حرمة الأشياء المبتذلة (قصة قصيرة)

السلم هناك..

حاضر حاضر يا دكتور، سأصعد عليه وأصلح الإنارة.

اللعنة.. لماذا يقضي الذباب حاجته على المصابيح القديمة؟

أهذا هو مستقبلي؟ كهربائي في مستشفى قديم بقرية نائية..

وهذا البغل كيف أصبح طبيباً يأمر وينهى، كيف أخطأته لجنة المقابلة فلم تجعل منه طبيباً بيطرياً.. لا أحد أقدر على فهم الحيوان من هذا الحيوان..

لكني مثقف، قرأت كتباً لا يستطيع هذا البغل أن يلفظ أسماء مؤلفيها، لن يحسن ذلك ولو أغروه بعشر أعدال من الشعير.

"في حلكة ليل بهيم كانت يد تجوس خلال الظلام، تجوس في رعشة كرعشة لحن جنائزي بللته أنداء ظلمة المقابر، كانت يد تفتش عن منافذ النور، كانت يد تبحث في الجدار عن فيش اللمبة"!

ما أقبح هذا التجريد الذي أعيشه بعد ذلك الحلم الخافق، كيف جاز أن يتناسب جلال الأفكار التي أحملها مع هذه الضعة المادية التي أحياها؟

الآن يا دكتور، سأنتهي الآن.. هذا المصباح العنيد قد تآكلت قاعدته.

لكن العقاد لم يحصل إلا على الشهادة الابتدائية، لا بد أن هذه المغفلة هي السر فيما أنا فيه، لو تزوج العقاد ولم يعش عزباً، لو قذفت مثل هذه البليدة في وجهه بثمانية أوغاد لكان كهربائياً في مستشفى قصر العيني!

كان عملاقاً لا يحتاج إلى سلم، لم آخذ من العقاد شيئاً إلا قصر صديقه المازني ودمامته.

كهربائي بائس في مستشفى بقرية، مفلس قصير ودميم، لو كان صلاح الدين في مثل ما أنا عليه لرجمه الناس بالحجارة..

ألا تستطيع أن تنجز عملاً كهذا في وقت أقل؟

قبحه الله هذا الكهربائي التافه، عنده سبعة أولاد وأنا طبيب في حجم البغل لكني عاجز جنسياً..

كم عذبني رفاقي الصغار وهم يتطاولون بمدى ما يبلغه بول الواحد منهم في تلك الأزقة الترابية..

كما عذبتني والدتي وهي ترجوني أن أتزوج وعيناها تقولان لي ما لا يقوله لسانها.

حاذر يا دكتور، ابتعد قليلاً.. الصدأ تساقط على كتفك.

مالك ولكتفي، عندي عمل كثير أريد أن أنجزه، ألم تنته بعد؟

كتفي، كم تمنيت أن أحمل عليه طفلاً يملأ لعابه خدي.

تلك الفتاة المسكينة، ظننت أني سأقوى على زواجي منها بما لم أقو عليه بخيالي، ما أقسى خيبتي في ذلك الصباح.

ما أشد خجلي من نفسي وأنا أداريها حتى تستر علي..

كم كرهت تشريح جثث الرجال في المشرحة..

لكني مثقف.. قرأت آلاف الكتب، في صغري لم تكن دمامتي تحول بيني وبين دهشة كل ما تحدث معي لطلاقة لساني وسرعة بديهتي.. يسألون: ماذا عساه أن يكون حين يكبر.. لا بد أن ذلك الخبيث كان يعنيني بقوله: لماذا يمتلئ العالم إلى هذا الحد بهذا العدد الكبير من الأطفال اللامعين؛ والكبار الفاشلين المعدومي القيمة؟

"آه من بؤس النهايات.. آه، لو أغذ إنسان السير وتوغل في مجاهل نفسي لتجمد من رؤية هياكل أحلامي المفزعة، لولى رعباً من صمت الوحشة يطبق على دروب روحي الساكنة، لجرى لاهثاً من شبح نفسي الشائه؛ يغريه كاشر الأنياب بأن يقترب من فمه المملوء بمزق من ملامح وجهي اختلطت بعفن الحروف..".

ها هي الإضاءة قد أصلحت، كانت قاعدة المصباح متآكلة جداً..

أخبرتني من قبل أنها متآكلة جداً، هل نحن في محضر شرطة نعيد فيه ما كنا بدأنا قوله؟

كانت القاعدة متآكلة، والأسلاك مرتخية، كنت أريد أن أبين لك لم تأخرت في إصلاحها.

لا حاجة لي بهذا البيان أيها الحقير، أتظنني عاجزاً جنسياً؟

تنبيه:

• ما بين الأقواس في القصة منتقى من أوراق عثر عليها في بيت القتيل، وقد أُودِعَت في ملف التحقيق بعد أن كتب عليها المحقق هذه الملحوظة الخارجية:"في هذه الأوراق بعض الأفكار والأساليب التي يصعب على مثل القتيل - بسبب مستواه التعليمي - أن يكتبها وإن كانت مطابقة لخطه، لعل هذا يساعد في الكشف عن وجود شخصية أخرى تحل رموز هذه الجريمة الغامضة، والدوافع الحقيقية وراءها لا سيما وأن جثة القاتل وجدت متحللة في الماء؛ فلم نستفد كثيراً من تشريحها".

• "لقد وهبت اللغة للإنسان لكي يخفي أفكاره". كاليران.

المصدر: من كتاب: ميراث الصمت والملكوت، لعبدالله بن عبدالعزيز الهدلق.