التعبير البارز (كل وحتى)

التعبير البارز

(كل وحتى)

أقصد بالتعبير البارز أن يكون الصوت جهيرًا والألوان قوية، ويدخل في ذلك المبالغة بمعناها المعهود في علوم البلاغة. إن المتنبي مغرم بالإطلاقات والتأكيد بأنواعه المختلفة، ويميل إلى الجري بالشيء إلى غايته القصوى.

1 - (كل) و(حتى):

فمن ذلك مثلًا أنه يكثر من استعمال أدوات الاستقصاء؛ مثل (كل) و(حتى)، وقد عددتُ له من (كل) ما لا يقل عن مائتين وتسعين، ودَعْك مما لم أنتبه له؛ لأني كنت أقوم بإحصاء السمات الأسلوبية في شعر الشاعر كلها مرة واحدة، والذهن البشري عرضةٌ للكلال والسهو، وكثيرًا ما يكون الشيء الذي تطلبه العينُ أمامها، ولكنها تحيد عنه ولا تراه، ويبدو لي أن هذا رقم كبير، وبخاصة أنها قد تتكرَّر في بيتين متتاليين أو أكثر؛ وهذه أمثلة على ما نقول:

وما كان إلا النار في كلِّ موضعٍ يثير غبارًا في مكان دُخَانِ فنال حياةً يشتهيها عدوُّه وموتًا يشهِّي الموت كل جبانِ ♦   ♦   ♦ ولَّى وكل مخالم ومنادمٍ بعد اللزومِ مشيِّعٌ ومودِّعُ مَن كان فيه لكلِّ قومٍ ملجأ ولسيفِه في كلِّ قومٍ مرتعُ ♦   ♦   ♦ يشلُّهمُ بكلِّ أقبَّ نهدٍ لفارسِه على الخيلِ الخيارُ وكل أصمَّ يعسلُ جانباه على الكعبينِ منه دمٌ ممارُ يغادرُ كلُّ ملتفتٍ إليه ولبَّتُه لثعلبِه وجارُ ♦   ♦   ♦ يصرفُ الأمرَ فيها طينُ خاتمِه ولو تطلَّس منه كلُّ مكتوبِ يحطُّ كلَّ طويلِ الرمحِ حاملُه مِن سرج كلِّ طويلِ الباعِ يعبوبِ كأن كلَّ سؤالٍ في مسامعِهِ قميصُ يوسفَ في أجفانِ يعقوبِ

أكثر من ذلك أن البيت الواحد كثيرًا ما تكررت فيه هذه الكلمة مرتين وربما ثلاثًا أو أربعًا، وقد مضى بعض الأمثلة على ذلك؛ وإليك أمثلة أخرى:

ألا كلُّ ماشيةِ الخيزلى فِدا كلِّ ماشيةِ الهيدبى ♦   ♦   ♦ وإن كان ذنبي كلَّ ذنبٍ فإنه محا الذنبَّ كلَّ المحوِ مَن جاء تائبا ♦   ♦   ♦ أباعثَ كلِّ مكرمةٍ طموحِ وفارسَ كلِّ سَلْهَبةٍ سبوحِ وطاعنَ كلِّ نجلاءٍ غموسٍ وعاصي كلِّ عَذَّالٍ نصيحِ ♦   ♦   ♦ إليك طعنًا في مدى كلِّ صفصفٍ بكلِّ وآة كل ما لقيت نحرُ ♦   ♦   ♦ وكلكمُ أتى مأتى أبيه فكلُّ فعالِ كلِّكمُ عجابُ ♦   ♦   ♦ وفي كلِّ قوسٍ كلَّ يوم تناضلٍ وفي كلِّ طرفٍ كل يومِ ركوبِ

على أني رأيت أنها أكثر ما تضاف إلى الاسم الظاهر لا إلى الضمير، وقد تصادف أن الأمثلة السابقة كلها من المضافة إلى الاسم الظاهر.

كذلك قد تكون (كل) مفعولًا مطلقًا، وقد تكون تابعًا، ومع ذلك فأحيانًا ما تأتي منفية، فلا تدل حينئذٍ على الاستقصاء وبلوغ الغاية، بل على عكس ذلك، كما في المثالين التاليين:

وما كل وجهٍ أبيضٍ بمباركٍ ولا كل جفنٍ ضيقٍ بنجيبِ

أي إنه ليست كل الوجوه البيض مباركة، ولا كل الجفون الضيقة تدل على النجابة، بل بعضها فقط.

♦   ♦   ♦

وما قِسْتُ كلَّ ملوكِ البلادِ فدَعْ ذكرَ بعضٍ بمَن في حلبْ

وفي كثير من الحالات (وربما معظمها) تضاف (كل) إلى مفرد.

هذا وقد لاحظت أن استخدامه لكلمة (جميع) التي ترادف (كل) قليلٌ جدًّا، بل يكاد يكون معدومًا.

أما (حتى) التي تدل على بلوغ الغاية، فقد عددت منها العشرات بعد العشرات، وإن كان ذلك أقل من عدد المرات التي تكررت فيها (كل)، وبعض الملاحظات التي تصدق على (كل) تصدق عليها أيضًا، فكثيرًا ما تتكرر (حتى) في البيت الواحد مرتين، بل قد تتكرر في عدد من الأبيات المتتابعة:

فخافوك حتى ما لقتلٍ زيادةٌ وجاؤوك حتى لا تُزاد السلاسلُ ♦   ♦   ♦ فجاز له حتى على الشمس حكمُه وبان له حتى على البدر ميسمُ ♦   ♦   ♦ حقرتَ الرُّدينيَّات حتى طرحتَها وحتى كأن السيفَ للرمحِ شاتمُ ♦   ♦   ♦ ممثلة حتى كأن لم تفارقي وحتى كأن اليأسَ مِن وصلِك الوعدُ وحتى تكادي تمسحين مدامعي ويعبق في ثوبيَّ من ريحِك الندُّ ♦   ♦   ♦ طال غشيانك الكرائه حتى قال فيك الذي أقول الحسامُ وكفَتْك الصفائح الناس حتى قد كفَتْك الصفائح الأقلامُ وكفَتْك التجارب الفكر حتى قد كفاك التجاربَ الإلهامُ

(يتبع)..