تفسير سورة البقرة: الآيات 33 - 37 (مطوية)

سورة البقرة

(بسم الله الرحمن الرحيم)

﴿ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾

♦♦♦♦♦

شرح الكلمات:

﴿ آدَمَ ﴾: نبي الله أبو البشر عليه السلام.

﴿ الأَسْمَاءَ ﴾ أسماء الأجناس كلها؛ كالماء والنبات والحيوان والإنسان.

﴿ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ ﴾: ما غاب عن الأنظار في السموات والأرض.

﴿ تُبْدُونَ ﴾ تظهرون من قولهم: ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا ﴾ الآية.

﴿ تَكْتُمُونَ ﴾: تبطنون وتخفون، يريد ما أضمره إبليس من مخالفة أمر الله تعالى وعدم طاعته.

﴿ اسْجُدُوا ﴾: السجود" هو السجود على الأرض بأن يضع الساجد جبهته على الأرض خضوعاً، وخشوعاً؛ وليس المراد به هنا الركوع؛ لأن الله تعالى فرَّق بين الركوع والسجود، كما في قوله تعالى: ﴿ تراهم ركعاً سجداً ﴾ [الفتح: 29] ، وقوله تعالى: ﴿ يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ﴾ [الحج: 77] ..

﴿ إِبْلِيسَ ﴾: قيل كان اسمه الحارث، ولما تكبر عن طاعة الله أبلسه الله أي: أيأسه من كل خير ومسخه شيطاناً.

﴿ أَبَى ﴾: امتنع ورفض السجود لآدم.﴿ وَاسْتَكْبَرَ ﴾: تعاظم في نفسه فمنعه الاستكبار والحسد من الطاعة بالسجود لآدم.

﴿ الْكَافِرِينَ ﴾: جمع كافر. من كذب بالله تعالى أو كذب بشيء من آياته أو بواحد من رسله أو أنكر طاعته.

﴿ الجنة ﴾ هي البستان الكثير الأشجار، وسمي بذلك لأنه مستتر بأشجاره؛ وهل المراد بـ { الجنة جنة الخلد؛ أم هي جنة سوى جنة الخلد؟..

الجواب: ظاهر الكتاب، والسنة أنها جنة الخلد، وليست سواها؛ لأن "أل" هنا للعهد الذهني..

فإن قيل: كيف يكون القول الصحيح أنها جنة الخلد مع أن من دخلها لا يخرج منها . وهذه أُخرج منها آدم؟

فالجواب: أن من دخل جنة الخلد لا يخرج منها: بعد البعث.

﴿ رَغَداً ﴾: العيش الهني الواسع يقال له: الرغد.

﴿ الشَّجَرَةَ ﴾: شجرة من أشجار الجنة أو غيرهما وما دام الله تعالى لم يعين نوعها فلا ينبغي السؤال عنها.

﴿ الظَّالِمِينَ ﴾: لأنفسهما بارتكاب ما نهى الله تعالى عنه.

﴿ فَأَزَلَّهُمَا ﴾: أوقعهما في الزلل، وهو مخالفتهما لنهي الله تعالى لهما عن الأكل من الشجرة.

﴿ مُسْتَقَرٌّ ﴾ : المستقر: مكان الاستقرار والإقامة.

﴿ إِلَى حِينٍ ﴾: الحين: الوقت مطلقاً قد يقصر أو يطول والمراد به نهاية الحياة.﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ ﴾: أخذ آدم ما ألقى الله تعالى إليه من كلمات التوبة. ﴿ كَلِمَاتٍ ﴾: هي قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾. ﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾: وفقه للتوبة فتاب وقبل توبته، لأنه تعالى تواب رحيم.

معنى الآيات:

قال تعالى لأدم: أنبئهم بأسماء تلك المخلوقات المعروضة فأنبأهم بأسمائهم واحداً واحداً حتى القصعة، والقُصَيْعة.. وهنا ظهر شرف آدم عليهم، وعتب عليهم ربهم بقوله: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ .

ويذكر تعالى عباده بعلمه وحكمته وإفضاله عليهم بقوله: ﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ... ﴾ سجود تحية وإكرام فسجدوا إلا إبليس تعاظم في نفسه وامتنع عن السجود الذي هو طاعة الله، وتحية آدم. تكبراً وحسداً لآدم في شرفه فكان بامتناعه عن طاعة الله من الكافرين الفاسقين عن أمر الله. الأمر الذي استوجب ابلاسه وطرده. في و يخبر تعالى عن إكرامه لآدم وزوجه حواء حيث أباح لهما جنته يسكنانها ويأكلان من نعيمها ما شاءا إلا شجرة واحدة فقد نهاهما عن قربها والأكل من ثمرها حتى لا يكونا من الظالمين. و أخبر تعالى أن الشيطان أوقع آدم وزوجه في الخطيئة حيث زين لهما الأكل من الشجرة فأكلا منها فبدت لهما سوءاتهما فلم يصبحا أهلاً للبقاء في الجنة فأهبطا إلى الأرض مع عدوهما إبليس ليعيشوا بها بعضهم لبعض عدو إلى نهاية الحياة.و يخبر تعالى أن آدم تلقى كلمات التوبة من ربه تعالى وهو: ﴿ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ فقالاها توبة فتاب الله عليهما وهو التواب الرحيم.

من هداية الآيات:

1- بيان قدرة الله تعالى حيث علم آدم أسماء المخلوقات كلها فعلمها.

2- شرف العلم وفضل العالم على الجاهل.

3- فضيلة الاعتراف بالعجز والقصور. دل على هذا قولهم: لا علم لنا إلا ما علمتنا، ولذا قال العلماء: الواجب على من سأل على ما لا يعلم أن يقول: الله أعلم، وروي عن علي رضي الله عنه، قال: "ما أبردها على الكبد"!! فقيل له: وما ذاك؟ فقال: "أن يسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم.

4- جواز العتاب على من ادعى دعوى هو غير متأهل لها.

5- أجمع أهل الإسلام قاطبة أن السجود لا يكون إلا لله تعالى. وفي الحديث: "لا ينبغي أن يسجد لأحد إلا لله رب العالمين".

6- التحذير من الكبر والحسد حيث كانا سبب إبلاس الشيطان، وامتناع اليهود من قبول الإسلام.

7- تقرير عداوة إبليس، والتنبيه إلى أنه عدو تجب عداوته أبداً.

8- التنبيه إلى أن من المعاصي ما يكون كفراً أو يقود إلى الكفر.

9- كرامة آدم وذريته على ربهم تعالى.

10- شؤم المعصية وآثارها في تحويل النعمة إلى نقمة.

11- عداوة الشيطان للإنسان ووجوب معرفة ذلك لاتقاء وسوسوته.

12- وجوب التوبة من الذنب وهي الاستغفار بعد الاعتراف بالذنب وتركه والندم على فعله.

13- التذكير بإفضال الله الأمر الذي يوجب الشكر ويرغب فيه.

14- إثبات الكلام لله تعالى؛ وأنه لم يزل متكلما؛ يقول ما شاء؛ ويتكلم بما شاء؛ وأنه عليم حكيم. وأنه بحرف، وصوت مسموع؛ لأن آدم سمعه، وفهمه، فأنبأ الملائكة به؛ وهذا الذي عليه أهل السنة والجماعة، والسلف الصالح . أن الله يتكلم بكلام مسموع مترتب بعضه سابق لبعض..

15- وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالوجب عليه؛ التسليم؛ واتهام عقله؛ والإقرار لله بالحكمة.

16- ومنها: بيان عموم علم الله عزّ وجلّ، وأنه يتعلق بالمشاهد، والغائب؛ لقوله تعالى: ﴿ أعلم غيب السموات والأرض ﴾.

17- ومنها: أن السموات ذات عدد؛ لقوله تعالى:  ﴿ السموات ﴾؛ و "الأرض" جاءت مفردة، والمراد بها الجنس؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن ﴾ [الطلاق: 12] أي في العدد..

18- ومنها: أن الملائكة لها إرادات تُبدى، وتكتم؛ لقوله تعالى: ﴿ وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ﴾..

19- ومنها: أن الله تعالى عالم بما في القلوب سواء أُبدي أم أُخفي؛ لقوله تعالى: ﴿ ما تبدون وما كنتم تكتمون ﴾.

فإن قال قائل: ما الدليل على أن الملائكة لها قلوب؟..

فالجواب: قوله تعالى: ﴿ حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ﴾ [سبأ: 23].

20- من فوائد الآية: بيان فضل آدم على الملائكة؛ وجهه أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا له تعظيماً له..

21- أن إبليس . والعياذ بالله . جمع صفات الذم كلها: الإباء عن الأمر؛ والاستكبار عن الحق، وعلى الخلق؛ والكفر.

22- ومنها: أن السجود لغير الله إذا كان بأمر الله فهو عبادة؛ لأن لله تعالى أن يحكم بما شاء؛ ولذلك لما امتنع إبليس عن هذا كان من الكافرين؛ وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على كفر تارك الصلاة؛ قال: لأنه إذا كان إبليس كفر بترك سجدة واحدة أُمر بها، فكيف عن ترك الصلاة كاملة؟! وهذا الاستدلال إن استقام فهو هو؛ وإن لم يستقم فقد دلت نصوص أخرى من الكتاب، والسنة، وأقوال الصحابة على كفر تارك الصلاة كفراً أكبر مخرجاً عن الملة..ويدل على أن المحرَّم إذا أمر الله تعالى به كان عبادة قصة إبراهيم عليه السلام، حين أمره الله أن يذبح ابنه إسماعيل فامتثل أمر الله؛ ولكن الله رحمه، ورحم ابنه برفع ذلك عنهما، حيث قال تعالى: ﴿ فلما أسلما وتلَّه للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ [الصافات: 103 . 105] ؛ ومن المعلوم أن قتل الابن من كبائر الذنوب، لكن لما أمر الله عزّ وجلّ به كان امتثاله عبادة..

23- ومنها: أن ظاهر النص أن ثمار الجنة ليس له وقت محدود؛ بل هو موجود في كل وقت؛ لقوله تعالى: ﴿ حيث شئتما ﴾.

24- ومنها: أن معصية الله تعالى ظلم للنفس، وعدوان عليها؛ لقوله تعالى: ﴿ ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين.. ﴾.

25- ومنها: أن الجنة في مكان عالٍ؛ لقوله تعالى: ﴿ اهبطوا ﴾؛ والهبوط يكون من أعلى إلى أسفل.

26- ومنها: أنه لا يمكن العيش إلا في الأرض لبني آدم؛ لقوله تعالى: ﴿ ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ﴾؛ ويؤيد هذا قوله تعالى: ﴿ فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون ﴾.

27- منة الله سبحانه وتعالى على أبينا آدم حين وفقه لهذه الكلمات التي كانت بها التوبة؛ لقوله تعالى: ﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات ﴾.

28- ومنها: إثبات هذين الاسمين الكريمين: ﴿ التواب ﴾، و﴿ الرحيم ﴾؛ وما تضمناه من صفة، وفعل.

والله اعلم

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ....