الولاية على المال في الفقه الإسلامي

ملخص الرسالة

الولاية على المال في الفقه الإسلامي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، وبعد:

فمن عظيم حكمة الله - سبحانه وتعالى - ورحمته بخلقه، أنَّه خلق الإنسان أطوارًا، ونقله من حالٍ إلى حال، فهو يخرج من بطن أمه ضعيفًا واهن القُوى، ثم يشِب قليلًا حتى يكون صغيرًا، ثم حدثًا، ثم مراهقًا، ثم شابًا، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ [الروم: 54].

وكما ابتدأ ضعيفًا فإن الله يصيره من بعد قوَّته ضعيفًا هَرَمًا، حتى لا يكاد يدبر أموره، ولا يلبي شؤونه، كما قال أسامة بن منقذ[1] وقد أعياه حمل القلم بعد ما شاخ:

فاعْجَبْ لضَعفِ يدِي عن حملِها قَلَمًا *** مِن بعدِ حَطْمِ القَنا في لِبَّةِ الأسدِ[2]

وكذلك فإن الله يبتلي بعض عباده بأنواع من العاهات، كالجنون ونحوه، مما يفقد الإنسان تمييزه، ولا ريب أن هؤلاء ليسوا أهلًا للتصرف.

ولما كان حب المال من الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾ [الفجر: 20] وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون له ثالث، ولا يملأ فَاه إلا التُّراب، ويتوب الله على من تاب"[3].

وكان به قوام حياة الناس في معاشهم ومعاملاتهم، وعليه مدار علاقاتهم التجارية، كذلك تقوم به عبادات لا تجب في الذمة إذا فقد؛ كالزكاة والصدقات، والحج، ونفقة الأرحام، والإنفاق في سبيل الله، أي في خصوص الجهاد.

لذا، اهتمت شريعة الإسلام بتنظيم أمور الناس المالية، فشرعت الأحكام ووضعت الضوابط والشروط المتعلقة بالمال، لتبين للناس الأسس العامة لمعاملاتهم المالية؛ مما يجِب أو ينْدب أو يباح أو يكره أو يحرم، فأَصلت لفقه شرعي مالي يمنع الاضطراب والمشاحنات في واقع الحياة، وبذلك تنمو المجتمعات ماليًا، فيقل العوز والحاجة، ويضمحل الفقر والشظف، ويقل الخلاف والتنازع.

وقد يؤول المال إلى من لا يحسن التصرف فيه لعارض يصيبه فيضعه في غير موضعه، مضيعًا أو مهلكًا بالتبذير أو الإسراف، فيتلف ماله فيتحول إلى عالة على الناس، ويضر المجتمع بتدني التنمية فيه.

فمن رحمة الله - تعالى- أنه شرع الولاية على مثل هؤلاء الأشخاص العاجزين عن النظر في أموالهم ومصالحهم، حفظًا للمال على صاحبه وأوليائه، وحفظًا للمجتمع من الضعف المالي، قال الله - تعالى -: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ﴾ [النساء: 5، 6].

أهمية البحث وأسباب اختياره:

تظهر أهمية البحث وأسباب اختياره في النقاط التالية:

1) الولاية على المال موضوع عملي يلامس حياة كثيرٍ من الناس، فكانت الحاجة ماسة إلى بيان أحكامها الشرعية، ليعمل الناس بها في تصرفاتهم في الولاية المالية.

2) حماية الفرد - الولِي أو المحجور عليه - والمجتمع من الأعمال غير المسؤولة التي قد تصدر عمن لا يحسن التصرف في الأموال.

3) الإسهام في إيجاد الحلول المناسبة للمشكلات التي قد تقع بين الناس في هذا الجانب العملي من حياتهم.

4) إن أحكام الولاية على المال تحتاج إلى مزيد بحثٍ وتوضيح وإعادة نظر، لا سِيما وأن بعض تلك الأحكام قد تكثر أو تقل مبنية على اجتهاد العلماء، ومن اجتهادهم ما هو مبني على الأعراف والعادات التي قد تتغير زمانًا ومكانًا، ولابدَّ للفقه الإسلامي من مواكبة هذا التطور، وإخضاعه للحكم الشرعي الإسلامي.

5) إن هذا الموضوع رغم أهميته العلمية والعملية لم أجد - حسب علمي وجهدي في البحث - بحثًا مستقلًا يجمع جزئياته المتناثرة في بطون كتب الفقه الإسلامي، وفق تصوري وخطتي التي وضعتها للكتابة فيه، في ضوء مناهج البحث العلمية.

الدراسات السابقة:

بعد البحث والتحري والسؤال عثر الباحث على كتب بحثت جانبًا من أحكام هذا الموضوع، وكان من أهمها:

أولًا: "الولاية على المال والتعامل بالدين"، للشيخ علي حسب الله رحمه الله.

والكتاب عبارة عن محاضرات ألقاها الشيخ على طلبة قسم الدراسات الإسلامية القانونية في جامعتي القاهرة والخرطوم، وقد قسمه إلى قسمين: الولاية على المال، والتعامل بالدين.

والقسم الذي يعنيني في دراستي يقع في ثمانٍ وسبعين صفحة، مطبوع في مصر مطبعة الجيلاوي، دون تاريخ أو رقم طبعة.

وقد تكلم الشيخ عن معنى الولاية ومنْشئِها، والمحجور عليهم، ومن له حق الوصاية عليهم، فذكر ولاية الأب ووصيه، والجد ووصيه، والقاضي ووصيه، مقارنًا الفقه بالقانون عرضًا دون مناقشة.

ولم يتعرض الشيخ علي حسب الله إلى مناقشة آراء العلماء إلا في القليل، ولم ينظر في أدلتهم نقدًا أو ترجيحًا، وكذلك تركه كثيرًا من المسائل الهامة المتعلقة بالموضوع؛ من أهمها: ولاية الأم، وزوال الولاية، وسأعمل بإذن الله على استكمال ذلك.

ثانيًا: "المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشر يعة الإسلامية"، للدكتور عبد الكريم زيدان.

وهو كتاب فقهي كبير، يعرض لكثير من مسائل الفقه الإسلامي، يتكون من أحد عشر جزءًا وفي الجزء العاشر منه تناول موضوع الولاية المالية وأحكامها من حيث: تعريف الولاية لغةً واصطلاحًا، ومن تثبت لهم الولاية وترتيبهم، وولاية الأم، والولاية على المجنون والمعتوه والسفيه وذي الغفلة، وشروط الولي وتصرفاته في أموال القاصرين والمولى عليهم، وإنفاقه عليهم من أموالهم.

و قد ترك المؤلف كثيرًا من الأحكام الفقهية المتعلقة بالولاية مثل: إنفاق الولي على نفسه من مال المحجور عليه، وأخذ الأجر على الولاية، والتفريق بين الولاية والوصاية، وزوال الولاية، ودفع المال للمولَّى عليه، وغيرها.

وكذلك لم يتعرض لكثير من أحكام الأوصياء؛ مثل: حكم قَبول الإيصاء، وأركانه وصيغته، وعمل الوصي وتصرفاته، وتقييد الوصاية، وتعدد الأوصياء، وغيرها. وسأتناول كل ذلك في بحثي إن شاء الله تعالى.

ثالثًا: "أحكام الولاية على المال"، للمحامي كمال صالح البنا.

وهو كتاب يعلق على مواد المرسوم بقانون رقم مائة وتسعة عشر (١١٩) لسنة ألف وتسعمائة واثنتين وخمسين (١٩٥٢م)، المتعلق بأحكام الولاية على المال والإجراءات الخاصة بها في مصر.

يتحدث المؤلف عن الولاية وتعريفها، ومن تثبت له الولاية وترتيب الأولياء، ويعرض نصوص القانون الصادرة ذات العلاقة، ثم تحدث عن الحجر من ناحية قانونية فحسب. كذلك تعرض لذكر إجراءات قضائية عامة تتعلق بالولاية.

ويؤخذ على الكاتب عدم توثيق المعلومات خاصة الفقهية، وعدم الرجوع إلى الكتب الفقهية المعتمدة عند ذكره المسائل الفقهية، وعدم الرجوع إلى كتب اللغة لتوضيح المبهمات والمصطلحات التي استخدمها، كما يؤخذ على الكاتب في الناحية الموضوعية الآتي:

١- تركه عرض أقوال أهل العلم في المسائل المطروحة.

٢- تركه كثيرًا من الأحكام الفقهية التي تتعلق بالولاية على المال.

وسأعمل بإذن الله وعونه على استدراك ما فاته من تلك الأحكام.

منهج البحث:

اقتضى البحث أن يسلك الباحث المنهج الوصفي، مع الإفادة من منهجي الاستقراء والاستنباط، وفق الآتي:

١- الرجوع إلى المصادر الفقهية المعتمدة عند كل مذهب فقهي من المذاهب الأربعة فحسب، لأخذ قول كل مذهب من كتبه، وعرضها حسب الترتيب التاريخي للمذاهب، مع الرجوع للكتب الحديثة إذا اقتضاه الأمر.

٢- ذكر أدلة كل مذهب، وبيان وجه الدلالة، مع المناقشة والترجيح في المسائل المختلف فيها تبعًا لقوة الدليل، وبعيدًا عن التعصب والهوى.

٣- عزو الآيات القرآنية الواردة في البحث إلى مواضعها في القرآن بذكر اسم السورة ورقم الآية.

٤- تخريج الأحاديث النبوية الواردة في البحث، فما كان في "الصحيحين" أو أحدهما، أكتفي بالعزو إليهما أو أحدهما، وإن كان الحديث في غيرهما من كتب المسانيد والسنن، فأخرجه مع الحكم عليه بالرجوع إلى كتب علماء الحديث المحققين.

٥- الرجوع إلى المصادر من كتب اللغة لتوضيح وضبط المبهم والغريب من الألفاظ.

٦- وضع فهارس للآيات والأحاديث والمصادر والمراجع والموضوعات.

خطة البحث:

جعلت هذه الرسالة في مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، على النحو الآتي:

المقدمة: وقد ذكرت فيها أهمية الموضوع، والأسباب التي دفعتني لاختياره، والدراسات السابقة، ومنهج البحث، والخطة التي اعتمدتها في كتابة البحث.

الفصل الأول: الأهلية، والحجر، والولاية.

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: الأهلية.

المبحث الثاني: الحجر.

المبحث الثالث: الولاية.

الفصل الثاني: الولاية على المال.

وفيه أربعة مباحث:

المبحث الأول: تعريف الولاية وأقسامها ومن تثبت عليهم.

المبحث الثاني: تعريف الولاية المالية وأنواعها والفرق بينها وبين الوصاية.

المبحث الثالث: تصرفات الولي في مال المحجور.

الفصل الثالث: الوصاية على المال.

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: الوصاية.

المبحث الثاني: صلاحيات الوصي.

المبحث الثالث: زوال الوصاية ودفع المال إلى المحجور عليه.

الفصل الرابع: الولاية في المحاكم الشرعية

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: نماذج تثبيت الأولياء.

المبحث الثاني: نماذج تعيين الأوصياء.

الخاتمة: وتتضمن أهم نتائج البحث.

الخاتمة:

الحمد لله رب العالمين، أتم على الخلق نعمه ظاهرة وباطنة، وشرفهم بمعرفته، وأعلى مقامهم بالعبودية له، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فهذه أهم النتائج التي توصل إليها الباحث رسالته:

1) جواز الحجر على الكبير الحُرِّ البالغ إذا كان سفيهًا.

2) الإكراه حملُ الغير على أمر يمَتنِع عنه بتهديد يقدر على إِنَفاذِه.

3) الولاية هي: قيام شخص كبير راشد على شخص قاصر في تدبير شؤونه الشخصية والمالية.

4) ترتيب الأولياء في استحقاقهم الولاية كالتالي: الأب، ثم الجد، ثم لمن يوصي إليه الموجود منهما، ثم للقاضي أو وصيه.

5) الأم تكون لها الولاية على مال صغارها عند فقد الأب والجد.

6) يجوز للأب بيع ماله للصغير وشراء مال الصغير لنفسه بالاتفاق.

7) يجوز للجد بيع ماله للصغير أو شراء ماله لنفسه.

8) أكل الولي الفقير من مال المحجور عليه مشروع بنص الكتاب والسنة.

9) لا يجب على الولي الفقير رد ما أكل من مال اليتيم.

10) وجوب تنمية مال المحجور عليه من قبل الولي.

11) الوصاية هي: تعيين رجلٍ غيره ليدبر شؤون أولاده المالية.

12) جواز وصاية المرأة على أبنائها المحجور عليهم.

13) صحة قبول الإيصاء في وقت صدور الإيجاب من الموصي.

14) يتعلق وقت تصرف الوصي بإيجاب الموصي الذي يحدد فيه وقت ابتداء التصرف.

15) ليس للوصي الذي صدر منه القبول أن يرجع عن قبوله بعد وفاة الموصي إلا بإذن القاضي.

16) جواز إيصاء الوصِي لغيره في حال حضرتْه الوفاةُ.

17) إذا تعدد الأوصياء في أعمال متعددة اختص كل وصِي بما أُوصِي إليه فيه.

18) إذا نص الموصي على تعيين وصيين اثنين أو أكثر في عمل واحد، فلا يصح تصرف أحدهما منفردًا.

19) الجنون مبطل للوصاية.

20) السفه إذا طرأ على الوصي أبطل وصايته.

21) الخيانة مبطلة للوصاية.

22) التغير بالفسق مبطل للوصاية.

23) الضعف والعجز لا يبطل الوصاية، بل يضم القاضي معه سواه ليسد الخلل.

24) وفاة الوصي تُنْهي الوصاية لانقطاع حياته، ويرد الأمر إلى القاضي ليعين وصيًّا مكانه.

25) يزول الحجر من غير حكم قضائي.

26) البلوغ يكون بظهور علاماته؛ كخروج المني وإنبات الشعر الخشن حول الفرج وبالحيض والحمل.

27) ويكون بالسن بإتمام خمس عشرة سنة قمرية.

28) الرشد هو تثمير المال وإصلاحه.

29) وقت اختبار اليتيم يكون قبل البلوغ.

30) يصدق الوصي في دفعه المال للمحجور عليه من غير بينة.

هذا وإني أرجو أن يكون ما رجحته هو الصواب، ولا كمال إلا لله، ولا عصمة إلا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن أصبت الحق فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان.

والله أعلم وأعلى وأجلّ، وإليه المرجع والمآب.

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فهرس الموضوعات