• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري / بحوث ودراسات
علامة باركود

رمضـان والقـرآن

الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 30/8/2011 ميلادي - 30/9/1432 هجري

الزيارات: 19003

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

قال تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنـزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾[1].

 

إشادة بهذا الشهر الكريم، وأنه كما جعله الله شهر الهداية العملية التهذيبية، فإنه أنـزل فيه الهداية العلمية النظرية العامة الجامعة لخلال الخير كلها، والموضحة لأسباب السعادة في جميع نواحي الحياة، والموصلة إلى أعلى مراتب الكمال. إن الله لما قضى وجعل سعادة الشعوب وشرفها خير من حياتها تعهدها بإرسال الرسل وإنـزال الكتب التي توضح لهم المعالم الموصلة إلى ذلك، فمن قصدها واتجه إليها ظفر بها، ومن انحرف وابتغى غير ما رسمه الله ضلت به بنيات الطريق، فتخبط في أنواع الغواية التي يشقى بها هو ومن تبعه وسار في فلكه بصنوف الأنانية والأغراض الدنيئة المفضية إلى الحروب الباردة والكاوية. فجميع ما يتعارفه الناس في الدنيا من أنواع الخير هو من بقايا الوحي والنبوات. وجميع ما حدث ويحدث من أنواع المفاسد والشرور هو من الانحراف عن ذلك والتكذيب به. لا مراء في هذا مهما غالط المغالطون فليس في اتباع الأهواء والأذواق خير، لأن الله وصف الإنسان بالجهل والظلم والهلع بجميع أنواع ذلك، وهو تعالى أعلم به لأنه الذي خلقه وطبعه على ذلك (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير).

 

وقد قضت مشيئته أن يختم الرسالات والوحي بهدايته الأخيرة العامة الكاملة الشاملة، وأن يشرف العرب بها ويجعل سائر الناس تبعاً لهم وعولاً عليهم، لتتعلق بهم قلوب الصادقين المخلصين، ويكشف المجرم الخبيث من اليهود وأعوانهم، حتى يذهب الله غيظهم بجهاد من صدق من حزبه، فبعث محمداً صلى الله عليه وسلم من صميم العرب وفي قلب بلادهم وأنـزل عليه هذا الوحي العظيم الخالد المحفوظ بإذنه جل وعلا ما بقي الدهر، حاملاً ما شرعه من دينه الحنيف على جميع الرسل والأمم من نوح إلى عهده صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾.

 

ففي هذه الآية كما في غيرها غاية البيان أن دين الله واحد هو الإسلام جاءت به كل الرسل من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأن من زعم غيره، فهو مفتر على الله وجزاؤه معروف سنوضحه بحول الله، وأنه كبر على المشركين وصعب عليهم أن يدعوهم إليه العرب بعد ما اتبعوا أهواءهم وأخفوا منه كثيراً وحرفوه عن مواضعه، والمشرك هو كل من جعل لنفسه الخيرة في أمر من الأمور على خلاف وحي الله، سواء ادعى اليهودية أو النصرانية أو المجوسية أو البوذية أو الشيوعية ونحوها من كل مذهب مادي أو مبدأ قومي يتطاول أهله به على سلطان الله ويعطلونه عن حكمه بعدم امتثال أمره وطرح شريعته، فإن شرك التعطيل أعظم من شرك التشبيه. فالشرك ينحصر مدلوله باتباع الهوى ورفض الحق والركون إلى التخرص مما هو انتقاص لجناب الله واستهانة بعزته وإلحاد في أسمائه. ولذا قال تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم)[2].

 

وقال سبحانه وتعالى: ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾[3] وقال: ﴿ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ﴾[4]. فالقرآن يفضح المشركين ويكشف سوءاتهم وينادي عليهم بالجهل والضلال لهذا كبر عليهم أمر العرب وصعب. فالمشرك عدو للعربي الحامل للقرآن والداعي بدعوته إلى الله حتى ولو كان عربياً مثله.

 

نعم. إنه يعادي من جعل الآلهة إلهاً واحداً، لأن نفسه تجنح إلى آلهة الهوى المتنوعة، إله الأطماع وإله الأغراض النفسية وإله الشهوات وإله الأنانية والانتهازية التي لا تقف عند حد، وإله المبادئ الحزبية والمذاهب المادية التي يتأكل بها المتأكلون وينال بها المغرضون شتى المناصب والألقاب وأنواع المديح والتقديس. لهذا كانوا حرباً على الرسل وأتباعهم الحاملين لواءهم إلى يوم القيامة. ولهذا كانوا أعداء للقرآن، يصمون عنه آذانهم ويحولون دونه الناس ويصدونهم عن استماعه ويتوعدون اتباعه.

 

فعلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن ينتبهوا لمقاصد أعدائهم كيلا ينجرفوا في تيارهم. وعلى كل من يعتز بعروبته أن يلتفت التفاتة صحيحة إلى القرآن ويجعل من عروبته أكبر حافز على أخذه بقوة، وذلك بحسن تدبره وتلقيه أولاً، ثم بتوزيع هدايته ثانياً، وأن لا يفرط في هذه المكرمة ولا يسترخص نفسه بالالتفات إلى غيرها من أوضاع أعدائه الذين تسيرهم الماسونية اليهودية العالمية اليوم باسم القوميات والوطنيات والمذاهب المادية، فيكون كمن استبدل الدر النفيس والذهب الإبريز بالخزف والنحاس.

 

إن الله شرف العرب أكبر تشريف وأكرمهم بأعظم مكرمة في مثل هذا الشهر مما يقرب من أربعة عشر قرناً بإنـزال هذا القرآن العظيم بلغتهم العربية الكريمة مختاراً لها أن تكون هي اللغة الرسمية في جميع بقاع الأرض.

 

وقد انتشرت لغتهم في أغلب المعمورة وقت أسلافهم الذين شكروا نعمة الله بالعمل ورعوا أمانته في حمل رسالته حق رعايتها. وما أجدرنا اليوم بعرفان قيمتنا بين الأمم، وذلك بتوزيع الوحي المحمدي الذي ورثناه لتنتشر لغتنا أكثر من قبل وأوسع، ولنكون أساتذة العالم وحملة النور والصلاح والهداية والسلام ومصدري المثل العليا والمبادئ الصحيحة للعالم.

 

فنحن أمة التصدير كما أوجب الله علينا ذلك ومن لم يقم بالتصدير انعكس أمره فكان مستورداً.

 

ولا يليق بهذه الأمة أن تنحط من مقام العلو والتصدير إلى هاوية السفل والاستيراد ههنا، هذا لا يرضى به إلا الصعلوك الذي جعله الله صفر اليدين من كل هدى ورسالة ولكن هذه المهمة الجليلة التي هي توزيع الهداية والقيام بتطهير الأرض من الكفر والظلم تتطلب منا حسن التقبل أولا لما أنـزل الله علينا وأن نقف الموقف المشرف من القرآن ونعطيه حقه الذي أوجبه الله بل نعطيه حقوقه الكاملة وهي - أن نفرح به أعظم فرحة، إذ يجب أن نفرح به فرحة لا يشبهها أي فرحة بأي شيء من متع الدنيا ولذائذها، لأن من كانت فرحته بمتع الدنيا ومكاسبها أعظم من فرحته بهذا القرآن فهو مريض القلب، ناقص التفكير، لاسيما إذا كان عربياً مسلماً، لأن كل شيء في الدنيا يزول ويحول وينتقل من المرء إلى عدوه، وبعض النعم تكون مفسدة أو مهلكة، ولكن نعمة القرآن هي نعمة الوحي والرسالة الخالدة.

 

نعمة الهداية الأبدية العامة في كل شيء، ونعمة العزة والقيادة والسيادة العالمية لمن أحسن التصرف فيها وزحف بها إلى الأمام، كما فعل أسلافنا الذين تخرجوا من مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي نعمة لا يعدلها نعمة، وهي منحة لا يعدلها منحة.

 

هي نعمة فيها الشفاء الصحيح للصدور من مرض الشبهات ومرض الشهوات. وهي نعمة تحصل بها المعرفة الصحيحة للحقائق ويتميز بها الخبيث من الطيب والصادق من المنافق. وهي نعمة يحصل بها الوحدة الصحيحة التامة العامة لجميع الأمة، وبعدم التزامها تحصل الفرقة والشقاق البعيد.

 

وهي نعمة يحصل بها الأمن الصحيح والعيشة الراضية السليمة في الدنيا والآخرة، وبعدم التزامها وعدم التمسك بها يحصل الخوف والتناحر والحروب والإرهاصات المتنوعة. ولذا قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ* قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾[5].

 

وفائدة الفرحة الصحيحة المطلوبة منا بهذا الوحي العزيز هي القيام بحقه الثاني وهو الانشغال به عما سواه من سائر الكتب الأخرى على اختلاف أنواعها، خصوصاً الكتب التي لعبت بها أيدي اليهود كالتوراة والأناجيل ومزامير داوود وبعض ما ينسب إلى الأنبياء والصالحين، فإن اليهود لعبوا ببعض الكتب ابتكاراً وابتداعاً وببعضها تحريفاً وتلبيساً.

 

فمن واجب المسلم عامة والعربي خاصة أن يقوده الفرح بما أنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم إلى الانشغال به عن غيره، والاستغناء به عما سواه، كما ورد عن البخاري وغيره في تفسير معنى الحديث:(من لم يستغن بالقرآن فليس منا) حملوا التغني على الاستغناء، وأورده البخاري تعليقاً، وهو يحتمل الأمرين: تحسين الصوت به مع التحزن الناشئ عن الخوف والتعظيم والاستغناء به، لأن الله وصفه أنه هدى وبيان (بحذف المتعلق) ليشمل جمع أنواع الهداية والبيان في جميع نواحي الحياة وميادين العلم، كما قال تعالى: ﴿ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ وهذا نص صريح في عموم تبيانه لجميع الأشياء من جهة أصولها وضوابطها والقواعد التي تنشأ منها الفروع وتنبني عليها، لأن جزئيات الفروع تتجدد، ولكن الله جعل في وحيه لكل شيء أصلاً ومرجعاً يعرف فيه حكمه من حل وحرمة وصحة وبطلان وطيب وخبث وندب وكراهة، فلا يحدث حادث أو يتجدد نبات إلا ويعرف حكمه من تلك الأصول والضوابط.

 

وقد وصف الله القرآن بأنه مبارك وأنه رحمة فمن رغب عنه إلى غيره فقد تنكب عن البركة وأخرج نفسه من الرحمة، مهما زعم فإن مزاعمه كلها مغالطة. والله حصر الهداية العامة والحق الصحيح فيه وحصر الضلال فيما سواه).

 

نعم إن الله حصر الهداية العامة والحق الصحيح لجميع شئون الحياة في وحيه المبارك، وحصر الضلال فيما سواه. فكل من طلب الهداية بأي شأن من شئون الحياة في غير وحي الله فقد زاغ عن الهداية إلى الضلال. وقد وصف وحيه بأن نور، فمن حاد عنه لابد أن يتخبط في الظلمات وأن يكون أمره مريجاً فاسداً. ومن تنكب عن وحي الله زاعماً أنه في عصر النور أو في عصر لا يحتاج فيه إلى القرآن أو لا يصلح تطبيقه فيه، فهذا قد حاد عن الصراط المستقيم، صراط الله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وسلك طرق أهل الجحيم، واستهوته شياطين الإنس فمنهم دعاة على أبواب جهنم، من استجاب إليهم قذفوه فيها، كما أخبرنا عنهم الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة المشهور.

 

وأعظم من هذا النوع ضلالة من زعم أن الإنسان في هذا العصر قد نضج عقله وأصبح لا يحتاج إلى التقيد بنصوص الدين أو الرجوع إليها وأنه يستوحي الهداية من ضميره وتفكيره، فهذا والعياذ بالله مشاق لله ولرسوله، وكفره يزيد على كفر المعاندين الذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم:(ائت بقرآن غير هذا أو بدله)، فعلمه الله أن يرد عليهم بقوله: ﴿ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾[6].

 

فهذا موقف سيد الخلق من أسلاف أهل هذه الفكرة وأمثالها، والله حصر الهداية من طريق الوحي، والضلال من طريق النفس فقال: ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾[7]، فأخبر أن نبيه عليه الصلاة والسلام لا يهتدي إلا من طريق الوحي.

 

وإذا كان صفوة الخلق مقصورة هدايته على ما يوحي الله إليه، فكيف بصعاليك أهل هذا الزمان الذين تتناقض نظرياتهم وتكذب اكتشافاتهم بعضها بعضاً وتلعب الدجاجلة ومحترفو السياسة الموسمية بعواطفهم وعلى أذقانهم؟ كما شاهدنا كل ذلك عياناً وكما قص التاريخ علينا نبأ من قبلهم من قريب أو بعيد، حيث لم نجد عقولاً استنارت بغير وحي الله، ولا حصل زحف صحيح مقدس سليم نافع إلا على ضوء ما أنـزل الله.

 

فيا ويح من جعل نفسه نداً من دون الله، أو زعم الاستغناء عن وحي الله.

 

هذا جريمته أعظم من جريمة من قال (سأنـزل مثل ما أنـزل الله) فمن زعم القدرة على تسيير أموره أو السلوك في الطريق الذي يختاره لنفسه دون الرجوع إلى وحي الله وحكمه فيما أنـزل، وأنه في حالة يستغنى بها عن ذلك، فقد زاد في كفره وظلمه على أولئك الذين حكم الله عليه في هذه الآية بأنه من أعظم أنواع الظلمة بقوله ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنـزلُ مِثْلَ مَا أَنـزلَ اللَّهُ ﴾[8].

 

والظلم في اللغة: النقص من الشيء. قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ﴾[9]. وقال: ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ أي لا ينقص من أجر أحد من عمله الطيب مهما كان حقيراً. كما قال تعالى: ﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ﴾[10].

 

وإذا كان الظلم نقص الشيء مهما كان فلا ينقص أحد حق أحد إلا وهو منتقص لجنابه أو مستعل عليه أو مستهين بمغبة عاقبته. هذا في معاملة البشر للبشر فكيف بمعاملة الله جل جلاله؟ فلا ينقص أحد من حق الله الذي أوجب عليه أداؤه من أركان الإسلام وشعب الإيمان إلا وهو مستهين بعزته، غافل عن آياته، ولا ينتقص وحيه المنـزل على محمد صلى الله عليه وسلم إلا منتقص لجنابه، مستهين بعزته، غير معترف بعلمه وحكمته، أو منكر له بالكلية أو جاحد لآياته، غير مؤمن بلقائه ووعده ووعيده.

 

هذه أمور لابد منها مهما حاول الملحد التملص عنها، فإن المؤمن بالشيء لابد أن يكون لإيمانه آثار يتأثر بها في اتجاهه نحو هذا الشيء، بل في أفكاره وسلوكه، إذ لابد من تصور قيمة ما آمن به وتصور مفعوله ومدى نفعه أو ضرره مهما كان فكيف بالخلاق العظيم مبدع الأكوان وقيوم السموات والأرض.

 

فمن كان مؤمناً به حقاً ولم يعتبره خرافة، فإنه لابد أن يتصور مدى عظمته وعلمه وقدرته وإحاطته ورحمته وفضله وحكمته، ويتيقن أنه قاطن في أرضه، ساكن في ملكه، متقلب في نعمته، راتع في فضله، مغمور بإحسانه وجوده.

 

ويتيقن أنه مخلوق لحكمة، لم يخلق عبثاً، تعالى الله عن العبث الذي يترفع عنه الشريف من الناس، ثم يستشعر دائماً أن الذي خلقه مطلع عليه، رقيب على حركاته وسكناته، وأنه هيأه لأمر وفق حكمته، كما يهيئ الصانع أي آلة يصنعها لحرفة ما وفق صلاحيتها للقيام بمهمتها (ولله المثل الأعلى) والله أعلى وأجل.

 

وقد جعل وظيفة الإنسان خلاف وظيفة الآلة وأعلى. فذلك التصور المنبثق من الإيمان بالله يجره إلى الإيمان بالملائكة والكتاب والنبيين - هذا شيء ضروري للإيمان لا محالة - من كفر ببعضه فقد كفر بجميعه - ومن آمن بالكتاب والنبيين الذين خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم وجب عليه اتباعه وتنفيذ وصايا ربه جميعها وإقامة حدوده، وجعل الحاكمية له في الأرض كما هي له في السماء، وذلك بتحكيم شريعته، والقيام بنصرة دينه، وقمع المفتري عليه. فمن عمل هكذا فهو المؤمن بالقرآن حقيقة، لأن هذه الأمور هي التي يصدق عليها معنى الإيمان، ومن لم يقم بها فليس في قلبه من الإيمان بالله شيء سوى الدعاوى الفارغة والمزاعم الكاذبة التي يخدع بها نفسه أو يخادع الناس. كما أن من زعم الإيمان بمبدأ قومي أو مذهب مادي طالبه أهل ذلك المبدأ أو المذهب بالعمل من أجله والسعي لصالحه والتقيد بمخططاته، فإذا نكص عن العمل أو خالف المخطط اعتبروه منافقاً أو منحرفاً أو خائناً أو مرتداً حسب ما يرونه فيه، فلا يسمحون له بالانتساب، ولا يرضون منه أن يلعب على أذقانهم.

 

وهكذا فحقيقة الإيمان هي العمل بمقتضياته ولوازمه تماماً بدون إخلال.

 

ومن ادعى إيماناً عارياً عن العمل والتضحية فهو كاذب وأكذب منه من خالطه الريب والشكوك، كشأن كثير من أدعياء الإسلام والإيمان الذين انصبغوا بثقافة الإفرنج وأعجبوا بها، وزهدوا في وحي الله ورسالته، بل لم يقدروه حق قدره ولا بعض قدره فلم يعاملوه ولا بعشر معشار ما يعاملون زعماءهم ورواد مذاهبهم من الحب والإجلال والعمل والانقياد والبذل والتضحية، بل كان سهمه منهم الإعراض والاشمئزاز من ذكره والاستهزاء بمن يدعو إليه كما أخبر عنهم بقوله (وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)[11].

 

وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾[12] صدق الله العظيم، إن لكل قوم وارث، فالمتعلقون بالمذاهب العصرية، والمتجهون إلى روادهم من فلاسفة مذاهبهم وزعمائها إذا سمعوا من يتكلم بتوحيد الله أو يكتب عنه هزئوا به ولقبوه بشتى الألقاب البشعة، لتنفير العوام عنه، وقالوا هذا عدو الزعيم الفلاني والمذهب الفلاني والرائد الفلاني والجنس الفلاني. هذا الرجعي المتحجر المتزمت، ونسوا أنهم قد هربوا من الإيمان الصحيح بالله وانتهجوا الخطط المعادية له، وأنهم هم الرجعيون الذين رجعوا إلى صنوف الجاهلية الأولى، وأنهم هم المتحجرون الذين تحجروا واسعاً وضيقوا نظريتهم وحصروا عملهم على فئة واحدة ووجهة واحدة وتزمتوا لها بحصر انصياعهم إليها وطرح ما سواها، مما أعادوا به العصبية الجاهلية، فهم ألصق بتلك الألقاب التي يصمون بها المتبعين لوحي الله وحكمه، ولكن الملحد الذي يميل به الهوى عن سبيل الله، وتستهويه الشياطين، فلا يبصر الحقيقة التي جاء بها وحي الله لتزكية الإنسانية والارتفاع بها عن التسفل المعنوي الذي استزلتها شياطين الجن والإنس إليه، فوحي الله سبحانه أعطى المسلمين مفاتيح الكنوز المعنوية في الدنيا ومفاتيح الجنان في الدار الآخرة، وهم لم يضيعوا هذه المفاتيح، بل هم محتفظون بها احتفاظاً لفظياً وسطحياً، فهي عندهم محترمة مقدسة، ولكنهم عطلوها عن وظيفتها، فلم يستفتحوا بها تلك الكنوز، لأنهم اكتفوا من نصوص الوحي بألفاظها ومبانيها دون مقاصدها ومعانيها، واكتفوا من سنن الله بأشكالها دون غاياتها، ومن عظماء سلفهم بقبورهم لا بحكمتهم والعمل بمبادئهم وفضائلهم، واكتفوا من القرآن وسائر الكتب بطباعتها وتجليدها والترنم بقراءتها دون العمل بما فيها، فكانوا كالمنسلخ منها لإصرارهم على مصالح خاصة تعارضها والعياذ بالله.

 

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم:(إن هذا القرآن حبل الله المتين، والنور المبين، والشفاء النافع، عصمة لمن تمسك به، ونجاة لمن اتبعه، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق من كثرة الترداد، اقراؤوه فإن الله يأجركم على قراءته بكل حرف عشر حسنات، لا أقول (ألم) حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف).

 

وليست قراءته المطلوبة هذرمة أو ترنماً يخرجه عن شرف مكانته وعلو رفعته إلى فن الأغاني والمطربات، كما أولع به أهل هذا الزمان، ولا أن تقصر قراءته على المآتم كما يفعلونه في الأحزان، ولا أن يؤول تقديسه إلى أن يجعل تعاويذ يحملها المرضى أو الموسوسون والصبيان فإن الكتاب وكل كتاب لا يرسل لأجل نقوشه ولا لتكييف الأصوات بكلمه وحروفه، ولكن لأجل أن يعلم مراد المرسل منه ويعمل به.

 

وقد ضرب الإمام الغزالي مثلاً للعاصي إذا قرأ القرآن وكرره، فجعله بمثابة رجل مسئول عند بعض الملوك جاءه كتاب من الملك فيه أوامر وتوصيات هامة فأخذ يكرر قراءته ويقبله ويضعه على رأسه دون أن يعمل بشيء مما فيه.

 

ذكرنا فيما مضى طرفاً صالحاً من حكم الصوم وفوائده، ونـزيدها الآن بمناسبة قوله تعالى:(وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) وذلك أن الصوم نصف الصبر كما ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه والبيهقي والبزار ورجاله رجال الصحيح. وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم رمضان شهر الصبر، كما ورد عنه (وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة، وإنما سمي الصوم نصف الصبر لأن قوى الإنسان ثلاثة: قوة شهوية كالتي في الحيوان وقوة غضبية كالتي في السباع، وقوة روحية كالتي في الملائكة، فإذا تغلبت قوته الروحية على أحديهما كان ذلك نصف الصبر.

 

وفي الصيام الصحيح يتغلب على القوتين الشهوانية والغضبية.

 

ولما كان موقف المسلم على الدوام موقف جهاد لقوى الشر الداخلية والخارجية، ومن أكبر عدة الجهاد الصبر وقوة الإرادة، كان الصيام خير وسيلة للتربية على ذلك كما أسلفنا، زيادة على الأجر العظيم غير المحدود، حيث يقول الله:(إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب)[13]. وقد قدمنا أن من انهزم في الجهاد النفسي الداخلي لا يصلح للجهاد الخارجي، لأن هزيمته محققة.

 

وفي الصوم يتحرر الإنسان من سلطان الهوى وسلطان الغرائز، وينطلق من سجن جسده وقيد شهواته، محلقاً بروحه، شامخاً برأسه نحو الله جل وعلا، فليس عجيباً أن لا ترد دعوة الصائم لاقترابه في رحمة الله ورضوانه.

 

وفي الحقيقة أن أسرار الصيام العظيمة لم يكتشف منها البشر إلا القليل كما قال تعالى:(وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) فحكم الله العظيمة من وراء ذلك الجوع والعطش والانحباس عن الشهوات في مدرسته الشهرية كل سنة لا يمكن إدراكها كلها، ولكن إذا عرف الإنسان حقيقة تكوينه، وأنه ليس مجرد هذا الهيكل المنتصب، ولا هذه المجموعة من الأجهزة والخلايا واللحم والدم والعظم والعصب، وأن للإنسان حقيقة أخرى غير ذلك، حقيقة روحية، وسر من أسرار الله، وجندي خاص يمتاز على سائر الأجسام الأرضية.

 

فالجوهرة الروحانية التي جعلها الله في الإنسان بها يعقل ويفكر، وبها ينبثق شعوره نحو خالقه، فيتطلع إلى ابتغاء مرضاة الله ليفوز بمدد السماء وحصانة السماء، والنصر العزيز من رب السماء في الحياة الدنيا، والفوز بالملكوت الأعلى في الدار الآخرة. فالإنسان جسد سفلي وروح علوي: فالجسد بيت والروح صاحبه الساكن فيه. والجسد مطية والروح هي الراكب المسافر فالبيت لمصلحة الساكن والمطية لمصلحة الراكب: فإذا سلم عقل الإنسان الفطري من المؤثرات الشيطانية اتجه إلى الله متبعاً وحيه المبارك.

 

وفي هذه الحالة يعرف قيمة نفسه ويدرك سر الله فيه، فيؤثر أشواق الروح إلى الله على نوازع الجسد إلى الشهوات، فيكون من خير البرية كما وصفه الله. أما إذا عكس الأمر فجعل روحه عبداً لجسمه ونفسه خادماً لشهواته لما استزلته الشياطين من حقيقته، فهذا صار ممن اتخذ إلهه هواه، وجعل روحه خادماً لجسمه كما قيل:

 

يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته
أتطلب الربح مما فيه خسران

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

 

فتنويع الله للعبادة رحمة منه وحكمة لتهذيب النفوس وصقل الأرواح وتصفية العقول وحفظها من نـزعات الشياطين، وفريضة الصيام لها أعظم مساس بهذا الشأن لأنها ترتقي بروح الصائم ارتقاء يحفظه من كل انحطاط. والله يعلم وأنتم لا تعلمون.،

 

وقوله سبحانه وتعالى: (وبينات من الهدى والفرقان) يعني بينات واضحات المعاني والمسالك، فالقرآن دستور كامل شامل لنظام الدنيا وخير الآخرة، وصفه منـزله سبحانه وتعالى بأنه (هدى للمتقين) في عامة أحوالهم، حتى أن جميع قصصه محتوية على الأحكام والعبر.

 

وللاختصار أنبه القراء والسامعين إلى سورة واحدة قصيرة أودع الله فيها دستوراً عظيماً للحياة السلمية والحربية، وضمنها من حقوق الإنسان ما لا يستطيعه العقل البشري بجميع منظماته الدولية الممتحنة بشتى أنواع التجارب القاسية، لا منظمة حقوق الإنسان ولا ما هو أعلى منها، فهذه السورة التي سبقتهم بأربعة عشر قرناً إلى أشرف الغايات وأجمل الخصال هي سورة (الحجرات) التي ابتدأها الله سبحانه بتركيز القيادة العامة في المسلمين بوحي السماء تمكيناً لإقرارها في حياة الناس، حيث قال سبحانه: (لا تقدموا بين الله ورسوله) وهذا أخذ بحجزهم من أول الطريق حتى لا يدع لهم شيئاً من الخيرة في أمر الله ورسوله، ولا يجعل لهم حق التقدم عليه بأي أمر أو رأي يعارضه. ولذا جاء النص بصورة تجمع شوارد النفس كما قال في الآية (39) من سورة الأحزاب:(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم).

 

ثم تأتي بالأمر الصريح بالتزام الأدب كما سنفصله في تفسير تلك السورة.

 

ثم تركز الثقة بالقيادة وتقطع الطريق على كل من يريد النيل منها أو الإساءة إليها أو يعمل على شيء من الاستفزاز لها أو عليها كما سنوضحه أيضاً إن شاء الله.

 

وكذلك تركيز التفويض للقيادة ومعالجة كل خصومة بالصلح أولاً، ثم بتأديب الباغي المعتدي ثانياً حتى يرجع إلى رشده محفوظاً له حقه من العدل والقسط، ومحترم في دينه من الطعن فلا يخرج من الدين بمجرد القتال بل هو باق على أخوة الدين، فنـزوة الطيش التي سببتها أغراض النفوس لا تخرج صاحبها من الإيمان كما هو واضح من أول السياق وآخره. فأوله (وإن طائفتين من المؤمنين اقتتلوا) وآخره (إنما المؤمنون إخوة).

 

وقد ترجم البخاري باباً في ذلك كما سيأتي توضيح الجميع بحول الله وقوته.

 

ثم تركيز مجموعة من الأخلاق الاجتماعية الفاضلة لحماية المجتمع المسلم من التفكك والتصدع وتحصين أواصر الأمة من البغضاء والشقاق والعمل على جمع شمل الأمة بالمحبة والتعارف، والعمل أيضاً على التفاف المسلمين على حقيقة الإيمان وخضوعهم لسلطان الله في كل شيء وارتباطهم به في جميع الحالات. فيا لها من سورة عظيمة قويمة لا يغني عنها جميع مقررات أهل الأرض، بل ولا يأتون بمثلها. ومع هذا نجد بعض مدراء الجامعات العربية من (دكاترة) العرب يرسم في مجلة (العربي) للقومية نقاطاً لا يكتبها إلا أجهل الناس بالقرآن وأبعدهم عنه، بل أجهل الناس بما يجرى في المحيط الدولي الذي يدعونا إلى تعشق مثله العليا - ونحن لا نرى في محيطه إلا المثل السفلى.

 

من المؤسف أن يتفوه (دكتور) يتبجح بالعروبة ويستظل بالإسلام بهذا الكلام في نقاطه الخمس الهزيلة، وهو يرى المآسي الفظيعة تجري في الدول التي يقدسها كأنه ساكن في غير هذه الكرة الأرضية، لا يسمع ولا يبصر ما فعلته الدول في شرقي (أوربا) والبلقان والجزائر وفلسطين والحبشة والزنجبار، وما تفعله دولة الهند بالمسلمين وفي جبل (بور كلكته) و (كشمير)، وما يجرى على المسلمين في (الفلبين) و (قبرص) وما يجري في أمريكا، وما فعلته (روسيا) من الوحشية المنقطعة النظير، وما فعلته (بريطانيا - في نواحي - مسقط) بل في نفس بلادها (إيرلندا) وغير ذلك مما يصعب إحصاؤه من المثل السفلى الذين يسميها ذلك الدكتور بالمثل العليا.

 

فالعرب لم يجعلهم الله صفر اليدين من كل هدى ورسالة حتى يرشدهم أمثال هذا إلى (تعشق المثل العليا الدولية) أو ينصحهم أن يكونوا على صلة دائمة بالعالم حتى لا تنـزلق العروبة في (مهاوي الفاشية) على زعمه، مع أنها بعد سنتين من نصيحته الهوجاء انـزلقت إلى مهاوى الشيوعية لابتعادها عن صراط الله وأنواره غاية الابتعاد.

 

فما أعظم خسارة المسلمين عامة والعرب خاصة بإغفالهم كتابهم وانحرافهم عنه، مما جعلهم بعد السيادة والقيادة في رق معنوي وسكر معنوي يتردون بسببه في انحطاط خلقي سحيق وسبات من التقليد عميق.

 

وما أعظم خسارة العالم كله بإضاعة العرب والمسلمين مملكة الرحمن وهدي القرآن الذي شرفهم الله به مستجيباً لدعوة أبينا إبراهيم عليه السلام.

 

فلنتساءل جميعاً عن موقفنا من القرآن الذي قال فيه منـزله جل وعلا:(لقد أنـزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون)[14]. هل تلوناه حق تلاوته بإقامة حدوده وحمله إلى جميع البشرية المتعطشة إلى دين يحجبها من الانحلال ويغذيها بأشرف الخصال؟ هل عرفنا ميزتنا بالرسالة وشكرنا ربنا عليها شكراً عملياً هو القيام بالواجب لنحقق الذكر الحسن؟ أو على العكس سفهنا أنفسنا واستخففنا بواجبنا، فلم نعره اهتماماً، اقتداء باليهود، فاشتركنا معهم بالمثل السيئ الذي ضربه الله لهم، إذ قال:(مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً)[15].

 

بالله عليكم أي فارق بينهم وبين من ترك العمل بالقرآن وأضاع حدوده ومزقه تمزيقاً معنوياً بعزله عن التشريع وإقصائه عن الحكم، وحرم نفسه وأهل الأرض جميعاً من الاهتداء به، فلم يبلغ رسالات الله على ضوئه؟ ما الفرق بين اليهود وبين من هذه صفاته؟ إنهم يلبسون على الناس بشتم اليهود ودعوى محاربتهم، بل هم والله لا يظهرون شتم اليهود ولا محاربتهم وإنما يشتمون أو يحاربون من يسمونهم (صهاينة) ليبقى اليهود في مأمن عن شتمهم وحصانة من حربهم. وهل يوجد يهودي على وجه الأرض لا يسند الدولة المسماة (إسرائيل) حتى يجوز أو يسوغ لهم ذلك؟.

 

أيها المسلمون: إن مسئوليتنا كبيرة، وإنها والله من الخطورة بمكان عظيم، تأملوا أيها المسلمون إذا كان الذي يقرأ الكتاب لمجرد التلاوة ويعطل أحكامه، مثله كمثل الحمار، فكيف حال من لا يقرأه ولا يعيره اهتماماً؟ بل يراه كتاباً رجعياً بالياً ويعتبره أوراقاً صفراء مدعاة للتخلف، زاعماً أنه لا يوافق حال العصر،ويعكف على قراءة الكتب المادية من الشيوعية وغيرها مما تقذف به دور الطبع والنشر الحديثة من المصورات الخليعة والأقاصيص الماجنة والمقالات الإلحادية، ويعمر الملاعب والنوادي ودور اللهو المختلفة بدلاً من المساجد.

 

أليس حال هذا شر ممن ضرب الله لهم المثل السيئ أم لا؟ وهل هو بحالته البهيمية أحسن من مستوى الكفار الذين قال الله فيهم:(والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم)؟[16].

 

لقد أثبتت التجارب أن طلب العلوم والفنون مع إهمال النفس عن التربية الدينية المحمدية لا يجدي نفعاً ولا يحل مشكلاً، بل يتكون منه عالماً مادياً لا هم له سوى النفعية والوصولية بأي شيء كان وعلى أي حساب كان. وما هذا التسابق في التسليح والانهماك في صنع ما يدمر المدنية إلا من خراب الضمائر بسبب ابتعادها عن هدى رب العالمين.

 

أيها المسلمون: التفتوا إلى سلفكم الصالح تجدوا أحدهم بحمله بعض سور من القرآن أصلح ما أفسده الفرس والروم وفتح القلوب قبل أن يفتح البلاد.

 

نعم فتح القلوب بحفاظه على الأنفس والأموال والأعراض، دون استئثار بشيء، أو طمع في منصب أو لقب. وانظروا أهل زمانكم وما ضاع ويضيع بينهم من أموال وكرامة، ويهتك من عرض، ويراق من دم، وإذاعاتهم تتبجح بالحرية وخدمة الشعوب إفكاً وتضليلاً. ويكفي إلقاء نظرة على ما تفعله بعض الحكومات الفتية من إضاعة الأموال الطائلة في أعياد رسمية ومراسيم شكلية، وما يذوقه معارضوهم من أنواع التنكيل، لتعرفوا كيف دفعت الأمة ثمناً غالياً لإضاعة القرآن.

 

أما العرب المسلمون الذين صلحت ضمائرهم بالقرآن فقد ترفعت أنفسهم عن المادة وطهرت أخلاقهم عن تسخير الشعوب والجناية على عقولها واللعب بمقدراتها، لأن القرآن حداهم إلى العدل والإحسان والصدق والرحمة، فقضوا بالحق وأطلقوا الفكر حراً، لا تقيده الأوهام المصنوعة، ولا تستره حجب الأباطيل التي تقذف بها وسائل النشر المختلفة.

 

أيها المسلمون: لقد سيطرت الثقافة الاستعمارية على أدمغتنا وجعلتنا كأبعد الأمم عن القرآن الذي أنـزل علينا وفي لغتنا، فأدخلت فينا عصبية الجنسية التي حرمها الإسلام وشدد في منعها بعد أن أضعفوا العلم والدين فينا.

 

وقد بذلت الماسونية اليهودية بواسطة الاستعمار جميع الوسائل في تركيزها بأذهان الناشئة والرعاع، لأنهم يرون فيها نقضاً لعهد الله في اتباع ملة إبراهيم، وقطعاً لما أمر الله به أن يوصل من الميثاق الإسلامي الذي يربط العربي بالأعجمي والمشرقي بالمغربي كما شرعت أركان الإسلام كلها من أجله، لولا ابتعادنا عن القرآن لما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.

 

فالواجب على كل من يعتز بعروبته أن يجعل منها أكبر حافز له على أخذ القرآن بقوة، وحمله بالتبليغ الصحيح العام الشامل، كما أمر الله، ليكون محققاً لعروبته الصالحة، وانتسابه لذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فيكون مرضياً لربه الذي أنعم عليه بذلك، ويكون مكرماً لنفسه، غير مهين لها، ولا مستخف بها، فإن من لم يحمل القرآن حملاً صحيحاً إلى جميع المعمورة حسب استطاعته فقد سفه نفسه ودساها بنبذه لرسالات ربه، وكان باستجابته لداعي الغي كاذباً في جميع مزاعمه، قد صدق عليه إبليس ظنه، فكان من أتباعه وكسبه.

 

حقاً إن المستجيب لداعي الغي إذا واصل استجابته بإصرار انسلخ من القرآن، فكان من أتباع الشيطان، مستحقاً أسوأ مثل ضربه الرحمن، ولو بلغت به دعاية المديح والتهريج مبلغاً عظيماً وحاز من الشعبية وصنوف الألقاب ما حاز، فإنه لا يرتفع عما وصفه به الخلاق العظيم. وكيف يرتفع من وضعه الله بسبب قصور همته ونقص إيمانه عن حمل رسالة ربه؟ كيف يرتفع من أبى أن يشرف نفسه بالكتاب الذي شرفه الله به فاختار الضعة لنفسه باقتفائه ما رسمه له أعداء الله وأعداؤه؟

 

إن من جعله الله بهذا المثل السيئ لا ينفعه ما يسدي عليه البشر من ألقاب، ولا يرتفع برفعة مركزه عن ذلك، بل يأخذه الغرور برفعة الشأن الخلابة، فيتمادى في إعراضه عن القرآن واستهجانه لوحي رب العالمين حتى ينحط إلى مثل أسوأ وأسوأ، وهو المثل الذي ضربه الله أيضاً لمن أوتي الكتاب فانسلخ منه واستبدله بتقديس الجنس والوطن، فجعله الله بهذه الغواية بمثابة الكلب، حيث قال جل وعلا:(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين)[17]. ذلك أن الشيطان ليس سلطاناً على عباد الله المخلصين له قصداً وعملاً (إنما سلطانه على الذين يتولونه): فأخبرنا الله عمن هذا شأنه أنه لاستجابته لوساوس الشيطان واطمئنانه لطاعته استولى عليه فتخلى الله عن نصرته فلم يرفعه بتلك الآيات التي انسلخ عن العمل بها، فلذا قال سبحانه:(ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه) بانسلاخه عن وحي رب العالمين (أخلد إلى الأرض واتبع هواه) فكانت رغبته ومنتهى عزيمته في الأرض تقديساً للجنس والوطن، رغبة منه في المادة، وتعلقاً بالأنانية والأغراض النفسية التي هي مصدر عبادة الهوى والغواية (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث)[18].

 

تالله إن هذا المثل منطبق على أهل هذه الصفات من المعرضين عن القرآن إلى أبد الآبدين، إذ الواقع المحسوس يشهد بذلك، ففي الماضي يقص التاريخ كثيراً من هذيان الذين اقتصروا على إرادة حرث الدنيا وأعرضوا عن كتاب الله، وفي الوقت الحاضر تكاد تصم الآذان من كثرة سخفهم وصيحاتهم الوحشية في الإذاعات، كل منهم يدعو إلى معسكره ويشتم الفريق الآخر، وإذا سكت فريق لم يسكت الفريق الآخر.

 

فهذا المثل الرائع هو من معجزات القرآن الخالدة، إذ جميع الصفات الكلبية الخسيسة موجودة فيمن انسلخ عن وحي رب العالمين، لأنه محروم من الآداب القرآنية الجليلة، فالتصقت به خسائس الصفات الكلبية، حتى فيما نحبذ تنـزيه أقلامنا عن ذكره.

 

وبما أنه جرت سنة الله الكونية التي لا تتغير ولا تتبدل بأن أصحاب المخالفات إذا تمادوا في غيهم ولم يؤوبوا إلى رشدهم، تكون عاقبتهم التكذيب بآيات الله والاستهزاء بها، فإني أربأ بالمسلمين من التمادي في انحرافهم عن تعاليم القرآن وتحكيمه خشية أن تحيق بهم هذه العاقبة السيئة كما حاقت بغيرهم، فيكونوا من أهل هذا المثل السيئ الثاني الذي هو أسوأ من الأول وأفظع، قال الله تعالى:(ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوء أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون)[19] فلنتفكر جيداً في موقفنا من القرآن، هل هو موقف سلبي فقط؟ أو موقفنا موقف النابذ له.

 

لنحذر أن نكون ممن ابتغى غير الله رباً أو افترى عليه الكذب، فإن الله توعد نبيه وحبيبه محمداً عليه الصلاة والسلام بمضاعفة العذاب في الدنيا والآخرة إن هو ركن إلى الكفار شيئاً قليلاً في طلبهم منه الجنوح إليهم بعض الشيء ليتبعوه، فاعتبر الله إجابتهم افتراء عليه. فكيف بحال من يركن إليهم شيئاً كثيراً؟ قال تعالى:(وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلاً. ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً)[20] أي لو ركنت إليهم ذلك الركون القليل الذي يدنيك منهم ويرضيهم نصيراً) أي لو ركنت إليهم ذلك الركون القليل الذي يدنيك منهم ويرضيهم لضاعفنا العذاب المعجل في الحياة الدنيا، وضاعفنا لك العذاب الذي يعقب الموت من عذاب القبر وعذاب النار، ثم من ذا الذي ينصرك؟ لن تجد لك علينا نصيراً.

 

(فيا أمة القرآن) إن في هذا الوعيد الشديد دليل قاطع على أن أدنى مداهنة للكفار أو انصياع لتقليدهم هو مضادة لله، وخروج من ولايته، وسبب موجب لغضبه، وقد صدق علينا هذا الوعيد بزيادة ركوننا إليهم ومداهنتنا لهم. فما هذه الكوارث والنكبات المتلاحقة التي حلت وتحل بالمسلمين في كل زمان ومكان إلا من غضب الله علينا بذلك وتنفيذه وعيده بمضاعفة العذاب في الحياة، فمتى نؤوب إلى الله ونعطي القرآن حقه ليرفعنا الله مما نحن فيه؟

 

قال في الكشاف (فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها، فهي جديرة بالتدبر وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله).

 

وأقول: هذا واجب المؤمن الذي يتلو القرآن حق تلاوته كما أمره الله، ففيه ما يهيج النفوس ويثير العزائم، ولو ظهرت قلوب المسلمين من أمراضها، وأخلصوا دينهم لله، لعرفوا قيمتهم وواجبهم أمام القرآن إذا تلوا هاتين الآيتين فقط، وهما قوله تعالى:(فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون)[21].

 

أليس من المؤسف أنهم عالة على غيرهم في كل شيء؟ أليس من المؤسف المبكي أن أغلب أولاد المسلمين في حاجة ماسة إلى لغات الأجانب، ولو استمسكوا حقاً بكتاب ربهم وحملوه كما أمر، لطبقت لغتهم ما بين الخافقين، ونطق بها جميع أهل الأرض عن حب ورغبة، فحققوا عزهم وذكرهم الذي اختاره الله لهم، وكان لهم السؤدد والقول الفصل في هذه الحياة بدلاً من حالتهم المعكوسة التي نالوا بها مضاعفة العذاب في الحياة.

 

أيخفى عليهم ما للغة من تأثير عظيم في الدين والأخلاق والعقول؟ خصوصاً لغتهم.

 

حقاً إن من لم يرتض القرآن دستوراً بمعنى الكلمة لابد له من ابتداع شيء أو اقتفاء شيء من وضع البشر، فيكون ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام وأحكامه، وهذا من أظلم الظالمين، فيكون عرضة لعقوبات الله المتنوعة كما قدمنا ذكر الوعيد الشديد على ذلك، وقال تعالى في مزيد التهديد:(سيجزيهم بما كانوا يفترون - سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم - سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين). وكل هذا قد حاق بنا والعياذ بالله.

 

لقد أورثنا سوء موقفنا من القرآن الكريم انحطاطاً عاماً في كل شيء، وجعل العاطفة علينا مسيطرة لا تجري إلا على فاقد التمييز، وجعلتنا كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران يتأرجح بين جحيم المبادئ الهدامة، وبلغ بنا الانحطاط إلى أن جعلنا نقلد أعداءنا في الرذائل، ونقصر عن لحوقهم في المخترعات وكسب الأسواق والنفوس، حتى صرنا في مهوى لا يجوز تسميته إلا ب- (سقوط النفس)، وهذا من بعض عقوبات الله القدرية لمن أعرض عن وحيه وهداه. وفي مثل هذا يقول الشاعر عبدالحق حقي البغدادي في قصيدته المسماة (أعجب العجب من أحوال العرب) بعد ما أشاد بأمجاد الأسلاف في فصله الأول الذي سماه (ماضيهم المنيف أو مظاهر رضا الجبار عنهم). قال في أوائل الفصل الثاني الذي سماه (حاضرهم المخيف أو مظاهر غضب القهار عليهم):

 

يا أمة ذاك ماضيها الذي عرفت
منه بمجد صريح غير مؤتشب

ماذا دهاك؟ فقد أصبحت هاوية
مهاوي الذل من جبن إلى عطب

بما ابتليت وماذا قد منيت به
فصرت من بعد خفض العيش في نصب

ما السحر أسوأ مساً لو سحرت به
مما دهاك فساوى الرأس بالذنب

والسحر ليس له فعل ولا عمل
يحكى انقلابك من رأس إلى عقب

قذفت بالمجد في مهوى لو انحدرت
فيه النجوم غدت فحماً بلا لهب

مهوى من الذل نائي الغور ممتلئ
من المصائب بالأرزاء والنوب

قد انسحبت عليه شر منسحب
بما اكتسبت إليه شر مكتسب

وبت في نوب للظهر قاصمة
لم يذكروا مثلها في سائر النوب

فالجسم في شلل والعقل في خلل
والقلب في نصب والروح في وصب

والله ليس بظلام لأعبده
فلا يغير من حال بلا سبب

قد كنت تاجاً لأجيال الورى عصراً
فصرت من بعد تلك الجيل في العقب

وكنت موفورة الخيرات صاعدة
بالدين ذروة مجد غير منسحب

فصرت أسفل سفلاها كما انقلبت
بالخسف ذروة طود شر منقلب

وكنت هذبت أخلاق الورى زمناً
واليوم منك سوى الأخلاق لم يعب

وكنت آمرة المعروف قائمة
بالنهي عن منكرات السوء في دأب

فصرت أنت عن المعروف معرضة
وصرت للمنكر المذموم في طلب

وكنت حررت من ظلم ومن عنت
قوماً من الظلم والظلام في نصب

فاليوم تظلمك الدنيا بأجمعها
ولا يهيجك هياج إلى الغضب

وكنت أنقذت من جهل ومن عمهٍ
بنى جهالتها الهاوين في الريب

واليوم أنت أبو جهل وزدت به
زيادة الحمق في حمالة الحطب

لئن رجعت إلى الطاعات من كثب
لتظفرن بحول الله من كثب

وإن بقيت على ما أنت فيه فلا
مفر من نقمة الجبار والتبب

شر بشر ومن يعمله يلق ومن
يزرع من الشوك لا يحصد من العنب

 

فيا أمة محمد عموماً ويا من يعتز بعروبته خصوصاً غيّروا موقفكم من القرآن إلى موقف حسن وأحسن يليق بكرامتكم ويصدق انتسابكم إلى هذا النبي الكريم واعتزازكم بحقيقتكم ولغتكم الحبيبة لغة القرآن فهو المنجى لكم.

 

نعم إن وحي الله العزيز هو المنجي الوحيد والعاصم الفريد من جميع الأفكار الهدامة التي تفاقم شرها في هذا الزمان، وعصفت بالاستقلال الفكري لكثير من الناس، وصادرت عقولهم بسبب فراغها من وحي الله الذي يحميها ويعصمها منهم، فوحي الله فيه الهداية الكافية والشافية والمنجية والعاصمة من جميع مصائد شياطين الإنس المفسدين للعقول والجانين على الفطرة، وفيه البينات الواضحات من الهداية الصحيحة العامة، والعرفان الذي يفرق بين الحق والباطل، ويفصل بين الرذائل والفضائل فصلاً واضحاً لا مرية فيه، ولهذا أبان الله الحكمة في تخصيص شهر رمضان بشريعة الصيام بقوله:(شهر رمضان الذي أنـزل فيه القرآن..) حيث اختاره من بين الشهور، فأنـزل فيه أول ما أنـزل من القرآن الذي فيه الهداية العامة للناس ومعجزة الهداية تثبت بنفسها أن هذا القرآن ليس صنع أحد من البشر قطعاً، فليس من إنشاء محمد صلى الله عليه وسلم وابتكاره وليس من ثمرة عبقريته وذكائه، لكونه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، كما قال عنه الله سبحانه وتعالى (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)[22]، ولكونه منعزلاً قد فطمه الله من مصاحبة القصاصين أو غيرهم من علماء الكتابيين.

 

وقد حاول المستشرقون أن يخلقوا له صحبة مع الرهبان في سفره إلى الشام بالتجارة مضارباً لخديجة بنت خويلد، وقلدهم بعض الكتاب الذين قبلوا مصادرة عقولهم، فزعموا أنه انتفع بهم، ولو فكروا بعقول استقلالية لعرفوا أن عند الرهبان ونحوهم من الكبرياء ما يجعلهم يكتمون العلم عن بني نحلتهم، فضلاً عن غريب مستطرق من العرب.

 

فنصوص القرآن شاهدة بكليتها على أنها ليس فيها شيء أبداً من قول محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه أمين لم يترك تبليغ شيء مما أنـزل إليه من ربه حتى ما فيه معاتبته ولومه الشديد، فهو حجة قاطعة له صلى الله عليه وسلم، ودليل خالد على صدقه في دعوى النبوة، وفرقان القرآن واضح في التفرقة بين الحق والباطل، فهو يبين الحق، ويوضح معالمه، ويفصل آثاره وثمراته الطيبة بما يدعو إلى الاستجابة إليه والتمسك به، ويكشف عن الباطل، ويفضح مساويه ويحذر من أضراره ومفاسده، تحذيراً يدعو إلى رفضه واجتنابه، فالآية تشير إلى أن هذا الشهر المبارك الذي فضله الله وشرفه باختيار إنـزال هذه المكرمة إلى الإنسانية وهي (مأدبة القرآن الروحية)، تلك النعمة العظمى والمكرمة الكبرى التي لا يفضلها شيء، يجب أن ترعى حرمته، وأن تحيا ذاكره في العالم الإسلامي الكبير، فلذلك شرع فيه وجوب الصيام الحتمي، وذلك تشريع يناسب هذه المكرمة الرفيعة ويتفق مع أهدافها وغاياتها، والحكمة من إنـزالها، لأن القرآن هدى ونور يحث على التقوى والصبر والجهاد وضبط النفس والأعصاب عن كل شهوة جامحة مضرة بالعقيدة أو الأخلاق، ويأمر بالرحمة والعدل والمساواة وحسن المعاملة ونـزاهة الضمير والتزام الصدق والصراحة والإخلاص في القول والعمل وتطهير النفس من شوائب النفاق والغش والخداع، فناسب أن يكون شهر رمضان هو شهر الصيام ليتم شكر المسلمين لله فيه على هذه النعمة الكبرى ولينطبع المسلم بأخلاق القرآن فيه إذا توفرت حكمة الصيام، لأن الصيام يبعث صاحبه على الصدق والإخلاص والإحسان والرحمة ومراقبة الله، وينمي في النفس قوة الإرادة وصدق العزيمة ورباطة الجأش، لأنه يمرنها على الجلد والصبر في مكافحة الشدائد والملمات، وعلى جمع الهمة وبذل الجهد لتذليل الصعاب، والتغلب على النوائب والعقبات، فالصيام إذا استوفيت مقاصده كان أحسن مبصر بحكمة نـزول القرآن، وخير مساعد على الاهتداء بهديه وتنفيذ أحكام الله فيه.

 

وإذن فمن جملة الحكم لصيام رمضان أنه إحياء سنوي مجيد لذكرى نـزول القرآن الذي هو من أعظم النعم والمكرمات لهذه الأمة، ليكون صيام هذا الشهر من القيام بالشكر العملي على ذلك.

 

وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان ويعنى بتعظيمه والاحتفال به بكثرة العبادة والجود ومدارسة القرآن حتى أنه يكون فيه أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان يحض أمته على بذل المجهود في العبادة والجود بالخير، وكان يعرض القرآن على جبريل أمين الوحي، وفي آخر سنة من عمره عرضه عليه مرتين للدراسة، فما أعظمها من مناسبة.

 

هذا وقد أوضحت فيما مضى أسرار الصيام وفوائده الروحية والاجتماعية والصحية مما ظهر لي، وقد يكشف الزمن أسرار لم يحط بها أحد، فالاكتشافات الطبية تتقدم وكذلك غيرها، كما قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد)[23].

 

وحكم الله عظيمة بالغة لا تقف عند حد، فلنتأمل حكمة الله من وراء ذلك الجوع والعطش الذي يستوي في حكمه القوي والضعيف، والغني والفقير، والزعيم الكبير والفرد الحقير، والواجد والمعدم، كلهم في حكم الصوم والإفطار سواء، عدل من الله في حكمه، وتعليم لعباده على العدل والمساواة، كما أن في ذلك تكويناً للعاطفة والرحمة في النفوس كما أوضحته سابقاً، وإيجاداً لدواعي الشكر بالبر والإحسان. فالمجتمع الذي تنبت فيه العواطف وينتشر فيه البر والإحسان والرحمة والحنان، هو المجتمع الصالح السعيد، لا يتحقق كاملاً إلا بالصيام، مع أن في الصوم حصانة من الشر ومن الوقوع في الرذيلة، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم:(إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والصوم) رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد وأبو داود وغيرهم، وكما رووا أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء). والوجاء هو تفتير الشهوة.

 

وبما أن عبودية الله لا تكمل إلا بتمام التسليم وكمال الانقياد والتنفيذ، فما أظهر هذا التسليم والعبودية الكاملة في الصوم كما مضى في تحقيق الأمانة.

 

والله الموفق.

 

وليعلم أن هذه الآية الكريمة (هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) وغيرها من قوله سبحانه (تلك آيات الكتاب المبين - قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين - قد جاءكم بينة من ربكم وشفاء لما في الصدور) مما يوضح أن جميع القرآن آيات واضحات وعلامات كاشفة للحقيقة ليس فيها غموض أبداً.

 

وهذا مما يبطل مزاعم أهل الباطن الذين اختلقوا حديث (إن للقرآن باطن وللباطن باطن إلى سبعة أبطن)، ويفسرون القرآن بغير المعروف المشهور من معناه، ويزعمون أن علياً رضي الله عنه قال: لو شئت لأوقرت من تفسير الفاتحة كذا وكذا حمل بعير من علمنا الباطن. وهذا الحديث مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق علماء الحديث ولم يرو بأي سند، وكذلك الأثر عن علي مكذوب قطعاً، ولكن يروى عن الحسن البصري موقوفاً أو مرسلاً: إن لكل آية ظهراً وبطناً وحداً ومطلقاً، وقد أشاع زنادقة المبتدعة علم الظاهر وعلم الباطن بما ليس معروفاً في عصر النبوة ولا في عصر السلف الصالح وإنما هو من سر الماسونية اليهودية على يد أفراخها العبيديين بني القداح اليهود الكذبة الذين انتحلوا الفاطمية فهم الذين تأولوا شرائع الإسلام وأبطلوا العمل بها. وقد فضحهم الإمام الغزالي وابن تيمية وغيرهما.

 

لقد أودع الله بالقرآن ما يبني الإنسانية بناء محكماً لا يتصدع أبداً ما دام هو الرباط الحديدي المعنوي المشتبك فيه، لأنه أمد أهله بجميع عناصر القوة في الحياة، من القوة في العقيدة، والقوة في الأخلاق، والقوة في العلم النافع بأنواعه الروحي والمادي، والقوة في المال، والقوة في التكاتف الاجتماعي، والقوة في الزحف الحربي المتواصل، والقوة في التنظيمات السلمية، وأوجب عليهم بكل تحتيم وتشديد أن يرخصوا النفس والمال في سبيل الدفع بالعقيدة والرسالة إلى الأمام، فضلاً عن الذود عنهما، وجاء بتقويم الأخلاق وتحصينها من الانحلال.

 

وقد قرر التاريخ أنه ما ارتفعت أمة إلا بقوة أخلاقها واستقامتها في سيرها وسلوكها واعتدالها في تعقلها وتفكيرها وتقديسها للمعاني الروحية والقيم الروحية، وما سقطت أمة إلا بفقد ذلك، والأمة المستكملة لعناصر القوة المذكورة هي التي يتماسك بنيانها ويرتفع شأنها وتعظم سيادتها ويرهب كيانها، وعلى العكس فاقدة تلك العناصر، فإنه لا يعلو شأنها إلا على من هو أحط منها، وكلما ابتليت بحرب تحطمت وانهارت، وفي الوقت الذي تمسك المسلمون بالقرآن نجحوا أعظم نجاح فبهروا العقول.

 

ومن أعظم آثار وحي الله في أهله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي جعلهم لا يخافون في الله لومة لائم، فيأطرون السفهاء ويقومون أود السادات ويحوطونهم دائماً بما يخيفهم من قوارع النصح والتهديد المزعج لقلوبهم من عقوبات الله وإيضاح قيمتهم ومكانتهم. فلما انحرف المسلمون عن تعاليم الوحي دب فيهم النفاق والمداهنة خوفاً من المخلوق وتهاوناً بالخالق العظيم، حتى انعدمت شعيرة الأمر بالمعروف من مجتمعهم، وماتت فيهم الغيرة على حرمات الله، وانطفأت منهم جمرة الغضب لدين الله، ففسدت أخلاقهم، وقل العلم الصحيح فيهم، وأصبح الأمر لأدعياء العلم أو للأئمة المضلين، وصار التقى الفريد منـزوياً أو مطموراً، وبخلوا على الله بما أوجب عليهم بذله من النفس والمال، وقد سبب عليهم بخلهم بذلك تسلط الأعداء عليهم من كل ناحية، واللعب بمقدراتهم ردحاً من الزمن، ولم يستقلوا إلا على حساب دينهم وأخلاقهم، حيث هيأ المستعمر من يخلفه بحكم مخالف للدين، بل كثير من المسلمين حكمتهم دول نصرانية بعد الاستعمار باسم الوطنية، وصاروا يدفعون ضريبة الكنائس التي يتجمع منها أموال طائلة للقسس والرهبان الساعين ضد الإسلام. فهذا هو الثمن الغالي الذي دفعوه بالإعراض عن حمل رسالتهم وتوزيعهم هداية القرآن شحاً على الله بالمال والنفس، فصار مالهم عوناً لأعدائهم، وصارت أنفسهم في رق معنوي أفظع من كل رق حسي.

 

هذا وينبغي أن يعلم أن شهر رمضان حصل فيه ابتداء نـزول القرآن، وليس المقصود نـزوله إلى اللوح المحفوظ ونـزوله منه تدريجياً، فإن القول بذلك يجعل بني إسرائيل بمنـزلة محمد صلى الله عليه وسلم لأن موسى تلقى الألواح من الله، وهم تلقوها منه، بل يكون بنو إسرائيل بمنـزلة جبريل على هذا القول والعياذ بالله، والله يقول (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم)[24].

 

فينبغي اعتقاد أن جبريل تلقى القرآن من الله وأوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم رأساً وأنه لم يأخذه من اللوح المحفوظ، وهذا لا ينافي رواية ابن عباس لأن كل شيء ومقدور يكون في اللوح المحفوظ ولا يلزم منه انحصار مهمة جبريل على الأخذ منه أبداً.

 

روى البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان). ورويا أيضاً عن أبي هريرة أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة: قال: تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان. قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا. فلما ولى قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا).

 

قال المحققون في هذا الحديث وأمثاله كحديث الأعرابي النجدي الذي قال الرسول عليه الصلاة والسلام فيه:(أفلح إن صدق) أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم عن المفروض من الإسلام في وقت السؤال، فصمموا على العمل به بصدق وإخلاص استحقوا به ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم فيهم.

 

ومن كانت هذه حاله فلا بد أن يعمل بما يستجد من الشرائع، كالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الجهاد لنشر الدعوة، وتحريم الزنى والخمر وغيره، فمن لم يعمل بما يستجد من الشرائع لم يكن مفلحاً ولا من أهل الجنة، بل لا يكون مسلماً حتى يمتثل جميع المأمورات دون إنكار أو انتقاص. فليس الأمر مقصوراً على ما ذكر في الحديث.

 

وروى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، ترك طعامه وشرابه من أجلي، والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه).

 

وفي رواية مسلم:(كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به...).

 

وروى الشيخان عن سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد).

 

وروى الشيخان أيضاً بسندهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:(من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه).

 

هذا ما أحببت ذكره من الأحاديث الصحيحة في الصيام بكل اختصار.

 

وقال الناظم محمد بن عبدالقوي في نظم الفقه:

 

وخذ باحتفاظ الصوم غير مقتصر
عبادة سر ضد طبع معود

واصبر لفقد الإلف من حالة الصبا
وفطم عن المألوف والمتعود

فثق فيه بالوعد العظيم من الذي
له الصوم يجزي غير مخلف موعد

وحافظ على شهر الصيام فإنه
لخامس أركان لدين محمد

تغلق أبواب الجحيم إذا أتى
وتفتح أبواب الجنان لعبد

تزخرف جنات النعيم وحورها
لأهل الرضا فيه وأهل التعبد

وقد خصه الله العظيم بليلة
على ألف شهر فضلت فلترصد

فأرغم بأنف القاطع الشهر غافلاً
وأعظم بأجر المخلص المتقيد

فقم ليله واطوي نهارك صائماً
وصن صومه عن كل موه ومسفد

 

قال تعالى: ﴿ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [من سورة البقرة].

 

فيه إعادة لذكر الرخصة بعد تحديد شهر رمضان الشريف الفاضل، وتركيز عظمة منـزلته في قلوب المؤمنين؛ بإنـزال القرآن وتعظيم أمر الصوم المفروض، والندب إلى التطوع به، وإن صيام هذا الشهر محتم على القادرين الذين لا رخصه لهم، وإن الرخصة فيه غير محمودة، بل تجشم الصيام خير منها فبعد هذا كله أعاد ذكر الرخصة لفائدتين:

 

(إحداهما) أن لا يتوهم متوهم أن الفطر للمريض والمسافر خير وأولى اعتماداً على قوله سبحانه:(وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون)، بل أعاد الأمر بالرخصة للتوكيد، حتى لا يجد المتقي لله حرجاً منها، فقد كان بعض الصحابة رضوان الله عليهم يتحامون من الفطر في السفر مع توكيد الرخصة، حتى أنهم في بعض الأسفار لم يمتثلوا تحرجاً من الإفطار بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم حتى أفطر بنفسه، وسمى الممتنع عن الإفطار عاصياً. كما ورد النص الذي أسلفناه بذلك، فهذا من بعض أسرار التأكيد في هذه الآية.

 

(ثانيهما) لئلا يتوهم متوهم أن الرخصة منسوخة. ولهذا جاء بالتأكيد الآخر بقوله تعالى:(يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) يعني يريد الله أن ييسر عليكم طريق الوصول إلى طاعته ورضوانه لتفوزوا بنيل ما وعدكم به من صنوف النعيم، بجنانه، فيسهل عليكم شرائعه أحسن تسهيل بحيث لا يجد المسلم المؤمن حرجاً في أدائها، وإذا حصل إثقال بعضها لسبب من العوارض الموجبة سهله تسهيلاً آخر، إما بإسقاطه أو تخفيفه، كما هو مفصل في أبوابه من فقه الأحكام في جميع الكتب المختصة بذلك.

 

ففي هذه الجملة من الآية الكريمة تعليل لما قبله يتضمن أن الله يريد فيما شرعه من هذه الرخصة في الصيام وغيره مما يشرعه لكم من جميع الأحكام أن يكون دينكم يسراً كله لا عسر فيه، وفي هذا التعبير القرآني ضرب من الترغيب في إتيان الرخصة، ولا عجب في ذلك فقد ورد الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن الله يحب أن تؤتى رخصه يحب أن تؤتى عزائمه).

 

وفي هذه الآية من بديع التركيب والتعبير ما يشهد بإعجاز القرآن، وأنه منـزل من الله على محمد عليه الصلاة والسلام، فإن الفاء في قوله:(فمن) وقعت جواب الشرط مفصلة لما أجمله الله في قوله (شهر رمضان) من وجوب التعظيم المستفاد منه وجوب الصوم على كل مدرك لرمضان من حاضر ومسافر، و (من) هنا لدفع توهم التعميم، أي فمن كان حاضراً فليصم، إذ لا يحسن أن يقال:(من علم الهلال فليصم - وشهد من الشهود والتركيب يدل على الحضور إما ذاتاً، أي علمه بنفسه أو علماً جاءه خبره كما مضى تفصيله، و(الشهر) للعهد ووضع المظهر موضع المضمر للتعظيم، والمفعول به متروك لعدم تعلق الفرض به، إذ تقدير البلد أو المصر ليس بشيء، ونصب الضمير المتصل في (فليصمه) على الاتساع لأن صام لازم، والمعنى: فمن حضر في الشهر أو من علم بهلال الشهر وتيقن وهو مقيم غير مسافر فليصم.

 

ومن الفقه في هذه الآية أن من شك في الهلال لوجود حائل فالصوم لا يجب عليه بل يمنع منه، كما قال الأكثر، أو يباح احتياطاً كما صامه بعض الصحابة، وجوزه النعمان والشيخ ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ونحوهم، وتكرير الرخصة للمريض والمسافر في هذه الأمة للتخصيص ودفع الإيهام، وذلك أن الله لا يريد إعنات العباد والإشقاق عليهم بأحكامه، فالآية مشعرة بأفضلية الصيام لمن لم يلحقه مشقة أو عسر في المرض والسفر، ومن يكون الصوم عليه مع الناس أهون وأسهل من كلفة قضائه وقت إفطار الناس بعد رمضان لانتفاء علة الرخصة في حق هذا وذاك، أما من يحصل عليه مشقة فالفطر أفضل في حقه، وكذلك المجاهد الذي يتقوى بفطره على الجهاد المقبل عليه أو الذي هو متلبس فيه.



[1] سورة البقرة: 185.

[2] سورة لقمان: 13.

[3] سورة الأنعام: 116.

[4] سورة النجم: 23.

[5] سورة يونس: 57-58.

[6] سورة يونس: 15.

[7] سورة سبأ: 50.

[8] سورة الأنعام: 93.

[9] سورة الكهف: 33.

[10] سورة الأنبياء: 47.

[11] سورة الزمر، 45.

[12] سورة الأنبياء: 36.

[13] سورة الزمر، آية (10).

[14] سورة الأنبياء، آية 10.

[15] سورة الجمعة، آية 5.

[16] سورة الأعراف، آية 175.

[17] سورة الأعراف،176.

[18] سورة الأعراف، آية (176).

[19] سورة الروم، آية (10).

[20] سورة الإسراء، آية (73 - 75).

[21] سورة الزخرف، آية 43.

[22] سورة العنكبوت، آية (48).

[23] سورة فصلت، آية 53.

[24] سورة النمل، آية 6.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • مهلاً رمضان
  • رمضان والقرآن
  • التبشير بقدوم رمضان وخطة العمل فيه

مختارات من الشبكة

  • صيام التطوع(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من آداب الصيام: صيام ستة أيام من شوال بعد صيام شهر رمضان(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أجوبة مختصرة حول أحكام صيام التطوع(مقالة - ملفات خاصة)
  • أحكام صيام التطوع(مقالة - ملفات خاصة)
  • أحكام متفرقة في الصيام(مقالة - ملفات خاصة)
  • من صيام التطوع: صيام الأحد والاثنين والخميس والجمعة(مقالة - ملفات خاصة)
  • من صيام التطوع: صيام السبت(مقالة - ملفات خاصة)
  • من صيام التطوع: صيام أيام البيض(مقالة - آفاق الشريعة)
  • فضل صيام الست من شوال: صيام الدهر كله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • صيام الجوارح صيام لا ينتهي (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب