شروط الدعوى (1)

برنامج فقه التقاضي

الحلقة التاسعة

(شروط الدعوى 1)

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله - مستمعي الأفاضل - في برنامجكم: "فقه التقاضي"، وقد أسلفتُ في الحلقات الماضية الحديث عن "شروط القاضي وآدابه"، و"تعريف الدعوى"، وأنها في اصطلاح العلماء: "قول مقبول، أو: ما يقوم مقامه في مجلس القضاء، يقصد به إنسان طلب حقٍّ له، أو لمن يمثله، أو حمايته"، وأن الأصل في استيفاء الحقوق أن يفي كل واحد بما عليه من حقوق للناس، دون منةٍ ولا أذى.

فإذا امتنع من عليه الحق عن أدائه إما تهاونًا، أو جحودًا، أو كان بسبب التباس الحق بغيره.

ففي هذه الحال: إما أن يأخذ صاحب الحق حقه بنفسه دون اللجوء إلى القضاء، وهذا قد يسوغ في حالات محددةٍ، كما في النفقة الواجبة على الزوج والأب، وما عدا ذلك فإن لصاحب الحق أن يرفع طلبه إلى القضاء مطالبًا بحقه.

وإذا تقدم صاحب الحق إلى القاضي مطالبًا بحقه فهو المدعي، وخصمه هو المدعى عليه؛ أي الذي يُدعى عليه أن الحق بيده.

ويتَّضِح من ذلك مستمعي الأفاضل: أن أطراف الدعوى ثلاثة: المدعي، والمدعى عليه، والحق المُدعى.

وقد اشترط الفقهاء في كلٍّ منها شروطًا، لا بد من توفُّرها كي تصِحَّ الدعوى، ويسمعها القاضي.

ونبدأ بالشروط التي يلزم توفرها في المدعي والمدعى عليه.

فالشرطُ الأوَّل الذي يلزم توفُّره فيهما: أن يكونَ كلُّ واحدٍ منهما أهلًا للتصرُّفات الشرعيَّة؛ كي يُقبل منهما إقامة الدعوى والمطالبة والمدافعة، وذلك بأن يكونَ كلُّ واحد منهما بالغًا رشيدًا؛ لأنهما شرط التكليف والمؤاخذة بالتصرفات، والصغير والمجنون ونحوهما لا تقبل تصرفاتهما لنفسهما، ولا على غيرهما، إلا في الشيء اليسير التافه الذي لا يُؤْبَه به.

والسفيه قاصر العقل والإدراك لا يُمكَّن من المطالبة والمدافعة.

واشتراط الفقهاء لهذا الشرط لا يعني فوات حق الصبي والمجنون والسفيه ومن في حكمهم، وإنما هو من باب حفْظِ حُقوقهم، لعجْزِهم عن المطالبة والمدافعة في حُقوقهم؛ كما أنَّ إقرارهم على أنفسهم أو شهادتهم لغيرهم لا يُعتدّ بها.

فما الذي يُصنع حين يكون لأحد منهم حقٌّ، أو تُقام عليه دعوى في مال أو جناية؟

والجواب عن ذلك: أن الذي يتولى إقامة الدعوى بحقوقهم والمطالبة بها والمدافعة عنها هم أولياؤهم، والناظرون عليهم القائمون على أموالهم وشئونهم.

يؤكد هذا ما أوصى الله تعالى به في أموال الصغار واليتامى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ﴾ [النساء: 5، 6].

قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - في تفسير الآية (2/214): "ينهى تعالى عن تَمْكين السفهاء من التصرُّف في الأموال التي جعلها الله للناس قيامًا؛ أي: تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها، ومن ها هنا يُؤْخَذُ الحجر على السفهاء، وهم أقسام: فتارة يكون الحَجْرُ للصغر؛ فإن الصغير مسلوب العبارة، وتارة يكون الحجرُ للجنون، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين، وتارة يكون الحجر للفَلَس".

وإقامة الأولياء على الصغار واجب كفائي لا بد منه؛ لحفظ حقوق الصغار، ومن في حكمهم، وقد عُنيت الشريعة الإسلامية والأنظمة القضائية بهذا الشأن، فمن حق الصغير ومن في حكمه - كقاصر العقل والسفيه - أن يقام عليه وليٌّ يحفظ ماله وحقوقه، ويطالب بها، ويدافع عنها.

ومتى تعذر ذلك، فإن القاضي يتولى إقامة ولي على القاصر للقيام بهذا الواجب.

ولأهمية المحافظة على مال القاصرين من الصغار والسفهاء وقاصري العقل، فإنه يلزم الوليَّ على هؤلاء أن يبذل جهده ونصحه في حفظ حقوق من وُلِّي عليهم، ولا يسوغ له التنازُل عن شيء من حقوق القاصرين ما لم يكنْ في ذلك غبطة ومصلحة ظاهرة للقاصرين، مع قيام البينة على ذلك بإشراف المحكمة المختصة، وإذنها، وموافقة محكمة أعلى على هذا الإجراء، وكل ذلك احتياط في حقِّ القاصرين.

بل لو تبيَّن للمحكمة تفريطُ الولي في حفظ حقوق القاصرين ممن هم تحت ولايته، فإن المحكمة تتخذ ما تراه من إجراء مناسِب بمحاسبة الولي، والنظر في إقامة ولي آخر، تتوفر فيه الأمانة والكفاية، والقدرة على القيام بالمهمة اللازمة في حفظ حُقُوق القاصرين.

والذي عليه عمل المحاكم في المملكة العربية السعودية إقامة الأولياء على القاصرين من الصغار وناقصي العقل ومن في حكمهم، فإن كان الأب موجودًا، فهو الذي يتولى حِفظ حقوق أولاده الصغار ونحوهم، وهو يقوم بهذا العمل ولايةً جبرية لا خِيار فيها، ولا يحتاج إلى إقامته وليًّا عليهم من قِبَل المحكمة؛ لأنه مسؤُول عن ولده، وله حق الولاية عليهم شرعًا، وله الاستِعانة بمن يشاء في أمورهم إن كانوا مِن أهل الثقة والأمانة.

وأما إذا كان الأب غير موجود، فإن المحكمة تقيم على القاصر وليًّا يتولى أموره، فإن كان الأب قد أوصى إلى أحد أن يكون هو الولي على القاصر من أولاده، فيعمل بذلك بعد إثباته لدى المحكمة، وإن لم يوصِ الأب إلى أحد، فإن المحكمة تنظر في الأصلح للقاصرين، وتُولي عليهم مَن تراه أهلًا لذلك، وفي الغالب يكون الوليُّ على الصغار والدتهم إن كانتْ موجودة، ولديها القدرةُ على القيام بأعباء الولاية، وتعطيها المحكمة حق توكيل مَن تشاء فيما تعجز عن مباشرته بنفسها، وإن عُدمت الأم، أو لم ترغب في الولاية على القاصرين من أولادها، أو كانتْ عاجزة عن ذلك، فإن المحكمة تختار أحد الأقارب للقاصرين، وتقيمه وليًّا عليهم، وقد يكون الولي الأخ الأكبر أو العم أو غيرهم، والأهم توفُّر شرطي الأمانة والقدرة على القيام بأعباء الولاية ومسؤُولياتها.

والولي على القاصر يقوم بمهمته بإشراف المحكمة ومتابعتها، وعليه توثيق حقوق القاصر، وضبط ما يرد للقاصر من أموالٍ وحقوقٍ، أو يُصرف منها في مصلحة القاصر، إما في نفقةٍ واجبةٍ، أو حاجة معتَبرة.

والولي في عمله إما أن يكونَ متبرِّعًا محتسبًا، أو يُفرض له أجرة المثل لقاء عمله وجهده، وتتولى المحكمة تحديد الأُجرة المستحقَّة له.

مستمعي الأفاضل: نخلص مما تقدَّم إلى أن مِن شرط المدعي والمدعى عليه أن يكونَ كلُّ واحد منهما مكلفًا رشيدًا؛ كي تُسمع منه الدعوى والإجابة عنها، لأنه يترتَّب على سماع الدعوى حكم على أحد الطرفين، ولذا يلزم توفُّر شرط الأهلية فيهما؛ لأن مَن كان قاصرًا لا يقبل قوله لا في حقه، ولا في حق غيره، لقُصُور أهليته.

وفي الحلقة القادمة - بإذن الله تعالى - نواصِل الحديث عن الشروط التي يلزم توفُّرها في المدعي والمدعى عليه؛ كي تصح الدعوى، وتترتب عليها أحكامها.

نسأل الله تعالى للجميع التوفيق والعلم النافع.

والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

أهم المراجع:

• نظرية الدعوى؛ لمحمد نعيم ياسين.