مرض الأرواح

مرض الأرواح

واعـذابي

داءٌ ليس كأيِّ داء، لَم يَسمع به الأطبَّاء، نَكروه العقلاء، فاق كلَّ البلاء، عَظُم عند الأُدباء، صَغُر عند الفقهاء، تجاهله الحُكماء، سَخِر منه النُّبلاء، داءٌ فَزِعت منه البشريَّة جَمعاء، واعذابي لِمَن هم به مُرَضاء، واعذابي "أنا"، فقد خصَّني بكرمٍ بكلِّ جَلاء.

واعذابي، ألا تشعر ببعض الألَم أو قُل إذا شئتَ: كثيرًا من الألَم حينما تُكسَر يدُك مثلاً، أو تُصاب بنازلة بردٍ، أو حينما تُعاكِسك أعصابُ ضِرسك، أو...؟

أجَل، إجابتكم جميعًا ستكون: أجَل، لكن ذاك لعَمري غير مُضاهٍ لرجُلٍ يَحسب غير حسابٍ لخروجه مثلاً للمسجد بعِلَّة فقْده لمُقلتيه، وغيرُ مُوازٍ أيضًا لرجل لا تَبُضُّ له عينٌ، فالفرقُ واضح بالرغم من كونه وحيدًا، ألاَ وهو انفِراد الألَم بالناحية الجسدية دون النفسيَّة تارةً، وازدواجه بهما تارةً أخرى.

واعذابي، جُلُّ ما ذُكِر مؤلِمٌ، لكنه جميل! أجَل جميل، كونه لَم يَجْرُؤْ على المساس، أو حتى الاقتراب من منطقة المنْع، فيبدو أنه سائقٌ مثالي؛ لالتزامه بشاخصة المنع، وتطبيقه لقواعد السلامة، لكن ماذا إن كان سائقًا متسكِّعًا مُتهوِّرًا غير مُبالٍ؟ ماذا يجب علينا فِعْله تُجاه مَن لا تَردعه عُقُوبات الدنيا؟ بل دعوني أزِيدُكم: ماذا تنتظرون من مستعمل الطريق عدا تلافيه لحدوث المخالفة بأقصى حيلته؟ لَم أجد أشدَّ إصرارًا من ذاك المتهوِّر في متابعة المسير، بل الإسراع في المسير، على الرغم من يقينه التام بأنه يدنو من المخاطر، كدُنوِّ شمس يوم القيامة!

واعذابي، حَصل الصِّدام إذًا، واعذابي، لا تتوقَّعون أني سأبدو كصخر جلمود، فبي من الدمع ما يكفي الندَّابات للنَّدب مدى الحياة، ولا يَعني ذلك أنني أفتقر لإرادة اليابانيين، لكن قد وقَع المحظور، فلا يُجدي تولية الدُّبور، يشُقُّ عليك حينما تواجه الجُرْحَ منفردًا، خصوصًا إذا ما عَلِمت أنَّ موطن الجُرْح مُحصَّنٌ جيدًا، ولكن تَغور تحصُّناته عندايُيَمَّم السَّهم إليه، فيبدو لي كالمؤلَّفة قلوبُهم.

واعذابي، الحبُّ والكُره، الموتُ والحياةُ والبرزخُ، السعادة والتعاسة، الاستقرار والاضطراب، العِشق والتذمُّر، الغَبطة والحزن، الهُيام والوهام، جميعهم خيوط ذهبيَّة لشمس الحب الحارقة، واعذابي، مَنَّيتُ النفس مرارًا بأن تكون تلك التحصُّنات أوَّل مَن آمن مِن الرجال، آخر مَن فكَّر بالاندثار، جميع الأماني عدا حرقي بتلك النار، فيتخلَّى عنكَ الجميع، وتبقى في الوهم تضيع، تُصبح كما الطفل الرضيع، لا يُبالي بك أيُّ فزيع.

واعذابي، لا، أبدًا وكلاَّ، ولن ولَم يكنِ الحبُّ - أو كما أشتهي أن أُسَمِّيه: "العشق" - مدرسة البُؤساء، أو نُزهةً تحوَّلت لبلاء.

فالحب كالأُمِّ يَجعلها تَعشق وتَهيم بأدق تفاصيل وليدها، فلا تجد رَحِمًا حملَت أبهى من وليدها، فما إن كبر هو إلا وقد وجَدَ قلبها كبر أكثر، فيَجري أن يَتَخاصما على حجم قلبيهما، فيُشير هو ويقول هكذا، وتُشير هي وتقول: لا، بل هكذا، ووَحْده الباري يعلم هل هو هكذا أو هكذا؟

واعذابي، جميلٌ هو الحبُّ، أستطيع سَماعكم، أنتم بقلبي تقولون ذلك، لكن اهْدَأ، داوِمْ على الهدوء، فهل حدَث للدنيا أن أبْقَت عهدًا، أو صَدَقت بوعدٍ، أو برَّت بفردٍ، حتى طال ذلك قواعدَ النحو، فلكلِّ قاعدة شواذُّ، فجَمْع المؤنث السالم يُنصب بالكسرة، وكذلك الحبُّ على الرغم من أنه يُداعبنا ويُواسينا، ويُحسن عزاءَنا، فإنني لا أراه غير داءٍ يُسمَّى بمرض الأرواح.

واعذابي.

بقلم "حمزة حرب الرقب".

"صدى الآلام".