أثر القرآن الكريم في الخطاب النثري الأندلسي في القرن الخامس الهجري

ملخص الرسالة

أثر القرآن الكريم في الخطاب النثري الأندلسي

في القرن الخامس الهجري

شكَّلَ القرآن الكريم رافدًا أساسيًا من روافد ثقافة الكتاب الأندلسيين، وكانت حضورية النص القرآني في رسائلهم شاهدًا حيًّا على عمق صلتهم بالقرآن الكريم وتأثرهم به، بل أصبح توظيف النص المقدس، والقدرة على تطويعه لخدمة موضوعاتهم، والتفنن في انتقاء أساليب التعبير، معايير تقاس بها ثقافة الكاتب وتبين مدى نجاحه في تطور عملية الإبداع الفني؛ لهذا وجه الكتَّاب اهتمامهم إلى ما يعينهم على التعبير عن رؤاهم وأفكارهم، ويملك القدرة على التأثير في النفوس، فوجدوا ذلك كله في القرآن الكريم، فاستلهموا نصوصه الكريمة، وأفادوا منها ما أغنى إبداعاتهم وعمق تجاربهم.

وقد جاءت هذه الدراسة لتكشف عن بعض جوانب التأثر القرآني لهؤلاء الكتاب، فبعد تسليط الضوء على ثقافة الكاتب الأندلسي وبيان أهمية الكتابة في المجتمع الأندلسي والمكانة السامية التي حققها القرآن الكريم في نفوس الأندلسيين، كشفت الدراسة عن أثر المعاني والقصص والفاصلة كنماذج حية تكشف عن الأثر الكبير الذي تركه القرآن الكريم في نفوس الكتاب، ثم بيان الأساليب الفنية التي اتبعها الكتاب في توظيف النصوص القرآنية.

استوحى الكتاب كثيرًا من المعاني القرآنية، وتم اختيار أبرز تلك المعاني، حيث سعى الكتاب إلى توظيفها والاستعانة بها للتعبير عن مقاصدهم بأساليب مختلفة.

وأما القصة القرآنية التي تعد سرًّا من أسرار القرآن الكريم، فقد كشف توظيفها عند الكتَّاب الأندلسيين عن الواقع الذي أرادوا تصويره، فجاءت تلك القصة لتعبر عن معاني ودلالات في نفس الكاتب، فاستوحى منها ما يتناسب وموضوعاته، وحقق بذلك تفاعلًا إيجابيًّا أسهم في إثراء نصه وتميزه.

وتناول الكتاب الفاصلة القرآنية واستثمروا خصائصها، ووظفوها بأساليب وأشكال متعددة - من حيث تساوي الفصول وطولها وقصرها - توظيفًا يدل على صلتهم العميقة بالقرآن الكريم، ومعرفتهم لأسوار نظمه وإيقاعه.

وأما أساليب الكتاب في توظيف النص القرآني، فقد كشفت عن القدرة الفنية لهؤلاء الكتاب، وتوسعهم في ابتداع أساليب فنية تهدف إلى تحقيق غاياتهم من توظيف النص القرآني بصورة تناسب طبيعة سياقاتهم الأدبية.

المقدمة:

وبعد، فإن النثر الأندلسي غني بطاقاته الإيحائية المعبرة عما فيه من إبداعات فنية تميزت بأصالة الإبداع، والدارس لأدب الأندلسيين يلمس أدوات فنية وطاقات تعبيرية استخدمها الكتاب للتعبير عن مقاصدهم، والذي يهمنا في هذه الدراسة هو بيان الدور الذي مارسه الخطاب الديني المتمثل في القرآن الكريم في خدمة الرسائل الأندلسية، فقد تأثر الكتاب بالقرآن الكريم أسلوبًا ومضمونًا وفصاحة وبلاغة، ولأنه أعظم كتاب عرفته البشرية -وهو منبع ثروتها الفكرية الخالدة- فقد تعلق به الكتاب الأندلسيون، حتى أصبح رافدًا أساسيًا من روافد ثقافتهم، وشكَّل حضورًا متميزًا في رسائلهم.

ترسبت العناصر القرآنية في كتاباتهم، فكشفت عن خفايا الإبداع الفكري والغني لدى هؤلاء الكتاب الذين سعوا جاهدين للوصول إلى سر الجمال الفني في هذا الكتاب العظيم، لهذا وجهوا عنايتهم إلى إبراز القدرة الفنية، والإبداع التصويري، والأداء التعبيري في هذا الكتاب الذي سيظل معجزة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعمدوا إلى توظيفها في رسائلهم بأسلوب يعبر عن قدرات إبداعية.

إن طموح هؤلاء الكتاب في ايجاد قواعد الإبداع والتميز، دفعهم إلى البحث عن جماليات النص الفنية، فوجدوا القرآن الكريم خير رافد يفني هذه الإبداعات ويعمق تلك التجارب، ويضفي عليها جمالًا فنيًا يمتلك القدرة على اختزال النصوص وتمثلها في صور فنية متعددة، لاسيما في الأثر الذي أوجدته الأحداث السياسية المتمثلة في تطلع الصليبيين لاستعادة الأندلس إلى حظيرة النصرانية، وما نتج عنه من ترد للاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

والغريب في الأمر هو غياب دور الباحثين في استجلاء تلك الظاهرة - أعني ظاهرة الأثر القرآني في النثر الأندلسي- رغم أنها ثغرة واسعة تحتاج لكثير من الجهد، وتستدعي الدارسين لاستقصائها ورسم ملامحها، إذ ليس ثمة دراسة مستقلة تناولت الأثر القرآني في الأدب الأندلسي إلا في مجال الشعر، حيث تطالعنا دراستان هامتان هما: دراسة محمد العاني الموسومة "بأثر القرآن الكريم في الشعر الأندلسي من الفتح وحتى سقوط غرناطة"، ودراسة أحمد الربيعي "القصص القرآني في الشعر الأندلسي" وهما دراستان جديرتان بالعناية والتقدير، لما لهما من أهمية بارزة في بيان أثر النص القرآني في واحد من جوانب الأدب الأندلسي.

من هنا فإن هذه الدراسة - التي لا تخلو من العيوب والمآخذ - هي محاولة تهدف إلى تسليط الضوء على بعض جوانب الأثر القرآني في رسائل الكتاب الأندلسيين في القرن الخامس الهجري، وتلفت أنظار الباحثين المهتمين إلى ضرورة تلمس جوانب ذلك الأثر بشكل تفصيلي.

وقد تكونت هذه الدراسة من تمهيد وأربعة فصول وخاتمة.

درس الباحث في التمهيد ثقافة الكاتب الأندلسي، وبين أهمية الكتابة في المجتمع الأندلسي، والشروط التي ينبغي توافرها في الكاتب، وقد ثبت أن القرآن الكريم شغل رافدًا أساسيًا من روافد تلك الثقافة لأن الأندلسيين جعلوه أصلًا في التعليم، فحرصوا على تعليمه لأبنائهم من الصغر.

وفي الفصل الأول تناول الباحث أثر المعاني القرآنية وأشار إلى أبرز تلك المعاني وأكثرها حضورًا في رسائل الكتاب، حيث جاء توظيفهم لها بأساليب مختلفة، كما عكس جانبًا من ثقافتهم المستمدة من القرآن الكريم.

وتحدث الباحث في الفصل الثاني عن أثر القصص القرآني وبيان الدور الذي قامت به القصة القرآنية في بناء رسائل الكتاب من خلال الاستدلال بقصص بعض الأنبياء التي تناولها الكتاب للتعبير عن معان مختلفة.

وأما الفصل الثالث فقد جاء لبيان أثر الفاصلة القرآنية، حيث توافقت فواصل الكتاب مع فواصل قرآنية، وكانت تتسم بقربها إلى العفو والطبع وبراءتها من التكلف.

وجاء الفصل الرابع لبيان الأساليب الفنية التي اتبعها الكتاب الأندلسيون في توظيف النص القرآني، حيث تفننوا في انتقاء أساليب تعبيرية مختلفة، عكست مدى قدرتهم على تطويع النص القرآني لخدمة رسائلهم.

وأما الخاتمة فقد تضمنت النتائج العامة التي توصل إليها الباحث من هذه الدراسة.

وقد اعتمد الباحث في دراسته المنهج الاستقرائي الوصفي، إذ تم تناول النصوص على أسس موضوعية ثم الإفادة من مضمونها.

وقد تنوعت مصادر البحث، حيث كان كتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" لابن بسام من أهم المصادر التي اعتمدها الباحث، يلي ذلك كتاب "قلائد العقيان ومحاسن الأعيان" لابن خاقان، إضافة إلى مجموعة أخرى كان لها فضل في خدمة هذه الدراسة.

وأما المراجع، فثمة مجموعة من المراجع أفاد الباحث من أساليب مؤلفيها وطرق معالجتهم للموضوعات، ومن هذه الكتب: أثر القرآن الكريم في الشعر الأندلسي لمحمد العاني، وأدب الرسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجري لفايز القيسي، والرسائل الفنية في العصر العباسي حتى نهاية القرن الثالث الهجري لمحمد الدروبي، وأثر القرآن في الشعر العربي الحديث لشلتاغ عبود شراد، واستيحاء التراث في الشعر الأندلسي- عصر الطوائف والمرابطين لإبراهيم الياسين إضافة إلى مجموعة أخرى أسهمت في خدمة هذه الرسالة.

الخاتمة:

أولى الأندلسيون القرآن الكريم مكانة خاصة، إذ جعلوه أصلًا في التعليم، واتجهوا إليه لتلبية رغباتهم وإغناء لغتهم، لهذا شغل رافدًا مهمًا من روافد ثقافة الكتاب آنذاك وأصبح محورًا لأهداف الفكر والتأليف، وينبوعًا لكثير من جداول ثقافاتهم، فاتجهت أذهانهم إلى العناية به لتفسير آياته وتعرف أساليبه.

حظيت الكتابة بأهمية خاصة لدى المجتمع الأندلسي، وأصبحت جسرًا يعبره الكتاب للمناصب العليا في الدولة، وقد تأثر الكتاب الأندلسيون بالمذاهب الفنية المشرقية، وكان الأثر القرآني واضحًا وجليًا في رسائلهم، فأفادوا منه ما شاء لهم، ثم صاغوه بطرائق فنية كشفت عن تطلعات إبداعاتهم المتميزة، وبراعتهم في توظيف النصى القرآني بما يجسد صفة الشعرية لنصوصهم، ويضفي عليها طوابع الإبداع والتأليف.

وقد كانت المعاني القرآنية حاضرة في أذهان أولئك الكتاب، فاستلهموها وجسدوها في رسائلهم، حتى شملت ظاهرة واضحة لديهم، وتمكنوا من إقامة صلة قوية بين موضوعات رسائلهم وما استلهموا من معان، وقد صيغت تلك المعاني بأساليب وطرائق مختلفة، دلت على مهارة هؤلاء الكتاب وتألقهم.

وأفاد الكتاب من القصة القرآنية، فاتخذوا من تلك القصة الجوانب التي تخدم أغراضهم، وتطابق ما يرمون إليه، وغالبًا ما كانوا يستعينون بتقنية التلميح، وقد كشف توظفيهم للقصة القرآنية عن سعة مخزونهم الثقافي المتعلق بالثقافة القرآنية، وقدرتهم على صياغتها بصور متعددة.

وأبدع الكتاب في توظيف الفاصلة القرآنية، حيث استثمروا خصائصها النغمية، فجاءت فواصلهم في الغالب تحمل لحنًا إيقاعيًا أكسب نصوصهم قوة تعبيرية، وجمالًا صوتيًا ناتجًا عن الوقع الموسيقي الذي أوجدته الفاصلة، فضلًا عن إسهامها في إتمام المعنى، واتسمت تلك الفواصل بقصر فقراتها، وخلوها من التكلف.

وجاء توظيف النص القرآني عند هؤلاء الكتاب بأساليب متنوعة، حيث ارتقوا بأساليب تعبيرهم وتفننوا فيها، مستغلين طاقاتهم الإبداعية في الوصل بين تجاربهم ونصوصه الكريمة، وقد كشفت تلك الأساليب عن جماليات الإبداع الفني في خطابهم النثري من جانب، وتفننهم في انتقاء أساليب تعبيرية قادرة على تطويع النصوص القرآنية لخدمة موضوعاتهم من جانب آخر.