]. لكنه في هذه الآية لم يذكر ذلك؛ ولعل سبب ذلك بيان قرب الله تعالى من عبده عند الدعاء، فهو سبحانه لا يحتاج إلى واسطة أحد بينه وبين عبده؛ فلهذا على العبد أن يدعوه تعالى مباشرة. قال بعض المفسرين: " كأنه سبحانه وتعالى يقول: عبدي، أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء، أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك"[2]. فسبحانه من إله قريب يدعوه عبده بأي لسان، ومن أي مكان، فيسمعه سبحانه ويعلمه! عن أبي موسى رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم[3]؛ إنكم ليس تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعًا قريباً وهو معكم)[4].


والأمر الثاني في الآية: أن الله تعالى ذكر هذه الآية ضمن الحديث عن الصيام ليرشد إلى أهمية الدعاء في زمان الصيام، قال بعض المفسرين: "وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء متخللة بين أحكام الصيام، إرشاد إلى الاجتهاد في الدعاء عند إكمال العدة، بل وعند كل فطر" [5]. وفي هذه الآية إيماء إلى أن الصائم مرجو الإجابة، وإلى أن شهر رمضان مرجوة دعواته، وإلى مشروعية الدعاء عند انتهاء كل يوم من رمضان"[6]. ومما يدل على أهمية الدعاء أثناء الصيام: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر)[7].


عباد الله، إن الصيام من أحسن الأزمان للدعاء، وحال العبد فيه من أحسن الأحوال لذلك، فحينما يعرف المسلم حق هذه العبادة وما ينبغي له فيها فإن روحه تقبل على ربها، فيخشع قلبه، وتستكين جوارحه، فتبدو عليه مخايل الإخبات والإقبال، والخضوع والانقياد، وعندئذ يكون قريبًا من ربه، موقنًا به، فإذا دعاه دعاه بتضرع وإكثار ويقين ورجاء وحسن ظن، وهناك يكون قريب الإجابة.


فما أحوجنا - أحبابي الكرام - إلى الدعاء، وما أفقرنا إلى اللجوء إلى رب السماء؛ إذ ما أكثر الآمال التي نرجو حصولها، والآلام التي نبغي رحيلها!


ومع عظم هذه المطالب إلا أن العجب يقف متحيراً عندما يلجأ أكثر الناس إلى الناس ويدَعون رب الناس، الذي يقول في الحديث القدسي: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)[8].


وإذا ابتُلِيتَ بمِحْنةَ فالبس لها
ثوبَ السكوتِ فإن ذلك أسلمُ
لا تشكوَنَّ إلى العباد فإنما
تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يَرْحَم[9]

 

أيها المسلم، أكثرْ من الدعاء، ولا تستكثر على الله تعالى؛ فإنك تدعو من لا تنفد خزائنه، ولا ينتهي كرمه، ولا يثقل عليه إلحاح الملحين، بل يفرح بكثرة سؤال عبده له وإلحاحه عليه سبحانه وتعالى.


﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]، (يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخل البحر)[10].

 

لا تسألنَّ من ابن آدم حاجةً
وسلِ الذي أبوابُه لا تُحجبُ
اللهُ يغضب إن تركتَ سؤاله
وبُنيُّ آدمَ حين يُسئل يغضب[11]

 

ومتى دعا المسلم بدعوة لم يعجل الله له إجابتها لحكمة يعلمها سبحانه؛ فلا ييأس من الاستمرار رجاء الإجابة، فإن لم يُجب فله ربح آخر أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام.


قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل)، قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال: (يقول: قد دعوت وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء)[12].


وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يدعو، ليس بإثم ولا بقطيعة رحم إلا أعطاه إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها)[13].


إن الدعاء المستجاب - يا عباد الله - يحتاج إلى شروط وآداب، فمن آداب الدعاء وشروطه: أن يكون الداعي حاضر القلب حال دعائه، مخلصًا لله فيه، موقنًا أنه لن يقضي حاجته سواه، وأن يكون متناولاً للحلال في أكله وشربه ولبسه، وأن يكون المدعو به مباحًا. وما أحسن أن يختار الأوقات المناسبة للدعاء كوقت السحر، وبين الأذان والإقامة، وحال الاضطرار. وأن يختار جوامع الدعاء التي تجمع بين خيري الدنيا والآخرة.


أيها المسلمون، والآية الأخيرة من الآيات الخمس هي قوله تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].


وقد تضمنت هذه الآية مسائل:

المسألة الأولى: الرخصة في معاشرة الزوجة في ليل الصيام دون نهاره فقال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾[البقرة: 187] و" هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ورفعٌ لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة"[14]. عن البراء رضي الله عنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك! فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187]. ففرحوا بها فرحًا شديداً ونزلت: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ [15].


وأما قوله سبحانه: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾ [البقرة: 187] فهو يبين أن بعضهم كان يخون نفسه بإيقاعها في معصية الإفضاء إلى زوجته ليالي رمضان وكان ذلك محرمًا قبل النسخ، فرحم الله عباده بنسخ ذلك فتاب على من واقع قبل التحريم، وعفا عنهم بإباحة ذلك وترخيصه ليالي الصيام، فعن البراء رضي الله عنه قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله: ﴿ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ﴾ [16].


وتأملوا - أيها الأحباب الأفاضل - رقيّ الأسلوب القرآني في التعبير عن اللقاء بين الزوجين؛ فقد عبر عن ذلك بالرفث، كما هنا، وعبر عنه بالمباشرة في الآية نفسها في قوله: ﴿ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ وقوله: ﴿ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ ﴾، كما عبر عنه بالمس في قوله: ﴿ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ [البقرة: 236]، وباللمس في قوله: ﴿ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ﴾ [النساء: 43]، وبالإفضاء في قوله: ﴿ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ ﴾ [النساء: 21]. وهذا يعلمنا استعمال التعبير اللطيف السامي في أقوالنا وكتاباتنا حينما نريد التعبير عما يتعلق بالنساء، ويرشدنا إلى الابتعاد عن الألفاظ الصريحة، والكلمات المثيرة. فإذا كان هذا في الكلمات فمن باب أولى البعد عما يثير الغرائز من الصور والمقاطع والحركات غير اللائقة.


وكذلك انظروا إلى حسن التمثيل البديع للقرب بين الزوجين حينما قال تعالى: ((هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ))، فعبر عن هذا القرب بلفظ اللباس الذي يحمل معنى الستر والحفظ والملاصقة. وهذا يعلم الزوجين أن يكون كل منهما حافظًا لأسرار صاحبه، ساتراً لعيوبه وعوراته.


المسألة الثانية: بينت الآية الكريمة أول زمن الإمساك عن المفطِّرات ونهايته، وذكرت أمد الإباحة لتناولها من وقت الليل. فقال تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187]، يعني: أن الصيام يبدأ من طلوع الفجر الصادق إلى دخول الليل بتحقق غروب الشمس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم)[17]. قال بعض المفسرين: " و﴿ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ غاية اختير لها (إلى) للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس؛ لأن (إلى) تمتد معها الغاية، بخلاف (حتى)، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل"[18].


والخيط الأبيض: بياض النهار، والخيط الأسود سواد الليل؛ لحديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: لما نزلت: ﴿ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ﴾ [البقرة: 187]. عمدت إلى عقال أسود، وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي، فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له ذلك فقال: (إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار)[19].


وفي قوله: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187]، إشارة إلى أن من أدركه الفجر وهو على جنابة لم يغتسل منها لم يفسد صومه بل عليه أن يغتسل ويواصل الصيام؛ لأنه "لو لم يجز ذلك لما جاز للصائم مد المباشرة إلى طلوع الفجر، بل كان يجب قطعها مقدار ما يسع فيه الغسل قبل طلوع الفجر"[20]. بل قد جاء التصريح بصحة الصوم مع هذا الفعل في حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم[21].


المسألة الثالثة: أشارت الآية الكريمة إلى استحباب السحور، ففي" إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل على استحباب السحور؛ لأنه من باب الرخصة، والأخذ بها محبوب؛ ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السحور"[22].

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة)[23].


وقال عليه الصلاة والسلام: (السحور كله بركة فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء؛ فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين) [24]. "وصلاة الله عليهم رحمتهم، وصلاة الملائكة استغفارهم لهم، وهذا ترغيب عظيم فيه"[25].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في السحور: (هو الغداء المبارك[26])[27].

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

أيها المسلمون، من المسائل التي ذكرتها الآية الكريمة: مسألة الاعتكاف؛ فذكرت أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، وذكرت مبطلاً من مبطلاته ألا وهو إتيان الزوجة حال الاعتكاف، فقال تعالى: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ [البقرة: 187].


وقد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده؛ لنيل هذا الخير العظيم.


إن المعتكف يتأمل في هذه المدة اليسيرة في حاله ماذا قدم، وماذا سيقدم من الأعمال، فيتفكر في سالف أيامه: فإن كان محسناً يزد في إحسانه، ويعترف بتقصيره تجاه ربه.


وإن كان مسيئاً تضرع إلى الله تعالى ودعاه بغفران ذنبه، وستر عيبه، مع ندم صادق على زمان انقضى في التضييع والعصيان.


ويتفكر في مستقبل أيامه التي يكتنفها المجهول، فيعزم على الجد وترك التفريط والفتور، ويدعو الله تعالى بالتوفيق والسداد في القول والعمل.


فالاعتكاف فرصة للمراجعة والمحاسبة، وفرصة للتزود وشحذ الهمة الإيمانية، وطلب الصواب في قابل الأيام.


والاعتكاف فرصة لتعويض ما ضيع الصائم في أيام رمضان الأولى، فإن كان جرح صومه بمخالطة الناس فلم يسلم صومه من غيبة أو تعدٍّ فالاعتكاف مكان للسلامة والمداواة.


وإن كان فاته القيام فيما مضى فالاعتكاف يعينه على المحافظة على القيام فيما بقي.

وإن كان قد شُغل عن كثرة قراءة القرآن وتدبره فالاعتكاف ظرف كريم لما فاته من ذلك.


ومن المناسبات الحسنة في ترتيب الأحكام في آيات الصيام: أن الله تعالى ذكر مسألة الاعتكاف آخر مسألة من مسائل الصوم لارتباطها بالعشر الأواخر من رمضان[28].


أيها الإخوة الأفاضل، وبعد أن ذكر الله تعالى أحكام الصيام وحِكمه قال سبحانه: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187] أي: هذا الذي بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه، حدود الله، أي: شرعها الله وبينها بنفسه ﴿ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187] أي: لا تجاوزوها وتتعدوها... ﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ ﴾ أي: كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ أي: يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون"[29].


ومن هذه الجملة الأخيرة من الآية نستفيد أموراً:

الأول: التحذير" من الجرأة على مخالفة الصيام بالإفطار غير المأذون فيه"[30]؛ لأن ذلك مجاوزة لحدود الله التي نهى عن قربانها.

الثاني: أن العبادات تحتاج إلى بيان أحكامها؛ حتى تؤدى على الوجه الصحيح، وعلى من عَلِمها أن يبلّغها من لا يعلمها.

الثالث: أن التقوى لا تتحقق إلا بعد البيان للمأمورات حتى تُمتثل، وللمنهيات حتى تُجتنب.

الرابع: تأملوا بعين التدبر إلى الكلمة التي خُتمت بها آخر آية من آيات الصيام الخمس، وأول آية من آياتها، ستجدون أنها كلمة التقوى، فقال تعالى أولاً: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، وقال أخيراً: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾.

وهذا يدلنا على أهمية التقوى، وأن الصيام مرتع خصب لاكتسابها وتحصيلها.

فنسأل الله أن يجعلنا من المتقين.


هذا وصلوا وسلموا على القدوة المهداة...



[1] ألقيت في مسجد ابن الأمير الصنعاني في 9/رمضان/ 1439هـ، 25 /5 /2018م.

[2] تفسير الرازي (ص: 779).

[3] أي: الزموا شأنكم ولا تعجلوا، وقيل: معناه: كفوا، أو ارفقوا. فتح الباري (1/ 121).

[4] متفق عليه.

[5] تفسير ابن كثير (1/ 273).

[6] التحرير والتنوير (2/ 177).

[7] رواه أحمد وابن حبان والترمذي، وهو صحيح.

[8] متفق عليه.

[9] عيون الأخبار (ص: 232).

[10] رواه مسلم.

[11] المستطرف (2/ 116).

[12] رواه مسلم.

[13] رواه الترمذي، والبخاري في الأدب المفرد، وهو صحيح.

[14] تفسير ابن كثير (1/ 273).

[15] رواه البخاري.

[16] رواه البخاري.

[17] رواه البخاري.

[18] التحرير والتنوير (2/ 181).

[19] رواه البخاري.

[20] الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي (1/ 367).

[21] متفق عليه.

[22] تفسير ابن كثير (1/ 276).

[23] متفق عليه.

[24] رواه أحمد، وإسناده قوي..

[25] فيض القدير (4/ 137).

[26] قال العظيم أبادي: " والغداء: مأكول الصباح وأطلق عليه؛ لأنه يقوم مقامه. قال الخطابي: إنما سماه غداء لأن الصائم يتقوّى به على صيام النهار، فكأنْ قد تغدى، والعرب تقول: غدا فلان لحاجته إذا بكّر فيها، وذلك من لدن وقت السحور إلى وقت طلوع الشمس". عون المعبود (6/ 337).

[27] رواه ابن حبان، وهو صحيح.

[28] قال ابن كثير: " كان الفقهاء المصنفون يُتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف؛ اقتداء بالقرآن العظيم، فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم. وفي ذكره تعالى، الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام، كما ثبتت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده، أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها" تفسير ابن كثير (1/ 279).

[29] تفسير ابن كثير (1/ 279).

[30] التحرير والتنوير (2/ 184).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • في ظلال آيات الصيام (1) (خطبة)
  • أحكام آيات الصيام (سورة البقرة: 183-187)
  • فوائد وحكم وأحكام في آيات الصيام (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • حديث: سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن حمود الفريح)
  • من يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • في ظلال التلبية (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)
  • في ظلال الهجرة النبوية: تذكرة الأحباب بوجوب الأخذ بالأسباب (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطب حجة الوداع في ظلال سورة المائدة(مقالة - ملفات خاصة)
  • في ظلال الهجرة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • في ظلال سورة العصر (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • في ظلال الثقة (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب