• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مسابقة كاتب الألوكة الثانية   مسابقة الألوكة الكبرى لتعزيز القيم والمبادئ والأخلاق   المسابقة الإلكترونية لجميع أفراد الأسرة   أنشطة دار الألوكة   مسابقة شبكة الألوكة (حياتنا توسط واعتدال)   أخبار الألوكة   إصدارات الألوكة   مسابقات الألوكة المستمرة   مسابقة الألوكة الكبرى للإبداع الروائي  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    في محراب العلم والأدب: تحية إكبار وتقدير لشبكة ...
    د. مصطفى يعقوب
  •  
    بيان شبكة الألوكة إلى زوارها الفضلاء حول حقوق ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    كلمة شكر وعرفان لشبكة الألوكة من أبي محمد فواز ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    تهنئة بعيد الأضحى ١٤٤٠هـ
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    في ظلال الألوكة
    د. سعد مردف
  •  
    بطاقة تهنئة بعيد الأضحى
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    الألوكة وجامعة السويس ينظمان مؤتمرا دوليا بعنوان ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    نتائج مسابقة شبكة الألوكة: حياتنا توسط واعتدال
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    في حب الضاد شاركت الألوكة مجمع اللغة العربية ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    شبكة الألوكة تشارك في فعاليات اليوم العالمي للغة ...
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    إذاعات مدرسية مكتوبة - شبكة الألوكة
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    دار الألوكة للنشر في معرض الرياض الدولي للكتاب ...
    دار الألوكة للنشر
  •  
    الألوكة.. لغة سماوية
    خالد يحيى محرق
  •  
    اللقاء الرمضاني السنوي لشبكة الألوكة في بلدة رغبة
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    مسابقة شبكة الألوكة: حياتنا توسط واعتدال
    خاص شبكة الألوكة
  •  
    ترشيح د. خالد الجريسي لانتخابات الغرفة التجارية
    محمد بن سالم بن علي جابر
شبكة الألوكة / الإصدارات والمسابقات / مسابقات الألوكة المستمرة / مسابقة الملخص الماهر / المواد الفائزة في مسابقة الملخص الماهر
علامة باركود

أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص خامس)

الطاهر زياني

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 10/6/2012 ميلادي - 20/7/1433 هجري

الزيارات: 137547

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ملخص كتاب
أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله
د. عياض السلمي

المقدمة

الحمد لله الذي أرسل إلى عباده رسلاً كراما، بعثهم بالتَّوحيد توفيقًا منه وامتنانا، وشرح صدور أتباعهم للحق تيسيرًا منه وإلهاما، ومنح لأهل الفقه منهم بصائر وأحلاما، وفتح أقفال قلوبهم لفهم شرعه هداية منه ورضوانا، ورفع عنها بمنّه شبهات وشهوات وأسقاما، أحمده سبحانه على نعمه إنَّها كانت عظاما، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله إنَّه كان ديَّانا، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله إنَّه كان ختامًا، بعثه الله إلى عباده نورًا وبيانا، فمحق به شركًا وأوثانا، وأزال به ظلما وعدوانا، وفتح به أعيُنا عميانا، ورفع به عن خلقه آصارًا وآثاما، فصلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم سلاما.

أمَّا بعد:
فإنَّ الله - تعالى - اختصَّ من خلقِه أقواما، لفهم شرعه بِرًّا بهم وإنعاما، فوضَّح بهم دينه وأتمه إتماما، وجعل منهم أئمَّة يقتدى بهم وأعلاما، فبيَّنوا شرع الله وأحكامه تبيانا، وألزموا بقواعد الأصول مع حججِها على تاركي المحجَّة لزاما، فكانوا خلف الأخيار، وعلماء الأقطار، وفهمة الأخبار؛ وانطلاقًا من هذا المبدأ العظيم، فقد أحببتُ أن أعرف في هذا الباب من كلامِهم، وألمّ من أقوالهم، وأفقه ما أصلوه من قواعدهم، وعرفت أنَّه لن يتأتّى لي هذا إلاَّ بالغوص في عمق علم أصول الفقه الخضمّ، لآخذ منه بالأهمّ، فيسَّر الله لي أن أجد في موقع "الألوكة" المبارك بغيتي؛ إذ فيه مسابقة في التَّلخيص لكتاب عساي أحقّق فيه أمنيتي، فوقع اختياري على تلخيص كتاب: "أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله"، للشَّيخ: عياض بن نامي السلمي، عندها استعنتُ الله - تعالى - على تلخيص هذا الكتاب، محافظًا على جوهرِه، معتنيًا بلبِّه، ومبْقيًا على تقْسيمه، وماشيًا على تبويبه، الَّذي قال عنْه في تأليفه: "وقد قسَّمته إلى تمهيدٍ وستَّة أبْواب وخاتمة، على النَّحو التَّالي:
التَّمهيد: التَّعريف بأصول الفقه. 
الباب الأوَّل: الحكم الشَّرعي. 
الباب الثَّاني: أدلَّة الأحكام الشَّرعيَّة. 
الباب الثَّالث: دلالة الألفاظ. 
الباب الرَّابع: التعارُض وطرق دفعه. 
الباب الخامس: الاجتهاد. 
الباب السادس: التَّقليد. 

ثم إنني في هذا التلخيص،
لم أقلل التَّقليل المخلّ، ولم أُطِل التَّطويل الممل؛ إذ لا أذكُر كلَّ شاردة وواردة، ولم أُخْلِ الكتاب من فائدة، فما وجدتُ من تعليق علَّقت، ومن تنكيت نكَّت، ومن استدراك فعلت، وجعلت ذلك بين معكوفتين هكذا: [...]، وأحيانًا أزيد: [قلت: ...]، تمييزًا لما على المصنِّف استدركت، والله أسأل أن ينفعنا به والمسلمين، وأن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم، إنَّه جواد كريم، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العظيم.
♦            ♦             ♦


التمهيد

1- نشأة أصول الفقه:

من المعلوم أنَّ العلوم الشرعيَّة - ومنها علم الأصول - لم تدوَّن في القرن الأوَّل زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ لأنَّهم كانوا من أعلم الناس بالتنزيل، وأعرفهم بالتأويل؛ حيث شهدوا الوقائع، وعايشوا الأحداث، فكانت قواعد الأصول عندهم عمليَّة، وعلى أرض الواقع تطبيقيَّة، أضف إلى ذلك كونهم العرب الفصحاء، أصحاب البيان البلغاء، مع صدق النيَّة، والصحبة النبويَّة.

فمن تطبيق النبي - صلى الله عليه وسلم - للقواعد العامة والكلية استدلاله بعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] على أبي بن كعب - رضي الله عنه - لاشتغاله بالصلاة وعدم الاستجابة لندائه، والأمثلة في هذا الباب كثيرة كما سنوردها في ذلك، في مظانّها هنالك.

وبالنبي - صلى الله عليه وسلم - اقتدى الصَّحابة - رضي الله عنهم - في الاستدلال، فكانوا يجتهدون في فهم النصوص، ويسأل بعضُهم بعضًا فيما خفي عليهم من ذلك، ويقيسون المسائل بأشبابها ونحو ذلك، وبهم اقتدى كبار التَّابعين، إلى زمن أواخرهم، حيث بدأت المدارس الفقهيَّة بالظهور، فبرزتْ مدرسة الرأي في العراق، ومدرسة أهل الحديث بالمدينة، بل كل بلد من بلاد الإسلام وجد به علماء يصدر النَّاس عن رأيهم، ويسير تلامذتُهم على منهجِهم، ويأخذون من مذهبِهم، فبدأ ظهور التعصُّب للرَّأي، من غير أن تكون هنالك قواعدُ يرجع إليها لوزن الآراء ومعرِفة الرَّاجح من المرجوح، وههُنا توسَّعت أرض الإسلام واختلط العجم بالعرب، وضعُف اللِّسان العربي، ودخل الوضْع في الحديث النبوي لأسباب عدَّة، واحتاج القرآن إلى التَّفسير والإيضاح، والسنَّة إلى تَمييز الضِّعاف من الصِّحاح، واحتاجتِ الأدلَّة إلى قواعد تضبِط الاستِدْلال، فجاء الشَّافعي وكتب "الرِّسالة" الَّتي جعلها بمثابة مقدمة لكتابه "الأم"، حيث تلقَّاها العلماء بالقبول، كما كانت للشافعي كتب أخرى إلا أنها لم تكن في شمولية "الرسالة"، ومن تلك الكتب "اختلاف الحديث"، و"إبطال الاستحسان"، و"جماع العلم"، وكتاب "أحكام القرآن"، ثم تتابع التأليف في هذا العلم فكتب الإمام أحمد بن حنبل كتاب "طاعة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -"، وكتب داود الظاهري: الإجماع، وإبطال التقليد، وخبر الواحد، والخصوص والعموم، وكتب عيسى بن أبان كتابًا في خبر الواحد، وكتب الكرخي رسالة في الأصول، وكتب الجصَّاص كتاب "الفصول".

إلى أنِ ازدهر هذا العِلْم في القرنين الخامس والسَّادس، حيث ظهرتْ فيهما أهمُّ كتب أصول الفقه مثل "العمدة" للقاضي عبدالجبار، و"المعتمد" لأبي الحسين البصري، و"اللمع"، و"التبصرة" كلاهما لأبي إسْحاق الشيرازي، و"العُدَّة" للقاضي أبي يعلى، و"المستصْفى"، و"المنخول"، و"شفاء الغليل" للغزالي، و"الواضح" لابن عقيل، و"التَّمهيد" لأبي الخطَّاب الكلوذاني، وأصول السرخسي، وأصول البزدوي، و"إحكام الفصول"، و"الإشارة" لأبي الوليد الباجي، وفي أواخر القرن السَّادس وما بعدَه انتشرت المختصرات والشُّروح لأجل تقريب المسائل وحل ما في المختصرات من غموض وإشْكال.

وفي العصْر الحديث ضعفت الهمم عن دراسة المطوَّلات وحفظ المختصرات، مع إدراك المبهمات، فاحتاج النَّاس إلى نوع جديد من المؤلَّفات، سهل العبارة مفهوم الإشارة، مع المحافظة على أُسُسِه وقواعده، ومحاولة التَّقريب بينه وبين الفقه، من غير ترْك لكتب المتقَدِّمين والاكتفاء عنها بكتب المتأخِّرين.

2- تعريف أصول الفقه: إنَّ التَّعريف المختار لهذا العِلْم هو أن يُعرف باعتبارَين، أولهما باعتبار كونه مركبًا إضافيًّا، والثاني باعتِبار كونه عَلَمًا على عِلم مخصوص من علوم الشَّريعة.

أ- تعريف أصول الفقه باعتبار كونه مركَّبًا إضافيًّا: فهو متكون من مضاف ومضاف إليه، وتعريفه يقتضي معرفة جزأيْه، والمضاف إليه آصَل من المضاف، فينبغي أن نعرِّفه أوَّلا ثم نعرف المضاف.

تعريف الفقه:

الفقه في اللغة هو الفهم، ومعرفة باطن الشيء، ومنه قوله تعالى: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وقوله: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} [هود: 91].

والفقه اصطلاحًا هو "العلم بالأحْكام الشَّرعيَّة العمليَّة المكتسبة من أدلَّتها التفصيليَّة"، وإليْكم شرحَ التَّعريف:

فقولهم: (العلم) جنسٌ يشمل الإدراك الشَّامل للظَّنّ واليقين معًا؛ لأنَّ كثيرًا من مسائل الفِقْه ظنّيَّة، على أنَّ الرَّازي قال بأنَّ الفقه ليس ظنّيًّا؛ لأنَّه مبنيّ على مقدّمتين قطعيتَين فيكون قطعيًّا، إحداهما: ما يَجده المجتهد في نفسه من أنَّ هذا حكم الله، والثَّانية: هي الإجماع على أنَّ ما هذا شأنه يجب العمل به؛ فهو بهذا يقين.

وقولهم: (بالأحكام) خرج بهذا القيد علم ما لا حُكْم فيه وهو التصوُّر، والحكم هنا هو إثبات أمرٍ لآخَر أو نفْيه عنْه.

وقولهم: (الشَّرعية) خرج بهذا القيد الأحْكام غير الشَّرعيَّة، كالأحكام اللغويَّة بصحَّة عبارة أو خطئها، أو الأحكام الطبّيَّة كالعلم بنفع هذا الدَّواء من ضرره.

وقولهم: (العمليَّة)؛ أي: ما يصدر عنَّا من أعمال، كالصلاة والزكاة والصوم والبيع، فخرج بهذا القيد الأحكام الاعتقادية؛ لاختِصاصها باسم آخر وهو علم التَّوحيد.

وقولهم: (المكتسبة) فالعلم المكتسب هو الذي يحصل باجتهاد وعمل، فخرج علم الله - جلَّ وعلا - لأنَّه أزلي، وعلم جبريل - عليه السَّلام - فإنه حصل له بإعلام الله، وكذا علم الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أوحي إليه، وأمَّا ما حصل له باجتهاده فيدخل في مسمَّى الفقه.

وقولهم: (من أدلَّتها التفصيلية) خرج بهذا القيد علم المقلّد فإنَّه ليس مكتسبًا من الأدلَّة بل بالتقليد، ومعنى كونها أدلَّة تفصيليَّة؛ أيّ: لكل مسألة فقهيَّة دليلها الخاص بها، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} [المائدة: 3] فإنَّه يدلّ على تحريم كلّ أجزاء الميتة وهكذا، ولا يشترط في العلم بالأحكام أن يعلم بها جميعًا كما استشكل الآمدي وغيره، بل يكفي أن يعرف معظم الشَّرع وأدلته؛ إذ لا يُلِم بجميع أحكام الشَّرع إلا صاحبه، ثمَّ اعلم أنَّ المتأخرين توسَّعوا في إطلاق اسم الفقيه على مطلق مَن عرف تلكم الأحكام، سواء أعرفها بنظر واجتهاد كما في التَّعريف، أو عرفها تقْليدًا لإمام.

تعريف الأصول: جمع أصل، وهو في اللغة ما يُبنى عليه غيره، أو منشأ الشيء.

ويطلق في الاصطلاح على عدَّة معانٍ، أهمّها ما يلي:

1- الدَّليل، ومنه قول الفقهاء: الأصل في هذه المسألة الكتاب والسنة والإجماع؛ أي: الدليل عليها.

2- القاعدة المستمرَّة، كقول الأصوليّين: الأصل أنَّ الخاص مقدَّم على العام عند التعارُض، وكما يقول النُّحاة: الأصل في المبتدأ التَّقديم وفي الخبر التَّأخير.

3- الرَّاجح: كما يقول الأصوليُّون: الأصل بقاء ما كان على ما كان، والأصْل براءة الذِّمَّة من التَّكاليف الشَّرعيَّة.

4- مخرج المسألة الفرضيَّة؛ أي: العدد الَّذي تخرج منه الفروض المقدّرة بلا كسر، كما يقول الفرضيُّون: أصل هذه المسألة كذا (2، 3، 4، 6، 8، 12، 18، 24).

5- المقيس عليه، كقول الأصوليِّين: أركان القياس أربعة، منها الأصل والفرع...

وأقرب هذه المعاني لإطلاق الأصْل هنا هو المعنى الأوَّل ثمَّ الثَّاني.

ب- تعريف أصول الفقه باعتباره علَمًا: إنَّ أجود تعريف له هو اختيار الرَّازي حيث قال: "مجموع طرق الفقه الإجمالية، وكيفية الاستفادة منها، وحال المستفيد"، غير أنَّه عبَّر بلفظ الكيفية، وهي مصدر صناعي من الكيف، وليست فصيحة كما يقول أهل اللُّغة، والأوْلى أن تبدل بلفظ صفة، كما أنَّه يمكن إبدال كلمة: "طرق الفقه" بـ "أدلَّة الفقه"؛ لأنَّ الدليل يطلق على القطعي والظني على الصَّحيح من قولي العلماء كما سيأتي، وهاكم شرح التعريف:

قوله: (مجموع طرق الفقه) أي: مجموع الطرق التي توصل إلى إدراك الأحكام الشرعيَّة العمليَّة من أدلتها التفصيلية، وقد عبَّر بالطرق دون الأدلَّة؛ لأنَّ الأدلة عند كثير من العلماء لا تشتمل على ما يفيد الظن مثل القياس والاستصلاح، ونحوهما من الطرق التي جعلها الفقهاء أمارات على الأحكام.

قوله: (الإجمالية)؛ الإجمال ضدّ التفصيل، فخرج بذلك طرق الفقه التَّفصيليَّة الَّتي من عمل الفقيه كما أسلفْنا، أمَّا بحث الأصولي فلا يتعلَّق بآية من القرآن بخصوصِها، ولا حديث بعينه، وإنَّما يبحث في حجّيَّة الكتاب والسنَّة والقياس إجمالا، وفي عوارض تلك الأدلَّة وما توصف به من قوَّة أو ضعف وإحكام أو نسخ، وفي شروطها وترْتيبها وكيفيَّة الجمع بينها عند التعارض.

قوله: (وكيفية الاستفادة منها)؛ أي: طرق استفادة الأحكام من الأدلة والأمارات الموصلة إليها، وهذا يشمل طرق الدلالة اللفظية والعقلية من عام وخاصّ ومطلق ومقيَّد، وأمر ونهي ومنطوق ومفهوم، وطرق معرفة العلَّة المستنبطة ونحو ذلك من طرق موصّلة إلى معرفة الحكم الشرعي، أيّا كان نوع الدَّليل قرآنًا أو سنَّة أو قياسًا أو استصلاحًا وغير ذلك.

قوله: (وحال المستفيد) مجتهدًا كان أو مقلدًا، فالمجتهد يستفيد الحكم من الدليل أو العلامة المبينة للحكم، وأمَّا المقلد فيستفيد الحكم من المجتهد بسؤاله عنه.

وبهذا يُعلم أن الأصولي هو من عرف طرق الفقه الإجمالية وصفة الاستفادة منها وحال المستفيد.

3- موضوع أصول الفقه: إنَّ موضوع هذا العلم هو الأدلَّة قطعية كانت أم ظنية، وقد قيل: إنَّ موضوعه الأدلة والأحكام، والذي يبدو من تعريف الرازي السابق أنَّ له ثلاثَ موضوعات رئيسة وهي:

1- طرق الفقه على سبيل الإجمال، ويقصد به الأدلّة أيّا كانت قطعيَّة أو ظنّيَّة، متَّفقًا عليها أو مختلفًا فيها.

2- صفة الاستفادة منها، وهذا يشتمل على جَميع أنواع طرق الدلالة والاستنباط أهي عقليَّة أم لفظيَّة؟ حقيقيَّة أم مجازيَّة؟ عن طريق المنطوق عُلمت، أو بالمفهوم عُرفت؟ وهكذا.

3- صفة المجتهِد والمقلد وما يتعلَّق بهما من أحكام وشروط وتعريفات ونحو ذلك.

4- فوائد علم أصول الفقه: كلّ علم إنَّما يشرف بشرف غايته، والفائدة من تعلمه، وهكذا علم الأصول، فله فوائد وفصول، نذكر منها: التفقّه في الدين، ومعرفة أحكام الشرع المتين، وذلك بتطبيق قواعد الأصول، على أدلَّة الله والرسول، ومن ثَم حسن إسقاطها، على الحوادث عند تنزيلها.

ومن فوائده تعلّم الاجتهاد وحذق النظرات، خاصَّة في الوقائع والمستجدات، وما لا تظهر فيه البينات، ولا تكلم فيه الأئمة السادات، فعلى سبيل المثلات، مسألة تجميد الأجنة والبويضات، والتلقيح الصناعي وغيره من العمليات.

ومن فوائده معرفة حِكَم الشريعة وأسرارها، والتأمل في علل أحكامها، ومعرفة مقاصدها بأنواعها، ضرورية كانت أو حاجية أو من تحسينياتها، ومن ثَمّ تنزيلها في مراتبها، ثُم العِلْم بمصالح الأنام من مفاسدها، ومعرفة المعتبر منها من ملغيها.

ومن فوائده القدرة على مواجهة معطّلي الشَّريعة الندَّ للندِّ، ومقابلة الشبهة بخير ردّ، مع حل لكلّ العقد، ومن ثَمَّ التبيين أنَّ شريعتنا، منحة من ربّنا، فيها حلّ لمشاكلنا ومستجدَّاتنا، مع صلاحيتها لكلّ زمان ومكان، فالحمد لله على منَّته، والشكر له على رحمته.

ومن فوائده دفع التَّناقض عن الفقيه، وذلك بتفريقه بين المختلفات، والتسوية بين المشتبهات، والأمور المتماثلات، مع الاطّراد في القواعد والتأصيلات، فمن لم يضبط ذا، ولا عرف ذاك ولا هذا فقد أوقع نفسه في المتناقضات، وأولجها في الجهالات.

ومن فوائد علم الأصول أنه لا يستغني عنه مفسر في تفسيره، ولا محدث في تأويله؛ إذ كل واحد محتاج إلى فهم النصوص والاستدلال بها، والجمع بين اختلافها.

5- استمداد أصول الفقه: يستمد علم أصول الفقه مما يلي:

1- القرآن الكريم والسنَّة النبوية: فهما المصدران الأساسيَّان لسائر العلوم الشرعية ومنها علم الأصول، ووجه استِمْداده منهما أنَّ موضوع هذا العلم كما سبق هو أدلَّة الأحكام، المستقاة من السنَّة والقرآن، وكذلك كلّ الأدلَّة الأخرى من إجماع وقياس ومصالح واستحسان، وطرق دفع التعارض بين الأدلَّة ونحوها، كلّها راجعة إلى الكتاب والسنَّة.

2- علم أصول الدين، ويعبر عنه بعلم الكلام، ووجه استمداده منه أنَّ العلم بالأدلَّة الإجمالية وصحَّة الاستدلال بها مبنيّ على معرفة الله تعالى وصفاته، وما يجب له من حقّ، وما يمتنع عليه، وهكذا العلم بصدق الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر، وامتثال ما نهى عنه وزجر، ومعرفة ما يجوز أن يقع منه مما لا يجوز، [كما أنَّ الأصولي حين يقرر حجية القرآن فلاعتقاده بربوبية الله وألوهيته وأنَّ كلامه من صفته، وحين يقرّر حجية السنة وأنَّ طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجبة، ومعصيته محرَّمة، فإن مبنى ذلك على اعتقاده في صحة نبوته، وكمال شرعه، والله أعلم].

3- اللغة العربيَّة: ووجه استمداده منها أن اللغة العربية بها القرآن نزل، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد فصَّل، وبعُرفها تعرف الإطلاقات، وتتبن أنواع الدلالات، من منطوق ومفهوم واشتراك وعمومات، وسائر أنواع الدلالات.

4- الفقه: اعلم أنَّ جعل الأصول مستمدَّة من الفقه مشكل؛ إذ لو كان ذلك كذلك، لما عُرفت الأصول إلاَّ بعد معرفة الفقه، والواقع أنَّ الفقه لا يعرف إلاَّ بعد معرفة الأصول؛ لذلك عدل الآمدي وغيره إلى الاستعاضة عن الفقه بالأحكام الشرعيَّة؛ لأنَّ المقصود هو تصوُّر تلكم الأحكام ومعرفة حقائقها، أمَّا من عبر بالفقه فمراده أن علم الأصول يحتاج إلى إدراك أمثلة تفصيليَّة من الفقه تتَّضح بها القواعد الأصولية، وإلاَّ كان كلامه نظريًّا يصعب فهمه، ثمَّ لا بدَّ له من معرفة معاني الأحكام الفقهيَّة كالواجب والمندوب والحرام والمكروه إلخ.

الباب الأول

الحكم الشرعي

تعريفه: الحكم في اللغة هو المنع، ومنْه سميت حَكَمَةُ الدَّابَّة لأنَّها تمنعها من مخالفة مراد صاحبِها، ويطلق الحكم على القضاء، وفيه معنى المنْع؛ لأنه به تمنع ضياع الحقوق.

أمَّا في الاصطِلاح فالَّذي عليه جمهور الأصوليِّين أنَّه: "خطاب الله - تعالى - المتعلِّق بأفعال المكلَّفين اقتضاءً أو تخييرًا أو وضعًا"، والَّذي عليه الفقهاء أنَّه: "مقتضى أو مدلول خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين إلخ"، وقد مال بعض الأصوليين إلى اختيار هذا التَّعريف؛ لأنَّ التَّعريف الأوَّل يلزم منه اتحاد الدليل والحكم في التعريف، والمعروف عند الفقهاء التفريق بينهما، وهاكم شرحَ التعريف الأوَّل:

قولهم: (خطاب الله)، الخطاب لغة توْجيه الكلام إلى الغير لإفهامه، والمراد به هنا هو كلامه وأمره ونهيه، ولا يحل أن يُقال بأنَّه كلام نفسي أو هو معنى قائم بذاته؛ لأنَّ في هذا تعطيلا لصفات الله تعالى.

كما لا يمكن الاقتصار على تفسير الخطاب هنا بأنه كلام الله بلفظه ومعناه؛ فيخرج بذلك ما دلَّت عليه السنَّة والإجماع والقياس وغير ذلك من الأدلة؛ لأنَّ لفظها ليس من الله.

[كذا ذكر المصنّف ولي تعليق وتنكيت على هذا الكلام، فأقول: نعم لا يمكن الاقتِصار على تفسير الخطاب هنا بأنَّه كلام الله بلفظه ومعناه؛ لأنَّ السنَّة أيضًا وحي من الله، برهان ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، فصحَّ لنا بذلك دخول السنَّة في عموم خطاب الله تعالى، أمَّا الإجماع وغيره من الأدلَّة فليس كذلك؛ لأنَّ الإجماع دالّ على مراد الله لا أنَّه من خطابه، وأمَّا سائر الأدلَّة كالقياس وغيره فمِن اجتهاد المجتهد ورأيه، قد يوافق فيه مراد ربِّه وقد يخطئه، كما في صحيح مسلم (1731) من حديث بريدة مرفوعًا: ((وإذا حاصرتَ أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حُكم الله، فلا تنزلْهم على حكم الله ولكِنْ أَنزلْهم على حكمك؛ فإنَّك لا تدري أتصيب حُكْم الله فيهم أم لا))، والله أعلم]، اهـ.

وقولهم: (المتعلق بأفعال المكلفين)؛ أي: كل ما يدخل تحت قدرة عموم العباد، على جهة طلب تحصيل الفعل أو الكفّ عنه، ومن جهة صحَّته أو فساده وما يتبع ذلك، ويدخل في أفعال المكلَّفين الأعمال القلبيَّة كإيجاب التَّصديق بأركان الإيمان، وكذا أعمال الجوارح من صلاة وحجّ وزكاة ونحو ذلك، وخرج بذلك كلّ خطاب تعلَّق بما عدا ذلك، كالخطاب المتعلّق بأمور الكون وذوات المكلفين، وأحوال الأمم السابقين، فهذا وأمثاله ليس حكمًا شرعيًّا في ذاته، إلاَّ إذا انضمَّ إليها ما ورد من الأمر بالتصديق بها، أو الاعتبار في أحوالها، والاتِّعاظ بما حلَّ بأصحابها، فتكون بذلك حكمًا شرعيًّا.

وقولهم: (بالاقتضاء) المراد به الطلب، سواء كان طلبًا لتحْصيل الفعل أو الكفّ عنْه، فإن كان طلبُ التَّحصيلِ جازمًا فهو الإيجاب، وإلاَّ فهو الندب، وأمَّا طلب الترك فالجازم هو التَّحريم، وغير الجازم هو الكراهة.

وقولهم: (أو التخيير) لإدخال القسم الخامس من أقسام الحكم التكليفي وهو الإباحة، التي هي تخيير الشارع بين الفعل والترك، وقد تعرف بسكوت الشارع عن الشيء، أو بما سوى ذلك.

وقولهم: (أو الوضع)، وهو جعْلُ الشيءِ سببًا لفعل المكلف أو شرطًا له أو مانعًا منه، ومن ثم وصفه بالصحة أو البطلان.

وأمَّا تعريف الحكم الشرعي عند الفقهاء فهو مقتضى خطاب الشَّارع المتعلّق بأفعال المكلَّفين .... إلخ؛ لأنَّ الحكم عندهم صفة لفعل المكلَّف؛ ولهذا يقولون: حرام ومكروه وواجب ومندوب ومباح، أمَّا الأصوليّون فيجعلونه اسمًا لخطاب الله - جلَّ وعلا - فيقولون: تحريم وإيجاب ... إلخ كما سيأتي.

أقسام الحكم الشرعي:

الشَّائع عند الأصوليين أنَّ الحكم الشَّرعي على قسمين: حكم تكليفي، ووضعي، لكن الأولى أن يقسم إلى ثلاثة أقسام: تكليفي وتخييري ووضعي؛ لما تقدم من أن الإباحة ليست من الأحكام التكليفية على الصَّحيح، وإنَّما عدَّت معها للاكتِفاء بالتقسيم الثنائي، والصواب أنَّ الحكم التكليفي على أربعة أقسام:

1- الإيجاب: وهو طلب الفعل طلبًا مشعرًا بالذم على الترك.

2- الندب: وهو طلب الفعل طلبًا مُشعرًا بعدم الذم على الترك.

3- التحريم: وهو طلب ترك الفعل طلبًا مشعرًا بالذم على الفعل.

4- والكراهة: طلب ترك الفعل طلبًا مشعرًا بعدم الذم على الفعل.

وأمَّا الحكم التخييري فهو التسوية بين الفعل والترك، كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187].

وأمَّا الحكم الوضعي، فهو خطاب الله بجعْل الشَّيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو فاسدًا، كما سيأتي بعد هذه المسألة:

تقْسيم الحكم التَّكليفي عند الفقهاء:

فقد قسموه إلى خمسة أقسام، وهي: الواجب والمندوب والمحرم والمكروه والمباح؛ لما تقدم من أنهم جعلوا الحكم صفة لفعل العبد، بينما زاد الحنفيَّة قسمين آخرين وهُما الفرض والمكروه كراهة التَّحريم، وهاكم الآن بيان هذا التقسيم باختصار:

1- الواجب: في اللُّغة هو الساقط، [قلتُ: ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36]]، وقد يطلق على اللاَّزم عند البعض، وفي الشَّرع هو: "كلّ ما ورد الشرع بذم تاركه مطلقًا"، وقد جيء بلفظ (مطلقًا) ليكون الحدّ جامعًا لثلاثة أنواع من الواجبات، وهي:

1- الواجب الموسَّع: كالصَّلاة الَّتي يجوز تأخيرُها عن أوَّل وقتِها مع فعلها في أثنائِه، فبزيادة القيد صار تارك الواجب الموسَّع في أوَّل الوقت ليس بآثم ولا مذموم.

2- الواجب المخير: مثل التخيير في كفَّارة اليمين بين العتق أو الإطعام أو الكسوة، فلولا زيادة التَّرك مطلقًا لقِيل: إنَّ الواجب المخير ليس داخلا فيه.

3- الواجب الكفائي: مثل غسل الميت وتكفينه والصَّلاة عليه، فلو لم نزد قيد الإطلاق للزم خروج الواجب الكفائي؛ لأنَّ تاركه لا يذم مطلقًا.

أقسام الواجب: ينقسم الواجب إلى عدة اعتبارات وهي:

1- تقسيمه بالنظر إلى ذاته: وهو بهذا ينقسم إلى قسمين معين ومخير.

فالمعيَّن: ما طلبه الشرع بعينه من غير تخيير بينه وبين غيره، مثل الصلاة والصيام وسائر الواجبات العينيَّة.

والمخير: هو ما خُيِّر فيه المكلف بين أشياء محصورة، كما مضى في كفَّارة اليمين، وقد أنكر المعتزلة هذا؛ للتضادّ بين الإيجاب والتخيير، وقالوا: إنَّ هذه الخصال واجبة على البدل، فصار الخلاف بينهم وبين الجمهور خلافًا لفظيًّا، والله أعلم.

2- تقسيم الواجب بالنظر إلى وقته: فهو مؤقت وغير مؤقت:

فالمؤقت: ما حدد له الشَّرع وقتًا معينًا، له بداية ونهاية، كالصلاة.

وغير المؤقت: ما لم يحدّد له الشرع وقتًا معينًا، مثل أداء النذور والكفَّارات.

فأمَّا المؤقت فينقسم إلى قسمين: مضيق وموسع.

فالواجب المضيق: ما حدّد له الشرع وقتًا لا يتَّسع لغيره من جنسه معه، مثل الصيام، فإن وقته لا يتَّسع لصيام آخر معه، فلا يُصام في يوم واحد مثلا رمضان ونذر معًا.

وأمَّا الواجب الموسَّع: فما حدد له الشرع وقتا يتسع له ولغيره من جنسه معه، كوقت صلاة العشاء مثلا فإنه يبدأ من غروب الشفق إلى نصف الليل، فكلّ هذا الوقت يتَّسع لصلاة العشاء مع صلوات أخرى غيرها، وقد أنكره بعض الحنفيَّة بدعوى أنَّ التَّوسيع ينافي التَّوقيت، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الوقت ما بين هذيْن))، حجَّة عليهم، فعملوا على تأويله، فمن قائل إنَّ الصلاة في أوَّل وقتها نفل سد مسدَّ الفرض، ولا تكون فرضًا إلاَّ حين يضيق الوقت، ومن قائل إنَّ الوقت يتضيَّق عليه بالشروع فيها، فإذا شرع فيها فذلك وقتها، ومن مفرّق بين المصلي في أوَّل الوقت فتكون في حقّه فرضًا إن جاء آخر الوقت وهو مكلّف، أمَّا إن جاء آخر الوقت وهو ليس بمكلَّف فصلاته قبل ذلك نافلة.

وسبب الخلاف بين الفريقين هو اختلافهم في سبب وجوب الصلاة؛ أهو آخر الوقت أم كل جزء من أجزائه؟ فمن جعله آخر الوقت أنكر التوسُّع في الوجوب، ومن جعله كل أجزاء الوقت أثبته، وقد بنَوا على هذا الخلاف مسائل فرعية، أهمُّها:

1- أنَّ مَن سافر بعد دخول الوقت فمقتضى مذهب الجمهور أن لا يجوز له القصر، ومقتضى مذهب الحنفيَّة الجواز، إلاَّ أنَّ الجمهور على جواز القصر؛ لأنَّ القصر صفة في الصلاة فيراعى بها حالة أدائها.

[قلت: والأولى بهذا أن يتخرج على القاعدة المشهورة وهي: هل العبرة بالحال أو بالمآل؟ والجمهور أنَّ العبرة بالحال، فمن صلَّى في حالة سفرٍ قصر، ومن صلى وهو مقيم أتمَّ، والله أعلم] اهـ.

2- إذا حاضت المرأة بعد دخول وقت الصلاة بزمن يُمَكِّنها من أن تؤدي الصلاة فيه، فعلى قول الجمهور يجب عليها القضاء إذا طهرت، وعلى القول الآخر فلا قضاء، وهو المنصوص عليه عند الحنفية، أمَّا الجمهور فقدِ اختلفوا في ذلك فمن موجب للقضاء؛ لأن كل جزء من الوقت يصلح سببا لها، ومن قائل بعدم القضاء لأنَّها فعلت ما به أجيزت، من ترك للصلاة، في أوائل الأوقات، ثم حيل بينها وبين صلاتها، بسبب ليس من تفريطها، والقول الأوَّل أقرب، للمشي على القاعدة، [قلت: وفي الثَّاني قوَّة لقوَّة التَّعليل، ولأنَّ القول بالقضاء يحتاج إلى دليل جديد والله أعلم] اهـ.

3- من أخر الواجب الموسَّع فمات في أثنائه قبل ضيق الوقت، فعلى قول الأحناف لا إثمَ عليه، وعلى القول بإثبات التوسُّع اختلفوا، فمِن مقيِّد عدم الإثم بالعازم على الأداء، وهذا هو المناسب للقول بالتوسع، وقد قيل بعدم التأثيم وإن لم يعزم على الفعل في آخر الوقت، وهو مرجوح.

الفرق بين الواجب الموسَّع والواجب المضيق:

1- أنَّ الواجب الموسع لا يصحّ أداؤه إلا بنيَّة اتّفاقًا، وأمَّا المضيق فالذي عليه أكثر الحنفية أنَّه لا يفتقر إلى نية لانصراف الصوم إليه من غير نية، وعند الجمهور لا بدَّ له من النية.

2- أنَّ الواجب الموسع يصح معه غيره من الواجبات في زمنه، فله أن يصلّي في وقت الظهر مثلا عدَّة صلوات أخرى، وأمَّا الواجب المضيَّق فليس له ذلك كما مضى في صوم رمضان، إلاَّ أنَّهم اختلفوا في المعذور هل يجوز له أن ينوي بصيامه في رمضان واجبًا آخر كالكفارة أو النذر مثلا؟ فقال بعضهم: لا يجوز لكون وقت رمضان مضيقًا، وقيل: من كان معذورًا فليس مطالبًا بصيام رمضان، فإذ الأمر كذلك فلا دليل على منعه من صيام آخر كنذر وغيره.

3- تقسيم الواجب بالنظر إلى المخاطب بفعله: وهو عيني وكفائي:

فالواجب العيني ما طلب الشَّارع فعله من كل مكلف بعينه، كالصلاة والزكاة والحج.

والواجب الكفائي: "ما طلب الشارع حصوله من غير تعيين لفاعله"، كغسل الميت والصلاة عليه، وكبعض أنواع الجهاد.

أهم الفروق بين الواجب العيني والواجب الكفائي:

1- أنَّ الواجب العيني مطلوب من كلّ مكلَّف بعينه، فلا نيابة فيه، إلاَّ إذا كان هذا الواجب مما تدخله النيابة فيجزئ، وأمَّا الواجب الكفائي فلا يطلب من كل معين، ولا يشترط فيه الإذن، فأيًّا كان فاعله فقد أسقط وجوبه على غيره.

2- أنَّ مصلحة الواجب العيني ترجع إلى فاعلها، ومصلحة الكفائي عامة.

3- أنَّ الواجب الكفائي تصح فيه النيابة بخلاف الآخر كما مر.

4- أنَّ الأمر في الواجب العيني عام لسائر المكلفين كما بيّنا، بينما الأمر في الواجب الكفائي مختلف فيه: فمن قائل: إنَّه موجه للجميع لكن يسقط بفعل البعض، برهان ذلك أنَّ هذه الواجبات الكفائيَّة جاءت بصيغة العموم كالعينيَّة، ألم تر أن الله يقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ} [البقرة: 216] كما قال في الصيام العيني: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183]، ولأن الإثم يلحق الجميع إن تركوه كالواجب العيني.

وقال آخرون: بل هو موجه إلى بعض غير مُعَينِين؛ دليل ذلك قول ربّ العالمين: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، قالوا: وهو – أي: الكفائي - يسقط بفعل بعض المكلفين فقط.

وقالت طائفة أخرى: بل الخطاب موجَّه إلى المجموع من حيثُ هو مجموع، واستدلُّوا بأن قالوا: لو وُجِّه الخطاب إلى كلّ فرد لما سقط بفعل بعضِهم، ولو وجه إلى بعض مبهم لعُطل، بأن يقول كل واحد: لست مقصودًا، فتعيَّن أنَّه موجه إلى المجموع من حيث هو مجموع، والرَّاجح أنَّه موجَّه إلى الجميع ويسقط بفعل بعضهم؛ لرجحان أدلَّة هذا القول.

4- انقسام الواجب إلى محدَّد وغير محدَّد:

فالمحدَّد ما ورد تقْديره في الشَّرع بمقدار ظاهر لكلّ أحد، كمقدار الزَّكاة، وأرش الجنايات، ومدَّة المسح، أمَّا غير المحدَّد فما طلب فعله من غير تحْديد لمقداره، مثل الطُّمَأنينة في الركوع والسجود، وهذا تقسيم لا يترتَّب عليه عمل.


شرح قاعدة ما لا يتم الواجب إلاَّ به: اعلم أنَّ هذه القاعدة ليست على إطلاقها لأنَّنا نقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو على قسمين:

1- ما لا يتم الوجوب إلا به فليس واجبًا اتفاقًا، مثل شروط الوجوب وأسبابه؛ إذ ليس على المكلّف أن يجمع مالا لأجل أن يزكيه أو يحج به اتفاقًا.

2- ما لا يمكن عقلاً ولا شرعًا ولا عادةً أن يفعل الواجب تامًّا إلاَّ بفعله، وهذا على قسمين:

أ- ما ليس بمقدور للمكلف فعله: كتعذّر غسل اليد المقطوعة في الوضوء، فهذا خارج عن القاعدة للعذر اتّفاقًا.

ب- ما هو مقدور للمكلف: مثل غسل جميع الثوب الذي أصابته نجاسة ولا يدري موضعها، وهذا أيضًا على قسمين:

1- ما ورد في إيجابه نصّ مستقل كالوضوء والنية للصلاة، فهذا واجب اتفاقًا.

2- ما لم يرد في وجوبه دليل مستقل، وهذا محل نزاع ضعيف؛ لأنَّ عمل عامة الأمة عليه، ومن فروعه مايلي:

1- من اشتبهتْ عليه أخته بأجنبية اشتباها لا يمكنه فيه التمييز، وجب عليه ترك نكاح الثنتين للحديث: ((دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبك)).

2- من اشتبهت عليه ميتة بمذكَّاة وجب عليه اجتنابهما معا احتياطًا.

3- من أصابته نجاسة في طرف من ثوبِه ثمَّ اختلط عليه موضعها، فإنَّه يغسل من ثوبه ما يتيقَّن أنَّه به قد أزال النجاسة ولو بغسل الثوب كله.

4- من امتنع من سداد دينِه، وعنده عقار زائد عن حاجته، أجبره القاضي على بيعه لوفاء دينه.

مسألة شبيهة وهي: الزيادة على الواجب المحدّد هل تكون واجبة؟ وذلك أنَّ القاعدة السَّابقة بمثابة الشرط للواجب، أمَّا هذه فمتصلة به لذلك ليست هي بالواجبة، كمن يزيد الصاع ونحوه على مقدار الزكاة المحدد.

المندوب: تعريفه وطرق معرفته:

المندوب في اللغة من الندب، وهو الدعاء، والمندوب هو المدعو إليه، واصطلاحا هو ما طلب الشرع فعله طلبا غير جازم.

 

وطرق معرفته كثيرة منها: الأمر المقترن بما يدل على جواز الترك، كما في قوله تعالى: {فَكَاتِبُوَهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33]، فإنَّه للنَّدب؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يعزم عليهم في المكاتبة، بل أقرَّهم على إمساك أرقائهم عندهم، ومنها الترغيب في الشيء بذكر ثوابه من غير أمر به، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من فعل كذا فله كذا وكذا من الثواب"، ومن ذلك بيان محبَّة الله ورسوله للفعل أو مدحه من غير عزيمة، ومن ذلك كذلك أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - التقرُّبية من غير أن يأمر فيها بعزيمة، كالاعتكاف ونحو ذلك.

مسألة: هل المندوب مأمور به حقيقة؟

اختُلِف في ذلك، فذهب الأكثرون إلى أنه مأمورٌ به حقيقة؛ لأنَّ فعله طاعة، فهو بذلك امتثال لأمر، وخالفهم آخرون فقالوا: ليس مأمورًا به حقيقة بل مجازًا، واستدلُّوا بحديث: ((لولا أن أشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهم بالسواك عند كلّ صلاة))، قالوا: فعلم من هذا أنَّ النَّدب ليس أمرًا حقيقيًّا، وهذا استدلال قويّ، أجاب عنْه الأوَّلون بأنَّ المراد لأمرتهم أمر إيجاب، وفي الجواب نظر.

[وعندي أنه جواب قوي؛ لأنَّ الأصل هو الحقيقة، والمجاز لا يُصار إليه إلا بقرينة مع اختلاف الناس في وجوده، ولأنَّه يلزم من القول الثَّاني أن تكون أوامر الله مجازيَّة وكلامه غير حقيقي، تعالى الله عن ذلك] اهـ.

أسماء المندوب: يسمى المندوب عند الجمهور عدا الأحناف بالسنة والمستحب والرغيبة والنافلة والتطوُّع، ونحو ذلك.

أقسام المندوب: أمَّا عند بعض الحنفية فينقسم المندوب إلى قسمين:

سنة هدى: وهي الطَّريقة التي يستوجب تاركها اللوم والعتاب، كصلاة الجماعة ونحوها، بينما يُسمَّى هذا النوعُ عند الجمهور بالسنة المؤكدة، كصلاة الوتر ونحوها.

سنَّة مطلقة: وهي ما فعله الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يأمر فيه بعزيمة، كالرواتب ونحو ذلك.

وذهب بعض الحنابلة إلى تقسيم المندوب إلى ثلاثة أقسام:

السنَّة: وهي ما عظم فيها الأجر، والنافلة: وهي ما قلَّ فيها الأجر، والفضيلة أو الرغيبة: وهي ما توسط فيها الأجر.


مسألة: هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟

في ذلك محلّ اتّفاق ومحلّ نزاع، فاتَّفقوا على وجوب إتمام الحجّ والعُمرة لمن شرع فيهما، كما قال تعالى: {وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وكذلك اتَّفقوا على جواز قطع الصدقة، واختلفوا فيما سوى ذلك على قولين: فذهب أبو حنيفة وأكثر أصْحابه إلى أنَّ المندوب يجب بالشروع فيه؛ لأنَّ الله تعالى يقول: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمَّد: 33]، وقوله للمتطوع: ((كُل وصم يومًا مكانه))، قالوا: ولأنَّ المندوب ينقلب واجبًا إذا نذره، فكذلك المندوب، وذهب الجمهور وهو الرَّاجح إلى عدم وجوبه بالشروع فيه، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الصائم المتطوِّع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء أفطر))، ولأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل أهله: ((أعندكم طعام؟)) فإن قالوا: نعم، أكل منه، وإلا قال: ((إني إذًا صائم)).

 

الحرام: تعريفه وطرق معرفته:

أمَّا عن تعريفه فهو: "ما يذمّ شرعًا فاعله"، وأما عن طرق معرفته فهي: إمَّا نهي من غير قرينة صارفة للكراهة، وإما نصّ على تحريم الشيء، كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، وإمَّا ذمّ لفاعله، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((العائد في هِبَته كالكلب يقيء ثمَّ يعود في قيئِه))، وإمَّا وعيد لمرتكبه، [بعقوبة دنيوية كالحد، أو أخرويَّة] كقوله تعالى بعد عدّ بعض المحرَّمات: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 68].

أقسام الحرام: قسم بعض أهل العلم الحرام إلى قسمين:

حرام لذاتِه وهو ما كانت مفسدته ذاتيَّة مثل القتل والسرقة، وحرام لغيره: وهو ما كانت مفسدته ناشِئة عن وصف حلّ به، كالصَّلاة في المقبرة، والبيع وقت النِّداء الثَّاني.

طرق حلّ التَّضادّ بين الحرام والواجب:

اعلم - علَّمني الله وإيَّاك - أنَّ الحرام ضدّ الواجب، والنَّهي عكس الأمر، فلا يكون الشيء الواحد مأمورًا به منهيًّا عنه من جهة متحدة، فإن حدث هذا ففيما يبدو فقط، ولحله ودفع تعارضه طرق:

فإمَّا أن يكون التَّضادّ متحدًا بالجنس لا بالعين كالسجود مثلا، فإن كان لله فهو التَّوحيد، وإن كان لغيره فهو الشرك.

وإمَّا أن يكون التضادّ منفكّ الجهة، فيكون الفعل حرامًا من جهة وطاعة من أخرى، كالصَّلاة في الدار المغصوبة؛ فإنَّها طاعة لله من حيث كونُها صلاة، ومعصية من حيث كونُها في دار مغصوبة؛ ولهذا ذهب الجمهور إلى صحَّتها مع الإثم وهو الصَّواب لانفِكاك الجهة، وقال آخرون باتّحاد الجهة وإبطال الصَّلاة؛ لأنَّ المكان شرط عادي في أداء الصَّلاة.

وإمَّا أن ينصبَّ النَّهي على ذات المأمور به فيكون نسخًا كالنَّهي عن المتْعة بعد الأمر بها، وسيأتي مزيد بيان لذلك في باب التَّعارُض.

المكروه: تعريفه وطرق معرفته:

أمَّا عن تعريفه، فالمكروه في اللغة هو المبغَض، وفي الشَّرع هو المحرَّم؛ كما قال تعالى عن بعض المحرَّمات: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38]، وأمَّا في اصطِلاح الأصوليِّين والفقهاء، فالذي عليه الجمهور أنَّه: "ما نهى عنه الشرع نهيًا غير جازم"، بحيث يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله، بينما يطلقه الحنفيَّة على شيئين: أولهما المكروه كراهة تحريم؛ وهو ما نهى عنه الشَّرع نهيًا جازمًا، ممَّا قد ثبت بطريق ظنّي كأكْل ذوات الأنْياب من السباع، والمخالب من الطير، وأمَّا الثاني فالمكروه كراهة تنزيه؛ وهو ما نهى عنه الشرع نهيا غير جازم، كالذي عند الجمهور.

وأمَّا عن طرق معرفته فيُعرف بأمور، منها: النَّهي عن الفعل مع وجود قرينة صارفة كالمشي بنعل واحدة عند الجمهور، فإنَّه على سبيل التأدُّب والمروءة، ومن ذلك: أن يترتَّب على فعل الشيء الحرمان من فضيلة كحرمان آكل الثُّوم والبصل من دخول المسجد.

المباح: تعريفه وطرق معرفته:

أمَّا تعريفه، فهو في اللغة المأْذون فيه والمطلق، وفي الشرع: "ما خير الشَّرع بين فعله وتركه"، مثل أكل اللحوم وغيرها من المباحات.

 

أما عن طرق معرفته، فمنها النص على التخيير بين الفعل والترك، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الوضوء من لحوم الغنم: ((إن شئت فتوضَّأ وإن شئتَ فلا تتوضَّأ))، ومن ذلك نفي الإثم والمؤاخذة عن الفاعل، كقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وقد يعرف المباح بالتنصيص على الحلّ، كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، أو بالأمر الوارد بعد الحظر كقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10]، أو بكون الفعل مسكوتًا عنه مشيًا على الأصل.

القسم الثاني: الحكم الوضعي:

تعريفه: الحكم الوضعي هو "خطاب الله تعالى بجعْلِ الشيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو فاسدًا"، فهو بهذا ينقسم إلى خمسة أقسام:

أ- السبب: هو في اللغة ما يحصل الشيءُ عنده لا به، وفي الاصطلاح يطلق على عدة معانٍ منها ما يقابل المباشر في الفعل، كمن حرَّض على القتل فيسمَّى متسببًا، بينما يسمَّى القاتل مباشرًا، ومنها العلامة المعرِّفة للحكم، كجعل غروب الشمس سببًا للفطر، ومنها العلة الناقصة كمن ملك النصاب، ولم يحُلِ الحول عليه بعد، أو العلة الكاملة، كجعل سرقة المكلف سببًا لقطع يده وهكذا؛ لذلك عرفه بعضهم بأنه: "ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته"، فإذا وجدت السرقة وجد القطع، وإذا انعدمت انعدم القطع لذاتها، بخلاف ما لو صادف أمرًا آخر كوجوب القطع قصاصًا على المتعدِّي مثلا.

ب- العلة: لغة هي المرض، أو ما اقتضى تغْييرًا في المحلّ، وفي الاصطِلاح: "وصف ظاهر منضبط دل الدليل على كونه مناطًا للحكم"، كجعل الإسكار علة لتحريم الخمر ونحو ذلك، مما عرفت حكمته، بخلاف السَّبب الذي يطلق على ما عرفت حكمته وما لم تعرف، والله أعلم.

ج- الشرط: وهو في اللغة التَّأثير أو العلامة، وهو على أربعة أقسام بالنَّظر إلى طريق معرفته: شرعي وعقْلي وعادي ولغوي، وفي الاصطلاح: "وصف يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم"، كجعل الطهارة شرطًا في صحَّة الصلاة، فيلزم من عدمها عدم صحة الصلاة، ولا يلزم من وجودها وجود ولا عدم؛ إذْ للمرء أن يتوضَّأ، ثمَّ قد يصلي، وقد ينام أو يقرأ فلا يصلّي أيضًا، أو يصلّي صلاة باطلة.

د- المانع: لغة هو الحاجز أو الحائل، وفي الاصطلاح: "وصفٌ يلزم من وجوده عدم متعلقه، ولا يلزم من عدمه وجوده ولا عدمه"، كجعل الرق مانعًا من الإرث، وعدم الرق لا أثر له في وجود الإرث ولا عدمه لذاته، وهكذا وجود الدَّين يمنع من وجود الزكاة، وبراءة الذمة لا أثر لها في وجود الزكاة ولا عدمها.

[قلت: وبهذا التقرير يُعلم أن المؤثر في المانع وجوده، وفي الشرط عدمه، وفي السبب وجوده وعدمه] اهـ.

هـ- الصحَّة: لغة ضدّ المرض، واصطلاحًا: "ترتب الآثار المقصودة من الفعل عليه"، فالصحيح من العبادات ما برئت به الذمة وسقط به الطلب، والصحيح من المعاملات ما ترتب عليه آثاره من انتقال للملكيَّة، أو تمكين من الاستئجار ونحو ذلك، إلا أنه من العلماء من جعل هذا التعريف صالحا لتعريف الصحة في المعاملات، وأما في العبادات فهو موافقة الفعل لأمر الشارع كما ذكر المتكلِّمون، أو هو سقوط القضاء، كما عرف الفقهاء، والتعريف الأول أشمل.

و- الفساد والبطلان: الفساد في اللغة ضد الصلاح، والبطلان ذهابُ الشيء خُسْرًا وهَدَرًا، أمَّا اصطلاحا فهو: "تخلف الآثار المقصودة من الفعل عنه"، عكس ما ذكرنا في الحكم الصحيح؛ لذلك جعلناهما من حكم الوضع خلافًا للرازي ومن معه الَّذين جعلوهما من حكم التكليف، ثم هما سيان عند الجمهور إلا في مسألة المكاتبة والنكاح؛ حيث جعلت الحنابلة الباطل ما اختلَّ ركنه ككون الزَّوجة معتدَّة، والفاسد ما اختلَّ شرطه كالنِّكاح بلا ولي، بينما فرق الحنفيَّة بينهما مطلقًا بأنَّ الفاسد ما شرع بأصله ولم يشْرع بوصفه كالرِّبا، فهو فاسد لكن لا يبطل، بخلاف الحكم الباطل الَّذي لم يشرع بأصْلِه ولا بوصفه، كبيع حمل الحمل والدَّم ونحو ذلك.

 

أوصاف العبادة المؤقتة:

العبادة المؤقتة بوقت محدَّد سواء أكانت فرضًا أم نفلا تتَّصف بإحدى صفات ثلاث:

أولاها الأداء: وهو "فعل العبادة في وقتها المعين، من غير أن يسبقها خلل"، فخرج بالقيد الأول فعلها بعد فوات وقتها فإنَّ هذا قضاء ليس بأداء، وخرج بقولنا: (غير مسبوق بفعل مختل)، الإعادة.

أمَّا الثانية فهي القضاء: وهو "فعل العبادة المؤقتة بعد فوات وقتها"،

والثالثة هي الإعادة: وهي "فعل العبادة في وقتها بعد فعلها مختلة",

تقسيم الأحكام إلى عزيمة ورخصة:

لقد عدَّهما بعض العلماء من أقسام الخطاب الوضعي؛ [لأنَّ الشارع جعل الأحوال العادية علامات على أداء العبادات كاملة، وجعل الأحوال الطارئة علامات على الترخُّص]، بينما جعلهما آخرون ومنهم المصنف قسيمًا للحكم التكليفي.

والعزيمة في اللغة القصْد المؤكد، واصطلاحًا هي: "الحكم الثابت ابتداءً لا لعذر"، أمَّا الرخصة في اللغة فهي التسهيل والتيسير، واصطلاحًا: "هي وصف للحكم الثابت على خلاف الدليل الباقي لعذر".

مسألة: الفرق بين الرخصة والمخصوص من العموم؟

من المعلوم أنَّهما يشتركان في كونهما استثناءً من أصل أو عموم، لكنهما يفترقان في أن الحكم المخصوص من العموم إنَّما خصص لعدم وجود الداعي للحكم العام فيه، أمَّا الثاني فخصص مع وجود الداعي لعذر، مع بقاء أصل المفسدة في الفعل، كالمضطر لأكل الميتة.

مسألة أخرى: ما الأحكام التي توصف بأنها رخصة؟

إنَّ الأصل في الرخصة الإباحة، لكن قد يعرض لها ما يجعلها واجبة أو مندوبة، كالأكل من الميتة لمن أشرف على الهلاك، وكرخصة الإفطار للمسافر في رمضان، فإذا شق عليه الصوم ندب له الفطر، وإن ضره تعين عليه الإفطار.

الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي:

أنكر بعض الأصوليين هذا التقسيم بدعوى أنَّ هذه المذكورات ليست أحكامًا شرعيَّة بل هي علامات عليها فقط، والصواب أنَّها أحكام شرعيَّة لا يصح أن تدرج ضمن الأحكام التكليفية المتقدمة، فتعين تسميتها بالوضعية؛ وإذ قد تقرر لك ذلك، وأن الأمر كذلك، فاعلم أنَّ هناك فروقًا بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي تتلخَّص فيما يلي:

1- أنَّ الحكم التكليفي لا يُلزم به إلاَّ المكلف البالغ العاقل، بخلاف الوضعي فمن فعل ما هو سبب للضمان أُلزم به ولو كان صبيًّا أو مجنونًا.

2- أنَّ من شرط الحكم التكليفي العلم به، فمن فعل ما حرم عليه جاهلا به فهو معذور غير مأزور، أمَّا الحكم الوضعي فلا يشترط العلم به، فمن فعل ما يستحق عليه الضمان ألزم به، وإن جهله، إلاَّ في مجال العقوبات البدنية لمن كان حديث عهد بالإسلام فقط، [وقد جلد النبي - عليه السلام - بعض الصحابة في حادثة الإفك مع عدَم عِلْمِهم بحكم الجلد؛ لأنه نزل بعد الحادثة].

3- أن خطاب التكليف يشترط فيه قدرة المكلف على فعله؛ لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وأمَّا خطاب الوضع فليس من شرطه ذلك كما سيتبين:

4- أنَّ الحكم التكليفي داخل كله تحت كسب وفعل العبد، وأما الوضعي فهو عبارة عن علامات وضعها الشارع لوجود حكمه، فإذا كانت من شروط الصحة كالوضوء ونحوه فهي داخلة في التكليف من جهةٍ، وفي الوضع من جهة أنَّها علامة على صحة العبادة، وإذا كانت من شروط الوجوب كدخول الوقت أو من الأسباب كجعل موت المورث سببًا للإرث، أو من الموانع كوجود الجمع من الإخوة الذي يمنع الأم من إرث الثلث إلى السدس فكل هذا مما لا مدخل لفعل العبد فيه.

التكليف:

تعريفه: التكليف في اللغة هو الإلزام بما فيه كلفة، والكلفة هي المشقة.

واصطلاحا هو "الخطاب بأمر أو نهي"، وقيل هو "الإلزام بما فيه كلفة ومشقة"؛ فعلى الأول يكون الحكم التكليفي أربعة: واجب ومندوب ومحرم ومكروه، كما تقدم، وعلى التعريف الثَّاني تقصر الأحكام التكليفية على الواجب والمحرم فقط.

مسألة: صحة تسمية أوامر الشرع ونواهيه تكاليف:

لقد أنكر بعضهم هذه التسمية بدعوى أنَّها ليس فيها مشقة، والصواب صحَّة الإطلاق؛ برهان ذلك قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ولأن من تصاريف مصدر التَّكليف: كَلِفت بالأمر؛ أي: أحببته، وكذلك هي تكاليف الشَّرع، وإن كانت لا تخلو من مشقة لكنها معتادة.

أركان التكليف: هي المكلِّف وهو الله، والمكلَّف وهو عبده العاقل البالغ، والمكلَّف به هو شرعه، وقد تزاد الصيغة وهي أمره ونهيه.

شروط التكليف: للتَّكليف شروط يرجع بعضها إلى المكلف والآخر إلى الفعل المكلف به.

فأما شروط المكلَّف فعامَّة وخاصَّة:

أمَّا الشروط العامَّة، فأوَّلها البلوغ ويحصل بالإنزال، أو بإنبات الشعر، وتزيد الأنثى بالحيض، والشَّرط الثاني: العقل وفهم الخطاب، فخرج بذلك المجنون وكلّ مَن لا يعقل الخطاب من نائم أو مغمى عليه أو ناسٍ، وإن بقي وجوب القضاء في ذمته، أمَّا الثالث فشرط القُدرة على الامتثال؛ لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وقوله: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}، قال الله: "نعم".

وخالف الأشعرية فأجازوا التَّكليف بما لا يطاق.

ثمَّ الشرط الرابع: وهو الاختيار بأن لا يكون مكرهًا على الفعل ولا على الترك، ثمَّ الشرط الخامس وهو العلم بالتَّكاليف، فمن لم يكن بها عالمًا، لم يكن فيها آثمًا، ما لم يكن عن الحقّ مدبرًا، وفي طلبه له مقصرًا، ولغيره مستبصرًا، وكذا فيما لا يعذر فيه بالجهالة، مما هو معلوم بالضرورة والدلالة.

وأمَّا الشروط الخاصَّة: فكالحرية فهي شرط في الجهاد والجمعة، وكالذكورية والإقامة، فهما شرطان للتكليف بالجمُعة، ونحو ذلك.

 

أما عن شروط الفعل المكلف به:

فأوَّلها: أن يكون معلوم الحقيقة في نفسه وإن جهله آحاد المكلَّفين، والثاني: أن يكون الفعل ممكنًا خلافًا للأشعرية الذين أجازوا التكليف بالمحال، والشرط الثالث: أن يكون الفعل معدومًا غير حاصل وهذا في الأوامر حال الأمر بها؛ إذ لا يمكن تحصيل الحاصل منها، أما في النواهي فكما يمكن أن تكون معدومة، فكذلك يمكن أن تكون موجودة كأن ينهى الكاذب عن الكذب، وشارب الخمْر عن الشرب، إلا أن يقال: إنَّ النَّهي هو عن الفعل المستقبلي وهو معدوم، [قلت: لا يخلو الأمر بالشيء من أن يكون معدومًا، فيكون المراد من الأمر به هو تحصيله، أو يكون موجودًا فيكون القصد من الأمر به هو الثبات عليه والاستمراريَّة على تحصيله، كأمر الله نبيه والمؤمنين بالتَّقوى والطاعة وأنواعها مع حصولها منهم، والمراد مداومتها والثبات عليها].

أقسام الأهلية:

لقد جرى جمهور الأصوليين على ذكر موانع التكليف بعد ذكرهم شروطه، والذي عليه الحنفيَّة ذكر ذلك تحت باب الأهلية وعوارضها، والأهلية عندهم قسمان: أهلية وجوب وأداء، ولكل شروطها.

فأمّا أهلية الوجوب: "فهي صلاحية الإنسان لوجوب الحقوق المشروعة له وعليْه"، وشرط ثبوتها الحياة، وقد يطلِق عليها الفقهاء الذمة، ويعرفونَها بأنَّها: "وصف شرعي مقدر يصير به الإنسان أهلا لما يجب له وعليه"، وبهذا يصح أن نقول عن النائم أو الساهي أو المغمى عليه أنه أهل للوجوب؛ لأنَّ ذمته صالحة لتعلق التكاليف بها.

وأمَّا أهلية الأداء: "فهي صلاحية الإنسان لصدور الأفعال والأقوال منه على وجه يعتد به شرعا"، وشرطها التَّمييز حتى يعتد بأقواله وأفعاله شرعًا.

تمام الأهلية ونقصانها: كلٌّ من الأهليتين قد تكون ناقصة أو تامة:

فأمَّا أهلية الوجوب الناقصة فتثبت للجنين في بطن أمّه إن ولد حيًّا، كالإرث ونحوه، ثم اعلم أنَّ تصرُّفات الطفل هنا على أقسام: فإمَّا أن تكون تصرّفات نافعة نفعًا محضًا، كقبول الهبة والصدقة، فتنفذ وتصحّ، أو تكون تصرّفات ضارَّة ضررًا محضًا كالطلاق والعتق والهبة، فهذه لا تصحّ ولو أجازها الولي، وقد تكون تصرّفات دائرة بين النَّفع والضرر كالبيع والإجارة والنكاح، فهذه موقوفة على إجازة الولي من إلغائها.

وأمَّا أهلية الوجوب الكاملة فثابتة منذ الولادة إلى الوفاة لا تُفارقه بسبب صِبا ولا جنون، فإن بلغ ولكنَّه مجنون فلا تلزمه أهلية الأداء.

وأمَّا أهلية الأداء الناقصة، فثابتة منذ التَّمييز مع صحَّة العقل وإن كان صاحبها ضعيف الإدراك؛ فإذ ذلك كذلك صحَّ إسلام الصبي وتعبّداته لكن على جهة التأديب والتمرين.


وأما عن أهلية (الوجوب) [كذا وقع والصواب هو]: وأما عن أهلية الأداء الكاملة فتثبت بالبلوغ والعقل، إضافة إلى اشتراط الرشد في التصرفات المالية.

موانع التكليف:

1- الجنون: لم يختلف العلماء في أن ذهاب العقل مانع من التكليف في الجملة، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رفع القلم عن ثلاثة)) وذكر منهم: ((المجنون حتَّى يفيق))، وأمَّا من حيث التفصيل، فتختلِف أحكامه باختِلاف متعلّقها من أقوال أو أفعال أو تروك:

فأمَّا أحكام أقواله فهي لغو اتّفاقًا، لا يترتَّب عليها حكم شرعي ولا دنيوي، كأن يقذف أو يبيع أو يشتري فلا أثر لشيء من ذلك.

وأمَّا أحكام أفعاله، فإن كانت حقًّا لله فهي لغو لا أثرَ لها، وإن كانت في حقوق العباد فلا يؤثم بها، لكن يلزمه ضمانها، كما لو أتلف مالا أو قتل قتيلا؛ لأن هذا من حكم الوضع.

وأمَّا أحكام تركه فلا يؤاخذ فيما يتعلَّق بحقوق الله؛ لذلك لا يطلب منه قضاء العبادات لو أفاق من جنونه ما لم يخرج وقتها، وبهذا قال الجمهور، وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى أنه لو أفاق في آخر اليوم لزمه قضاء صلوات ذلك اليوم كله، وذهب محمَّد بن الحسن إلى أنه إذا مرَّت عليه الصلاة السادسة ولم يفق سقط عنه صلوات اليوم السَّابق، وإلاَّ قضاها.

2- النسيان: وهو "ذهول القلب عن الشيء مع سبق العلم به"، وهو عذر يمنع الإثم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله وضع عن أمَّتي الخطأ والنسيان))، أما براءة الذمة ففيه تفصيل:

فما كان منها في حقوق الله، فلا يخلو من أمور:

أحدها أن يرتكب مبطلا للعبادة نسيانًا، ففيه خلاف، فمن قائل لا تبطل عبادته، وقائل بل تبطل، [لأن النواقض قد تكون أسبابًا للبطلان، فهي بذلك من أحكام الوضع]، وقالت الحنفية بالتفريق بين العبادة التي لها هيْئة كالصلاة فلا يعذر فيها بالنسيان، وبين العبادة التي ليس لها هيئة خاصة كالصوم فيعذر فيه بالنسيان.

[قلت: وأما نسيان الشروط والأركان فيبطل العبادة اتّفاقًا؛ لأنهما من أحكام الوضعٍ، وأما نسيان الواجبات التي هي من أحكام التكليف فلا تبطل العبادة بل تُجبر، فإن كانت صلاة فبسجود السهو، أو حجًّا بالدم، والله أعلم]. اهـ.

وأمَّا ما كان من حقوق العباد فلا يأثم به أخرويًّا، وإن ثبت نسيانه فلا يُحدّ ولا يعاقب دنيويًّا، لكن يضمن.

3- الجهل: "وهو انعدام العلم عمن يتصور منه العلم"، وهو على أنواع أربعة:

أ- الجهل بالله - تعالى - وما يجب له من العبادة، فهذا لا يعذر به الإنسان بعد علمه بإرسال الرسل إلى الخلق؛ دليل ذلك قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، ومن السنة ما خرجه مسلم (240) من حديث أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((والذي نفس محمَّد بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهودي ولا نصراني ثمَّ يموت ولم يؤمِن بالَّذي أرسلت به إلاَّ كان من أصحاب النَّار))، فمن سمع بهم وجب عليه طلب الحق.

ب- الجهل بما هو معلوم من الدين بالضرورة، كوجوب الصلاة والزكاة وحرمة الزنا والربا والظلم وأمثال ذلك مما لا يعذر فيه بالجهالة لمن هو بين ظهراني المسلمين؛ لأنَّ جهله ناشئ عن تقصير أو تفريط ولا مبالاة.

ج- الجهل في مواضع الاجتهاد أو الاشتباه، كبعض أنواع البيوع والأحوال العارضة للإنسان في عباداته مما يصعب على عامَّة النَّاس العلم به، فهذا العذر فيه مقبول.

د- الجهلُ من حديث العهد بالإسلام، فهذا عذره مقبول، وعليه باستدراك ما يمكنه تداركه، كالجاهل بتحريم الأخت من الرضاعة ونحو ذلك.


الباب الثاني

أدلة الأحكام الشرعية

تعريف الدليل: في اللغة هو المرشد إلى الشَّيء والهادي إليه، وفي الاصطلاح: "ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري".

أقسام الأدلة الشرعيَّة: تنقسم باعتبارات:

1- من حيث الاتّفاق على العمل بها من عدمه: وهي على ثلاثة أقسام: أدلَّة متفق عليها وهي الكتاب والسنَّة، ثمَّ أدلَّة فيها خلاف ضعيف وهي الإجماع والقياس، ثمَّ أدلَّة فيها خلاف قوي وهي قول الصَّحابي والاستِحْسان والمصلحة المرسلة وشرْع مَن قبلنا والاستصحاب وسدّ الذَّرائع.

2- وتنقسم من حيث طريق معرفتها إلى قسمين: أدلَّة نقليَّة، وهي الكتاب والسنة والإجماع وقول الصحابي وشرع مَن قبلنا والعرف، ثمَّ أدلة عقلية، وهي القياس والمصلحة المرسلة وسدّ الذَّرائع والاستحسان والاستصحاب.

3- وتنقسم الأدلَّة الشَّرعية من حيث قوة دلالتها إلى قطعية وظنية:

فالقطعية: "ما دلَّ على الحكم من غير احتمال ضدّه"، وإن كان بعيدًا لا دليل عليه، وقال آخرون: "بل هو ما دلَّ على الحكم ولم يحتمل غيره احتمالا ناشئًا عن دليل"؛ وعليه فلا بدَّ من أن يكون الاحتمال مستندًا لدليل، وأمَّا الظنية فما دلَّت على الحكم مع احتمال ضده احتمالا مرجوحًا.

الأصل في الأدلة الشرعية العموم: الأدلَّة الشرعية تحمل على العموم سواء وردت بصيغة العموم أم بصيغة الخصوص، إلاَّ أن يدل على خصوصيتها دليل.

فالآيات والأحاديث الواردة بصيغة العموم لا إشكال في عمومها لغة، وأما الواردة بصيغة الخصوص كالتي وُجِّه الخطاب فيها إلى فرد أو أفراد محصورين فتكون عامَّة فيمَن حاله كحالهم ممن يأتي بعدهم، إلاَّ أن تقوم دلالة على أنَّها خاصَّة بمن وردتْ فيه بعينه لا بوصفه، وسيأتي بيان ذلك أكثر في مبحث العام، ونكتفي هنا بذكر الأدلَّة على أنَّ الأصل هو العموم، وهذه الأدلَّة على أوجُه:

1- عموم رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به من الشرع؛ لقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: 158]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بعثت إلى الناس كافة))؛ خرجه البخاريُّ بهذا اللفظ ومسلم بمعناه.

2- [عموم أفعاله - عليه السلام -] لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فإذا كان التأسي بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مطلوبًا فيكون ما يثبت في حقه من الأحكام ثابتًا في حق أمته إلاَّ أن يقوم دليل على الخصوصية.

3- الأدلَّة الدالَّة على مشروعية القياس تدل على عموم الأدلة؛ لأن القياس مبناه على توسيع مجرى النص وإدخال من لا يدخل تحته وضعًا بطريق المعنى.

ذكر الأدلة الشرعية:

الدليل الأول: الكتاب:

هو كلام الله الذي وصل إلينا عن طريق القراءات والتي منها الصحيح، ومنها الشاذ، ومنها الباطل.

فأمَّا القراءة الصَّحيحة، فما صحَّ سندها ووافقت الرَّسم العثماني ولغة العرب بأي وجْه. والقراءة الباطلة: ما اختلَّ فيها أحد الشَّرطين: صحَّة السند أو موافقة اللغة.

والقراءة الشاذَّة ما صحَّ سندُها ووافقت اللغة ولو من وجه، لكنَّها خالفت الرَّسم العثماني، كقراءة ابن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام [متتابعاتٍٍ]"، وكقراءة عائشة: "حافظوا على الصلاة والصلاة الوسطى [وصلاة العصر]"، وقراءة: "فطلقوهن لـ[قُبل] عدَّتهن"، فهذه وأمثالها محل خلاف في مسألتين:

الأولى: وهي حكم القراءة بها في الصلاة.

فذهب الجمهور إلى عدم صحَّة القراءة بها؛ لأنَّها ليست قرآنًا متواترًا، وذهب بعضُهم إلى صحَّة القراءة بها في الصَّلاة إذا صحَّت؛ لأنَّ ابن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما كانوا يقرؤون بها، وهي إحدى الروايتين عن مالك وأحمد واختارها ابن القيم، ومذهب الجمهور أحْوط؛ لاحتمال أنه كان يقولها تفسيرا لما في القرآن من إجمال، أو تقييدًا لما فيه من إطلاق.

أمَّا المسألة الثانية ففي حجّيَّة القراءة الشاذَّة والعمل بها، فقالت طائفة بحجيَّتها، كما هو منسوب لأبي حنيفة وأحمد وأكثر أصحابهما، وحكاه البويطي عن الشافعي، وهو الصحيح؛ لأنها ثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا تخلو من أن تكون قرآنًا أو سنة، وكلاهما حجَّة، وذهب الشَّافعي كما في المشهور عنه إلى عدم حجيَّتها؛ لأنَّ الصَّحابي إما أن ينقلها على أنها قرآن، وقد مرَّ أنَّ شرطه التواتر، وهي غير متواترة، أو تكون من تفسير الصَّحابي نفسه، وليس بحجَّة عند الشافعي.

الدَّليل الثاني: السنة:

السنَّة في اللغة هي الطريقة، سيئة كانت أو سليمة، وفي اصطلاح الأصوليين: "ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير"، وزاد عليه المحدثون: "أو وصف خَلْقي أو خلُقي"، ولم يزد ذلك الأصوليّون؛ لأنَّ أوصافه - عليه السَّلام - لا يتعلق بها حكم.

أقسام السنة: تنقسم السنة من حيث ذاتها إلى ثلاثة أقسام وهي:

1- السنة القولية: وهي ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول غير القرآن.

2- السنة الفعلية: وهي ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل، كصفة وضوئه وصلاته، ومن ذلك تركُه مع قيام الداعي فإنه بمثابة الفعل.

3- السنة التقريرية: وهي ما نقل من سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قول أو فعل في حضرته، أو علم به ولم ينكره، كإقراره أكل الضب على مائدته، ورؤيته للحبشة وهم يلعبون ويزفنون في المسجد.

الفرق بين السنَّة والخبر:

السنة كما سبق: كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير، وأمَّا الخبر فقد يطلق على ما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يطلق على ما نقل عن الصَّحابة والتابعين، وقد يجعلون الخبر خاصًّا بما نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأثر ما نقل عن الصحابة والتابعين.

أقسام الخبر [باعتبار وصوله إلينا]:

الخبر هو الطريق الذي نقل لنا السنة، وهو بذلك ينقسم عند الجمهور إلى قسمين: متواتر وآحاد، وعند الحنفية إلى متواتر ومشهور وآحاد.

1- تعريف المتواتر: هو ما رواه جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة وأسندوه إلى حس، وهو يفيد العلم الضَّروري وفيه قسمان:

أ- المتواتر اللفظي: وهو ما اتَّفق الرواة على لفظه ومعناه، كحديث: ((مَن كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النَّار))، وهي قليلة في جنب الآحاد.

ب- المتواتر المعنوي: "وهو ما اتفق الرواة على معناه دون لفظه"، كالأحاديث الواردة في مسح الخفين ورفع اليدين؛ فإن المعنى المشترك بينها وهو مسح الخفين وكذا رفع اليدين متواتر، وإن كانت ألفاظها غير متواترة.

2- الآحاد: وهو ما رواه واحد أو أكثر ممَّا لا يبلغ حدَّ التواتر، وأغلب الأحاديث من هذا القسم.

3- المشهور عند الحنفية: هو ما رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - واحد أو اثنان ثم تواتر في عصر التابعين أو أتباعهم، كحديث عمر: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات)).

أقسام الخبر من حيث ثبوته: ينقسم إلى صحيح وحسن وضعيف:

1- الحديث الصحيح: هو "ما [اتصل سنده] بنقل العدل التام الضبط عن مثله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير شذوذ ولا علة قادحة"، والعدل هو المسلم العاقل السالم من أسباب الفسق وخوارم المروءة، وتام الضبط هو الذي يغلب على حديثه الحفظ وعدم المخالفة للثقات، وقولهم: (عن مثله)؛ أي: إنَّ اشتراط العدالة والضبط لا بدَّ أن يكون من أوَّل السند إلى منتهاه، والشذوذ: هو مخالفة الرَّاوي [لمن هو أولى منه]، والعلَّة القادحة: "وصف غامض خفي يقدح في صحَّة الحديث مع أنَّ الظَّاهر السَّلامة منها"، هذا هو مذهب المحدثين وهو الصَّواب، بينما زاد الحنفيَّة في التَّعليل انفراد الرَّاوي بما تعمُّ به البلوى، كالوضوء من أكْل لحم الإبل، وكذا انفِراده بما تتوافر الدَّواعي لنقله، أو مخالفته للقُرآن، وجمهور العلماء على التَّأويل جمعًا بين الأدلَّة.

2- الحديث الحسن: وهو "ما نقله عدل خفيف الضَّبط بسند متَّصل من غير شذوذ ولا علَّة قادحة"، فيكون الفرق بينه وبين الصَّحيح في قوَّة الضبط وخفَّته.

[قلت: وهذا التعريف يتنزَّل على الحسن لذاتِه، فأمَّا الحسن لغيره، فهو ما نقله الضَّعيف بسبب حفْظِه إذا تعددت طرُقُه].

3- الحديث الضعيف: وهو ما لم يجمع صفات الصَّحيح أو الحسن.

شروط الرَّاوي الَّذي تقبل روايته: يشترط في الرَّاوي عدَّة شروط، بعضها محلّ وفاق وبعضها محلّ خلاف، وأهمُّها ما يلي:

1- الإسلام: وهو شرط عند الأداء لا عند التحمل، فلو سمع الكافر حديثًا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - حال كفْرِه ثم أدَّاه بعد إسلامه قبل منه.

2- العدالة: وهي ملكة تحمل صاحبها على ملازمة التقوى واجتناب الفسق وخوارم المروءة، كالغش في التوافِه ونحوه من الصغائر، والدليل على اشتراطها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]؛ فأوجب تعالى التوقف في خبر الفاسق حتى يرويه عدل، والكافر أشد منه. 821

3- البلوغ: وهو شرط في الأداء فقط؛ لأنَّ الصبي مرفوع عنه التكليف.

4- الضبط: [وهو ضبط صدر]: بأن يحفظ ما سمع أو رأى حتى يبلغه، [وضبط كتاب بأن يقابل كتابه ويصونه حتى يؤديه].

حجّية السنة:

لم يختلف المسلمون في حجّية السنَّة الثَّابتة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولو كانت آحادًا، إلاَّ شذاذًا من أهل البدع ممَّن قال بعدم حجّيتها، واشترط بعضهم رواية الاثنين، واستدلَّ أهل السنة على قبول أحاديث الآحاد بقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، ولفظ الطَّائفة يطلق على الواحد فما فوقه، يؤكّد ذلك ويوضحه أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل آحاد رسلِه وأمرائه وقضاته وسعاتِه إلى النَّاس وتلزمهم بذلك الحجَّة، وعلى ذلك أجْمعت الصَّحابة - رضي الله عنهم - فورَّث أبو بكر - رضي الله عنه - الجدَّة السدُس بخبر آحاد، وبه ورَّث عمر - رضي الله عنه - المرأة من دية زوجها، وقبِل حديث الطَّاعون، ولأنَّ المستفتي مأمور بقبول قول المفتي وهو واحد، وغير ذلك ممَّا لا يحصى كثرة.

فإن احتجَّ مَن اشترط رواية الاثنين، بما صحَّ عن عمر - رضي الله عنْه - أنَّه طالب أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - بمن يشهد معه على حديث الاستئذان، ولَم يقبله حتَّى شهد له أبو سعيد الخدري، فيجاب عنْه بأنَّه إنَّما طلب ذلك لزيادة التثبُّت يؤيِّده قول عمر لأبي موسى: "أما إنّي لم أتَّهمك، ولكن الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شديد"، [قلت: ولأن ذلك مخالف لاعتِقاد عمر، فإنَّ ابنته حفصة كانت تحت النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان يدخل عليها دومًا من غير أن يطلب منه الاستِئذان ثلاثًا، فخالف حاله هذا حديث أبي موسى، فطالب مرجِّحًا خارجيًّا آخر]، وأمَّا استدلالهم بما رُوي أنَّ أبا بكر لم يقبل خبر المغيرة في ميراث الجدَّة حتَّى شهد معه محمد بن مسلمة، وجوابه من وجهين: [أولهما عدم صحَّة هذا الأثر؛ لأنه منقطع؛ مداره على قبيصة بن ذؤيب قال: "جاءت الجدَّة إلى أبي بكر..."، وقبيصة لم يدرك أبا بكرٍِ]، ولو صحَّ لكان طلب أبي بكر - رضي الله عنه - لشاهدٍ آخَر لأنَّ الله - تعالى - قد بيَّن الفرائض ولم يذكر للجدَّة شيئًا، فاحتاج إلى زيادة تثبُّت لتوريثها، فإن قالوا: إنَّ هذا هو الموافق لقياس الرِّواية على الشهادة، والجواب أنَّه قياس مع الفارق؛ لأنَّ الرواية خبر عامّ في الدين والشهادة إلزام لشخص بعينه؛ لذلك كانت شهادة العبد والمرأة أحيانًا مردودة، وروايتهما مقبولة باتفاق.

أمَّا عن قول من قال باشترط التواتر، فاحتجَّ بأن قال: إنَّ الآحاد ظنّ وليس بعلم، وقد نَهى الله تعالى عن تتبُّع ذلك فقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، قالوا: وقد روي عن بعض الصحابة ردٌّ لبعض الأخبار كردِّ عائشة لخبر عمر وابنِه في تعْذيب الميت ببكاء أهله عليه، وردّ ابن عبَّاس خبر أبي هريرة في الوضوء من حمْل الميت، والجواب أنَّ خبر الآحاد مُجمع على وجوب اتِّباعه، والعلمُ بوجوب العمل به حاصل، وأمَّا ما ذكروه عن بعض الصَّحابة فإنَّه عمل منهم بالتَّرجيح، وذلك لمعارضة تلك الأدلَّة لما هو أقوى منها، وإن كان مسلك الجمع بين الأدلَّة أولى، والله أعلم.

وأما عن اشتراط الحنفيَّة في قبول خبر الواحد شروطًا منها:

1- أن لا يكون الخبر فيما تعمّ به البلوى، مما يحتاجه الناس حاجة متأكّدة متكرّرة، ومثَّلوا له بخبر بُسْرة أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن مسَّ ذكره فليتوضَّأ))، وخبر جابر - رضي الله عنه - في الأمر بالوضوء من لحم الإبل، وجوابه أنَّ الجمهور على أنَّه إذا صحَّ الحديث وجب قبوله والعمل به كيفما كان.

2- عدم مخالفة الخبر للأصول والقواعد والقياس الجليّ: كردِّهم حديث المصرَّاة الوارد في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تُصَرُّوا الأبلَ والغنمَ، فمن ابتاعها فهو بخيرِ النظَرَينِ بعد أن يحتلبَها، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردَّها وصاعًا من تمر))، فإنَّه مخالف عندهم لقاعدة أنَّ الضمان يكون بالمثل أو بالقيمة، وفي هذا الحديث: بصاع من تمر، وهذا مما يشنّع به على الحنفيَّة؛ لأنَّ الخبر إذا خالف غيره من الأصول صار أصلا بنفسه، فوجب العمل به أو الجمع بينه وبين غيره.

3- أن يكون الراوي فقيهًا، وقيده بعضهم بما لو روى ما يخالف القياس، [قلت: ويكفي في بطلان هذا القول ما خرجه أبو داود (3660) وغيره من حديث زيد بن ثابت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((نضَّر الله امرأً سمع منَّا حديثًا فحفِظه حتَّى يبلغه؛ فربَّ حامل فقه إلى مَن هو أفقهُ منْه، وربَّ حامل فقه ليس بفقيه))].

4- اشتراطهم أن لا يعمل الرَّاوي بخلاف مرويه، فإنَّه لا يقبل حديثه، كخبر أبي هريرة مرفوعًا: ((إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسلْه سبعًا))، مع أنَّ أبا هُريْرة كان يغسل من ولوغ الكلب ثلاثًا، وعلَّلوا هذا بأنَّ الرَّاوي إذا رأى بخلاف ما روى، دلَّ ذلك على نسخ ما روى، والجمهور على أنَّ العبرة بمرويِّه لا برأيه؛ لأنَّ الصَّحابي غير معصوم، والنَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - معصوم.

منزلة السنة من القرآن:

إنَّ السنَّة بالنسبة للقرآن على ثلاثة أنواع:

فإمَّا أن تكون مبيِّنة للقرآن أو مخصِّصة له: كصفة الصَّلاة والحج ونحو ذلك، وإمَّا أن تكون مؤكّدة لما في القرآن، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اتَّقوا الله في النساء))، فإنَّه موافق لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]، وإما أن تكون زائدة على ما في القرآن، كتحْريم الجمع بين المرأة وعمَّتها وبين المرأة وخالتها، وغير ذلك.

القول في أفعال الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -:

مرَّ أنَّ سنَّة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - قولية وفعلية وتقريرية، فالقولية ستأتي في دلالات الألفاظ، وأمَّا الفعلية فمن أفضل ما كُتِب فيها كتاب أبي شامة المقدسي الموسوم بـ "المحقَّق من علم الأصول فيما يتعلَّق بأفعال الرَّسول"، وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أنواع يمكن تلخيصها على النحو التالي:

1- الأفعال الجبلّية: وهي التي فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقتضى بشريَّته مما يحتاجه البشر عادة من حركة وسكون ونوم وأكل وشرب، فهذا النَّوع يفيد الإباحة عند الجمهور؛ إذ لا يتعلَّق به أمر ولا نهي؛ وقيل: هو للاستحباب لأنَّ ابن عمر كان يتتبع آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - [وكان أنس يحب الدبَّاء لحب النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لها].

2- الأفعال الخاصة به - صلى الله عليه وسلم -: كزواجه بأكثر من أربعٍ مجتمعات، فهذا لا خلاف في عدم جواز التأسي به فيه، وأمَّا ما ثبت وجوبه عليه وحده دون أمته فالاقتداء به مندوب كقيام الليل والأضحية ونحو ذلك.

3- ما فعله بيانًا لمجمل أو امتثالاً لأمر إلهي أو قول محمَّدي: كصِفة صلاته وصيامه وحجّه بعد نزول الآيات الواردة في ذلك، وهذا النوع لا خلاف في أنه دائر بين الوجوب أو الندب، وحكمه حكم مبيَّنه، فما كان بيانًا لواجب فهو واجب وما كان بيانًا لمستحبّ فهو مستحب، هكذا نصَّ أكثر الأصوليّين وفيه نظر؛ فإنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن لنا الصلاة بفعله وليس كلُّ ما فعله في الصَّلاة فرضًا مع أنَّ الصلاة فرض، والأوْلى أن يفرَّق بين ما واظب عليه - صلى الله عليه وسلم - وبين ما كان يتركه أحيانًا فلا يرْقى إلى الوجوب إلاَّ بقرينة.

4- الفعل [المجرد]: وهو المبتدأ المطلق الذي ليس امتثالا ولا بيانًا ولا هو من الخواص ولا أفعال العادة الجبلية فهذا على ثلاثة أضرب:

أ- أن يكون معلوم الصفة والحكم من وجوب أو ندب أو إباحة، وهذا يحمل على صفته التي تعرف بالقرائن أو اتفاق السلف على حكمِه، مثل الاعتكاف فهو مستحب اتفاقًا.

ب- أن يكون غير معلوم الصفة ولم يظهر فيه قصد القربة، فهذا يحمل على الإباحة؛ لأن الأصل عدم التعبد، وقيل: على الندب مثل الترجل والتكحل.

ج- أن يكون غير معلوم الصفة ولكن ظهر فيه قصد القربة، فهذا محلّ خلاف، فذهب الأكثرون إلى وجوبه وهو محكيّ عن مالك والشَّافعي وأحمد في المشهور عنه، واختاره أكثر أصحابه واختاره ابن السمعاني وقال: هو أشْبه بمذهب الشَّافعي، واستدلُّوا بأدلَّة منها قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31]، [والأمر بالاتباع عام في القول والفعل وهو للوجوب] وكذلك قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، ومن ذلك كذلك قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وفعله من أمره، ومن السنَّة ما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلع نعلَه في الصَّلاة فخلعوا نعالهم، ففهم الصَّحابة وجوب المتابعة في الفعل المجرَّد، وخالفهم آخرون فقالوا: بل يحمل على الإباحة، وهو مذهب الكرخي واختاره السرخْسي وأكثر الحنفيَّة؛ لأنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - مأمور بالتَّبليغ، والتَّبليغ لا يكون إلاَّ باللَّفظ، فالفعل يحتمل الوجوب والندْب والإباحة فنجزم بالمتيقّن وهو الإباحة وما زاد فلا بدَّ له من دليل، بيْنما توقَّف آخرون، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو الخطَّاب، وقال آخرون بل هو مندوب وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد وحكيت عن الشافعي؛ لأنَّ القربات التي فعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا تخرج عن الوجوب أو الندب، وأقل درجاتها الندب، وما زاد عليه يحتاج إلى دليل، يؤيد ذلك قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وهي عامة في الأفعال، وخَلعُ الصحابة نعالهم يحتمل أنهم فعلوه على الندب، بل فيه دليل على عدم الوجوب لمجرد الفعل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقرّهم على ذلك.


حكم المخالف للإجماع: أمَّا الإجماع الصَّريح فقد اختلف العلماء في تكفير مخالفه أو تفسيقه، لمخالفته الأدلَّة أو ما هو معلوم في الدّين بالضرورة [مع تعمد اتباعه غير سبيل المؤمنين، أو اعتقاده بأنَّهم جميعهم على ضلالة بعد أن عصم الله الأمَّة من ذلك، أو أنَّ الله تعالى أخلى الأمَّة من قائم لله بالحجَّة، أو طمس الحقّ دهورًا عديدة وأزمنة مديدة، حتَّى جاء هذا المعارض واكتشفه، نعوذ بالله من الخذلان واتباع غير سبيل أهل الإيمان]،

وأمَّا عدا ذلكم من الإجماعات فقد اختلف فيها نفسها كما مرَّ، فلا يمكن التَّكفير بها أو التَّفسيق، ولكن يستفاد منها في المرجّحات، والله أعلم.

الدَّليل الرابع: القياس:

تعريفه: القياس في اللغة التقدير، ويطلق على المساواة بين شيئين، واصطلاحًا للأصوليِّين فيه اتجاهان رئيسان: أوَّلهما: "إلحاق فرع بأصل في الحكم الشَّرعي الثابت له لاشتراكهما في علة الحكم"، فهو على هذا من اجتهاد المجتهد، وعلى الثاني: "مساواة فرع لأصل في حكم شرعي لاشتراكهما في علة الحكم"، سواء استدلَّ به المجتهد على الحكم أم لم يتفطَّن لذلك.

أقسام القياس:

ينقسم القياس إلى طردي وعكسي، فالطَّردي: هو ثبوت الحكم لثبوت الوصف المدَّعى علّيته، وهو الذي تنطبق عليه تعريفات الأصوليين وهو المقصود بالقياس عند الإطلاق، وأمَّا العكسي: فهو انتفاء الحكم لانتفاء الوصف المدعى عليته"، ونظرًا لاختلاف الحقيقتين وعدم إمكان الجمع بينهما في تعريف واحد، فسنذكر التَّعريف المختار لقياس الطَّرد وهو: "إثبات مثل حكم الأصل للفرع لتساويهما في علَّة الحكم"، وبذكر أركان القياس يستبين التعريف:

أركان القياس: ممَّا مضى يتبيَّن لنا أنَّ أركان القياس أربعة ولكلّ ركن شروطه:

1- الأصل: وهو المسألة المنصوصة المقيس عليها، وشرطها أن يكون لها حكم شرعي ثابت بنصّ أو بإجماع، أو باتّفاق الخصمَين المتناظرَين على الأقلّ.

2- الفرع: وهو المسألة المقيسة التي يراد إثبات حكمها بالقياس، وشرطها أن تكون غير منصوص على حكمِها، وأن تكون علَّة الأصل موجودة في الفرع، وزاد بعضُهم في شروط الفرع أن لا يكون متقدّما على الأصل، كقياس التيمّم على الوضوء في إيجاب النّيَّة، والرَّاجح جواز ذلك.

3- الحكم: وهو حكم الشَّرع الَّذي ثبت في الأصل، سواء أكان تحريمًا أم وجوبًا أو غير ذلك كما مضى، ويشترط فيه أن يكون حكمًا عمليًّا معلوم المعنى لا تعبديًّا ولا لغويًّا ولا عقديًّا، وأن يكون ثابتًا بنص أو إجماع، أو باتّفاق من الخصمين المتناظرين على الأقل ما لم يكن ذلك الاتّفاق مبنيًّا على قياس على الأصحّ، وأن يكون حكمًا ثابتًا غير منسوخ، لكن أجاز بعض الحنفيَّة القياس على شروط أو صفات ما نسخ حكمه، كقياس صيام رمضان على صيام عاشوراء في جواز صحَّته بنيَّة من النهار قبل الزَّوال، [قلت: على أنَّ ابن حزم لم يسمّ هذا قياسًا، بل زعم أنَّه بقاء على الأصل؛ لأنَّه وإن نسخ الحكم فإنَّ أوصافه وشروطه لم تنسخ؛ وبناءً عليه أجاز إحداث الصَّوم من النهار لمن كان جاهلا به كما في حديث صوم عاشوراء، والله أعلم].

4- العلَّة: وهي الوصف أو المعنى الَّذي يشترك فيه الأصْل والفرع، ويغلب على الظَّنّ أنَّه مناط الحكم ومتعلّقه، وقد اختلف في تعريف العلَّة والمختار أنَّها: "وصف ظاهر منضبِط دلَّ الدَّليل على كونه مناطًا للحكم"، فالوصف هو المعنى، وكونه (ظاهرًا) هو قيْد خرج به الوصف الخفي، (والمنضبط)، هو الَّذي لا يختلف باختلاف الأفراد ولا الأزمنة ولا الأمكنة، فخرج بذلك مثلا التَّعليل بالمشقَّة؛ لأنَّها تختلف باختِلاف الأفراد والأزمنة والأمكنة، ومعنى قولهم: (مناطًا للحكم)؛ أي: متعلَّقا للحكم، بحيث يوجد بوجوده ويعدم بعدمه؛ لذلك كان مذهب السَّلف أنَّ العلَّة لها أثر جعله الله سببا في الحكم، لا أنَّها مؤثّرة بذاتها كما ادَّعت المعتزلة، ولا يُقال بعدم تأثيرها البتَّة كما زعمت الأشاعِرة، فكان مذهب أهل السنَّة وسطًا بين إفراط هؤلاء وتفريط أولئك، وعمدتهم في إثبات التَّعليل قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32] وقوله: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} [الحشر: 7]، وقوله أيضًا: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، والأدلة في هذا الباب كثيرة؛ فإذ قد ثبت التَّعليل فلا بدَّ لنا الآن من معرفة:

شروط العلة: لقد ذهب أكثر الأصوليِّين إلى أنَّه من شروط العلَّة أن تكون وصفًا مناسبًا، مخرجين بهذا القيد قياس الشبه وقياس الدّلالة؛ لأنَّهما لا يشترط لهما ظهور المناسبة؛ لأنَّ الوصف الجامع في هذين القياسَين هو الشبه في الأوَّل ودليل العلَّة في الثاني؛ لذلك كان الأنسب أن نذكُر الشروط التي تشترك فيها هذه الأقسام الثَّلاثة معًا وهي:

1- أن يكون المعنى وصفًا ظاهرًا لا خفيًّا، كجعل الإسكار علَّة في تحريم الخمر.

2- أن يكون الوصف منضبطًا لا يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة اختلافًا كبيرًا، فإن كان غير منضبط لم يصحَّ التعليل به، كجعل المشقَّة علَّة في الفطر؛ فإنَّها تختلف باختلاف النَّاس والزَّمان والمكان، لكن يصح هنا أن يقال إنَّ المشقَّة غير المعتادة علَّة للتخفيف لأنَّ القاعدة تقول: المشقَّة تجلب التيسير، فمن وجدها فله الإفطار ولو كان مقيمًا، لكن لم يقولوا: إنَّ مَن لم يجِد المشقَّة في السفر فلا يجوز له الفطر والجمع والقصر؛ وذلك لعدم التجرُّؤ على مخالفة النَّصّ، فإنَّ النَّصَّ عام في كل مسافر [لذلك جعل الأكثرون العلَّة في القصر هي السَّفر وإن كانت قاصرة].

3- أن يكون الوصف مطردًا، بحيث يوجد الحكم بوجوده، وعكسه الانتقاض، وهو وجود الوصف مع تخلف الحكم [لسبب من الأسباب كما لو وجدت السَّرقة ولم يوجد القطع لكون المسروق في غير حرز ونحوه]، وكما لو وُجد القتل وتخلَّف القصاص لكونه غير عمد عدوان؛ لذلك كان الصَّحيح أنَّ الاطراد ليس بشرط، يبين ذلك:

4- أنَّ العلَّة يكتفى فيها بالظَّنّ الغالب، وتخلُّف الحكم عن العلَّة في موضع لا يلغي الظن الغالب إذا شهد لهذا الظن شواهد أخرى.

5- أن يكون الوصف متعدِّيًا، وهذا محل خلاف، فأنكر التعليل به الحنفيَّة وأثبته الشافعية، وإن كان لا يبنى عليه قياس، كتعليل جواز الفطر في السفر بالسفر، فإنَّ هذه علة قاصرة لا تتعدَّى إلى غير المنصوص عليه، [وفائدة ذكرها حتى تُعرف لئلا يتعدَّى بها إلى غيرها، والله أعلم].

وبقيت هناك شروط أخرى مختلف فيها، كالتَّعليل بالحكم، أو التعليل بالاسم المجرد، أو علة التركيب في أكثر من وصف، أو التَّعليل بالعدم ونحو ذلك، ونظرًا لدخولها في غيرها فإنَّا نكتفي بضرب أمثلة منها فقط:

فمن أمثلة التَّعليل بالحكم قول الفقهاء: إنَّ تكبيرة الإحرام ركن فلا يقوم غيرها مقامها، ويدخل في هذا كثير ممَّا يسمَّى بقياس الدّلالة، كقولهم في الذّمّي: يصحّ طلاقه فيصحّ ظهاره، فعلَّة صحّة الظّهار هنا هي صحَّة الطلاق، ونحو ذلك ممَّا يرجع إلى قياس الدّلالة الَّذي يكون فيه الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلَّة.

ومن أمثلة التعليل بعلة مركبة من وصفين فأكثر قولهم في علة القصاص إنها القتل مع العمد والعدوان، ونحو ذلك.

ومن أمثِلة التعليل بالاسم المجرَّد قولهم في تعليل جواز التَّيمُّم بالجبس أنَّه تراب فيصحّ التَّيمّم به، وكقولِهم في الرماد إنَّه ليس بتراب فلا يصحّ التيمّم به، وهذا تعليل بنفي الاسم المجرَّد.

أمَّا التَّعليل بالوصف الوجودي والعدمي [فخلاصته: إمَّا أن يكون التعليل للوجودي بالوجودي، كتعليل وجود القصاص بوجود القتل العمد العدوان، أو يكون التَّعليل للعدمي بالعدمي كتعليل عدم الإرث بعدم القرابة أو النكاح أو الولاء، أو أنَّ عدم الطهارة علَّة لبطلان الصلاة، أو يكون التعليل للعدميِّ بالوجودي كتعليل عدم الميراث بوجود الكفر، أو يكون التعليل للوجودي بالعدمي كما لو وجد الرّقّ فينعدم الإرث، أو كتعليل القتل وهو وجودي بعدم الصلاة، فكلَّما عدمت الصَّلاة وجد القتل].

طرق معرفة العلة: يتعرف المجتهد على العلة بعدة طرق أهمها ما يلي:

1- النَّصّ: وهو إما أن يكون صريحًا في ذكر العلة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما جعل الاستئذان من أجل البصر))، أو يكون النص غير صريح، بل ظاهرا يحتمل غيره معه، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الهرة: ((إنَّها ليست بنجس، إنَّها من الطوافين عليْكم والطوَّافات))، فقوله: "إنَّها من الطوافين"، يفيد أنَّ علَّة طهارتها كونها من الطوافين، وصعوبة التحرز منها، فيلحق بها الفأرة ونحوها من سواكن البيوت.

2- الإجماع: كجعل الصغر علة للولاية على مال اليتيم، فيقاس عليه الولاية في النكاح.

3- الإيماء: وهو في اللغة الإشارة باليد أو بالرأس ونحو ذلك، وفي الاصطلاح: "فهم التعليل من لازم النص لا من وضعه للتعليل"، وله أنواع يصعب حصرها، وأهمها:

أ- أن يرتب الحكم على الوصف بالفاء، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، ونحو ذلك.

ب- أن يأتي الحكم جوابًا على سؤال، فيجعل ما في السؤال علة للحكم كما في سؤال الأعرابي الذي قال: هلكت يا رسول الله، قال: ((ما أهلكك؟)) قال: وقعت على أهلي وأنا صائم، قال: ((فهل تجد ما تعتق رقبة؟)) الحديث، وهو يدلُّ على أنَّ سبب الحكم المذكور هو الجماع في رمضان، [وعليه اقتصر الشافعي، وعداه الجمهور إلى كلّ متعمّد للإفطار لأنَّ العبرة بالعموم].

ج- أن يعلق الشارع الحكم على وصف لو لم يجعل علَّة لما كانت له فائدة، ومنه حديث سعد أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال لِمَن حوله: ((أينقُص الرطب إذا جف؟)) قالوا: نعم، قال: ((فلا إذن))، فإن سؤاله لمن حوله: "أينقص الرطب إذا جف"، مع علمه بذلك، لإيماء قوي إلى أنَّ هذا النقصان هو العلَّة في تحريم ذلك، [فيلحق به ما كان مثله كالعنب بالزبيب، والله أعلم].

د- أن يذكر الشارع مع الحكم وصفًا مناسبًا ليكون علة لذلك الحكم، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)).

هـ- ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء، كقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3]، فجعل التَّقوى علَّة للتفريج والرزق.

4- المناسبة والإخالة: المناسبة في اللغة هي المشاكلة، والمشاركة في النسب، وتطلق على الملاءمة، أمَّا الإخالة فهي الظَّنّ من خلت، أو من الخيال وهو الظّلّ.

وفي الاصطلاح: تعرف المناسبة بأنَّها "ملاءمة الوصْف المعلَّل به، للحكم الثابت في الأصل"، وأمَّا الإخالة "فهي غلبة الظّنّ بعلية الوصف".

والوصف المناسب هو: "الوصف الظَّاهر الذي يحصل من ترتب الحكم عليه مصلحة أو تندفع به مفسدة"، بحيث تقبله العقول السليمة عادة.

5- الدوران: هو في اللغة عدم الاستقرار، وفي الاصطلاح: "ثبوت الحكم عند وجود الوصف وانتفاؤه عند انتفائه"، فهو كالطَّرد والعكس، مثل جعل الإسكار علة في التحريم وعدمه من عدمه، هذا هو مذهب الجمهور وهو الصحيح، وذهب كثير من الأصوليين إلى عدم إفادة الدوران العلّية لأنَّ الاطراد وحده ليس دليلا على العلة، والانعكاس ليس معتبرًا في العلل الشرعية، فمجموعهما لا يكون دليلا على العلة.

6- السبر والتقسيم: السبر في اللغة الاختبار، والتقسيم هو التجزئة، وفي الاصطلاح يطلق مجموع اللفظين على مسلك من مسالك العلة وهو: "حصر الأوصاف التي توجد في الأصل وتصلح للعلية في بادئ الرَّأي، ثم إبطال ما لا يصلح منها فيتعين الباقي"، كما سيتبين بشروطه في هذا المثال كأن تقول مثلا: قد حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع البُر بالبُر متفاضلا، ولا بدَّ أن يكون متَّفقًا مع خصمه على التَّعليل، ثم يحصر أقسام العلَّة فيقول: إمَّا أن تكون الطعم أو الكيل أو القوت والادخار [قلت: وهذا ما يسمَّى بتحقيق المناط]، ثم يبطل الأخيرين لكن بدليل مقبول فيقول: لم يبق لنا إلاَّ الطعم فتعيَّن أنَّه العلَّة، وهكذا، [قلت: وهذا يسمَّى بتنقيح المناط، ثم ينتقل إلى تخريج المناط بمسلك المناسبة والإخالة الَّذي سبق، فيقيس الفرع على الأصل للمناسبة الملائمة التي نقح مناطها]، وممَّا يُستدل به على ثبوت هذا المسلك قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ} [الطور: 35]؛ إذ لا يخلو الأمر من ثلاث احتمالات: فإمَّا أن يكون النَّاس خلقوا من غير خالق، أو يكونوا قد خلقوا أنفسهم، أو يكون خالقهم هو الله، فالأوَّلان باطلان عقْلا، فلم يبقَ إلاَّ الثَّالث.

أقسام القياس: يقسمه الأصوليّون بعدَّة اعتبارات منها:

1- تقسيمه من حيث ذكر الوصف المعلل به: فهو على ثلاثة أقسام:

أ- القياس في معنى الأصل [وهو الجليّ]: وهذا لا يحتاج فيه إلى ذكر وصف جامع بين الأصْل والفرع لانتِفاء الفارق المؤثر بينهما، كقياس العبد على الأمة في تنصيف حدّ الزنا، [قلت: وهو المعروف عند البعض بمفهوم الموافقة المساوي للمنطوق، ودلالته لفظيَّة من باب إطلاق الجزء والمراد به الكلّ، وقد يكون انتفاء الفارق أيضًا من قسم المفهوم الأولي كالنَّهي عن التَّأفّف الذي يدل على تحريم ما هو أشدّ منه، فهذان قسمان له].

ب- قياس العلة: وهو الذي يُذكر فيه الوصف المعلل به [عن طريق النَّصّ] كقياس النبيذ على الخمر بعلَّة الإسكار وهي علَّة منصوصة، [لذلك جعل بعضهم دلالتَه كسابقه لفظيَّة من باب العموم، والله أعلم].

ج- قياس الدلالة: وهو "الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة [أو أثرها أو حكمها"، بحيث لا تكون فيه العلة نصية]، ومثاله: قولهم في عدم إجبار العبد على النكاح: لا يجبر على إبقائه فلا يجبر على ابتدائه كالحر، وهذا الوصف في حقيقته ليس هو العلة، ولكنه دليل على العلة التي هي كون النكاح حقًّا خالصًا للعبد، وكقولهم في ظهار العبد: يصحّ طلاقُه فيصحّ ظهاره كالحرّ.

2- تقسيمه من حيثُ مناسبة الوصف المعلَّل به للحكم: فهو على ثلاثة أقسام:

1- قياس العلة أو المعنى: وهو ما كانت مناسبة الوصف المعلل به ظاهرة فيه، كجعل الإسكار علة مناسبة للتحريم بين النبيذ والخمر بجامع الإسكار.

2- قياس الشبه: وهو "الذي يكون التعليل فيه بوصف يوهم الاشتمال على المناسبة ولكن لا تظهر مناسبته ولا عدم مناسبته"، [فمن حيث إنَّه لم تتحقَّق فيه المناسبة أشبه الوصف الطردي، ومن حيث إنَّه لم يتحقَّق فيه انتفاؤها أشبه المناسبة]، وقيل: هو القياس الذي يكون فيه الفرع متردّدًا بين أصلين فيلحق بأكثرهما شبهًا به، كقياس المذي على البول مع أنه يشبه المني لكونه لا يخلق منه الولد، والتَّعريف الأوَّل أسلم، ثمَّ هو قسمان: شبه حسي، وشبه حكمي، فالحسّي ما كان التَّشابه فيه بين الأصل والفرع في الصورة المحسوسة، كقياس الجلوس الأوَّل في الصلاة على الثاني، [وكالعبد يشبه البهائم في أنَّه سلعة متملكة، ويشبه الأحرار في الصور الآدمية وأنه مأمور منهي بالشريعة]، والحكمي ما كان التَّشابه بينهما في الحكم، كقياس ركن على ركن أو ممسوح على ممسوح كقولهم: الخف ممسوح في طهارة فلا يسن له التثليث كالرأس، فهذا قياس شبه حكمي.

3- قياس الطرد: وهو "ما كان فيه الوصف الجامع مقطوعًا بعدم مناسبته وعدم التِفات الشرع إليه"، [لأنه لا عبرة بالطَّرد كالألوان والحجم والطول ونحوها].

وفي واقع الأمر لا خلاف في عدم حجّيَّة مثل هذا القياس، إذا قطعنا بأنَّ العلَّة التي علق عليها الحكم لا يلتفت إلى مثلها.

حجية القياس: ذهب جماهير العلماء إلى حجيَّة القياس وخالفهم الظَّاهريَّة فلم يثبتوه، ومن حُجَج الجمهور عليهم قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، والمراد بالاعتبار أن يقيس المرء حاله بحالهم ليعلم أنَّه إن فعل مثل فعلهم استحقَّ جزاء مثل جزائهم، ولما صحَّ من أنَّ أعرابيًّا أتى إلى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ امرأتي ولدت غلامًا أسود - وهو يُعَرِّض لنفيه - فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل لك من إبل؟)) قال: نعم، قال: ((فما ألوانها؟)) قال: حمر، قال: ((فهل فيها من أورق؟)) قال: إنَّ فيها لورقًا، قال: ((فأنَّى ترى ذلك جاءها؟)) فقال الرَّجُل: لعلَّ عرقًا نزعه، فقال - عليْه السَّلام -: ((وهذا لعلَّ عرقًا نزعه))، ولحديث ابن عباس - رضِي الله عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله: إنَّ أمّي ماتت وعليها صوم شهر، أفأقضيه عنها؟ قال: ((لو كان على أمِّك دين أكنت قاضيه عنها؟)) قال: نعم، قال: ((فدَينُ الله أحقُّ أن يقضى))، فقاس النبي - صلى الله عليه وسلم - الصوم على الدين في وجوب قضائه، وكذلك كان الصحابة - رضي الله عنهم - يلحقون النظير بنظيره، كما فعلوا في العول، وقاسوا العبد على الأمة في تنصيف الحد، وقال عمر لأبي موسى الأشعري: "اعرف الأمثال والأشباه ثمَّ قِسِ الأمور عند ذلك، فاعمد إلى أحبِّها عند الله وأشبهِها بالحقِّ فيما ترى"، بيْنما استدلَّ منكرو القياس بأدلَّة عامَّة في ذمّ الرَّأي، حملها الجمهور على الرأي السيئ، أو وضعه في غير موضعه ونحو ذلك.

ثمَّ إنَّ الجمهور قد اختلفوا في مسائل تتعلَّق بحجّيَّة القياس منها:

1- مسألة الاحتجاج بالقياس في الحدود: حيث ذهب الحنفيَّة إلى أنَّ الحدود لا قياس عليها؛ لأنَّها محدَّدة، وتدرأ بالشبهات، وأجاز ذلك الجمهور لأنَّ الصَّحابة قاسوا شرب الخمر على القذْف فأوجبوا فيه ثمانين جلدة، وكذلك جلد اللُّوطي عند بعضهم قياسًا على الزَّاني غير المحصن ورجْمه إذا كان محصنًا.

2- مسألة القياس في الرخص والتقديرات: فقد منعها قوم، والصَّحيح جوازها كقياس الوحل والرّيح الشَّديدة والثلج على المطر في الترخُّص للجمع والجماعة.

[قلت: وقد ثبت الترخص في هذه الأشياء بالنص].

3- مسألة القياس في الكفارات: وهذه إن أريد بها إثبات كفَّارة جديدة بمجرَّد الرَّأي فلا يصح ذلك، وأمَّا قياس فعل على فعل في كونه موجبًا للكفَّارة مثله فهذا صحيح، كقياس المالكيَّة الأكل والشرب عمدًا في رمضان على الوطء في وجوب الكفَّارة، بينما منع الحنفيَّة القياس في الكفَّارات، وقالوا عن مسألة إلحاق الآكل عمدًا بالمجامع: إنَّها ليستْ قياسًا بل من باب تنقيح المناط، والذين أجازوا القياس في الكفَّارات لم يمثلوا له إلاَّ بقياس اليمين الغموس على اليمين الحانثة، وقتل العمْد على قتل الخطأ.

التعليل بالحكمة:

الحكمة تطلق عند الأصوليِّين على أحد معنيين، أحدهما: "مقصود الشارع من شرعية الحكم من تحقيق مصلحة أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها"، والثاني: إطلاق الحكمة على المصلحة نفسها أو المفسدة نفسها، فيقال مثلا: إنَّ الحكمة من إباحة الفطر في السفر المشقَّة، وقد اختُلف في جواز التَّعليل بها على ثلاثة أقوال: فمن قائل بمنع التَّعليل بها تعليلا يبنى عليه قياس لعدم تعديها ولا ضبطها؛ وذلك لاختلافها من شخصٍ لآخر، ومن مكان لآخر، فلا يتحقَّق التساوي بينهم في الأحكام الشرعيَّة، وقالت طائفة بجواز التَّعليل بها مطلقًا، وعليه فيصحّ بناء الأحكام على الحِكَم؛ ولذلك أجازوا الاستِدْلال بالمصلحة المرسلة كما سيأتي، وتوسَّط قوم فأجازوا التَّعليل بالحكمة إذا انضبطتْ دون ما سواها، والحقُّ أنَّها متى ما ضبطت بضابط معين كنصّ أو إجماع أو دليل مقبول من أدلَّة ثبوت العلَّة، فلا خلاف في جواز التَّعليل بها، فدلَّ ذلك على أنَّه ليس في التَّعليل بالحكمة إلاَّ قولان فقط، ولزيادة إيضاح الحكمة نقول: إنَّها معنى من المعاني يقوم بذهن الفقيه، قد يفهمه من نصّ واحد أو نصوص متعدّدة، فيقول مثلا: إنَّ الحكمة مِن قتل القاتل حفظ النّفوس، وهذه الحكمة (حفظ النفوس) لو تركت بلا ضابط لأدّى ذلك إلى قتل من هَمَّ بالقتل أو حثَّ عليه أو ناوله سلاحًا وهكذا؛ ولهذا قالوا: إنَّ علَّة القصاص هو القتل العمد العدوان، ومن المعلوم أنَّ العلَّة يدور الحكم معها وجودًا وعدمًا، وأمَّا الحكمة فلا يمكن تعليق الحكم بها دائمًا؛ إذ لا يجوز أن نقول: إنَّ كلَّ قتل يغلب على الظن أنه يحفظ النفوس يكون مشروعًا.

أمَّا القسم الثالث من الأدلة، فهو الأدلة التي فيها خلاف قوي، وتشتمل على قول الصحابي وشرع مَن قبلنا والاستحسان والاستصحاب والاستِصْلاح وسدّ الذَّرائع.

1- قول الصَّحابي:

الصحابي عند المحدثين: "مَن لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به ومات على ذلك"، وعند الأصوليين: "من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به مدَّة تكفي عرفًا لوصفه بالصحبة، ومات على الإسلام"، فهم يتكلَّمون عن الصحابي الذي له فقه واجتهاد في الأحكام الشرعيَّة وهذا لا يحصل إلاَّ لمن لازم النبي - صلى الله عليه وسلم - فترة طويلة، والمراد بقول الصَّحابي "مذهبه الذي قاله أو فعله ممَّا لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -".

أقسامه: ينقسم قول الصحابي إلى أربعة أقسام:

1- قول الصحابي فيما لا مجال للرَّأي فيه، كالعقائد والعبادات والتقديرات ونحوها، وهو حجَّة عند الأئمَّة الأربعة لأنَّه لا اجتهاد في الأمور التي لا تعرف إلاَّ بتوقيف.

2- قول الصَّحابي الذي اشتهر ولم يُخالف فيه، وهذا يسمى بالإجْماع السكوتي كما مرَّ، وتُعرف الشهرة بكثرة خوض الصَّحابة في المسألة، أو بكون الصَّحابي من الخلفاء الأربعة والمسألة ممَّا تعم به البلوى، [أو بأن يقول قولا أو يفعل فعلا أمام الملأ ولا ينكر عليه أحد].

3- قول الصَّحابي الذي خالفه فيه غيره من الصَّحابة، فإنَّه ليس بحجَّة، ولكن لا يخرج الفقيه عن أقوالهم إلى قول جديد محدث كما مر؛ لأنَّ الخروج عن أقاويلهم يقتضي تخطئتهم جميعًا، وهذا محال، وسمج من الضلال.

4- قول الصَّحابي فيما للرَّأي فيه مجال لكنَّه لم ينتشر ولا عُرف له مخالف: [قلت: وهذا إما أن يكون مخالفًا للنَّصّ فالعبرة بالنَّصّ، وعليه قد يتنزَّل كلام الشافعي في الجديد بعدم قبوله، وإمَّا أن يكون موافقًا للنَّص فيؤخذ به، وإما أن لا يكون في المسألة نص ولا دليل] فذهب إلى حجيته أبو حنيفة ومالك وأحمد والشافعي في القديم، والدليل على حجيته قول الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -: ((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثمَّ الَّذين يلونَهم))، فهذه شهادة لهم بالفضل على من سواهم، وهي تقتضي تقديم اجتهادهم على اجتهاد غيرهم؛ لأنهم شاهدوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - والتنزيل، وعرفوا التأويل، وذكر المصنّف أن القول بعدم حجية قول الصَّحابي لا يدل على المنع من تقليده لغير المجتهد، أو لمن لم ينظر في المسألة بعدُ وحضره وقت العمل، والله أعلم بالصواب.

2- شرع من قبلنا:

ولا يخلو من أن يكون في الأصول، كالإيمان بالله وأسمائه وصفاته ونحو ذلك، فهذا القسم قد اتَّفقت عليه شرائع الأنبِياء جميعًا، وأمَّا في الفروع التي اختلفت فيها الشرائع، فيمكن تقسيمها إلى الأقسام التالية:

1- ما حكاه شرعُنا عنهم ثم ورد فيه ما يبطله فلا خلاف في عدم حجيَّته، كتحريم شحوم الأنعام على من قبلنا.

2- ما حكاه الله عنهم ووُجد في شريعتنا ما يؤيّده فلا خلاف في أنَّه شرع لنا، كالصيام مثلا.

3- ما نقل إليْنا ولم يقترن بما يدلّ على نسخه ولا مشروعيته في حقِّنا فهذا محل خلاف بين العلماء، فذهب أكثرهم إلى الاحتِجاج به ما لم يَرِدْ في شرعنا ما ينسخه، وهذا مذهب الحنفية والمالكية والحنابلة وأحد القولين عند الشافعية، والقول الثاني للشَّافعيَّة أنَّه لا يحتج به، والدليل على أنه شرع لنا قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123]، وقوله أيضًا: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13]، ومن الأمثلة على شرْع مَن قبلنا الاستدلال على الجعالة والضَّمان بقوله تعالى: {وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، ومن ذلك الاستدلال على جواز مصانعة السّلطان ببعض المال حتَّى يسلم الباقي لمن خشي أن يأخذ السلطان ماله كله أو يتلفه؛ لقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} [الكهف: 71].

3- الاستحسان: لقد ظهرت هذه الكلِمة بكثرة على لسان أبي حنيفة، فنجده يقول غالبًا: القياس كذا ولكن الاستِحْسان كذا؛ ولهذا عرف الحنفية الاستحسان بأنَّه: "كلّ دليل في مقابلة القياس الظاهر"، أو أنَّه: "ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس"، وقد قسموه إلى عدة أقسام:

1- فإما أن يكون استحسانًا مستنده النَّصّ: ومثلوا له بإباحة السلم مع أنَّ الأصل والقياس أن لا يبيع الإنسان ما ليس عنده، إلاَّ أن تسمية هذا النَّوع استحسانًا غير مسلمة؛ لأنَّ هذا عمل بالنص الخاص.

2- أو يكون استحسانًا سنده الإجماع: وذلك بترك مقتضى القياس أو العموم في مسألة جزئيَّة لأجل الإجماع، مثل الإجْماع على جواز عقد الاستصناع، ودخول الحمَّام من غير تحديد لمدة البقاء فيه ولا مقدار الماء المستعمل.

3- وقد يكون استحسانًا سنده الضرورة: كالحكم بطهارة الأحواض بالمكاثرة والآبار بنزحها حتَّى يذهب أثر النجاسة منها، ووجه الاستحسان في ذلك أنَّ الآبار والحياض لو قيس تطهيرها على تطهير الآنية لما أمكن؛ لأنَّه لا يمكن غسل البئر والحوض كما يغسل الإناء والثوب.

4- استحسان سنده القياس الخفي: كالحكم بطهارة سؤر سباع الطير المحرمة، مع أنَّ القياس الجلي يقتضي نجاستها كسؤر سباع البهائم، ووجه الاستحسان هو أنَّ سباع الطير تشرب الماء بمناقيرها والمناقير لا رطوبة فيها فلا تلوّث الماء؛ فهي بالدجاج أولى منه بالسباع.

5- استحسان سنده المصلحة: كالحكم بتضْمين الأجير المشترك؛ لأنَّ الأصل عدم الضمان عليه؛ وضمناه لمصلحة المحافظة على أموال الناس من الضياع لكثرة الخيانة وقلَّة الأمانة.

6- الاستحسان الذي سنده العرف: كأن يقال: إنَّ الأصل أنَّ مَن حلف أن لا يأكل اللحم أن يحنث بأكل السمك؛ لأنه لحم، ولكن قالوا لا يحنث استحسانًا؛ لأنَّ العرف جرى على التَّفريق بين اللحم والسمك.

حكم العمل بالاستحسان: أمَّا الأنواع الثَّلاثة الأولى فلا خلاف في العمل بها، وإن كان بعضهم لا يسمّيها استِحْسانًا، وأمَّا النَّوع الرَّابع فهو عندهم من باب تعارُض الأقيسة والتَّرجيح بين القياس الخفي والقياس الظَّاهر، وأمَّا النَّوع الخامس والسَّادس فالنِّزاع فيهما مبنيّ على النزاع في مستندِهما وهو المصلحة المرسلة هل تعدّ دليلا أم لا؟

والاستِدلال بالاستحسان بأنواعه المتقدّمة مذهب جمهور العلماء من الحنفيَّة والمالكيَّة والحنابلة، وأمَّا الشَّافعي فقد أنكره وألَّف كتابًا في إبطاله.

4- الاستصحاب: تعريفه:

الاستصحاب في اللغة: طلب الصُّحبة، وفي الاصطلاح: "هو الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناءً على أنَّه كان ثابتًا في الزَّمان الأوَّل"، بحيث يستصحب المجتهد الحكم الأوَّل حتَّى يرِد ما يدلّ على ارتفاعه، كمن توضَّأ ثمَّ شكَّ في وجود ناقضٍ فإنَّه يستصحب الحكم السَّابق وهو الطهارة حتَّى يثبت خلافه، وله أنواع هي:

1- استصحاب البراءة الأصلية: أي: خُلوّها من التكاليف والحقوق المالية، إلا بدليل.

2- استصحاب الحكم الثَّابت ما لم يقُم دليل على تغْييره: كالحكم بثبوت الزَّوجيَّة بناءً على عقد النّكاح الصَّحيح.

3- استِصْحاب الدَّليل مع احتمال المعارض: مثل استِصْحاب حكم الدَّليل العام حتَّى يرِد ما يخصّصه، واستِصْحاب النَّص حتَّى يرد ما يدل على نسخِه، وقيل: إنَّ هذا عمل بالنَّصّ.

4- استصحاب الحكم الثابت بالإجماع في محلّ الخلاف: كما لو تيمَّم فاقد الماء ثم شرع في الصَّلاة، وفي أثنائها حضر الماء، فمن قال بصحة صلاته استدلَّ بأنَّ صحَّة صلاته ثابتة بالإجماع حتَّى يدلَّ دليل أو إجْماع على أنَّ رؤية الماء في أثناء الصَّلاة مبطل لها.

حكم العمل بالاستصحاب: أمَّا الأنواع الثلاثة الأولى فهي حجَّة عند الجمهور، وذهب الحنفيَّة إلى أنَّ الاستصحاب يصلح الاستِدْلال به في النفي لا في الإثبات، فهو لا يصلح لإثبات حكم مبتدأ، بل يصلح لإبقاء ما كان على ما كان إلى أن يثبت دليل التغيير، ومن الأدلة على حجيتها قوله - صلى الله عليه وسلم - في الرَّجل الذي يخيل إليه أنه أحدث في الصلاة: ((لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا))، فحكم باستصحاب حكم الوضوء مع الشك في وجود الناقض حتَّى يدل الدليل على انتقاضه يقينًا، ومن ذلك كذلك حديث ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أنَّ اليمين على المدعى عليه؛ لأنَّ الأصل براءة ذمة المدعى عليه حتى يثبت شغلها بالبينة الصحيحة، ولأنَّ هذا هو الظَّاهر حتى يثبت خلافه، وأمَّا النوع الرَّابع فالمحقّقون على أنَّه ليس بحجة؛ لأنه يؤدي إلى التسوية بين موضع الاتفاق وموضع النزاع وهما مختلفان.

قواعد مبنيَّة على الاستصحاب: منها قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك)، و(أن الأصل بقاء ما كان على ما كان)، وأنَّ (الأصل براءة الذمة)، وأنَّ (الأصل في الصفات العارضة العدم)، كمن اشترى سلعة وقبضها ثمَّ ادعى بعد زمن أنها كانت معيبة فلا يقبل قوله إلا ببينة تشهد له؛ لأنَّ العيب من الصفات العارضة والأصل عدمها، ويشبه ذلك قاعدة: (الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته).

5- الاستصلاح:

تعريفه: الاستصلاح في اللغة العمل على إصلاح شيء ما، وفي الاصطلاح: "بناء الأحكام على المصلحة المرسلة"، والمصلحة هي المنفعة، بجلب نفع أو دفع ضرر، وقولهم: (المرسلة) لإخراج المقيدة، وهي التي شهد لها أصل خاص بالاعتبار، وأمكن القياس عليها؛ إذ لا يصحّ أن نفسّر المصلحة المرسلة بالمهملة أو المسكوت عنها؛ فإنَّ الشرع لم يهمل شيئا من المصالح الحقيقية، وإنما أهمل المصالح المتوهمة.

أقسام المصلحة من حيث اعتبار الشرع لها:

1- المصلحة الملغاة: وهي كلّ منفعة دلَّ الشَّرع على عدم الاعتِداد بها في الأحكام الشَّرعيَّة، كما في ترك قطْع السَّارق لمصلحة تمتُّعه بأعضائه، وهذه مصالح جزئية معارضة بمصالح كلية فتقدم عليها.

2- مصلحة معينة ومراعاة في أصل معيَّن: بحيث يُمكن أن يقاس عليه ما يشبهه، مثل مصلحة حفظ العقل التي تضمَّنها تحريم الخمر، فيقاس على الخمر كل ما يذهب العقل من المخدرات والحشيش ونحو ذلك.

3- مصلحة اعتبر الشارع جنسها، ولا يشهد لعينها أصل معين بالاعتبار: بحيث تدل على مراعاتها نصوص الشَّرع العامة فقط، من غير دليل خاصّ بها، مثل جمع القرآن في مصحف واحد؛ لما فيه من مصلحة حفظ الدين، وكوضع إشارات المرور ومعاقبة مَن لا يراعيها؛ لما في ذلك من مصلحة حفظ الأنفس والأموال، فهذه المصلحة من حيث جنسها قد جاء بها الشرع، ولكن لا نجد نصًّا خاصًّا يدلّ على حفظها بهذه الطَّريقة (أي: بوضع إشارات المرور) ولا بطريقة تشبهها شبهًا بينًا يمكن قياسها عليها، وهذه المصلحة هي التي تسمى بالمصلحة المرسلة التي اختلف في حكم الاحتجاج بها على إثبات الأحكام الشرعية:

حكم العمل بالمصلحة المرسلة: ذهب جمهور الفقهاء إلى الاستدلال بالمصلحة المرسلة في إثبات الأحكام الشرعية، ونقل عن الشافعي إنكار الاحتجاج بالمصلحة التي لا ينتظم منها قياس صحيح، ورأى الغزالي أن ما يقع منها في مرتبة الضروريات يمكن الاحتجاج به وإن لم يشهد له أصل معين، بخلاف ما يقع في رتبة الحاجيات والتحسينيات، وخلاصة القول: أن الذين خالفوا في الاحتجاج بالمصلحة المرسلة إنَّما خالفوا في عدِّها دليلا مستقلا أو في تقديمها على النصوص أو في المصالح المعارضة بمثلها أو بما هو أعظم منها.

أدلَّة العمل بالمصلحة المرسلة: يستدل عليها من ناحية أنَّ كثيرًا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية قد جاءت لمصالح العباد والتيسير عليهم، ورفع المشقة والضرر عنهم، وعلى ذلك كان عمل الصحابة - رضي الله عنهم - فمن ذلك جمعهم القرآن في مصحف واحد، وإيقاع عمر الطلاق الثَّلاث بكلمة واحدة، وقتل الجماعة بالواحد، ونحو ذلك.

شروط العمل بالمصلحة المرسلة: يشترط للعمل بالمصلحة المرسلة ما يلي:

1- أن تكون المصلحة حقيقيَّة لا متوهَّمة، كما يتوهمه بعض الناس من أن التسوية بين الرجل والمرأة في الإرث فيه مصلحة ترغيب الكفَّار والنساء في الإسلام.

2- أن لا تعارض نصًّا من كتاب أو سنَّة، أو إجماعًا صحيحًا.

3­- أن لا تعارض مصلحة مساوية لها أو أعظم منها: فإن تعارضت المصالح رجَّحنا أقواها أثرًا، وأعمَّها نفعًا، وأكثرها للمفسدة دفعًا.

4- أن تكون في مواضع الاجتهاد لا في المواضع التي يتعيَّن فيها التَّوقيف، كأسماء الله وصفاته، والبعث والجزاء، وأصول العبادات.

أمثلة تطبيقية للعمل بالاستصلاح: من ذلك ضرب العملة السَّائرة في كلّ بلد، وكوضع الإشارات التي تنظم السير في الطرقات، وتسجيل الأنكحة والمواليد في سجلات خاصة.

6- سد الذرائع:

تعريف الذرائع: جمع ذريعة، وهي الوسيلة المؤدية إلى الشيء، سواء أكان مصلحة أم مفسدة، وسدّ الذرائع: "هو منع الوسائل المفضية إلى المفاسد".

أقسام الأقوال والأفعال المؤدية إلى المفسدة: هي أربعة:

1- وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة قطعًا: كشرب الخمر المفضي إلى السكر، والزِّنا المفضي إلى مفسدة اختلاط الأنساب.

2- وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المباح: وقد تفضي إلى المفسدة، لكن مصلحتها أرجح من مفسدتها، مثل النظر إلى المخطوبة، والمشهود عليها، والجهر بكلمة الحق عند سلطان جائر، فهذه الوسيلة مشروعة بلا خلاف.

3- وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المباح، لكن يقصد بها التوسل إلى المفسدة: مثل عقد النكاح بقصد تحليل الزَّوجة لزوجها الأول الذي طلقها ثلاثًا.

4- وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المباح، ولم يقصد بها التوسل إلى المفسدة، لكن تؤدي إليها غالبًا: مثل سبّ آلهة الكفار علنًا إذا كان يفضي إلى سب الله - جلَّ وعلا - وهذان القسمان هما موضع النزاع، فذهب بعض الشَّافعيَّة والحنفية والظاهرية إلى عدم الاستدلال بها إلا أن يرد بمنعها نص أو إجماع أو قياس، وذهبت المالكيَّة والحنابلة إلى أنَّ سدَّ الذرائع دليل شرعي تبنى عليه الأحكام، فمتى ما أفضى الفعل إلى مفسدة راجحة أو كان الغالب فيه الإفضاء إلى المفسدة أو قصد به فاعله الإفضاء إلى المفسدة وجب منعه، ألا ترى أنَّ الله منع المسلمين من سبّ آلهة الكفَّار حتَّى لا يسبّوا الله، وأنَّ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - منع القاضي من أخذ الهدية لئلا يكون ذريعة إلى أخذ الرشوة، وغير ذلك مما لا يحصى.

الباب الثالث

دلالة الألفاظ

بما أنَّها كثيرة فإنَّا سنقتصر على المفيد من أقسامها وهي: الأمر والنهي، والعام والخاص ثم المطلق والمقيد فالمنطوق والمفهوم وأخيرًا النص والظاهر والمجمل والمبين.

1- الأمر والنهي: نظرًا لشرف جنس المأمور به على المنهي عنه قدِّم عليه واكتُفِي بالإشارة في النَّهي إلى أنَّه عكس الأمر في دلالته، مع مسألة اقتِضاء النهي الفساد تفصيلا، لما في هذه المسألة من أهمية وأثر في الفقه فنقول:

1- الأمر:

إنَّ جل كلام الأصوليين في باب الأمر ينصب على تعريف صيغة لفظ الأمر، ثم دلالته على الألفاظ كما سيتبين:

تعريف الأمر: عرفه بعض الأصوليين بأنه: "طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء",

فاشتمل هذا التعريف على ثلاثة قيود هي: (طلب الفعل)، فخرج بهذا القيد طلب الترك؛ لأنه يسمى نهيًا لا أمرًا وهذا قيد متَّفق عليه، وقولهم (بالقول) خرج به الفعل والإشارة والكتابة، وانتقده بعضهم بأنَّ الأمر قد يكون بالإشارة والكتابة، وقولهم: (على جهة الاستعلاء)، أي العلوّ بأن يكون من جهة الأعلى لِمَن هو أدْنى منه غالبًا، فإذا كان عكسه فعلى وجه سوء الأدب، ويعرف بالقرائن وطريقة سياق الكلام كما لو قال العبد لسيده: افعل كذا، بنبرة حادَّة، بخلاف ما لو كانت على جهة التوسُّل والسؤال فلا تسمَّى أمرًا، أمَّا الأمر التشريعي فلا يكون إلاَّ ممن هو أعلى رتبة.

اشتراط الإرادة في الأمر: لقد اتَّفق النَّاس على اشتراط إرادة التكلّم في الصيغة، فخرج بذلك لفظ النائم ونحوه فلا يسمَّى أمرًا، ثمَّ اختلفوا في اشتراط إرادة إيقاع الفعل المأمور به؟ فذهبت المعتزلة إلى أنَّ ذلك شرطٌ في تسميته أمرًا، واحتجّوا بأسمج ضلالٍ وأبعدِ محالٍ لما زعموا أنَّ الله - تعالى - لا يأمر إلاَّ بما يريد وقوعه، وإلاَّ لكان ظالمًا وهو المنزَّه عن الظلم، وخالفهم الأشعريَّة فلم يشترِطوا ذلك أصلا، واحتجّوا بشططٍ من القول وباردٍ من الصول لما نسبوا العبث إلى الله تعالى في تشريعه، بادعائهم أنَّ الله - تعالى - قد يأمر بالأوامِر ثمَّ تتخلَّف ولا تقع، فكان ذلك دليلاً على عدم إرادة وقوعها؛ إذ لو أرادها لوقعتْ، ولم ينتبه هؤلاء ولا أولئك إلى أنَّ إرادة الله تعالى على نوعين: إرادة كونيَّة قدريَّة، شرًّا كانت أو خيريَّة، فهذه لا بدَّ من وقوعها، وأمَّا الإرادة الشرعيَّة فهي التي يحبّها الله وأرادها شرعًا، فقد تقع وقد تتخلَّف تبعًا لتقدير الله وإرادته الكونيَّة.

صيغ الأمر:

ذهب بعض الأشاعرة إلى أنَّ الأمر ليس له صيغة تخصُّه، وإنَّما يعرف كون اللفظ أمرًا بالقرينة، وهذا الكلام مبني على ضلال لهم قديم وهو إنكارهم كلام الله حقيقة، وزعمهم أنَّه اسم لما في النَّفس لا أنَّه صوت مسموع؛ لذلك استشكل ابن عقيل قولهم: هل للأمر صيغة؟ وقال إنَّ هذه الترجمة لا تصح؛ لأنَّ الأمر نفسه هو الصيغة، ويرى جمهور الأصوليين واللغويين أنَّ الأمر له عدة صيغ تدل عليه حقيقة وهي:

1- فعل الأمر: مثل قوله: ((صلُّوا كما رأيْتُموني أصلِّي)).

2- المضارع المقرون بلام الأمر: كما قال تعالى ذِكْره: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} [الطلاق: 7].

3- المصدر النَّائب عن فعل الأمر: مثل قوله: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]؛ أي: فاضربوا الرقاب.

4­- اسم فعل الأمر، مثل: صه، بمعنى: اسكت.

5- الخبر الذي بمعنى الأمر: كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].

دلالة الأمر: إنَّ مقتضى الأمر يشتمل على الوجوب والفورية والإجزاء بفعل المأمور به، و[عدم] التكرار وإليكم بيان ذلك:

1- دلالة الأمر على الوجوب: لقد ذهب جماعة إلى أنَّ الأمر موضوع للقدر المشترك بين الوجوب والندب، وهذا قول يؤول إلى القول التالي وهو أن الأمر موضوع للندب، وكان من حججهم أنْ قالوا بأن الأمر طلب للفعل، وهذا يتحقَّق بحمله على النَّدب فلا نزيد عليه، [بينما ذهب الظاهرية وطائفةٌ إلى حمله على الوجوب مطلقًا، برهان ذلك قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، فعمّ كل أمر، وقد سُمي مخالف الأمر عاصيًا؛ دليل ذلك قوله تعالى على لسان موسى مخاطبًا هارون: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93]، ومن السنَّة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة))؛ متَّفق عليه، وذهب آخرون إلى التفريق بين الأمر في العادات والآداب فهو للاستحباب، وما كان في التعبدات فهو للوجوب].

2- دلالة الأمر على الفورية: اتَّفق العلماء على أنَّ الأمر إذا صحبته قرينة تدل على الفور أو على التراخي فإنَّه يُحمَل على قرينته تلك، وإذا حُدّد له وقت معين حُمِل عليه كذلك، ثمَّ اختلفوا في الأمر المجرَّد من ذلك، فذهب بعضُهم إلى أنَّه للقدر المشترك بين الفور والتَّراخي بشرط سلامة العاقبة، ومعنى كونِه للتَّراخي أنَّه ليس على صاحبه التَّعجيل؛ لأنَّ مطلق الزَّمان كالمكان، وكلاهما ظرف لفعل المأمور به، والرَّاجح مذهب أكثر الحنابلة والمالكيَّة وبعض الحنفية والشَّافعيَّة من أنَّه يدل على الفور، دليل ذلك قوله تعالى {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133]، وقوله كذلك: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [المائدة: 48]، والأمر للوجوب فيكون الاستباق إلى فعله واجبًا، ولأنَّ الأمر لو لم يكن للفورية لجاز تأخيره إلى أمد ثم ما بعده وهكذا حتى يؤدّي ذلك إلى ترك الفعل، وقد يموت ولم يفعله بعد مع ثبوت إلزامه به، مع شغل ذمته، [قلت: يؤيد ذلك قوله تعالى لإبليس بعد أمره للسجود لآدم مباشرة: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، ومن السنَّة ما خرجه البخاري في الصحيح (1764) ومسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من حجَّته قال لأم سنان الأنصاريَّة: ((ما منعك من الحج؟)) قالت: أبو فلان - تعني زوجها - كان له ناضِحان حجَّ على أحدهما والآخر يسقي أرضًا لنا، فعتب عليها تأخُّرها، وقبِل منها عذرها، وكذلك حديث أبي سعيد بن المعلى - رضِي الله عنْه - قال: كنتُ أصلِّي فمرَّ بي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني فلَم آتِه حتَّى صلَّيت، ثمَّ أتيتُه، فقال: ((ما منعك أن تأتيني؟ ألَم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24]، فعلَّمه المسارعة في امتِثال الأمر ولو كان مشغولا بأمر، يؤكد ذلك حديث عبدالله بن عمرو قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصاب غنيمةً أمر بلالا فنادى في النَّاس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر، فقال: يا رسول الله، هذا فيما كنَّا أصبناه من الغنيمة فقال: ((أسمعتَ بلالا ينادي؟)) ثلاثًا، قال: نعم، قال: ((فما منعك أن تجيء به؟)) فاعتذر إليه، فقال: ((كُنْ أنت تَجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك))، فلم يقبل تأخُّره لعدم مسارعته في الامتثال، والله أعلم]. اهـ.

وينبني على هذا الخلاف خلاف في مسائل كثيرة منها: هل يجوز تأخير الحج، وتأخير إخراج الزكاة عن رأس السنة، أم هل يجوز تأخير الكفارات والنذور والنفقات غير الموقتة بوقت عن أول أوقات الإمكان؟ في كل ذلك وأمثاله خلاف معروف؛ فمن قال بالفورية لم يجز التأخير، ومن لم يقل بها أجازه.

3- دلالة الأمر على التكرار:

تحرير محلّ النزاع: [لا يدخل في هذا الباب الأمر الَّذي يفيد الاستمراريَّة والمداومة]، ولا التكرار المؤدي إلى منع المكلف من كلّ أشغاله، ولا الذي فيه الجمع بين الضدين ولا المؤدي إلى إسقاط أوامر الله الأخرى فكل هذا ممتنع شرعا وعقلا، وإنَّما محل النزاع في التكرار الذي لا يؤدي إلى مستحيل عقلا وشرعا، وهو الأمر المطلق الذي ليس مقيدًا بمرَّة ولا بتكرار ولا معلقًا على شرط ولا صفة، فهذا فيه قولان مشهوران:

أولهما أنَّ الأمر المطلق يقتضي التكرار بحسب الإمكان، وهو منسوب للإمام أحمد وأكثر أصحابه، وحكاه ابن القصار عن مالك، ووجهه أن الأمر بالإيمان والتقوى لا يكفي فيه المرة الواحدة، ولأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، وموجب النهي ترك المنهي عنه في جميع الأوقات، فكذلك الأمر، [والجواب على ذلك: أن يُقال بأن ما ذكروه يدخل في باب إفادة الأمر المطلق للاستمرارية والاستدامة، كالأمر بالإيمان والتقوى والتعبد ونحوها مما لا تنتهي أجزاؤه إلا بالوفاة، لا أنَّه من باب التكرار]؛ لذلك كان مذهب الجمهور أنَّ الأمر المطلق لا يفيد التكرار؛ لأنَّ صيغته لا تعرُّض فيها له، ولا لعدد مرَّات الفعل، كمن حلف أو نذر أن يصوم برَّ بصيام يوم واحد، وكما لو قال لوكيله: طلق زوجتي، لم يكن له أكثر من طلقة واحدة.

وينبني على هذا الخلاف خلاف في مسائل كثيرة منها: [تكرار الاستعاذة وقراءة الفاتحة في الركعات المتبقية]، وكمن قال لوكيله: طلّق زوجتي، فهل يملك أكثر من طلقة؟ وكذلك الأمر بالعمرة وأمثال ذلك، فمن قال بإفادة الأمر للتكرار فقياس مذهبه إعادة هذه المذكورات، ومن قال: لا يفيد التكرار فمقتضى قوله أن لا إعادة عليه.

ومن ذلك اختلافهم في الأمر المعلَّق على شرط هل يُفيد التكرار بتكرر الشَّرط كالأمر بتحيَّة المسجد، فهو معلَّق على شرط دخوله، فهل إذا خرج ثم دخل أُمر بتكرار الصلاة، فيه الخلاف المذكور، وقال بعضهم هنا بأن الأمر المعلق على شرط يقتضي التكرار بخلاف الأمر المطلق، لأنه مثل تعليقه على العلة؛ لأنَّ التعليق عليها يوجب التكرار وهو الراجح.

ومن هذا الباب مسألة تداخل الأحكام فإن القاعدة تقول: "الأسباب يتكرر الحكم بتكررها ما لم تتداخل، تخفيفًا على المكلفين"، وممَّا ينبني على هذه القاعدة ما لو سمع الأذان أكثر من مرة فهل يستحبّ له تكرار ما يقوله كلّ مؤذن أم لا؟ وهل إذا [سلَّم جماعة] أو كرر أحدهم السلام، فهل يلزم تكرار الرد أم لا؟ ومن ذلك كذلك ما لو تكرر ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهل يكرر الصلاة عليه أم لا؟ في كل ذلك وأشباهه خلاف مشهور، فذهب بعضهم إلى إلحاق ذلك بمسألة التكرار إذا تكرر الشَّرط، وذهب بعضهم إلى عدم التكرار؛ لأنَّ التداخُل مع قرب الزَّمن يلغيه.

[قلت: والَّذي يبدو في كلّ هذا أنَّ التَّفصيل هو الصَّواب، فإذا كان الأمر بلزوم الجنس المتَّحد فهو للاستمراريَّة والدَّوام وذلك كالأمر بالإيمان والتَّقوى وأجزائهما، وإذا كان الأمر بالشيء منصبًّا على جنس متَّحد أو جهة واحدة فلا يفيد التكرار، بخلاف ما لو انصبَّ - الأمر - على جنس مختلف أو جهة متفرقة متقطعة فيفيد التكرار، فمن نظر مثلا إلى الأمر بقراءة الفاتحة أو الاستعاذة بأنه منصبّ على جنس واحد متَّحد وهو الصَّلاة لم يقل بالتكرار وهو قول الحنفيَّة، ومن قال بأنَّ الجنس المتَّحد هو نفس الرَّكعة الواحدة في مسألة الفاتحة؛ لأنَّ كلَّ ركعةٍ مستقلَّةٌ بذاتها عن غيرها قال بتكرار القراءة في كل ركعة، وأيَّد ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم - للمسيء صلاته: ((ثمَّ افعل ذلك في صلاتِك كلّها حتَّى تقْضيها))، وكذلك قال في الأمر بالاستعاذة إنه منصبّ على جنس متَّحد وهو عين القراءة لا جنس الصلاة، ثم أيد ذلك بأن القراءة في الركعة الأولى مفصولة عن القراءة في الثانية بأجنبي وهو الركوع والسجود والتسبيح ونحوها، فتعين التكرار، وكذلك الأمر في مسألة تكرار إحداث النية في شهر رمضان فمن نظر إلى جنس الشهر وأنه متَّحد لم يقل بتكرير النية في كلّ يوم، ومن نظر إلى أن الجنس المتحد هو اليوم وحده قال بالتكرار، وأيَّد قوله بأنَّه قد حصل فاصل مغاير للصوم وهو الإفطار بعد الغروب، مع احتمال الإفطار نهارًا لأسباب أخرى، ومثل ذلك مسألة السَّلام أو الصلاة على النبي - عليه السلام - فإن كانت في مجلس واحد فلا يجب التكرار، وإن اختلف أو تفرق المجلس تعين التكرار وقس على ذلك، يؤكد صحة ذلك حديث علي مرفوعًا: ((يجزئ عن الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يردَّ أحدهم)).].

سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته: هذه المسألة يُعنوِنون لها في كتب الأصول بعنوانين أحدهما هذا، والثاني: هل يثبت القضاء بالأمر الأوَّل أم يحتاج لأمر جديد؟ والقائلون بعدم سقوط الأمر المؤقت بفوات وقته هم القائلون بأنَّ القضاء يثبت بالأمر الأوَّل ولا يحتاج إلى أمر جديد، والقائلون بسقوط القضاء بفوات الوقْت هم أنفسهم من قال بعدم ثبوت القضاء إلاَّ بأمر جديد، سواء أفاته الوقت بعذر أو بغير عذر، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثةٍ أقوال:

القول الأوَّل: أنَّ الأمر المؤقت لا يسقط بفوات وقته بل يجب قضاؤه بالأمر الأوَّل وهو مذهب أكثر الحنابلة وبعض الحنفيَّة، [لشغل الذمَّة به]، ولأنَّ مصلحة أداء الفعل أعظم من مصلحة الوقت، واحتجّوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - [للسائلة عن أمها التي نذرت الحج وماتت، وكذا عن التي ماتت ولم تحج، وعن الشيخ الكبير الذي لا يقوى على الحج، وكذا للسائل عن أمه التي ماتت وعليها صيام شهر، فقال لكلّ سائل: ((أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه عنه؟.. فدين الله أحق بالقضاء))، فسمَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواجبات الشرعية دينًا، وشبَّهها بديون الآدميّين، ولا خلاف في أن دين الآدمي لا يسقط بفوات وقته، فكذلك دين الله وهو شرائعه الواجبة، [قلت: وكذلك قاس - عليه السلام - جواز قضاء رمضان متفرقًا على جواز قضاء الدين متفرقًا، دليل ذلك ما رواه موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن تقطيع قضاء صيام شهر رمضان؟ فقال: ((ذلك إليك، أرأيتَ لو كان على أحدكم دين فقضى الدرهم والدرهمين ألم يكن قضاء، فالله أحقُّ أن يعفو ويغفر))، وهو مرسل، وورد متَّصلا، والله أعلم].

قالوا: ولأن الأمر بالمركب أمر بكل أجزائه، والمؤقت بوقت مركب من شيئين هما الفعل ذاته والزمن المحدد له، فإذا فات أحد الجزْأَين فيبقى الآخر مأمورًا به، يؤيد ذلك أن الواجب إذا شغلت به ذمَّة المكلف فلا تبرأ إلاَّ بأدائه؛ لأنَّ الذّمَّة تبقى مشغولة به.

القول الثاني: أنَّ الأمر المؤقت يسقط بفوات وقته، ولا يقضى إلاَّ بخطاب جديد، وهو قول أكثر الأصوليين، وكان من حجَّتهم أن قالوا: إن في تحديد الوقت للعبادة لدليلا على وجوبه وصحته فيه دون ما سواه من الأوقات، مثل العبادات المكانيَّة - كالحج - تمامًا إذا فات مكان أدائها فلا تؤدى في غيره، [يزيد ذلك بيانًا ويوضحه أنَّ الله جعلها عبادات محدودة الطرفين، فكما لا يصح أداؤها قبل وقتها إلا بدليل، لم يصح قضاؤها بعده إلا بتدليل، ولم يأت إلا في الناسي أو النائم، فدل ذلك على عدم قضائها لغيرهما، يزيد ذلك بيانًا ويوضحه ما خرجه البخاري (531) من حديث أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرُب الشَّمس فليتمَّ صلاته، وإذا أدْرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشَّمس فليتمَّ صلاته))، فإنَّه يدل بمفهوم المخالفة على أن من لم يدرك الوقت فلا يتم صلاته لعدم الفائدة منها، والاعتداد بها، ولأنه بقضائه للعبادة مأزور فيها غير مأجور، وأمَّا استدلالهم بحديث ابن عباس فإنَّ المذكورين فيه لم يتركوا العبادات المؤقتة بوقت، بل أخروا غير المؤقتة فقط ثمَّ ماتوا قبل أن يقضوها]. اهـ.

وسبب الخلاف بين الفريقين يرجع إلى قاعدتين أولاهما:

"أن الأمر بالفعل المركب هل هو أمر بكل واحد من أجزائه"، والقاعدة الثانية: "أن تخصيص الفعل بوقت معين لا يكون إلا لمصلحة في ذلك الوقت"، وعليه يسقط الأمر المؤقت بفوات وقته، وينبني على هذا الخلاف خلاف في مسائل فقهية كثيرة منها حكم قضاء الصلاة المتروكة عمدًا تهاونًا، والسنن الرواتب إذا فات وقتها، وقضاء زكاة الفطر، والتسبيح المؤقت بما بعد الفراغ من الفريضة، ومن العلماء من فرق بين الواجبات والمندوبات فجعل القاعدة خاصة بالواجبات دون المندوبات.

هل يقتضي الأمر الإجزاء بفعل المأمور به؟ ونعني بالإجزاء موافقة أمر الشارع وسقوط القضاء به، قولان في ذلك، أحدهما للمعتزلة وهو: أن فعل المأمور به لا يقتضي الإجزاء ولا سقوط القضاء، وما كان دعواهم في ذلك إلا أن قالوا: إنَّ مَن فسد حجّه أتمه وأُمِر بقضائه، وأن من صلَّى ثمَّ تبين له أنه صلى بغير طهارة وجب عليه القضاء اتفاقًا، فدلَّ على أن سقوط القضاء لا بد له من دليل، وكل هذا لا شيء؛ لأنَّ من فسد حجه أو صلَّى بغير طهارة فلأنه لم يأت بالمأمور به كما أمِر؛ لذلك ذهب الجمهور إلى أن فعل المأمور به يقتضي الإجزاء وسقوط القضاء، وكان من حجَّتهم أن قالوا: إن المكلف قد أتى بما طلب منه، فبرئت ذمته به، وإلا للزم الأمر التكرار وهو باطل كما مضى، [قلت: يزيد ذلك بيانًا ويوضحه أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن من فعل ما أمر به فقد تمَّت عبادته وبرئت ذمته، فقال للمسيء صلاته: ((فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك))، وقال: ((مَن أدرك ركعةً مِن الصلاة فقد أدرك الصلاة))، وقال في الحج: ((مَن صلَّى صلاة الغداة ها هنا معنا، وقد أتى عرفة قبل ذلك فقد قضى تفثه وتمَّ حجه))، وقال في الأضحية يوم العيد: ((إنَّ أوَّل ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلّي ثمَّ نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنَّتنا، ومَن ذبح قبل ذلك فإنَّما هو لحم قدَّمه لأهله ليس من النسك في شيء))، وقال أيضًا: ((أُمِرْت أن أقاتل الناس حتَّى يشهدوا أن لا إله الا الله وحْده وأنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله، ويقيموا الصَّلاة ويؤتوا الزكاة؛ فإذا فعلوا ذلك فقد اعتصموا وعصموا دماءهم وأموالهم إلاَّ بحقِّها))، وقال للمرأة التي سألتْه: يا رسول الله، إنَّني امرأة قد كبرت وسقمت، فهل من عمل يجزئ عنّي من حجَّتي؟ قال: ((عمرة في رمضان تجزئ حجَّة))، فدلَّ ذلك على أنَّ الإجزاء كان أمرًا متقررًا بينهم، يزيد ذلك بيانًا ويوضّحه ما خرجه ابن ماجه (2907) عن ابن عباس أنَّ امرأة من خثعم جاءت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ أبي شيخ كبير قد أفند، وأدركتْه فريضة الله على عباده في الحج ولا يستطيع أداءها، فهل يجزئ عنه أن أؤديها عنه؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم))، وفي رواية: ((لو كان على أمّها دين فقضتْه عنها ألَم يكن يجزئ عنها! فلتحجَّ عن أمها)).

وعن زينب الثقفية امرأة عبدالله أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال للنساء: ((تصدَّقنَ ولو بحليكنَّ))، فقالت زينب لعبد الله: أيجزئ عنّي أن أضع صدقتي فيك وفي بني أخي، وكان عبدالله خفيف ذات اليد، فقال: سلي عن ذاك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فسألتْه فأخبرهما أنَّ لها أجرين: أجر القرابة وأجر الصدقة.

وقال لعائشة لما حاضت: ((يجزئ عنك طوافك بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك)).

وقال للمستحاضة: ((سآمرك بأمرين أيّهما فعلت ذلك فقد أجزأك من الآخر..)).

فأخبر أنَّ فعل المأمور يجزئ ويبرئ الذّمَّة، بل نهى عن إعادة الفعل المأمور به فقال: ((لا تصلُّوا صلاة في يوم مرتين))، وهذا واضح والحمد لله]؛ لذلك ذهب جماعة إلى أن الخلاف في هذه القاعدة لفظي فلم يمثلوا له، وذهب المصنف إلى أنَّه حقيقي، ثم ذكر أن من المسائل التي يمكن تخريجها على هذا الخلاف فاقد الطهورين الذي صلَّى ثم وجد الماء، فإن مقتضى قول الجمهور أن لا قضاء عليه، لكن قال بعض الفقهاء بلزوم القضاء، وهو مقتضى قول المعتزلة، ومِثله كذلك من ضل القبلة وصلى، أو صلَّى في مكان نجس، فهل يلزمه القضاء إذا عرف ذلك؟ ولزومه يتخرج على قاعدة المعتزلة، لا على قاعدة الجمهور، وقد يقال هنا: إنه إذا وافق الفعل المأمور به مراد الشارع في ظنّ المكلف ينبغي أن نسميه صحيحًا، لكن لا نرتب عليه سقوط القضاء إذ يمكن أن يأتي بالفعل ويطلب منه قضاؤه؛ وإذ ذلك كذلك فإنه يتعين تعريف الفعل الصَّحيح بأنَّه ما وافق أمر الشَّارع في ظنّ المكلَّف، [قلت: كذا قال مقيّده والصواب التفصيل وهو أنَّ فعل المأمور به لا يخلو من أمرين، فإمَّا أن يكون موافقًا لمراد الشارع في نفس الأمر أو مخالفًا له، فأمَّا الأوَّل فهو الَّذي اتفق عليه الفقهاء من أنه يقتضي الإجزاء، وذلك بفعل المأمور به بكمال أوصافه وشروطه وأركانه، فهذا لم يقل أحد من السلف بعدم إِجزائه، وقد قدمت آنفًا أدلَّة كثيرة على بيانه، وأمَّا الثاني وهو أن يكون المكلّف مخالفًا في فعله المأمورِ به لمراد شارعه، فلا يخلو من أن يكون متعمّدًا فتبطل أعماله، أو يكون غير متعمّد ففيه تفصيل: فإمَّا أن يخل بركن أو شرط من شروط الفعل المأمور به في نظره، فيكون فعله كفعل الجاهل به غير مجزئ ولو كان ناسيًا، فإن اعتقد مجتهدًا أنَّه ليس بشرط أجزأ فعله وقبِل عذره، بخلاف ما لو اعتقد بشرطيته، ثم أخطأه لعذر في ماهيته، فهذا الذي فيه الخلاف المذكور كمن اجتهد في تعيين القبلة وأخطأها، أو من كان في سجن كثير النجس فصلى، أو اجتهد في تعيين يوم الصوم فأخفقه ونحو ذلك مما اختُلف في إِجزائِه، بسبب النقص في شروطه وأجزائه اجتهادًا، لا بسبب القاعدة والله أعلم]. اهـ.

الأمر بالأمر بالشيء:

وصورته ما لو أُمِر المكلف بأن يأمر غيره بشيء، فهل يكون ذلك أمرًا من الشارع لذلك الغير بفعل الشيء المذكور في الأمر؟ ومثاله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مروا أبناءكم بالصَّلاة وهم أبناء سبْع واضربوهم عليها لعشر))، فهل يقال هنا إن الصبيان مأمورون بالصلاة من قبل الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -؟

تحرير محل النزاع:

أخرج بعضهم عن محل النزاع ما لو قال الآمر الأول: قل لفلان إني آمرك بكذا أو قل له أن يفعل كذا؛ لأنَّ المأمور بالأمر حينئذ يكون مُبَلغا فحسب، وأما غير ذلك ففيه خلاف: فذهب جمهور الأصوليين والمصنف إلى أنَّ أمر المكلف بأمر غيره بالشيء لا يُعد أمرًا بذلك الشيء في حق الطرف الثالث، دليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مُروا أبناءكم بالصلاة لسَبع...))، فلو كان الأمرُ بالأمر أمرًا لكان ذلك أمرًا من الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصبيان، وقد وردت السنة مع الإجماع برفع القلم عنهم، وخالفهم آخرون فقالوا: إن الأمرَ بالأمرِ بالشيء أمر بذلك الشيء [قلت: لأنَّ خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - شامل لكل أمته، وإلاَّ لكان لغوًا لا فائدة منه - حاشا كلامه من ذلك وكلا - وأمَّا خطابه للآباء بتعليم أبنائهم الصَّلاة، فقد يُوجه أيضًا إلى الصبيان، ويكون على سبيل الحض والاستحباب، كما حثَّهم على الصوم وغيره]. اهـ.

وقد خرّج بعض العلماء على هذه القاعدة مسائل فرعية منها حكم مراجعة الزوجة المطلقة في أثناء الحيض، فذهب بعضهم إلى وجوب مراجعتها، إما بناءً على أن الأمر بالأمر أمر، وإما بناءً على أنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - أمر ابن عمر مباشرة أو أفتى فنقل عمر الفتوى لابنه، وذهب بعضهم إلى أن مراجعة المطلقة في الحيض لا تجب بناءً على أن الأمر بالأمر ليس أمرًا، ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر ابن عمر بالأمر مباشرة.

[قلت: لا أدري ما وجه صحة ما نُسب إلى الجمهور من هذا الكلام الذي فيه الإبطال للشريعة، فإن الله تعالى قد أوجب طاعة رسوله، وهو قد أوجب طاعة أميره ومبعوثه، كما ثبت في الصحيح قوله: ((من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني))، كما أمر بتبليغ دينه فقال: ((بلِّغُوا عني))، وبيقين يدري كل مسلم أمين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد تواتر عنه أنه كان يرسل الكثير من أصحابه إلى القرى والأمصار، ويأمرهم بأن يأمروا غيرهم من النَّاس بما أمرهم الله به ورسوله، ويبلغونهم دين الله ورسوله، وأقام عليهم الحجة بذلك، فمن أجابهم فقد نجا، ومن عصى أو زعم منهم أن الخطاب لا يلزمه إلا مباشرة فقد غوى، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذًا - رضي الله عنه - إلى اليمن فقال: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأنِّي رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعْلِمْهم أنَّ الله قد افترض عليهم خمسَ صلواتٍ في كلّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمْهم أنَّ الله افترض عليهم صدقةً في أموالهم، تُؤخَذ من أغنيائهم وتردُّ على فقرائهم))، فلمَّا مات النبي - صلى الله عليه وسلم - منع القوم الزَّكاة بمثل هذه الشُّبهة وقالوا: لَم نكُن نؤدِّيها إلاَّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يلزمُنا إلا خطابه مباشرة، فقام عليهم الصَّحابة الأكارم، وسلُّوا عليهم الصوارم، وذلَّلوا منهم الغواشم، وقال فيهم الصدّيق: "والله، لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه".

وقد تواتر إرسال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسلَه ونوابَه في الأقاليم ليأمروهم بما كلفهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونكتفي من ذلك بما خرجاه في الصحيح من حديث مالك بن الحويرث أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له ولأصحابه: ((لو رجعتم إلى بلادكم فعلَّمتموهم، مُروهم فليصلوا صلاة كذا في حين كذا وصلاة كذا في حين كذا))، وفي رواية: ((ارجعوا إلى أهليكم فعلِّموهم ومروهم وصلُّوا كما رأيْتموني أصلِّي))، وقد بلغ القوم ما كُلفوا به، وطبق المدعوون ما بُلغوا به، وقد خاب مَن زعم أنَّه غير مخاطب به، فأبطل شرع ربه، وقد فهم كلُّ الصَّحابة والمسلمين أنَّ الأمر بالأمر بالشَّيء مثل الأمر به سواء؛ لذلك سارع القوم في الامتثال، فخرج البخاري (3205) عن أبي موسى قال: مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((مروا أبا بكر فليصلِّ بالنَّاس))، فقالت عائشة: إنَّ أبا بكر رجُل كذا (بكاء) فقال مثله فقالت مثله، فقال: ((مروه فإنَّكنَّ صواحب يوسف))، فأم أبو بكر في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

ولابن ماجه قال: ((مروا بلالاً فليؤذِّن، ومروا أبا بكر فليصلِّ بالنَّاس))، قال: فأُمِر بلال فأذَّن، وأُمِر أبو بكر فصلَّى بالنَّاس.

فامتثل الصحابة للأمرِ بالأمرِ الوارد، ولم يلتفتوا إلى ذلك الاعتراض البارد، وكذلك فعل غيرهم، فروى أنس - رضي الله عنه - قال: رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجُلا يُهادى بين رجلين فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: نذر أن يمشي إلى بيت الله، قال: ((إن الله غني عن تعذيب هذا نفسه مره فليركب))، فأمره أن يركب، وقال - صلى الله عليه وسلم - في شأن أبي إسرائيل: ((مروه فليتكلَّم وليستظلَّ وليقعد وليتمَّ صومه))، وخرج مالك في الموطأ عن عمرو بن سليم الزرقي أنَّه "قيل لعمر بن الخطاب: إنَّ ههنا غلامًا يفاعًا من غسَّان ووارثه بالشَّام وله مال، وليس هنا إلاَّ ابنة عمّ له، فقال عمر: مروه فليوص لها، فأوْصى لها بمال"، وعن عائشة أنَّها كانت تقول: "مُروا أزواجكنَّ فليغسلوا عنهم أثر البول والغائط؛ فإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر بفعله"، فجعلت الأمر بالأمْر بالشيء والأمر به مباشرة سواء، وفي هذا كفاية، والله أعلم] اهـ.

دلالة الأمر بالشيء على النهي عن ضده:

[قلت: إن دلالة الأمر بالشيء إما أن تكون دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام، أما دلالة التضمن فهي دلالة اللفظ على جزء من معناه، وعليه؛ فلا نزاع بين العلماء في أن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ترك ذلك الشيء، مثل الأمر بالصلاة والصوم فإنه يتضمن النهي عن تركهما، وأما دلالة المطابقة فهي دلالة اللفظ على كامل معناه، كدلالة الأمر بالشئ على مُسمّى الأمر نفسه لا على ضده، وأما دلالة الالتزام فهي دلالة اللفظ على شيء خارج من معناه، وبهذا التقرير يتبين خطأ الأشاعرة القائلين بأنَّ الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده، وقد علم العقلاء أن ذلك الضدَّ خارج عن ذات الأمر وليس هو عينه، فهو بذلك يدخل في باب دلالة الاستِلْزام لا المطابقة، وقد اختلف العلماء في دلالة الاستلزام للأمر فقط]، بمعنى هل الأمر بالشيء يستلزم النهي عن فعل ضده أم لا؟ فذهب الجمهور إلى أن الأمر بالشيء يقتضي النَّهي عن ضده أو أضداده إن كان له أضداد كثيرة، [كالأمر بالقيام في الصلاة، فإن للقيام أضدادًا كثيرة كالقعود والركوع والسجود والاضطجاع، فيكون الأمر به نهيًا عن جميع أضداده]، واستدلُّوا بأن قالوا: إنَّ الأمر يقتضي الفورية، ولا يمكن الإتيان بالمأمور به إلا بترك التلبس بضده؛ لأنه يحول دون المبادرة إلى الفعل المأمور به، وما لا يتم فعل الواجب إلا بتركه فهو حرام، وقد رجح المصنف هذا القول لكن أخرج منه الواجب الموسع والمخير كخصال الكفارة فإنَّ هذا يصح فعله مع غيره، والموسع لا يحرم على المكلف التلبُّس بضدِّه قبل فعله إلاَّ حين يضيق الوقت فلا يتسع إلا له وحده.

واختار السرخسي والبزدوي أنَّ الأمر بالشيء يقتضي كراهة ضده، لأنه يدل على النهي بطريق الاقتضاء، وهي أضعف من دلالة المطابقة، فيكون الثابت بها أضعف من الثابت بدلالة النهي المنصوص عليه بصيغته، وهو الكراهة.

وذهب الجويني والغزالي وبعض المعتزلة إلى أنَّ الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضدّه ولا يقتضيه، فلا حكم له أصلا؛ لأنَّه مسكوت عنه، وأجيب عنه بأن دلالة الاستلزام عقلية لغوية وعرفية، وهي بذلك قوية، وإن كان من المعلوم أنَّ التحريم درجات من حيث طريق ثبوته.

[قلت: ومما يُدرج هنا مسألة النَّهي عن الشيء، فهل هو أمر بضده؟ والجواب بالتفصيل: فإن كان له ضد واحد فهو أمر بضدّه اتّفاقًا، كالنهي عن الكفر فهو أمر بالإيمان، وأمَّا إن كان له أضدادٌ كثيرة ففيه خلاف والصواب أنَّ أضداده تكون أمرًا مباحًا مخيرًا غير معين بواحد من الأضداد، كالنهي عن القيام يستلزم التَّخيير بين الجلوس أو الاضطجاع ونحوهما، والله أعلم]. اهـ.

ومن الفروع التي تنبني على هذه القاعدة ما لو قال الزوج: إن خالفت نهيي فأنت طالق، ثم أمرها بشيء ففعلت ضده فهل تطلق؟ فعلى مذهب الجمهور تُطلق، وعلى القول الآخر لا تطلق، ومن ذلك المأمور بالصلاة قائمًا، فهل إذا جلس أثِم؟ نعم على قول الجمهور، ويكره على قول السرخسي والبزدوي، ومن ذلك كذلك كون المصلي مأمورًا بالإنصات لقراءة الإمام، فهل يأثم من قرأ في أثناء قراءة الإمام؟ [قلت: والذي يبدو لي أنَّ القراءة سرًّا مع الإمام لا تُضادّ الإنصات أصلا؛ دليل ذلك ما خرَّجاه في الصحيح من حديث أبي هريرة قال: كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يسكت بين التَّكبير وبين القراءة إسكاتة، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، إسكاتك بين التَّكبير والقراءة ما تقول؟ قال: ((أقول: اللهُمَّ باعِدْ بيْني وبين خطاياي...))، وأظنُّ في رواية: "أرأيت إصماتك"، فسمَّى القراءة السرّيَّة سكوتًا وإصماتًا، فدلَّ على أنَّها لا تضادّ الإنصات، والله أعلم] اهـ.

ويرجع سبب الخلاف في هذه القاعدة إلى ثلاثة أسباب، أوَّلها: قولهم إنَّه لا تكليف إلا بفعل، وهل الترك فعل؟ والثاني: هل تُشترط الإرادة في الأمر والنهي أم لا؟ والثالث: مسألة اقتضاء الأمر الفورية من عدمه كما مر.

الأمر بعد الحظر:

وسواء فهم هذا الحظر من نهي صريح أو غيره، إذا ورد بعده أمر بذلك الفعل، ففيه خلاف، فرجح المصنف مذهب الشافعي والجمهور إلى أن الأمر بعد الحظر هو للإباحة، لأنه في غالب العرف الشرعي كذلك، دليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10]، وقوله أيضًا: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، ومن السنَّة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كنتُ نهيتُكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمْسِكوا ما بدا لكُم، فكلوا وادَّخروا))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كنتُ نَهيتُكم عن زيارة القبور فزُوروها))، وكلّها مباحة بالإجماع، وخالف قوم فقالوا: إنَّ الأمر يبقى على أصله، وهذا مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين، وقاسوه على مسألة النهي بعد الأمر، وأيدوه بأنَّ هذا الأمر يكون ناسخًا للحظر، وجائز ممكن أن يُنسخ التحريم بالإيجاب أو الإباحة أو الندب وإذا احتمل المعاني الثلاثة فالأصل حمله على معناه الأصلي وهو الوجوب، ومما يبطل العرف الشرعي المزعوم قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وهذا واجب، [قالوا: وإنما فُهمت الإباحة فيما ذكره الأولون من أدلةٍ، بالنظر إلى المعنى والإجماع الصارفَيْنِ للأمر، [قلت: وقد فصل بعضهم فقال بردِّ الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي، فإن كان واجبًا فواجبٌ كقوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، أو مباحًا فمباحٌ كالآيات السَّابقة]، وذهب آخرون كابن حزم والمجد ابن تيمية إلى أنَّه إن ورد الأمر بصيغة (افعل) ونحوها فهو للإباحة، وإن ورد مصرحًا فيه بلفظ الأمر كقوله: آمركم، فيحمل على الوجوب؛ لأنَّها نصٌّ صريح فيه بخلاف الأولى.

وتظهر ثمرة الخلاف في مسائل، منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((انطلق فحج مع امرأتك))، [كذا قال مقيده - والله يعفو عنا وعنه - ولست أدري من غيره قد ذكر مثله، وليس في هذا الحديث أصلا ولا في غيره أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن الحج مع زوجاتهم ثم أمرهم بذلك، وكذلك تمثيله بقوله تعالى: {فَكَاتِبُوَهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33]، فقد قال ابن عبدالبر في التمهيد (7/382): "وقد أنكر جماعة من أهل العلم على من جعل قوله - عزَّ وجلَّ -: {فَكَاتِبُوَهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} [النور: 33]، مثل قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10]، قال: وهذان الأمران ورد كل واحد منهما بعد حظر ومنع فكان معناهما الإباحة، وأما الأمر بالكتابة لمن ابتغاها من العبيد فلم يتقدم نهي من الله - عزَّ وجلَّ - بأن لا يكاتبوا". اهـ]، والصواب هو تمثيله بقوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222]، فإنها جاءت بعد حظر في قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} ، فهذا الذي فيه الخلاف المذكور.

الأمر في الواجبات الكفائية:

اختلف العلماء فيها، هل يتوجه الأمر إلى الكل ويسقط بفعل البعض، أم يتوجه إلى بعض مبهم؟ فذهب بعضهم إلى أنه موجه إلى بعض مبهم، بدليل أنه يسقط بفعل البعض؛ ويؤيده قوله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ} [آل عمران: 104]، وذهب الأكثرون إلى أنَّه موجَّه لكلّ واحد من الأمَّة ويسقط بفعل البعض، والرَّاجح أنَّه متوجّه إلى مجموع الأمَّة مجتمعة، لا إلى كلّ فرد بخصوصِه ولا إلى بعض مبهم، وقد مرَّ التَّفصيل في هذه المسألة.

تعلّق الأمر بالمعدوم:

اعلم أنَّ هذه المسألة كلاميَّة لا أثر لها في الفِقْه، أثارها المعتزلة ضدَّ الأشعريَّة فقالوا لهم: "لو كان كلام الله أزليًّا لتعلَّق الأمر بالمأمورين قبل وجودهم؛ لأنَّ كلام الله في الأزل عندهم أمر ونهي، ولا يمكن أن يكون أمر بلا مأمور"، فأجاب الأشاعِرة بأنَّ الأمر يتوجَّه للمعدوم، فلمَّا شُنِّع عليهم قالوا: إنَّ الأمر هنا ليس ناجزًا بل معلَّقًا على شرط الوجود، ثمَّ تحير القوم وتناقضوا في جوابهم، بسبب غيِّهم وضلالهم، كضلال المعتزلة الجهميِّين، بينما هدى الله السَّلف القائلين بأنَّ كلام الله [قديم النوع حديث الآحاد، فهو قديم لأنَّ كلامه صفة له في ذاته، وهو حديث الآحاد لأنَّه صفة فعلية أيضًا؛ دليل ذلك قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2]، وقال أيضًا: {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} [الشعراء: 5]، فهو يتكلَّم بما شاء متى شاء، وفي القول بأن كلام الله قبل تعلقه بالمخلوقين لا يسمَّى أمرًا ولا نهيًا"، نظر؛ لأنَّ كلامه متضمن للأمر والنهي، ولا يجوز أن يُقاس غير اللهِ بالله فيقال: لا يكون كلام الله متضمن للأمر إلاَّ إذا توجَّه الخطاب إلى المأمورين، قياسًا على العباد الذين لا يوصف شخص منهم بوصف حتى يقوم به وينجزه، كوصف الصانع مثلا بعد الصنعة، أمَّا عن الله فحرام أن يُقال إنَّ الله تعالى غير رزاق ولا رحيم، ولا مدبر معين، ولا خلاَّق محيٍ مميتٍ عليم، ولا كذا إلا بعد وجود المخلوقين، تعالى الله عن قول المشبهين، بل هذه الصفات الفعلية موجودة وأزليَّة في ذات الله قبل أن يخلق خلقه، ثمَّ يُحدثها في عباده شيئًا فشيئًا إلى الأبد، ولا يُقال قياسًا: لا يُسمَّى الله بها حتى يفعلها، والله الموفق للصَّواب].اهـ.

 

 

الدليل الثالث: الإجماع:

تعريفه: الإجماع في اللغة العزم المؤكَّد، يقال: أجمع أن يفعل كذا أي عزم عليه، واصطلاحًا: هو "اتِّفاق مجتهدي الأمَّة الإسلامية في عصر من العصور على حكم شرعي"، وفي قولنا: هو "اتفاق مجتهدي الأمَّة"، أي كلها، وفيه مسألتان:

أولاهما: هل مخالفة الواحد والاثنين تنقُض الإجماع؟ فذهب الجمهور إلى أنَّها لا تنقض الإجماع؛ لأنَّ كلَّ الأدلَّة الدَّالَّة على حجيَّته وعصمة الأمَّة تدلّ على ذلك، خلافًا للطَّبري الَّذي ادَّعى أنَّ مخالفة الواحد والاثنين لا تخرم الإجماع؛ لقوله - عليْه السَّلام -: ((عليكم بالسواد الأعظم))، [وقد يُجاب عنه بأنَّ فيه دليلاً على حجّيَّة الإجماع للأمْر بملازمة السَّواد الأعظم وهم أهل السنَّة، واجتناب الشذاذ من أهل البدع الَّذين لا عبرة بقولهم وخلافهم، والله أعلم].

وأما المسألة الثانية فهي إمكانية وقوع هذا الإجماع: وقد اختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال: أولاها قول الجمهور أنَّه ممكن الوقوع مطلقًا في عهد الصحابة وما بعدها؛ لأنه يكفي أن يتكلَّم به بعضهم ويسكت الباقون وهذا غير ممتنع، بل وقع من ذلك كثيرٌ، كإجماعهم على جمع القرآن في مصحف واحد، وغير ذلك، وقال بعضهم: هو غير مُمكن؛ لأنَّ بلاد الإسلام واسعة، وعلماء الشَّريعة متباعدون، وفي الطباع والفهوم مختلفون، فالعادة تقضي بامتناع إجماعهم، وتعذر النَّقل تواترًا عنهم؛ لأجل ذلك توسَّطت فرقة فقالت بوقوعه في عصر الصحابة دون من بعدهم، وفصَّل آخَرون بما إذا كانت المسألة من كلّيات الدّين ووجدت الدَّواعي للنَّظر فيها فالإجماع عليْها ممكن وإلاَّ فلا، وهو اختيار إمام الحرمين، وفي العصر الحاضر لا يَمتنع أن يَجتمع المجتهِدون من علماء المسلمين، ويتَّفقوا على حكم واحد وإن لم يكن في المسألة دليل قاطع؛ وذلك لتوافُر وسائل الاتِّصال.

أنواع الإجماع:

ينقسم الإجماع باعتِبارات متعدِّدة أهمها:

أ- أقسامه من جهة تصريح المجتهدين بالحكم: وله من هذه الجهة ثلاثة أقسام:

فإمَّا أن يكون إجْماعًا صريحًا وإن كان نادرًا، وإمَّا أن يكون إجماعًا سكوتيًّا بأن يصرِّح بعضهم بالحكم ويشتهر ويسكت عنه الباقون، وإمَّا أن يكون إجماعًا ضمنيًّا مستنتجًا من اختلاف أهل العصر على قولين أو أكثر، فلا يجوز إحداث قول جديد.

ب- تقسيمه من حيث قوة دلالته: فإما أن يكون قطعيًّا ويُعرف بالتَّصريح بالحكم من أهل الإجماع، أو عن طريق نقله إليْنا بطريق قطعي، وإلاَّ كان ظنّيًّا.

2- حجّيَّة الإجماع [الصَّريح]: ذهب الجماهير إلى حجيَّته مطلقًا؛ برهان ذلك قوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء: 115]، وقوله أيضًا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143]، فجعل الله الأمة شهداء على غيرهم من الأمم، وما ذاك إلاَّ لقبول قولهم إذا اتفقوا؛ لأن الشَّاهد قوله مقبول، ومن السنَّة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((سألت ربي أن لا تجتمع أمَّتي على ضلالة فأعطانيها))، وفي لفظ: ((إنَّ الله لا يجمع هذه الأمَّة على ضلالة أبدًا، وإنَّ يد الله مع الجماعة فاتَّبعوا السواد الأعظم؛ فإنَّه من شذَّ شذَّ في النَّار))، وله شواهد كثيرة، وذهب الظَّاهريَّة وهي رواية عن الإمام أحمد إلى أنَّ الحجَّة في إجماع الصَّحابة وحدهم؛ للأسباب السابقة، ولأنَّ عامَّة ما يحكى من إجماعات بعدهم غير صحيح، وشذَّت شرذمة فخالفت، وأتت من الباطل ما أتتْ، فادَّعت أنَّ الإجماع ليس بحجَّة فضلَّت.

حجّيَّة الإجماع السكوتي: ذهب الجمهور إلى حجّيَّته [إذا انتشر بدون مخالف]؛ لأنَّ السكوت عن الباطل حرام، لا يقدم عليه أئمَّة الإسلام، يزيد ذلك في البيان ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: ((لا تزال طائفةٌ من أمَّتي على الحقّ ظاهِرين لا يضرُّهم مَن خذلهم))، قالوا: ولأنَّ السكوت في معرض الحاجة إلى البيان بيان، والعالم يلزمه أن ينكر المنكر، فإذا سكت عن الإنكار دلَّ سكوته على موافقته على الفتوى، وذهب الشَّافعي إلى عدم انعقاده؛ إذ لا ينسب إلى ساكت قول غيره، فقد يسكت إذا غلب على ظنّه أنَّ غيره قد كفاه الإنكار، أو يسكت خوفًا من سلطان أو أنَّه لم ينظر في المسألة بعد، أو لتعارض الأدلَّة عنده؛ لأجل هذا ذهب بعضُهم إلى أنَّه يعدّ حجة ولكن ليس بإجْماع، وذهب بعضهم إلى أنَّه إن كان الَّذي تكلَّم في حكم المسألة حاكمًا فلا يكون سكوت الباقين دليلا على اتّفاقهم، وإلا كان دليلا، وبه قال ابنُ أبي هريرة من الشَّافعيَّة.

وأمَّا الإجماع الضمني: فقيل: ليس بحجَّة ولا إجماع؛ لأنَّ أصحاب ذلك العصر قد اختلفوا، فلا يستدلّ باختلافهم على الإجماع، فلا مانع إذًا من إحداث قول جديد، وذهب الأكثرون إلى حجّيَّة هذا الإجماع؛ لأنَّ إحداث قول ثالث لا يخلو من أمرين: إمَّا أن يكون هذا القول المحدث خطأ فلا يعتدّ به، وإما أن يُدَّعى بصوابه فيلزم منه أن تخلو الأمَّة في عصرٍ من قائم لله بالحجَّة، وهذا باطل دلَّ على بطلانه أدلَّة حجّيَّة الإجماع، فإذ ذلك كذلك، فيكون إحداث قول جديد باطلا كذلك، وفصَّل آخرون بين ما كان القول المحدث مزيدًا أصلا فلا يجوز، وبين ما كان جمعًا بين القولين السَّابقين فجائز، ومن أمثلته اختلافهم في متروك التَّسمية على قولين: أحدهما بتحريمه والآخر بحلّه، ثم جاء متأخّر وفرَّق بين متروك التسمية عمدا فحرام، وسهوًا فلا بأس به، وهذا هو الرَّاجح لأنَّ المسائل التي اختلف فيها السَّابقون على قولَين وفصل فيها المتأخرون أكثر من أن تحصى.

هل يشترط لتحقّق الإجماع انقراض العصر؟

المراد بانقراض العصر موت العلماء المجمعين على حكم الواقعة قبل رجوعهم عن رأيِهم، وهذا أمر اشترطه بعضُهم؛ لأنَّ العالم لا يمكنه من الرجوع عن رأْي رآه إلاَّ إذا تبيَّن له خطؤه، والصَّحيح أن انقراض العصر ليس شرطًا؛ لأنَّ الأمَّة إذا اتَّفقت على حكم فهي معصومة من الخطأ؛ فإذ ذلك كذلك فقد صار لنا بذلك ما بعد هذا الصواب هو الخطأ؛ وبالله الرشد.

مسألة انعقاد الإجماع بعد الخلاف:

وصورته ما لو اختلف أهل عصر في مسألة على قولين فأكثر، ثم رجع بعضهم عن قوله واتَّفقوا، [أو اتَّفق من بعدهم] فهل يعد هذا إجماعا؟

فذهب الأكثرون [في الصورة الأولى] إلى أنَّه إجماع، وذهب ابن الباقلاني والقاضي عبدالوهاب المالكي إلى أنَّه ليس بإجماع؛ لأن اختلافهم أولاً إجماع [ضمني] على تسويغ الخلاف، فلا ينقضه رجوع بعضهم عن رأيه، وقال الجويني: إن قرب العهد كان اتفاقهم بعد اختلافهم إجماعا، وإن تمادى الزَّمان واستقرَّ الخلاف فليس اتفاقهم بعد ذلك إجماعًا، و[التَّفصيل] هو الصَّحيح فإن حدث الإجماع بسبب تراجع المخالف عن قوله فيعد إجماعًا؛ لأنَّه لا عبرة بقول صرح صاحبه بخطئه فيه.

وأمَّا إذا حدث الإجماع بعد انقضاء أهل العصر السابق كما لو اختلف الصحابة على قولين ثم اتَّفق التَّابعون على أحدهما، فذهب بعضهم إلى أنَّه إجماع، وذهب آخرون إلى أنَّه ليس بإجماع وهو الصَّحيح؛ لأمور منها أنَّ المذاهب لا تموت بموت أصحابِها، ولأنَّ متَّبع القول الَّذي مات قائله لا يصدق عليه أنَّه اتبع غيرَ سبيل المؤمنين، كما أنَّه لا يصدق على هذه الصورة حديث: ((لا تجتمع أمَّتي على ضلالة)).

حكم الإجماعات الخاصَّة: كإجماع الخُلفاء الأربعة أو إجماع أهل المدينة أو أهل البصرة، ونحو ذلك، ممَّا لا حجَّة فيه؛ لأنَّ الإجماع لسائر الأمَّة إذا اتَّفقت، وأشهر ما وقع فيه الخلاف من تلكم الإجماعات إجماع أهل المدينة؛ لذلك فهو يحتاج إلى تفصيل، فأقول: إنَّ المقصود بعمل أهل المدينة: "هو ما جاء عن أصحاب القرون الثلاث المفضَّلة الأولى"، وهي عصر الصَّحابة والتابعين وتابعيهم فحسْب، وقد جعله القاضي عبدالوهاب المالكي على ضربين: نقلي واستدلالي، فالنقلي كنقلهم الصَّاع والمُدّ والأذان والمواقيت، فهذا حجَّة عند الجمهور، وأمَّا الاستدلالي فهو ما ذهبوا إليه عن طريق الاجتهاد، وهذا محلّ خلاف بين المالكية وغيرهم، بل نقل القاضي عبدالوهاب أنَّ المالكية مختلفون فيه على ثلاثة مذاهب: أحدها أنَّه ليس بحجة ولا مرجح، وهو قول الباقلاني والأبهري وأبي الفرج وغيرهم، وقيل بأنَّه مرجّح عند التعارض فقط ولا يستدلّ به منفردًا، وقيل بل هو حجَّة؛ لأنَّ المدينة قد ضمَّت الصَّحابة وأبناءهم وأبناء أبنائهم، فما اتَّفقوا عليه كان حجَّة، وخالفهم الجمهور بأنَّ الإجماع شامل الأمَّة بأسرها، [ولأنَّ الصحابة قد رحلوا إلى سائر الأمصار، وبثّوا العلم في مختلف الأقطار].

 

4- النوم: ذلك أنَّ صاحبه لا يتوجَّه إليه خطاب، ولا يلحقه عتاب، في أقواله ولا تروكه إذا قضاها في يقظته، أمَّا أفعاله في حقوق غيره، فيضمنها؛ لأن الضمان من حكم الوضع لا التكليف.

5- الإغماء: وهو مرض يتسبَّب في تعطل قوى الإدراك لدى الإنسان، وهو مانع أشد من النوم، وقد اختلف السلف الطيِّب في حكم قضاء ما مرَّ على صاحبه أثْناء إغمائه، فقال الشَّافعي: لا قضاء عليْه وهو الصَّحيح، وقالت الحنفيَّة إن كان طويلا فيُلحق بالمجنون في إسقاط القضاء، وإن كان قصيرًا فيلحق بالنائم في لزوم القضاء.

6- السكر: وقد اختُلف في عدِّه من موانع التَّكليف: فذهب طائفة إلى عدم عدِّه مانعًا؛ لأن صاحبه عاص وهو مكلف، ألا ترى أنَّ الله نهاه عن الصَّلاة حالة سكره فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43]، وخالفهم آخرون فقالوا: هو غير مكلف؛ لأنَّه كالمجنون الذي يهذي بما لا يدري، وفرق قوم آخرون بين أقواله كالقذف ونحوه فلا يؤاخذ بها، وبين أفعاله كالقتل ونحوه فيؤاخذ عليها، وفرق بعضُهم بين من سكر بقصد فيؤاخذ، أو من غير قصد فلا مؤاخذة، والأولى أن يُقال: إنَّ السكر درجات فمن وصل به إلى حالة لا يعقل فيها شيئًا فيمنع من التكليف وإلاَّ فلا، أمَّا أقواله وأفعاله المتعلقة بحقوق الآدميين فيؤاخذ عليها، لأنها من خطاب الوضع.

7- الإكراه: وهو حمل الغير على فعل لا يفعله بإرادته، وقد قسموه إلى ملجئ وغير ملجئ وما بينهما، فالملجئ لا يؤاخذ به، وهو ما ليس للمكره فيه قدرة على الامتناع، وأما غير الملجئ فما عدا ذلك من أنواع الإكراه كالتَّهديد بالقتل أو قطع طرف أو جرح أو ضرب مؤلم أو سجن، ويسميه الحنفيَّة الإكراه الملجئ وهو محل خلاف:

فذهبت طائفة إلى أنَّ الإكراه لا يمنع التكليف وهو مذهب الشَّافعية والحنفية وجمهور الأصوليين، وعبارة الحنفية: "لا يؤثر هذا الإكراه في أهلية الوجوب ولا الأداء"، وذهب أكثر المعتزلة إلى أن هذا الإكراه يمنع التكليف بما يوافق مراد الشارع كمَن أكره على فعل طاعة فلا يثاب، بخلاف من أكره على غير مُراد الشَّارع كالزنا وسبّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنِ امتنع كان مأجورًا، وإن أجاب لم يكن مأْزورًا.

أمَّا عن الحكم الفقهي لأحكام المكره فله تفصيله، الذي سيتبيَّن بتقسيمه:

1- الإكراه بحقّ: كمن أُكْرِه على بيع ماله لسداد دينه، ونحو ذلك فهذا ينفذ ويصحّ.

2- الإكراه بغير حق، وهذا لا يخلو من أن يكون قولا أو فعلا:

فأمَّا الأقوال ففيها تفصيل:

1- فإما أن تكون عقودا ماليَّة من بيع وشراء ونحوهما، فهذه لا تصحّ ولا تنعقد عند الجمهور، بينما جعلها الحنفيَّة فاسدة لا باطلة؛ لأنها موقوفة على رضا العاقدين.

2- وإما أن تكون عقود أبعاض كالنكاح والطلاق فلا تقع عند الجمهور، خلافًا للحنفية الذين أنفذوها قياسًا على وقوعها مع الهزل فمع عدم الرضا كذلك.

3- وإما أن تكون أقوالا محرمة كالنطق بكلمة الكفر ونحوها، مما تسقط المؤاخذة به.

وأما عن الإكراه بالأفعال فلا يخلو من أمور:

1- الإكراه على الأفعال الكفرية: كتمزيق المصحف والذبح للصنم، ونحو ذلك مما هو حق خالص لله، وهذا يرخص للمكره في فعله ما دام قلبه مطمئنًا بالإيمان على الصَّحيح الذي ذهب إليه الجمهور، بينما ذهب البعض إلى المؤاخذة بها؛ لحديث الرَّجل الذي أمر بالتقرب ولو ذبابًا، فقرَّبها فدخل النار، والجواب عليه أن هذا الرجل قد قرَّب الذباب مختارًا بدليل أنَّه علَّل عدم التَّقريب للصَّنم بعدم وجوده ما يقربه، ولم يعلِّلْه بالخوف من الله كما فعل الأوَّل، وقد يقال: إنَّ هذا في شرع من قبلنا فهو منسوخ، بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106]، وبرهان آخر وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله تجاوز لأمَّتي عن الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه)).

2- أو يكون الإكراه على حقّ غيره مما يُلحِق أذى بأبعاضه: كقتله أو جرحه أو قطع بعض أطرافه، مما لا يبيح له الإكراه ذلك اتّفاقًا ويأثم به، لكن اختلف في الاقتصاص منه؛ فقيل: يقتص من المكرَه (بالفتح) وهو الصواب لأنه المباشر، وقيل بل يُقتص من المكرِه (بالكسر) فقط وهو الآمر، وقيل بل يُقتص من كليهما، وقيل بسقوط القصاص.

3- وقد يكون الإكراه على فعل الزنا مما يفسد به عرض غيره: وفاعله مكرهاً مأزورًا، وفرق بعضهم بين المرأة إن أكرهت المرأة على الزنا فلا إثم عليها، وبين الرجل فيؤثم، واختلفوا في حدّه، والصَّواب أنه لا يُحدّ؛ لأنَّ الحدود تدرأ بالشّبهات، والإكراه منها، وأمَّا المكرِه فلا حدَّ عليه باتفاق، لكنَّه يُعزر.

هذا، وقد تكون مسألة تكليف المكره ذات صلة بمسألة أخرى وهي مسألة التَّكليف بما لا يطاق، التي صحَّحها أكثر الأشعرية، ولهذا ناسبهم هنا أن يقولوا بتكليف المكره، أمَّا على القول الصَّحيح من أنه لا يجوز التكليف بما لا يطاق فينبغي أن نقول هنا بمنع تكليف المكره، مع التفصيل السَّابق.


النهي:

النهي في اللغة: المنع، واصطلاحًا: "هو طلب الترك بالقول ممَّن هو أعلى"؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك لكان سؤالاً أو التِماسًا.

صيغة النهي:

للنهي صيغة واحدة متَّفق عليها وهي: (لا تفعل)، لم يخالف في ذلك إلا الأشعريَّة زاعمين أنَّها متردّدة بين عدَّة معان، وهناك صيغ أُخرى تدلّ على التَّرك، منها الخبر في معنى النهي، أو التَّصريح بلعن الله أو رسوله للفاعل، أو توعّده بالإثم والعذاب، أو إيجاب الحدّ عليه والعقاب، أو وصف فعله بأنَّه من صفات أهل الفساد.

اقتضاء النهي التحريم:

إنَّ النَّهي الَّذي صحبته قرينة تدلّ على التَّحريم يحمل على التَّحريم باتِّفاق، كالنَّهي عن الزنا، وأمَّا النَّهي الَّذي صحبته قرينة تدل على أنَّه للكراهة فيُحمل عليها مثل النَّهي عن السَّآمة من كتابة الدَّين، واختلفوا في حمل النهي الذي لم تصحبه قرينة تدل على أنه لشيء من ذلك، فذهب الجمهور إلى حمله على التحريم؛ برهان ذلك قوله تعالى: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أمرْتُكم بأمر فأْتُوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا))، ولأنَّ صيغة (لا تفعل) تقتضي لغة المنع الجازم، وهذا هو فهم الصحابة - رضي الله عنهم.

اقتضاء النهي الفوريَّة والاستِمرار:

اعلم أن النهي يقتضي الكف عن المنهي عنه فورًا وعلى الدوام إلا بقرينة؛ لأنه مفسدة يجب الابتعاد عنها فورًا وعلى الدوام.

النهي عن الشيء أمر بضد من أضداده:

سبق بيان أنَّ النهي إذا كان له ضدٌّ واحد فالنهي يستلزم الأمر بذلك الضدّ، كالنهي عن صوم أيَّام العيدين يقتضي الأمر بالفطر فيهما، [وكالنهي عن الشرك يستلزم الأمر بالتوحيد]، وإن كان له أضداد كثيرة فهو يستلزم التخيير غير المعين بين تلك الأضداد، [كما مثلنا بالنهي عن القيام سابقًا].

النهي بعد الأمر:

ذهب الجماهير وحُكي اتِّفاقًا إلى أنَّ النَّهي بعد الأمر يحمل على التَّحريم كما هو لوْ ورد ابتداءً غير مسبوق بأمر، [قلت: ولأنه يدل على النسخ صراحة، بيِّنة ذلك ما خرجه البخاري (2795) عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعث وقال لنا: ((إن لقِيتُم فلانًا وفلانا فحرِّقوهما بالنَّار))، قال: ثم أتيناه نودعه حين أردنا الخروج فقال: ((إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانا بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن أخذتموهما فاقتلوهما)).

وذهب بعضهم إلى التسوية بينه وبين الأمر بعد الحظر، وتوقف آخرون.

اقتضاء النهي الفساد:

تحرير محل النزاع في المسألة: أدخل بعض العلماء في محل النزاع نهي التحريم مع الكراهة، وقيَّده بعضهم بنهي التحريم، وأخرج بعضهم النهي في العبادات فإنه يقتضي بطلانها، وقسم بعضهم النهي ثلاثة أقسام:

أ- النهي عن الشيء لذاته: وهذا يقتضي الفساد اتّفاقًا، كالنهي عن بيع الكلب والنجاسات.

ب- النهي عن الشيء لوصف ملازم له: كصيام يوم النَّحر والنهي عن البيوع الربوية والغرر، فهذا يقتضي الفساد عند الجمهور خلافًا للحنفيَّة، وفرق بعضهم بين ما كان للعبادات فهو للبطلان، وما كان في المعاملات فللفساد، لكن قد صحَّ الأمر بردّ البيع الربوي وبطلانه، وعلى ذلك أجمعَ الصحابة والتابعون.

ج- النهي عن الشيء لأمر خارج عنه كالنهي عن الصلاة في الدار المغصوبة؟ أو البيع بعد النداء الثاني، فهذا لا يقتضي الفساد عند أكثر العلماء؛ [لأنَّ جهة الأمر منفكَّة عن جهة النَّهي، وقد أتى بشروط الفعل وأركانه، ولم يأت دليل خاصّ على بطلانه، وخالفهم ابن حزم فذهب إلى اقتضائه الفساد مطلقًا لأنَّ المكلَّف مأمور بفعل العبادة طاهر البدن والثياب والعمل، ومن خالف شيئًا من ذلك فلم يصل كما أُمِر، فصلاته إذا باطلة، وعمله رد، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ))، ولأن من عادة الشارع إذا حرم شيئًا أنه يضيق الطرق الموصلة إليه، وفي تصحيح المنهي عنه فتح لذريعة المحرم، وهذا ينافي عادة الشرع والله أعلم، وتوسّط الحنابلة فقالوا: إذا وقع النهي على شرط أو ركن فالعمل باطل، وإلا فلا؛ لأنَّ الشرط هو المؤثر في البطلان إذا لم يأتِ به كما أمر]. اهـ.

العام والخاص:

تعريف العام والخاص: العام اسم فاعل من العموم، بمعنى الشمول والإحاطة، وهو عند متقدمي الأصوليين: "ما عمَّ شيئين فصاعدًا"، بينما عرفه جمهور الأصوليين اصطلاحًا بأنه: "اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد"، فقولهم (المستغرق)، من الاستغراق وهو التناول مع الاستيعاب، وقولهم (لجميع ما يصلح له)، أي لجميع ما يدخل تحت اللفظ لغة أو عرفًا، وقولهم (بحسب وضع واحد)، قيد يخرج به المشترك اللفظي الذي يدل على معنيين بوضعين مختلفين، مثل القرْء الدَّال على الطهر والحيض، ولكنه لا يخرج المشترك الذي يكون عامًّا في أحد معنييه أو معانيه.

وأمَّا الخاص فضدّ العام، وفي الاصطلاح: "ما دل على معين محصور".

والعموم والخصوص وصفان نسبيَّان؛ إذ قد يكون اللفظ عاما بالنسبة إلى ما تحته من الأفراد، وخاصًّا بالنسبة إلى ما فوقه، مثل لفظ الإنسان فهو عامّ بالنسبة للرَّجل والمرأة، خاصّ بالنسبة للحيوان، وكقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قتل قتيلا فله سلبه))، فالسلَب خاص بالنسبة للغنيمة، وهو عامّ في لباس المحارب، فيشمل قليله وكثيره.

الفرق بين العام والمطلق: يتشابهان من حيث إنَّ لكلّ منهما عمومًا في الجملة، ويفترقان فيما يلي:

1- من حيث التعريف: فتعريف العام كما تقدم، وأما المطلق فهو "اللفظ الدال على الحقيقة من حيث هي من غير قيد"، أو هو: "اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه"، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3].

2- من حيث الحكم: فالعام شامل لجميع أفراده ولا تبرأ الذمة إلا بفعل الجميع، وأما المطلق فغير شامل للجميع، بل تبرأ الذمة بواحد منها، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، أي واحدة فقط.

[قلت: 3- من حيث الشمولية والاستيعاب: فعموم العام شمولي لكل أفراده، وعموم المطلق بدلي بين أحد أفراده، كقوله - عليه السَّلام - للمُجامِع: ((أعتق رقبة...))، أي: واحدة، بخلاف لو قال له: أعتق الرقاب، فيكون اللفظ عامًّا للجميع.

4- أن المُخَصص من العموم لا بد أن يكون معارضا للفظ العام لذلك يُستثنى منه، بخلاف المقيد فإنَّه جزء من أجزاء المطلق ولا يعارضه]. اهـ.

 

أقسام العام: يُقسم العام عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة:

التقسيم الأول: باعتبار طريق معرفة عمومه: فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- العام لغة: وهو ما عرف عمومه بالوضع اللغوي، ويكون بصيغ منها: كل، وجميع، والجمع المحلى بأل.

2- العام عقلاً: وهو ما عرف عمومه بطريق العقل، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا بلغ الماء قلَّتين لم يحمل الخبث))، ويفهم منه أن كل ماء دون القلتين فإنه يحمل الخبث ولو لم يتغير.

3- العام عرفًا: وهو ما عرف عمومه بعرف الشرع أو بعرف أهل اللغة، مثال الأول: عموم الخطاب الوارد بصيغة جمع الذكور فهو أيضًا للإناث، ومثال الثاني قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] فهو يدل من حيث العرف اللغوي على عموم النهي عما فيه أي أذى لهما.

التقسيم الثاني: تقسيم العموم من حيْث طريق معرفة عمومه: فهو لفظي ومعنوي:

فاللفظي هو المستفاد من الصيغ الآتي ذكرُها، والمعنوي هو المستفاد من المعنى، ويمكن تعريفه بأنَّه: "العموم المستفاد من طريق المعنى مع خصوص اللَّفظ الدَّالّ عليه من حيث الوضع".

أنواع العموم المعنوي:

1- العموم المستفاد بطريق الاستقراء: الذي به عُرفت القواعد الشرعية كقاعدة: (الضَّرر لا يزال بمثله) و(الضَّرورات تبيح المحظورات) و(الضَّرورة تقدَّر بقدرها) و(الميسور لا يسقط بالمعسور).

2- العموم المستفاد من اللفظ الموجه لواحد من الصَّحابة ما لم يقترن به ما يدل على الخصوصيَّة، كقوله - عليه السَّلام - لأبي بردة [في الأضحية]: ((اذبحها ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك))، فإن لم يقترن به ما يدل على الخصوصية، فهو على العموم وإن اختلفوا في طريق عمومه هل هو عن طريق العرف الشَّرعي أو بطريق القياس، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمر حين أرد أن يشتري الفرس الَّذي وهبه: ((لا تفعل))، ونحو ذلك، والصواب أنَّ العموم معروف عن طريق العرف الشرعي؛ لأنَّ الأصل في التشريع العموم وشمولية الرسالة للجميع كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ: 28]، وغير ذلك من الآيات، [قلت: يزيد ذلك بيانًا ويوضحه ما خرجه الترمذي (1597) وصحَّحه من حديث أميمة بنت رقيقة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما قولي لمائةِ امرأة كقولي لامرأة واحدة))، ولأحمد: ((إنَّما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة))، وخرج مسلم (43) عن عبدالله في قصة الذي عالج امرأة فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، فقال رجل من القوم: يا نبي الله، هذا له خاصَّة؟ قال: ((بل للنَّاس كافَّة))، وفي رواية له: فقال معاذ: يا رسول الله، هذا لهذا خاصَّة أو لنا عامَّة؟ قال: ((بل لكم عامَّة))، وخرج البخاري (1721) عن عبدالله بن معقل قال: "جلست إلى كعب بن عجرة - رضي الله عنه - فسألته عن الفدية فقال: نزلت فيَّ خاصَّة وهي لكم عامَّة ..."]، وهذا إجماع من الصحابة - رضي الله عنهم.

مسألة العموم الوارد على سبب: [وهذه مسألة متعلّقة بالماضية لذلك أدرجتُها هنا].

اعلم أنَّ العموم الوارد على سبب إمَّا أن يكون عموم اللَّفظ فيه جزءًا من جواب السُّؤال الَّذي لا يتمّ الجواب إلاَّ به، كقوله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا سُئل: أنتوضَّأ بماء البحر، فقال: ((هو الطَّهور ماؤه))، أو يكون عموم اللفظ زائدًا عن الجواب يُمكن فهمه مستقلاّ بنفسه، كقوله في الحديث السابق: ((الحلّ ميتتُه))، فهذا العموم الأخير خارج عن محلّ النزاع؛ لأنَّه بيان لحكم لم يسأل عنه فهو كالحكم المبتدأ الذي لا يعرف سببه، فيكون عامًّا لكلّ ميتات البحر إلاَّ ما قام الدَّليل على خصوصه، وأمَّا الأوَّل فهو موضع نزاع، ومن أمثلته آية الظِّهار فإنَّها نزلت عندما ظاهر أوس بن الصامت من زوجته فأتت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تشكو إليه حالها وحال أولادها، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن بئر بضاعة: ((الماء طهور لا ينجسه شيء))، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الخراج بالضمان))، وذلك حين سُئِل عمَّنِ اشترى عبدًا فاستعمله ثمَّ وجد فيه عيبًا فردَّه، هل يضمن أجرة استعماله؟ وكلّ هذه الأمور جواب عامّ في موضع السؤال في حكم تعميمها قولان مشهوران:

أحدهما منسوب للشَّافعي والمزني وأبي ثور وأبي حنيفة، وهو أنَّه يجب قصر العامّ على سببه؛ لأنَّ دقَّة نقل أسباب النزول والعناية بها يدلّ على أنَّها ذات أثر في فهم الآيات، ولولا ذلك لما كان لنقل الأسباب فائدة، وخالفهم الجماهير فقالوا: إنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، [للأدلَّة السابقة] ولأنَّ الصَّحابة والتَّابعين استدلّوا بالآيات والأحاديث العامَّة الواردة على أسباب خاصَّة في عمومها، ولم يقصروها على أسبابها، كآيات اللعان والظهار والسرقة والمواريث وغيرها، وما ذاك إلاَّ بعلمهم أنَّ الحكم إنَّما يؤخذ من نصّ الشَّارع، والذي يُعد عدوله عن الجواب الخاص إلى العموم دليل على أنَّه أراد العموم، يؤيد ذلك ما ثبت في الصَّحيحين من استشهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله تعالى: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54]، على علي - رضي الله عنه - عندما أيقظه النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وفاطمة لصلاة الليل، فقال عليّ: إن أرواحنا بيد الله، إن شاء بعثنا، فولَّى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يضرب فخِذه، وقرأ الآية مع أنَّها نزلت في الكفَّار.

ومما ترتَّب من خلاف حول هذه المسألة اختلافهم في حلّ متروك التسمية، كما في قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121]، فذهب الشَّافعيُّ إلى حلّ متروك التسمية عمدًا، وقصر الآية على سبب نزولها فإنَّها نزلت فيما يذكر عليه اسم غير الله، وعمَّ ذلك الجمهور واستثنى بعضُهم ما لو تركت التَّسمية نسيانًا.

3- عموم الخطاب الموجه للرسول - صلى الله عليه وسلم -: فهو كذلك لأمته تبعا له ما لم يأت دليل على خصوصيَّته به كزواجه بأكثر من أربع، فإن لم تقترن به قرينة فالأصل العموم، خلافًا لقوم قد خصوه؛ لأنَّ من عادة العرب توجيه الخطاب لكبير القوم والمراد جميعهم، وأيَّدوا ذلك بالآيات الدَّالَّة على الاقتداء بالرَّسول - صلى الله عليه وسلم - واتباعه.

وترتب على هذا الخلاف خلاف آخر وهو: هل إذا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلا على خلاف القول، فهل يكون فعلُه شرعًا لنا فيخصص العموم أو ينسخه ونحو ذلك لأنه - عليه السلام - داخل في الخطاب؟ أو يقال: ليس فعله داخلا في الخطاب وأفعاله خاصة به، كما ثبت عنه من النَّهي عن استقبال القبلة واستِدْبارها عند قضاء الحاجة، وثبت عنه أنَّه استقبلها، فهل يُحمع بينه وبين فعله، أم يُقال إنَّ هذا الفعل خاصّ به؟ فيه الخلاف المعروف.

4- عموم المفهوم: وهو قسمان:

أ- مفهوم الموافقة: مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10]، فدلَّت الآية من حيث المفهوم على عموم النهي عن كل تصرف يفوِّت على اليتيم ماله، سواء أكان أكلا أم لبسًا أو حرقًا أم صدقة.

ب- مفهوم المخالفة: مثاله قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا بلغ الماء قلَّتينِ لم يحمل الخبث))، وقد شرحناه سابقًا، وبيَّنَّا أن مفهومه يدل على أن كل ماء نقص عن القلتين فقد يحمل الخبث تغير أو لم يتغيَّر.

5- عموم العلة المنصوصة أو المومأ إليها: إذا نصَّ الشَّارع على تعليل حكم بعلة متعدّية توجد في المنصوص عليه وفي غيره، فإنَّ هذه العلة تفيد عموم الحكم المعلق عليها لجميع الصور المشابهة للمنصوص عليها، وكذلك إذا ما أومأ الشارع إلى العلَّة، كأن يكون الوصف الذي رتَّب عليه الحكم لو لم يكن علَّة للحكم لكان ذكره عديم الفائدة.

مثال العلَّة المنصوصة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّما جعل الاستئذان من أجل البصر))، فهذه العلَّة عامَّة في تحريم الاطلاع على عورات النَّاس كيفما كان الأمر، ومثال العلَّة المومأ إليها قول الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عن بيع الرُّطب بالتَّمر: ((أينقص الرُّطب إذا جفَّ؟)) قالوا: نعم، قال: ((فلا إذًا)).

فالحديث أومأ إلى أنَّ علَّة التحريم نقصان الرطب عن التَّمر في الكيل إذا يبس، فأخذوا من ذلك تحريم بيع كلّ مطعوم [يابس] بجنسه [طريًّا]، كالزَّبيب بالعنب ونحو ذلك.

التقسيم الثاني: باعتبار استعماله في عمومه أو عدمه [أو فيما يراد منه]: وينقسم إلى:

1- عام أريد به العموم قطعًا ولا يدخلُه التخصيص، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282].

2- عام يراد به العموم وقد يدخله التخصيص: وهو المسمَّى بالعام المطلق أي الذي لم يقترن به ما يدل على تخصيصه ولا ما يدل على أنَّه غير قابل للتخصيص.

3- عام أريد به الخصوص: مثل قوله تعالى {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، فلفظ الناس عام، لكن المراد به في الأولى نعيم بن مسعود أو ركب عبد القيس، والمراد به في الثَّانية أبو سفيان ومن معه من الأحزاب.

الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص: من أهم الفروق التي ذكروها ما يلي:

1- العام المخصوص حقيقة في الباقي عند كثير من العلماء، والعام الذي أريد به الخصوص مجاز.

2- العام المخصوص ما كان مخصّصه لفظيًّا، والآخر ما كان مخصصه عقليًّا.

3- العام المخصوص ما كان مخصّصه منفصلاً، والعام المراد به الخصوص ما كان مخصصه متصلاً.

4- العام المخصوص ما كان الباقي تحته بعد التخصيص أكثر، والآخر ما كان المخرج منه أكثر.

صيغ العموم المشتهرة: من المناسب أن نقسم صيغ العموم المشتهرة إلى مجموعات متجانسة كما يلي:

1- لفظ كل وجميع وملحقاتهما: كأجمعين وأكتعين وعامة وقاطبة، سواء أضيفت إلى نكرة مفردة كقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ} [آل عمران: 185]، أو أضيفت إلى معرفة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كلكم راع..))، أو أضيفت إلى مفرد معرفة [كقوله: ((كل الناس يغدو...))،]، أو حذف المضاف إليه وناب عنه التنوين كقوله تعالى: {كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ} [النور: 41]، فكلّها تفيد العموم ابتداءً وتبعًا ما لم يسبقها نفي، وكذا: جميع، فلا يضاف إلا إلى معرفة ولو حذف المضاف كقوله تعالى: {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53]، وقد تنصب على الحال تأكيدًا كقوله تعالى: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} [هود: 55]، وأمَّا أجْمع وأجْمعون وأكتعون وأبصعون وما جرى مجراها، فلا تأتي إلاَّ تابعة مؤكّدة لما قبلها ولا تضاف لما بعدها.

2- الجمع المضاف كقوله: "في أولادكم"، أو المحلى بـ "ال" الجنسيَّة لا العهدية، كقوله: {إِنَّ المُسْلِمِينَ..} ، فإن كانت العهديَّة فلا يستغرق ما يصلح له لغة، ولكنَّه يشمل المعهودين قلّوا أو كثروا، ويلحق بالجمع اسم الجمع المحلى بأل الجنسية، ومنه قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس: 1] فـ "ال" الجنسية تعم الأفراد والجموع على الصحيح.

3- اسم الجنس المحلَّى بأل والمضاف إلى معرفة: أمَّا المحلَّى بأل الجنسيَّة فقد قال بعمومه كثير من العلماء، سواء أكان مفردًا كالرجل والمرأة، أو كان مما يستوي فيه القليل والكثير وهو المسمى باسم الجنس الإفرادي، كالذهب والفضة والتراب، أو كان ممَّا لا واحد له من لفظه كالرهط والناس ويسمى اسم الجنس الجمعي.

وأمَّا اسم الجنس المضاف إلى معرفة فإن كان ممَّا يصدق على القليل والكثير - كالذَّهب والفضة والأرض - فيعمّ كقوله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ} [الأحزاب: 27]، وإن كان ممَّا لا يصدق على القليل والكثير، فإنَّه قد يأتي عامًّا أو غير عام، مثال العام قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187].

4- أسماء الشرط: وهي (من) التي تعم العقلاء، و(ما) تعم غير العقلاء، و(إذا) و(متى) كقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24]، ومثال الثانية قولك: متى تحضر أحضرْ معك.

و (حيث) و(أين) و(أنى) وهي تفيد عموم المكان، وكثيرًا ما تزاد بعدها (ما)، مثل قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 150]، وقوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا} [النساء: 78]، وأما (أي) فبحسب ما تضاف إليْه، فقد يكون عمومها في الأشخاص أو الأزمان أو الأمكنة ونحو ذلك، بحسب السياق.

5- الأسماء الموصولة: أطلق ابن الحاجب وغيره القول بعمومها، والتحقيق أنَّ هذا في بعضها لا كلها، وهي:

أ- (من) الموصولة، وهي للعقلاء أو غيرهم، كقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} [البقرة: 184].

ب – (ما) الموصولة، وهي لغير العاقل غالبًا، كقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29].

ج – (الذي) و(التي) وفروعهما وهذه الموصولات لا تكون عامة إلا إذا كانت جنسية، فإن كانت عهدية فلا تعم، مثال العام منها قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر: 33]، ومثال الغير العام قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ} [غافر: 30]، ومن ذلك كذلك كل ما ورد في صفات الباري - جلَّ وعلا.

د- (أي) الموصولة: وقد أنكر عمومها جماعة، ومن عمومها قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِياًّ} [مريم: 69].

6- أسماء الاستفهام: لم يدرجها إمام الحرمين والغزالي في صيغ العموم؛ لأنَّها بمعنى أحد الشيئين أو الأشياء، وهي بهذا تشبه المطلق في أنَّ كلاًّ منهما عمومه بدلي لا شمولي، وأجاب العلائي بأنَّها تفارق المطلق في أنَّها تدل على الأفراد بعينها، والمطلق إنَّما يدلّ على الماهية الذّهنيَّة من حيث هي، ولا دلالة له على الأفراد.

والمشهور من أسماء الاستفهام التي تعمُّ ما يلي:

أ- (من) للعقلاء، ومثالها قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} [الإسراء: 51].

ب- (ما) لغير العقلاء غالبًا، كقوله تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} [الأنبياء: 52].

ج- (أين) و(أنى) ويستفهم بها عن المكان، كقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26]، وقوله: {أَنَّى لَكِ هَذَا} [آل عمران: 37].

د- (متى) و(أيان) ويستفهم بهما عن الزمان، كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ} [الإسراء: 51]، وقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187].

هـ- (أي) الاستفهامية: ومثالها قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} [الأنعام: 19].

و- (كم) الاستفهامية: ومثالها قوله تعالى: {كَمْ لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19].

7- الاسم النكرة في سياق النفي وما في معناه: كقوله تعالى: {لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [البقرة: 255]، وقد تصحبها (مِن) فتقوي دلالتها، كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران: 62]، والمراد بـ (ما في معنى النفي): النهي، والشرط، والاستفهام الإنكاري كقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياًّ} [مريم: 65].

- أما الفعل في سياق النفي أو النهي أو الاستفهام الإنكاري أو الشرط ففي عمومه خلاف، فقالت المالكيَّة والشافعيَّة والحنابلة: إنه للعموم؛ لأنه يُؤوّل إلى مصدر وزمان، كقوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى} [الأعلى: 13]، [فكأنه قال: لا موت فيها ولا حياة فيعم]، بينما ذهب الحنفيَّة إلى أنَّه لا يعمّ؛ لأنَّ الفعل لا أفراد له ولا عموم، والتَّعميم بالتَّأويل إلى مصدر لا يصحّ.

وثمرة الخلاف تتَّضح في التَّخصيص بالنية: فالجمهور أجازوا في مثل قوله: والله لا أبيع ولا أشتري، أن يستثني ما يستهلكه، ولا يحنث إلاَّ بما يتاجر به، وقال الحنفيَّة لا يصحّ التَّخصيص بالنّيَّة؛ لأنَّ التخصيص فرع عن العموم، ولا عموم هنا؛ وعليه فيحنث بكل ما يسمى بيعًا أو شراء لغة.

- ومن ذلك اختلافهم في مفعول الفعل المتعدي إذا حذف هل يكون عامًّا؟ فالجمهور على أنه عام في مفعولاته، خلافًا للحنفية، مثال ذلك مسألة التخصيص بالنية، فعند الجمهور لو قال: والله لا آكل، ونوى مأكولا مُعَينا صحَّ ولا يحنث بأكل غيره؛ [لأنه عم ثم خصص]، وعند أبي حنيفة لا يصحّ التخصيص بالنية؛ لعدم وجود المفعول العام، فيحنث بأكل أي شيء.

8- الظروف الدالة على الاستمرار: مثل (أبدًا) و(سرمدًا) و(دائمًا) و(أبد الآبدين) و(دهر الداهرين) ونحو ذلك، فإنَّها تفيد عموم الأزمنة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لولا حواء لم تخُن أنثى زوجها الدهر))؛ متَّفق عليه، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.

الخلاف في وضع صيغة للعموم:

ذهب جمهور أهل السنَّة إلى أنَّ هذه الصيغ موضوعة للعموم إلاَّ أن توجد قرينة صارفة إلى الخصوص، وخالف في ذلك طائفتان، أولاهما: الواقفية بدعوى أن تلك الصيغ مشتركة مجملة مع عدم الدليل على البيان، والثَّانية: هم أرباب أخص الخصوص القائلين بِحملها على أقل ما يطلق عليه اللفظ، وتوقَّفوا فيما زاد على ذلك لأنَّ دلالته مشكوك فيها، وهذه دعوى باطلة؛ لأنَّ الأصل في هذه الصيغ هو العموم، ألا ترى أنَّ نوحًا - عليه السَّلام - قد تمسَّك بعموم قوله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} ، فدعا ربَّه قائلا: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45]، فبين له ربُّه أن المراد بالأهل هم عموم المؤمنين معه، وكذلك فهم العمومَ إبراهيمُ - عليه السلام - حتى جاءه التخصيص، دليل ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ} [العنكبوت: 31، 32]، [قلت: والأدلة في هذا الباب من الوحيين كثيرة، ومضى بعضها في مسألة أنواع العموم المعنوي، وههنا دليل آخر صريح في المطلوب خرجه البخاري في الصحيح (5876) عن عبدالله في صفة التشهُّد، وفيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإذا جلس أحدكم في الصَّلاة فليقل: التحيَّات لله والصَّلوات والطيّبات، السَّلام عليْك أيُّها النَّبيّ ورحمة الله وبركاته، السَّلام عليْنا وعلى عباد الله الصَّالحين، فإنَّه إذا قال ذلك أصاب كلّ عبد صالح في السَّماء والأرض))، فنصَّ على أنَّ لفظة الصَّالحين شاملة لكلّ عبد صالح في السَّماء والأرض]. اهـ.

قوة دلالة العام:

إن دلالة العام الوارد على سبب خاص أو على أخص الخصوص قطعية عند عامة العلماء، لكن اختلفوا في دلالة العام على ثبوت الحكم لأفراده أهي قطعية أم ظنية؟ فذهبت الحنفية إلى أن العام قبل التخصيص قطعي الدلالة على كل فرد من أفراده؛ [لحديث ابن مسعود الماضي في التشهد وفيه تفسير لعموم لفظ "الصَّالحين"، فإنه قال: ((فإذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض))، وهو نصّ في المطلوب]، ولأنَّ الألفاظ تدل على معانيها في اللّغة قطعًا، وإلاَّ للزم التلبيس وارتفاع الأمان والتَّكليف بالمحال، بينما ذهب الجمهور إلى أنَّ دلالة العام على كلّ أفراده ظنّيَّة لاحتمال التَّخصيص وكثرة وجوده.

وقد ترتَّب على هذا الخلاف خلاف في مسائل أصولية وفرعية منها تخصيص عموم القرآن والسنة المتواترة بالآحاد:

فقد ذهب الحنفيَّة إلى أنَّ العام في القرآن والسنة المتواترة قطعيَّان لا يجوز تخصيصهما بخبر الآحاد لأنه ظني، وذهب الجمهور إلى جواز ذلك، ومن الفروع المبنية على هذا الأصل:

أ- أنَّ الحنفية يوجبون الزكاة في كل خارج من الأرض ومن غير اشتراط لنصاب، لعموم الآية: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267]، ولا يخصونها بالسنّة الواردة: ((فيما سقت السماء والعيون العشر))، وغيرها.

حكم العام بعد التخصيص:

هو حجَّة فيما بقي عند عامَّة العلماء لإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على ذلك؛ لأنهم لم يتوقفوا عن العمل به، فمن ذلك احتجاج علي وعثمان - رضي الله عنهما - على تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين بقوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23]، وعلى إباحته بقوله تعالى: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]، فقالا: "أحلَّتهما آية وحرمتهما آية"، مع أنَّ كليْهِما عام مخصوص بالإجماع، وأنَّه إنَّما يحرم الجمع بينهما في الوطء والنّكاح فقط، لا ملك الأختين الرقيقتَين.

العام المحفوظ والمخصوص:

اعلم أنَّ العام المحفوظ عندهم أقوى من العام المخصوص؛ لأنَّ كثرة المخصّصات تضعف دلالة العام؛ لذلك يقدم العام المحفوظ عند التَّعارض على العام المخصوص، بل يقدم المختلف في تخصيصه على المتَّفق على تخصيصه، كما ذكر الجويني والشنقيطي، وأمَّا الحنفيَّة فقد سبق أنَّهم يعدّون العام المحفوظ قطعي الدّلالة، وأمَّا العام المخصوص فهو ظني الدلالة؛ لما فيه من احتمال كون هذا الفرد أو ذاك داخلا في الدَّليل المخصص بقياس أو نحوه.

التخصيص:

تعريفه: التَّخصيص في اللغة الإفراد والتمييز، وفي الاصطلاح: بيان أنَّ المراد بالعام بعض أفراده، وقيل غير ذلك، وهذا أصحّها؛ فإنه يشمل التخصيص ببيان خروج بعض الأفراد، والتخصيص بقصر العام على بعض الأفراد، كما أنه يدل على أن الأفراد الخارجة عن العام لم تكن مرادة للشارع عند إطلاق اللفظ العام، وهذا هو أهم الفروق بين التخصيص ونسخ الحكم عن بعض أفراد العام؛ لأنَّ التخصيص بيان والنسخ إلغاء وإزالة.

أركان التخصيص:

هي المخصِّص والمخصَّص.

فالمخصِّص: هو الدليل الأخصّ الدَّالّ على خروج بعض أفراد العام عن حكمه، أو على أن العام لم يرد به جميع مسمياته.

والمخصَّص أو المخصوص هو العام الذي قام الدليل على أنه لم يرد به جميع مسمياته.

الفرق بين النسخ والتخصيص: من أهم الفروق ما يلي:

1- أنَّ التخصيص بيان لعدم دخول بعض أفراد العام فيه، والنسخ رفع الحكم بعد ثبوته في بعض الأزمان.

2- التَّخصيص لا يكون إلاَّ لبعض الأفراد، وأمَّا النسخ فإنَّه شامل لجميع الأفراد، وقد يرفع الحكم عن بعضهم دون بعض.

3- التَّخصيص يدخل الأخبار، والنسخ لا يدخلها؛ لأن الخبر لا يمكن تبديله ورفعه.

4- التخصيص قد يكون مقارنًا، والنسخ لا يكون إلاَّ متأخرًا.

5- تخصيص المقطوع بالمظنون جائز، بخلاف نسخ المقطوع بالمظنون.

شروط التخصيص عند الحنفية: اشترط أكثرهم شرطين للتخصيص هما:

1- أن يكون المخصص مقارنًا للعامّ المخصوص، فلو تقدَّم لكان منسوخًا بالعام، ولو تأخَّر لكان ناسخًا لما يقابله من أفراد العام، والجمهور لا يشترطون ذلك.

2- أن يكون مستقلا في إفادته، فلا يروْن التخصيص بالمتصل، والجمهور يقسمون المخصصات إلى متصلة ومنفصلة.

أقسام المخصصات:

متَّصلة ومنفصلة.

فالمتصلة هي:

1- الاستثناء: وهو "إخراج بعض الجملة عنها بصيغ خاصة"، مثل: إلا، وسوى، وغير، وخلا، وعدا، وحاشا، ولكن، كقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] فهو عام؛ لأن (من) الشرطية من صيغ العموم، ثم قوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ} خصوص خرج من عموم الآية.

2- الشرط: كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا))، فإن (خيارهم) مفرد مضاف إلى معرفة فيعم، ثم قوله: ((إذا فقهوا))، شرط أخرج مَن لم يتفقَّه في الدّين.

ثمَّ اعلم أن الشرط الذي يحصل به التخصيص هو الشرط اللغوي وهو تعليق الحكم على وصف بإن أو ما جرى مجراها من الصيغ، مثل: ما، من، إذا، وقيل يحصل التخصيص بالشرط العقلي والشرعي، والصَّواب أنَّهما من المخصصات المنفصلة؛ لأنَّ الشروط أربعة أنواع: شروط شرعية، مثل الطهارة للصلاة، وشروط عقلية، مثل: الحياة للعلم، وشروط عادية، كالسلّم لصعود السطح، وشروط لغوية كما مضى، وهي عبارة عن أسباب؛ لأن السبب: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم لذاته، والشروط اللغوية كذلك، كما لو قال الزوج: إن خرجت بغير إذني فأنت طالق، فيكون قد جعل هذا الخروج سببًا لوقوع الطلاق .

حكم الشرط المتعقب لجمل متعاطفة:

قيل يعود إلى الجملة الأخيرة كالاستثناء، والصواب قول الجمهور وهو عوده على الجميع كقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، ولا يختلفون في أنَّ المراد: فمن لم يجد جميع ما تقدم.

3- الصفة: ويقصد بها كل معنى يميز بعض المسميات، فيشمل ما يسميه النحويون نعتًا أو حالا أو ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا وغير ذلك، فمثال التَّخصيص بالصفة قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]. فقوله: (من فتياتكم) عام؛ لأنه جمع مضاف إلى معرفة فيشمل كل الإماء، وقوله: (المؤمنات)، صفة خصّصت من يجوز نكاحهن من الإماء وهنَّ المؤمنات.

4- الغاية: وهي نهاية الشيء ومنقَطَعُه، ولها لفظان: حتى، إلى، كقوله تعالى عن النساء: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ} فإنه نهي عامّ يقتضي الدوام والاستمرارية كما سبق، ثمَّ قوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ}، تخصيص بالغاية للعموم المستفاد من النهي السابق، ثمَّ في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222]، تخصيص آخر بالشَّرط؛ وهو الغسل؛ وخالف في هذا الحنفية، فأجازوا الوطء بعد الطهر وإن لم تغتسل.

وهل تدخل الغاية في المغيَّا؟ قيل: بدخول ما بعد حرف الغاية فيما قبله، وقال الجمهور بعدم دخوله، وقيل: إن كان ما بعد حرف الغاية من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه وإلا فلا، ومثاله لو قال: بعتُك هذا الشجر إلى تلك الشجرة، فعلى القول الأوَّل تدخل، وعلى الثَّاني لا تدخل، وعلى الثَّالث إن كانت تلك الشجرة من جنس الشجر المبيع فهي داخلة وإن كانت نوعًا آخر من الشَّجر فلا تدخل، وهو الصَّواب؛ لأن القول الأول يشكل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، والليل غير داخل في الصيام باتّفاق، والقول الثاني يشكل عليه قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ} [المائدة: 6]، والمرافق داخلة فيما يجب غسله.

5- البدل: كقوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97]، فقوله: (على الناس)، عموم، وقوله: (من استطاع) بدل مخصص للعموم.

وقد خالف الحنفية والشاطبي في عدّ الأنواع السابقة من المخصصات، بدعوى أن الكلام لا يفهم معناه إلا بعد تمامه، وأن هذه المخصصات لا تستقل بالإفادة، فلو قطعت عمَّا قبلها لم تفد شيئًا، فوجب أن ننظر إلى الكلام كله دفعة واحدة، فيبقي الكلام عامًّا محفوظًا، وهذا حقّ، ولكن الجمهور نظروا إلى معنى اللَّفظ المفرد لغة، فإذا وجدوه عامًّا وضعًا ثمَّ جاء بعده في الكلام ما يخصّصه عدّوه مخصوصًا في الاستعمال.

[حكم العمل بمفهوم المخالفة من هذه الصيغ]: أمَّا الحنفيَّة فلا يروْن العمل بهذه المفاهيم كما سيأتي في باب المفهوم، ولا يحكمون له بضدّ حكمه، ولكنَّه عندهم مسكوت عنه يطلب حكمه مما سواه، وعمل به الجمهور، [قلت: والذي يبدو أنَّ مفهوم المخالفة إن كان له ضدّ واحد فهو حجَّة، فإن كان له عدَّة أضداد فهو محلّ نظر، والله أعلم].

القواعد المتعلقة بالمخصصات المتصلة:

شروط الاستثناء: منها ما هو محل وفاق ومنها ما هو محل خلاف، وفيما يلي بيانها:

1- الاتّصال: ذهب الجمهور إلى اشتراط اتصال الاستثناء بالمستثنى منه لفظًا أو حكمًا؛ لأنَّ تأخُّر النطق بالاستثناء دليل على أنَّه لم يكن مرادًا عند التكلم باللفظ السابق، ولو جاز الاستثناء المتأخر لما حصل الوثوق بعهد ولا عقد، ولا حنث حالف قط، لأنه سوف يستثني من كلامه متى ما شاء، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن حلف على يمينٍ ورأى غيرَها خيرًا منْها فليكفِّرْ عن يَمينه وليأْتِ الَّذي هو خير))، ولم يأمره بالاستثناء، [لأنه قد مضى أوانه، بينما أرشد الذي يعقد اليمين مستقبلا بالاستثناء فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من حلف فاستثنى فإن شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث))]، وذهب عطاء والحسن إلى جواز تأخير الاستثناء ما دام في المجلس؛ لأنَّ له حكم الاتصال ولو تخلله سكوت أو كلام في أمر آخر، قياسًا على خيار المجلس، بينما نقل عن ابن عباس جواز الاستثناء المتأخّر شهرًا أو شهرين، وقيل مطلقًا، وصحَّ عنه: ولو إلى سنة، واستدلَّ عليه بقوله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، قال: "إذا ذكر استثنى"، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استثنى من كلامه بعد شهر لمَّا نزلت عليه هذه الآية، وتأوَّل القاضي أبو بكر هذا القول بما لو نوى الاستثناء عند كلامه الأول، ولم ينطق به إلاَّ متأخِّرًا، هذا الخلاف كله في اليمين المنعقدة التي تكون للمستقبل، أما غيرها فلا استثناء فيها كاليمين [الغموس] أو التي لدفع دعوى. ويظهر أثر الخلاف أيضًا فيما لو قال: نسائي طوالق، وسكت، ثم قال بعد زمنٍ: إلا فلانة.

الشرط الثاني: عدم الاستغراق: [قلت: إنَّ استثناء الكل من الكل في الأعداد] باطلٌ اتّفاقًا لاستغراقه، ولا هو من كلام العرب، فهو عبثٌ؛ وعليه فلا يثبت لصاحبه إلا الإقرار الأول فقط، فمن قال: نسائي طوالق إلاَّ أربع، طلِّقن جميعًا، ومَن قال: عليَّ لفلان ألف درهم إلاَّ ألفًا ثبتت في ذمته وهكذا.

وأمَّا إذا كان الاستثناء من الصفة فيجوز وإن استغرق الكلّ، ومثاله إذا قال: "أعطِ مَن في البيت إلا الأغنياء"، ثمَّ تبيَّن أنَّ مَن في البيت كلّهم أغنياء لا يبطل الاستثناء، وإذا قال: عبيدي أحرار إلاَّ مَن لم يصلّ الفجر معنا، فتبيَّن أنَّ عبيده كلهم لم يصلّوا الفجر معه فلا يعتقون، وهذا لا ينافي كلام العرب.

[أمَّا استثناء الجزء القليل من الكلّ فلا إشكال فيه عند الجميع، فإن كان المستثنى منه مساويًا للمستثنى أو أكثر منه ففيه خلاف، فقيل: لا يصحّ لغة كما ذكر ابن جنّي وقال الزَّجَّاج: "لم يأت الاستثناء إلاَّ في القليل من الكثير"، وحصر بعضُهم الخلاف فيما لو كان الاستثناء من العدد بالعدد، وأمَّا الاستثناء من الوصف أو بالوصف فيجوز؛ دليل ذلك قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42]، والغاوون المفسدون هم أكثر الناس كما أخبر - جلَّ وعلا - والرَّاجح جوازه مطلقًا، فمن قال في مسألة العدد: زوجاتي طوالق إلاَّ ثلاثة لم تطلق إلاَّ واحدة.

الشرط الثالث: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، [أي أن يكون الاستِثْناء متَّصلا، فإن لم يكن كذلك فهو منقطع بمعنى (لكن) استئنافًا لكلام جديد، كقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً} [مريم: 62]، وعليه يكون إقرار صاحبه أو تصرفه باطلا لا يفيد شيئًا، وذهب بعضهم إلى جوازه، كما نُقل عن الشافعي أنه قال: مَن أقرَّ أنَّ له على فلان مائة درهم إلا ثوبًا، جاز الاستثناء ويكون قد أقرَّ بمائة إلاَّ قيمة ثوب، فتقدر قيمة الثوب وتخرج عن الإقرار، ونقل عن الإمام أحمد جواز استثناء الدَّراهم من الدنانير، وكان من حجَّتهم أن قالوا: إنَّ المُقرَّ قد تكلَّم بوجه من لغة العرب، فإذ ذلك كذلك، وأنَّ الأمر كذلك، فلن نعاقبه بمخالفة الفصيح من ذلك، بل نجعل العبرة بالمعنى المراد من كلامه ذلك.

الشرط الرابع: النّيَّة، حيث ذهب الأكثرون إلى اشتراطها للمستثني، وحجَّتهم في ذلك أنَّ الاستثناءَ بيانٌ من أنَّ المستثنى منه ليس بمراد أصلا منذ إنشاء الكلام، فيكون ترْك النيّة فيه لغو وإلغاء لبعض مراده، وخالفهم آخرون فلم يشترِطوا النّيَّة وأجازوا كلامه وتطليقه، وهذا وارد على الاستثناء المتَّصل لأنَّ الغالب أن صاحبه قد نواه.

مسألة الاستثناء المتعقب للجمل [أو المفردات] المعطوف بعضها على بعض:

وسواء أكان العطف بالواو أو أخواتها حاشا الدَّالة على الإضراب، وسواء أأفادت مع ذلك الترتيب أو التعقيب أم لم تفده، فهل يعود ذلك إلى الجميع أم لا؟ مثال ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان: 68 - 70]، فهذا وأمثاله إذا قامت قرينة تدل على عوده للجميع [أو لأقرب مذكور] أو لغيرهما عمل بتلك القرينة كقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]، فالاستثناء عائد إلى الجملة الأخيرة، وهي الدية التي تسقط بعفو الأهل، فإن خلا من قرينة تبينه فقد اختُلف في ذلك، فدهب الجمهور إلى أن الاستثناء يعود إلى جميع ذلك؛ قياسًا على الشرط في تعلقه بجميع ما قبله اتِّفاقًا؛ ولهذا سمي التعليق بشرط مشيئة الله استثناءً، قالوا: وإنما حذف الاستثناء في كل الجمل طلبًا للاختصار وتجنب ثقل التكرار، ثم إن العطف إنَّما وجد للمشاركة والاتحاد بين المعطوفات، وخالفهم الحنفية فقالوا: بل يرجع إلى الجملة الأخيرة لأنها أقرب مذكور، وهي المتيقن منها، وغيرها مشكوك فيه، كما أنَّه لا يصح الفصل بين المستثنى والاستثناء، وأجيب بأن الفصل ليس بكلام أجنبي، وأنَّ المعطوف حكمه حكم المعطوف عليه.

وقد انبنى على هذا الخلاف خلاف في فروع فقهية منها حكم قبول شهادة القاذف التائب، فذهب الحنفية إلى ردّ شهادته، والجمهور إلى قبولها، للخلاف في فهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوَهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا} [النور: 4، 5]، ومن ذلك كذلك الخلاف في قبول العفو عن المحارب بإسقاط الحد عنه إذا تاب قبل التمكن منه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34]، ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلاَّ بإذنه))، فالجمهور على أن الاستئذان يعود إلى الكل، ومثله كذلك من قال في وصيته: وقفت على بني زيد داري، وحبست على أقاربي ضيعتي إلا من فسق، فهل يعود الاستثناء إلى الكل؟ في كل هذا وأمثاله الخلاف السابق.

الاستثناء من النفي:

حُكِي الاتفاق على أن الاستثناء من الإثبات نفي، لكنَّهم اختلفوا في الاستثناء من النفي هل يكون إثباتًا؟

فذهبت الحنفيَّة إلى أنَّه ليس إثباتًا لأنه مسكوت عنه، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور))، قالوا: ويمكن وجود الطهور مع عدم وجود الصلاة، والجواب عنه: أن الحديث يدل على أن الصلاة لا تكون مقبولة بغير طهور، والاستثناء يثبت نقيضه وهو أن الصلاة تقبل بالطهور؛ لذلك ذهب الجمهور إلى أنه إثبات، للإجماع على أن من قال لا إله إلا الله، فقد أثبت الألوهية لله وحده، قالوا: ولأن هذا هو عرف الناس وما يتبادر إلى الأذهان.

ومما ينبني على هذا الخلاف من مسائل ما لو قال: ليس له عليَّ إلا مائة، فالحنفية يقولون لا يكون مقرًّا بالمائة وإنما هو ناف لما عداها، والجمهور يقولون هذا إقرار بالمائة، ومنها من قال: لن أعتق من عبيدي إلا غانمًا، فلا يعتق على قول الحنفية، ويعتق على القول الثاني، ومن ذلك كذلك من قال: لم أطلق إلا فلانة، لا يعد إقرارًا بالطلاق على القول الأول، ويعد إقرارًا على القول الثاني.

المخصصات المنفصلة: وهي كلّ دليل يستقل بنفسه، ولا يحتاج في ثبوته إلى ذكر لفظ عام معه.

أنواع المخصصات المنفصلة:

1- الحس: مثال التخصيص به قوله تعالى: {مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]، فدل الحسّ على استثناء السماء والجبال من ذلك.

2- العقل: وقد اختلف في عدِّه من المخصصات فجعله الأكثرون من المخصصات؛ بدليل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقد دلَّ العقل على أنَّ الله لا يخلق نفسه، وقال بعضهم: ليس العقل مخصصًا؛ لأنَّ ما دل العقل على عدم دخوله تحت اللفظ لا يكون اللفظ موضوعًا له أصلا، فالله - جل وعلا - غير داخل في لفظ (كل شيء) المذكور في الآية فلا حاجة إلى القول بتخصيصه [قلت: وهو الصواب؛ لأنَّ الله تعالى غير داخل فيما يُخاطب به عباده، والكلام السابق لم يذكره أحد من أئمة السلف فوجب تركه، وهو يؤدي إلى لوازم خطيرة منها ما ذكره بعضهم في قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، قالوا: وهو لا يقدر على نفسه نعوذ بالله من هذا الكلام وأمثاله]. اهـ.

3- التخصيص بالنص: وله صور:

أ- تخصيص القرآن بالقرآن: مثل تخصيص عموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، بقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].

ب- تخصيص القرآن بالسنَّة: مثل تخصيص عموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11]، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس للقاتل شيء))، وقد ذهب بعض الحنفية إلى عدم جواز تخصيص القرآن بأخبار الآحاد إلا إذا سبق تخصيصه بقطعي، وأنكر بعض المتكلِّمين تخصيص القرآن بأخبار الآحاد مطلقًا، وما كان دعواهم في ذلك إلاَّ الاستدلال بما ثبت عن عمر أنَّه ردَّ خبر فاطمة بنت قيس أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة حين طلقت، وقال: "لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت".

وأُجيب بأنه رده لِما جرى في نظره من معارضته لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} [الطلاق: 6]، فرجح الآية على حديثها وظنها أخطأت فيه؛ لذلك كان الصواب مذهب الجمهور وهو جواز ذلك لإجماع الصحابة على ذلك في وقائع كثيرة، منها حديث فاطمة لما طلبت ميراثها لعموم الآية، فبيَّن لها أبو بكر أنَّها لا تستحقّ شيئًا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا نورث ما تركنا صدقة))، ومن ذلك كذلك تخصيصهم آيات المواريث بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يرِثُ المسلِم الكافر))، وكتخصيص قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ} [البقرة: 275]، بما روى أبو سعيد الخدري وغيره أنَّ النَّبيَّ - عليْه السَّلام - قال: ((لا تبيعوا الذَّهب بالذَّهب إلاَّ مثلا بمثل...))، وكتخصيص قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، بقوله - صلى الله عليه وسلم - في المجوس: ((سنُّوا بهم سنَّة أهل الكتاب))، وأمثال ذلك كثير ممَّا فيه العمل بكلّ من الدَّليلين العامّ والخاصّ، والإعمال أوْلى من الإهمال.

ومما انبنى على هذه المسألة من خلاف حكم تخصيص عموم قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} [المزمل: 20]، بحديث: ((لا صلاةَ لِمَن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))، فعند الحنفية لا يخصص العموم؛ لأنَّ ركن الصلاة قراءة القرآن، وعند الجمهور يخصّص فتكون الفاتحة هي الركن، ومن ذلك حكم تخصيص قوله - جلَّ ثناؤُه -: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية، بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن قتل قتيلا فله سلبه))، ومن هذا الباب حكم تخصيص آية: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121]، بحديث: ((سمُّوا أنتم وكلوا))، فالحنفية لم يجيزوا الأكل من متروك التسمية، والجمهور خصصوا الآية بالحديث فأجازوا أكْل متروك التَّسمية بشروط وقيود اختلفوا فيها.

ج- تخصيص السنَّة بالسنَّة: كتخصيص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فيما سقت السماء والعيون العشر))، بقولِه - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة)).

د- تخصيص السنة بالقرآن: نقل عن الشَّافعي إنكاره، والصَّواب جوازه ووقوعه مثل تخصيص عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أمرتُ أن أقاتل النَّاس حتَّى يقولوا لا إله إلا الله)) بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فخصَّصت الآية أهل الكتاب فإنَّهم لا يقاتلون إذا أعطوا الجزية.

4- التخصيص بالقياس:

وفيه خلاف على أقوال أهمُّها: الجواز مطلقًا والمنْع مطلقًا، وقال به الحنفيَّة، وجواز التَّخصيص بالقياس إذا كان العامّ قد سبق تخصيصه، وقيل بجواز التَّخصيص بالقياس الجليّ دون الخفيّ وهو الصواب، ونعني بالجليّ ما كان بنفي الفارق بين الأصل والفرع، أو منصوصًا على علَّته، مثل تخصيص عموم قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] بقياس العبد على الأمة والاكتفاء بجلْده خمسين جلدة، واتفاق الصحابة على ذلك.

ومن المسائل المتفرعة على هذا الخلاف ما يلي:

1- حكم الجاني إذا لجأ للحرم، فقد قال تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]، فدلَّت بعمومها على أنَّ كلَّ من دخل الحرم كان آمنًا على نفسه، واختلف العلماء فيمن جنى خارج الحرم ثم لجأ إليه، هل يقتصّ منه في النَّفس؟ فذهب أبو حنيفة وصاحباه إلى أنه لا يقتص منه داخل الحرم حتَّى يخرج، وعلى سكَّان الحرم أن يُضيِّقوا عليه فلا يبايع ولا يؤاكل ولا يُجالس؛ ليضطرَّ إلى الخروج من الحرم فيقتصّ منه، أمَّا الجناية فيما دون النَّفس فيقتصّ منه داخل الحرم، وذهب مالك والشَّافعي إلى أنَّه يقتصّ منه في النَّفس وفيما دونها، واستدلّوا بالقياس على مَن جنى داخل الحرم، فإنَّ الأئمَّة متَّفقون على أنه يقتص منه.

2- تضمين السارق المال المسروق إذا استهلكه أو هلك في يده، فقد اتَّفق العلماء على أنَّ المال المسروق إذا وجد بعينه عند السارق وجب عليه ردّه لصاحبه، واختلفوا فيما إذا تلف المال عند السَّارق هل يضمنه؟ فذهب أبو حنيفة في المشْهور عنْه إلى أنَّه لا ضمان عليْه تمسُّكًا بعموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ} [المائدة: 38]، وذهب الشَّافعي وأحمد إلى وجوب الضَّمان تخصيصًا لعموم الآية بالقياس على المغصوب، وقالوا: كلّ ما وجب رد عينه وجب ضمانه كالمغصوب، وفصل مالك بين من كان موسرا فيضمن وإلا فلا، وهذا من قبيل الاستحسان.

5- التخصيص بالإجماع:

لا خلاف في جواز التخصيص به، ومثله بعضهم بالإجماع على تخصيص العبد من عموم آية الجلد، فيكون حده خمسين جلدة، ويمكن أن يمثل له بالإجماع على جواز عقد الاستصناع فيكون ذلك الإجماع تخصيصًا لعموم الأحاديث الدَّالَّة على المنع من بيع وشرط، أو بيعَتَين في بيعة، وكتخْصيص قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]، بالإجماع على أنَّ المراد الأخ لأمّ والأخت لأمّ.

6- التخْصيص بالمفهوم: وهو قسمان:

1- مفهوم الموافقة: وهو إثبات مثل حكْم المنطوق للمسكوت عنه الأوْلى منه أو المساوي له،

ومثال التخصيص به: تخصيص عموم حديث: ((مطل الغنيّ ظُلم يحلّ عرضه وعقوبته))، بمفهوم الموافقة في قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فلا يحل للابن أن يؤذي أباه بالشكوى إلى القاضي، ولا يحل له عرض أبيه أو معاقبته إذا ماطله في حق له.

2- مفهوم المخالفة: والمقصود به: إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، مثل تخصيصهم عموم حديث: ((الماء طهور لا ينجسه شيء)) بمفهوم حديث: ((إذا بلغ الماء قلَّتَين لم يَحمل الخبث)) وهذا يعني أنَّ الماء إذا لم يبلغ القلَّتين يحمل الخبث والنجس، ولو لم يتغيَّر طعْمه أو ريحه أو لونه.

دخول المخاطِب في عموم خطابه: في ذلك ثلاثة أقوال مشهورة:

أولاها أنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ليس داخلا في عموم خطابه الذي خاطب به أصحابه؛ لأنَّ خطابه لغيره قد يكون أمرًا أو نهيًا، ولا يمكن أن يأمر نفسه أو ينهاها؛ إذ لا بد فيه من آمر ومأمور، وناه ومنهي، وفرق قوم بين الخبر، والأمر والنهي، فإن كان خطابه بصيغة الخبر فهو داخل فيه، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((النَّاس معادن خيارهم في الجاهليَّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا))، وقوله: ((المسلِمون تتكافأ دماؤُهم ويسعى بذمَّتهم أدناهم))، وأمَّا إذا كان بصيغة الأمر أو النَّهي فلا يدخل فيه؛ لامتناع أمر الإنسان نفسه أو نهيها، والصَّحيح أنَّ الأصل أنَّه - عليه السلام - داخل في خطابه؛ لأن اللفظ يشمله لغة فوجب أن يشمله حكمًا، [قلت: يؤكد ذلك قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين))].

ويظهر أثر الخلاف عند تعارض نهيه وفعله، كما تقدم في النهي عن استقبال القبلة واستدبارها ببول أو غائط، وثبوت ذلك من فعله.

دخول العبيد والإماء والكفار في الخطاب العام: [قلت: اتفق العلماء على أنهم مخاطبون بأصول الشريعة، ثم اختلفوا في فروعها]، فذهب بعضهم إلى عدم دخولهم في الخطاب، والجمهور على دخولهم فيه؛ لأن اللفظ عام، وصفة الرق والكفر ليستا من المخصصات، [وقد جاءت الأدلة بمعاقبة الكفار على ترك الأوامر، وفعل النَّواهي والزَّواجر].

العمل بالعامّ قبل البحث عن المخصّص: أمَّا العلماء المجتهدون فلا ينبغي الخلاف في عملِهم بالعموم [خاصَّة بعد بذل الجهد في إدراك حكم المسألة، ومراجعة ما قاله أهل العلم قبلهم، تجنُّبًا لإحداث قول جديد، أمَّا إن ضاق العمل والوقت فله العمل بما انتهى إليه اجتِهاده ثمَّ يراجع ما قبله، وأمَّا إذا كانت المسألة حديثة معاصرة فله الاجتِهاد وإعمال العموم، ولا يلزمه التَّوقُّف حتَّى يبحث عن مخصّصٍ]، وأمَّا العوامّ فليس لهم ذلك دون سؤال أهل العلم، أو مراجعة كتب العلم التي تتيسَّر لهم.

وقد بنى الإسنوي على هذا الخلاف مسائل، أظهرها الحكم للمدَّعي إذا قامت البينة دون الإعذار إلى المدَّعى عليه، جوَّزه الشَّافعي ومنعه أبو حنيفة، ومن ذلك ما لو لاعن رجُل زوجته ونفى الولد ثمَّ استلْحقه فقال له شخص: لست ابن فلان، فهل يعد قذفًا يحدّ به؟ أو يسأل عن قصده؟

المطلق والمقيد: تعريفهما:

المطلق في اللغة [المرسل] الخالي من القيد، وفي الاصطلاح: "ما دل على الحقيقة من غير وصف زائد عليها"، وقيل: "ما دل على فرد شائع في جنسه".

ومثاله النكرة في سياق الأمر، كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3]، فالرقبة المأمور بها مطلقة لم توصف بقيد زائد على حقيقة جنس الرقبة.

والمقيد: "ما تناول معينًا أو موصوفًا بوصف زائدٍ على حقيقة جنسه"، فهو نوعان: معين، كالعَلَم والمشار إليه، وغير المعين الموصوف بوصف زائد على معنى حقيقته، وهذا الأخير مقيد باعتبار، ومطلق باعتبار، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فهذه الرقبة مقيدة بالإيمان، ولكنها مطلقة من حيث الذكورة والأنوثة، والكبر والصغر.

حمل المطلق على المقيد:

لا يخلو تقييد المطلق من أن يكون متصلا، أو منفصلا في موضع آخر، فإن كان كذلك فله أحوال، بعضها محلّ خلاف وبعضها محل وفاق على النحو التالي:

1- أن يتَّحد الحكم والسبب: مثله كثير من الأصوليّين بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] مع قوله في آية أخرى: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145]، واستشكله المصنف بأن لفظ (الدم) اسم لجنس محلّى بأل، وهو من صيغ العموم فيكون عامًّا لا مطلقًا، وأجاب بأنَّه عامٌّ في الدم القليل والكثير، وأمَّا من حيث صفات الدم الأخرى فهو مطلق، وجاء تقييده في الآية الأخرى، وفي هذه الصورة يحمل المطلق على المقيد اتفاقًا، ومن أمثلته قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس بعرفة: ((فليلْبَس الخفَّين))، وقيد بحديث ابن عمر: ((مَن لم يجد نعلَين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين))، فالحكم هو لبس الخف لمن لم يجد النعل، والسبب هو الإحرام، ولكن الخلاف هنا وقع من جهة قاعدة أخرى وهي أن المطلق جاء متأخرا عن المقيد، فذهب بعض العلماء إلى أنَّ المطلق إذا تأخَّر ينسخ المقيد المتقدم، وهذا مذهب الحنفيَّة ورواية عن أحمد، وذهب آخرون إلى أنَّ المطلق لا ينسخ المقيد سواء تقدم أو تأخَّر، ويكون المقيّد مقدَّما على المطلق فيقيد به.

2- أن يختلف الحكم والسبب: كما جاء لفظ الأيدي مطلقًا في قولِه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وجاء مقيَّدًا في قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ} [المائدة: 6] والحكم في الأولى القطع، وفي الثانية الغسل، والسبب في الأولى السرقة وفي الثانية الحدث، ففي هذه الحالة لا يحمل المطلق على المقيد قولا واحدا.

3- أن يتحد الحكم ويختلف السبب: كلفظ الرقبة في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]، فالحكم واحد وهو العتق، والسبب مختلف، ففي الآية الأولى الظهار، وفي الثانية القتل الخطأ، وهذه الصورة مختلف فيها على ثلاثة أقوال: إحداها عدم حمل المطلق على المقيد، وهو مذهب الحنفية، والثاني حمل المطلق على المقيد بطريق اللغة، وأرجحها حمل المطلق على المقيد بطريق القياس إذا توافرت شروطه، كقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، مع قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2]، ولا خلاف في اشتراط العدالة في الشاهدين، ولكن بعض العلماء أخذ ذلك من حمل المطلق على المقيد، وبعضهم بدليل القياس.

4- أن يتَّحد السبب ويختلف الحكم: ومثاله قوله تعالى في الوضوء: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ} [المائدة: 6]، وقوله في التيمُّم: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم} [النساء: 43]، فالحكم في الأولى الغسل، وفي الثَّانية التيمُّم، والسبب واحد وهو الحدث أو إرادة رفع الحدث، وهذه الصورة مختلف فيها؛ فذهب بعض الشَّافعية إلى حمل المطلق على المقيد فيها والجمهور على عدم التقييد وهو الصواب.

شروط حمل المطلق على المقيَّد: يُعتبر الشَّافعية أكثر المذاهب عملا بحمْل المطلق على المقيَّد، وقد وضعوا لذلك شروطًا منها:

1- أن يكون القيد من باب الصفات كالإيمان في الرقبة، ولا يصحّ أن يكون في إثبات زيادة لم ترد في المطلق؛ ولذلك لا يصحّ أن يقال: يجب أن يُيَمّم الرجلين والرأس إذا أراد التيمّم.

2- أن لا يعارض التَّقييد تقييدٌ آخر، مثل حديث غسل الإناء من ولوغ الكلْب، ورد بلفظ مطلق: ((فليغسلْه سبعًا إحداهنَّ بالتّراب))، وورد بلفظ ((أولاهنَّ))، وبلفظ ((أخراهنَّ))، وكلها صحيحة فلا يمكن حمل المطلق على المقيَّد هنا إلاَّ بترجيح.

3- أن يكون ورود المطلق في باب الأوامر والإثبات، أمَّا في سياق النَّفي والنَّهي فلا يحمل المطلق على المقيَّد، كذا قالوا، ولا يَخفى أنَّ النَّكرة في سياق النَّفي والنَّهي تكون للعموم فلا يكون تقييدها من تقييد المطلق بل من تَخصيص العامّ، والعامّ لا يخصّص بما يدلّ على ثبوت الحكم لبعض أفراده، [قلت: ويمثل له بأحاديث النَّهي عن الإسبال وجرّ الثَّوب، مع ثبوت ذلك من فعله وقوله - عليه السلام - لأبي بكر: ((لست ممن يفعله خيلاء))، فإنَّ النَّهي وإن كان عامًّا في اللفظ والأفراد، فهو مطلق في الصفات، التي قيدت بالخيلاء عند الجمهور، ولم يعمل بهذا التقييد طائفة]. اهـ.

4- أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد: ومثله الزركشي بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234]، مع قوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، وفي هذا المثال نظر؛ لأن الحمل ممتنع لاختلاف الحكم والسبب، فالحكم في الأولى وجوب العدة، والسَّبب هو الموت، وفي الثانية الحكم عدم وجوب العدة، والسبب الطلاق قبل الدخول.

[أقسام دلالات الألفاظ]: جرى كثير من الأصوليين على تقسيم الدلالة إلى دلالة منطوق ودلالة مفهوم:

فالمنطوق: "هو المعنى المستفاد من صريح اللفظ"، وقد يقال: "ما دلَّ عليه اللَّفظ في محلّ النّطق"، كدلالة قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] على الأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.

والمفهوم: "هو المعنى اللازم للفظٍ لم يُصرَّح به فيه"، أو هو: "ما دل عليه اللفظ في غير محل النطق"، كدلالة قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] على تحريم الضرب والشتم.

والأولى هنا سلوك طريق مَن قسّم الدلالات إلى دلالة المنظوم ودلالة غير المنظوم.

فالمنظوم: "كل دلالة تكون بالوضع اللغوي"، وهي تشمل دلالة المطابقة ودلالة التضمن.

وغير المنظوم: هو دلالة الالتزام، وهي: "دلالة اللفظ على معنى خارجي لازم للمنطوق به"، وتشمل دلالة الاقتضاء والإشارة والإيماء المفهوم وهذا بيانها:

1- دلالة الاقتضاء: هي "دلالة اللفظ على معنى مسكوت عنه يجب تقديره لصدق الكلام أو لصحته شرعا أو عقلا"، والمعنى المدلول عليه بالاقتضاء يسمَّى المقتضَى (اسم مفعول) وهو ثلاثة أنواع:

1- ما يجب تقديره لصدق الكلام ومطابقة الواقع، مثل دلالة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وصيَّة لوارث)) على المقدر المحذوف وهو: صحيحة؛ وذلك لأن الناس قد يوصون للورثة، فيتعين التقدير: (لا وصية صحيحة أو نافذة).

2- ما يجب تقديره لصحَّة الكلام شرعًا، مثل قوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، تقديره (فأفطر) .

3- ما يجب تقديره لصحة الكلام عقلا مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} [يوسف: 82] فالعقل يقضي بأن القرية لا تسأل، فلا بدَّ من تقدير: (أهل القرية).

وقد اختلفوا في عموم المقتضى أو المضمر:

فذهب بعضهم إلى عمومه، وبعضهم إلى عدمه، احتجَّ الأوَّلون بأنَّه إذا أمكن تقدير معنى عامٍّ فلا يُمكن أن نقدر الأخصّ منه إلاَّ بدليل، مثل حديث: ((رفع عن أمَّتي الخطأ)) أي حكم الخطأ، فهذا عموم يشمل المؤاخذة الدنيوية والأخرويَّة إلاَّ ما دلَّ الدَّليل على استثنائه فيكون مستثنى ومخصصًا مثل ضمان المتلفات خطأ، وقال الآخرون بل التقدير: رفع عن أمتي إثم الخطأ؛ لأنَّ التقدير خلاف الأصل فلا يعم، وكذلك قالوا في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} [المائدة: 3]، نقدر الأكل فقط فلا يعم، وقال الأوَّلون: بل نقدّر الانتفاع حتَّى يكون أعمّ، والصواب في ذلك أن يقدر ما دلَّ العرف عليه.

2- الإشارة: وهي المعنى اللازم من الكلام الذي لم يسق الكلام لبيانه، مثل فهم جواز أن يصبح المسلم جنبًا في رمضان، من قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، فمن جاز له الجِماع طوال الليل إلى الفجر، صحَّ صومه إن طلع عليه الفجر جنبًا.

3- الإيماء: وهو "فهم التعليل من ترتيب الحكم على الوصف المناسب"، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فهذا يدل على أن العلة السرقة.

4- المفهوم: وهو نوعان موافقة ومخالفة، فمفهوم الموافقة: "هو المعنى الثابت للمسكوت عنه الموافق لما ثبت للمنطوق؛ لكون المسكوت أولى بالحكم من المنطوق أو مساويا له"، فمثال الأولوي النهي عن التأفف فإنَّه يدل بطريق الأولى على تحريم الضرب والشتم، ومثال المفهوم المساوي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10]، فإنه يدل على تحريم الأكل بمنطوقه، وعلى تحريم كل ما فيه تفويت لمال اليتيم بمفهوم الموافقة المساوي، فلا يجوز التصدق بمال اليتيم ولا [إتلافه ولا نحو ذلك].

أمَّا مفهوم المخالفة فهو دليل الخطاب: "وهو الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم المذكور في المنطوق عما عداه"، فالحكم الذي يثبت للمسكوت نقيض للحكم الذي ثبت بالمنطوق، وهو أنواع:

1- مفهوم الصفة: وهي هنا أعم من النَّعت عند النحاة، فيشمل النعت والحال والجار والمجرور والظرف والتمييز، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((في سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة))، فتخصيص السائمة بالذِّكْر يدلّ على أنَّ المعلوفة لا زكاة فيها.

2- مفهوم الشرط: مثل حديث أم سليم - رضي الله عنها - قالت: أعَلَى المرأة غسل يا رسول الله إذا هي احتلمت؟ قال: ((نعم، إذا رأت الماء))، فيفهم من هذا أنها إذا لم تر الماء فلا غسل عليها.

3- مفهوم العدد: وهو ما يفهم من تعليق الحكم على عدد مخصوص، كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوَهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فهو دال بمنطوقه على الثمانين، وبمفهومه على عدم إجزاء ما نقص عنها، وعلى المنع من الزيادة عليها، والذي يظهر أن هذا داخل في مفهوم الصفة؛ لأن المقدار أحد صفات الشيء.

[قلت: هذا إذا كان العدد مرادًا في نفسه، فإن كان المراد به التمثيل أو المبالغة فلا مفهوم له كحديث: ((حتى يكون للقيم الواحد خمسين امرأة))، فإن المراد به المبالغة في كثرة النساء والله أعلم].

4- مفهوم الغاية: هو ما يفهم من مد الحكم إلى غاية بإحدى أدوات الغاية وهي: (إلى، حتى، اللام)، مثل حديث: ((لا زكاة في مال حتَّى يحول عليه الحول))، فدلَّ بمنطوقه على نفي الزكاة قبل الحول، ودلَّ بمفهومه على وجوبها عند تمام الحول.

5- مفهوم التقسيم: هو ما يفهم من تقسيم المحكوم عليه قسمين فأكثر، مع تخصيص كل قسم بحكم مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الثيب أحقُّ بنفسها، والبكر تستأذن))، دلَّ بمفهومه أنَّ كلَّ قسم يختصّ بحكمه، ولا يشارك الآخر في حكمه، فقوله: ((الثيب أحقّ بنفسها))، دالّ على أنَّ البكر ليست أحقَّ بنفسها من وليِّها، وأمَّا قوله: ((البكر تستأذن))، فدال على أنَّ الثيِّب لا تُستأذن؛ لأنَّ الإذن منها لا يكْفي بل لا بدَّ من التَّصريح.

6- مفهوم اللقب: هو "ما يفهم من تَخصيص الاسم المجرَّد بالحكم من نفي الحكم عما عداه"، وسواء أكان الاسم لإنسان أو حيوان، أو كان اسم علم أم اسم جنس، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تبيعوا الذَّهب بالذَّهب إلاَّ مثلاً بمثل))، فدلَّ بمفهومه أنَّ ما ليس بذهب فيجوز بيعه بمثله أو غيره من غير مماثلة.

حجّيَّة مفهوم المخالفة:

مفهوم المخالفة بأنواعه الخمسة الأولى حجَّة عند الجمهور، مع اختلافهم في قوَّة كلّ نوع من أنواعه، واستدلّوا بقوله تعالى: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] فقال نبي الله: ((قد خيَّرني ربِّي فلأزيدنَّهم على سبعين!)) فأنزل الله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، قالوا: ولأنَّ الصَّحابة - رضي الله عنهم - فهموا من تخصيص الوصف بالذكر انتفاء الحكم عمَّا خلا عنه، في عدة وقائع، منها روى يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: ألَم يقل الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فقد أمن النَّاس؟ فقال: عجبتُ ممَّا عجبتَ منه فسألت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقتَه))، ولمَّا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يقطع الصَّلاة الكلب الأسود))، قال عبدالله بن الصامت لأبي ذر: ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر؟ فقال: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني فقال: ((الكلب الأسود شيطان)).

فهؤلاء من فصحاء العرب الذين نزل القرآن بلغتهم وقد فهِموا من تخصيص الحكم بوصف انتفاءَه عمَّا لم يوجد فيه ذلك الوصف، يزيد ذلك بيانًا أنَّ كلام الشَّرع منزه من العبث، فلا بدَّ في تخصيص الشيء بالذِّكْر من فائدة، فإن لم نعلم فائدةً غير انتفاء الحكم عمَّا عداه جعلنا التَّخصيص دالا على ذلك، وخالف في ذلك أكثر الحنفيَّة فلم يقولوا بحجّيَّة مفهوم المخالفة مطلقًا، واستدلُّوا بأن زعموا أنَّ القرآن والسنَّة مليئان بالنصوص التي فيها تعليق الحكم على وصف أو عدد أو غاية، ولا يكون نفي الحكم عمَّا سوى المذكور مرادًا باتّفاق، فمن ذلك قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} [النساء: 23]، وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، ولا خلاف في جواز القصر للمسافر وإن لم يكن خائفًا، وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20]، ولا خلاف أنه لو رغب في طلاق المرأة ولم يردِ الزَّواج بغيرها أنَّه داخل في النَّهي عن أخْذ شيء من المهر، ومن ذلك كذلك قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] ولَم يدلَّ هذا على خروج حليلة الابن من الرَّضاعة، مع أنَّه ليْس من الصلب، وأيَّدوا ذلك بزعم أنَّ الله ينصّ على المفهوم المخالف حين يُريد نفي الحكم عنه في آيات كثيرة، ولو كان السكوت كافيًا لما كانت هناك حاجة إلى النَّصّ عليه، وبما أنَّه مسكوت عنه فليس له حكم يؤخذ به، ويجاب عن ذلك بأن تلك المواضع المذكورة لم تتوافر فيها شروط الاحتجاج الآتي ذكرها، وأنَّ ما نصَّ الله فيه على ذكر المفهوم فالقصد منه التأكيد، [بل وفيه دليل على حجّيَّة المفهوم لأنَّ النُّصوص كلّها بلغة العرب وجاءت بذلك، وكلّها تُفهَم على نسق واحد].

وأما مفهوم اللَّقب فليس بحجَّة على الصَّحيح عند الجماهير؛ لأنَّه لو كان حجَّة لكان الثناء على الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - ووصفه بالرِّسالة قدحًا في بقيَّة الرسل وإنكارًا لرسالتهم.

[قلت: مفهوم المخالفة بكل أنواعه إمَّا أن يكون له ضدّ واحد فيكون حجة قطعًا، وإمَّا أن يكون له عدَّة أضداد فهو محل نظر وبحث كما مضى، أما مفهوم اللقب والعدد فإن كان اللفظ منهما مقصودًا، أو المراد منهما قصر ذلك اللفظ بعينه فمفهومه حجَّة كسابقيه، وإن كان المقصود من اللَّفظ التَّمثيل أو المبالغة ونحو ذلك فمفهومه ليس بحجَّة، فذكر النبوَّة لمحمَّد - عليه السلام - ليس القصد منه قصر ذلك عليه، أمَّا حديث: ((لا تبيعوا الذَّهب بالذَّهب...))، فمن نظر إلى أنَّ هذه الألفاظ مقصودة في ذاتِها لم يُعدّ غيرها إليها كالظَّاهرية، ومن نظر إلى أن هذه الألفاظ ليست مقصودة في ذاتها بل هي تمثيل عدّى مثلها إليها، وهكذا]. اهـ.

شروط العمل بالمفهوم:

1- أن لا يكون تخصيص المذكور بالذكر جرى مجرى الغالب، فإن كان كذلك فلا يحتجّ به، كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم} [النساء: 23]، [قلت: وقد عمل بهذا التقييد علي - رضي الله عنه - وهو مذهب أهل الظاهر].

2- أن لا يكون حكم المذكور جاء لكونه مسؤولا عنْه، أو بيانًا لحكم واقعة، كقوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} [آل عمران:130] فإنه لا يدلّ على جواز أكل الربا إذا كان قليلا؛ لأنَّ الآية بيان لحكم أمر واقع، [قلت: والأولى بهذا أن يتخرج على قاعدة: ما حرم كثيره فقليله أيضًا حرام].

3- أن لا يكون المذكور في اللفظ قد سبق ذكره حتى يكون معهودًا، فإن كان معهودًا فلا يدلّ ذكره على قصر الحكم عمَّا عداه، وهو أعم من الذي قبله؛ لأن المسؤول عنه معهود لسبق ذكره.

4- أن لا يكون المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المذكور، فإن كان كذلك فإنه يكون من مفهوم الموافقة ويثبت للمسكوت عنه حكم المنطوق من باب أولى، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ} [الأنعام: 151]، فإذا حرم قتلهم مع خوف الفقر والعجز عن نفقاتهم فتحريم قتلهم مع القدرة على نفقاتهم أوْلى بالتحريم.

[قلت: ومن الشروط أن لا يعارض هذا المفهومَ منطوق آخر؛ لأنه يُقدّم عليه].

وكل هذه الشروط ترجع إلى شرط واحد وهو أن لا يظهر لتخصيص المذكور بالذكر فائدة سوى اختصاصه بالحكم عما لم يشاركه في الصفة المذكورة، ويظهر أثر الخلاف في مسائل كثيرة منها ما هو أصول وقواعد، ومنها ما هو فروع فقهية، ومنها مسألة نكاح الأمة لمن يجد مهر الحرة، فقد قال تعالى: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فذهب الجمهور إلى أن قوله: (ومن لم يستطع) يدلّ على أنَّ المستطيع لمهر الحرَّة ليس له أن ينكح الأمة، وقالت الحنفية: بل هو مسكوت عنه، فيطلب حكمه من دليل آخَر، وقد وجدناه في عموم قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وكذلك اختلفوا في القيد الآخر: {مِّن فَتَيَاتِكُمُ المُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25]، فذهب الجمهور إلى اشتراط إيمان الأمة أخذًا بمفهوم الصفة المتقدم، وذهب الحنفيَّة إلى جواز نكاح الأمة الكتابيَّة، وقالوا: النَّصّ على المؤمنة لا يدلّ على نفْي الحكم عمَّا عداها، وإنَّما يدل على أن ما عداها يطلب حكمها من دليل آخر، وقد وجدنا الدَّليل يدلّ على التَّفريق بين الكتابيات وغيرهن من الكافرات في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ} [المائدة: 5]، فالكتابية يجوز نكاحها سواء أكانت حرَّة أم أمة بخلاف بقيَّة الكفار.

منهج الحنفيَّة في تقسيم الدلالة: عرفنا أنَّ الجمهور يقسمون الدلالة إلى دلالة منطوق ودلالة مفهوم.

وأمَّا الحنفية فإنَّهم يجعلون الدلالة أربعة أقسام:

1- دلالة العبارة (عبارة النص): وهي دلالة اللفظ على المعنى المتبادر فهمه من الصيغة، وهي تقابل دلالة المنطوق عند الجمهور.

2- دلالة الإشارة (إشارة النَّصّ): وهي دلالة اللَّفظ على معنى غير مقصود بسياق الكلام، ولكنَّه لازم للمعنى الذي سيق له الكلام، مثل الأمثلة السَّابقة في دلالة الإشارة عند الجمهور.

3- دلالة الاقتضاء (اقتضاء النَّصّ): وهي ما كانت زيادة على المنصوص، ويشترط تقديرها ليصير المنظوم مفيدًا أو موجبًا للحكم، وبدونها لا يمكن إعمال المنظوم وتصحيحه، مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ} [المائدة: 3]، والتَّقدير محذوف وهو أكل الميتة، وهذا أيضًا كمصطلح الجمهور، وإنَّما اختلفوا في عموم المقتضى أو المقدّر.

4- دلالة النص: وهي "دلالة المنطوق على أن حكمه ثابت للمسكوت لكونه أولى منه [أو مثله]"، وهي التي يسمِّيها الجمهور مفهوم الموافقة كما تقدَّم، وأمَّا مفهوم المخالفة فيسمِّيه الحنفيَّة دلالة المخصوص بالذِّكْر على نفْي الحكم عمَّا عداه، وهو عندهم ليس بحجَّة كما تقدَّم.

دلالة اللفظ من حيث الظهور والخفاء:

جرى الجمهور على تقسيم اللفظ الدَّالّ من حيث ظهور دلالته وخفاؤها إلى ثلاثة أقسام، هي النَّصّ والظَّاهر والمجمل.

أولا: النص: وهو في اللغة: الكشف والظهور، ويطلق النص في مقابل الدليل العقلي أو الدليل من المعنى، فيكون المقصود به النقل، وفي الاصطلاح يطلق في مقابلة الظاهر والمجمل، وهو: "ما دلَّ على معناه دلالة لا تحتمل التأويل"، وقيل: "ما دلَّ على معناه ولم يحتمل غيره احتمالا ناشئًا عن دليل"، وعلى هذا فالاحتمال الذي لا دليل عليه فلا تأثير له.

ثانيًا: الظاهر: لغة: هو الواضح خلاف الباطن، وفي الاصطِلاح: "ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر"، وقد يطلقون لفظ الظاهر على المعنى الرَّاجح الذي دل عليه اللفظ مع احتمال غيره احتمالا مرجوحًا، ومثاله دلالة الأمر على الوجوب مع احتمال الندب، ودلالة النهي على التحريم مع احتمال الكراهة، وهكذا كل حقيقة احتملت المجاز ولم تقم قرينة قوية تدل على ذلك فهي ظاهرة في المعنى الحقيقي، وقد يعرفون الظاهر بما كانت دلالته على المعنى دلالة ظنية لا قطعية؛ تفريقا بينه وبين النص.

[المؤول:] ثم اعلم أنَّه متى ما ذُكر الظاهر إلا ذكر معه المؤول، وهو في اللغة: اسم مفعول من التأويل، وهو الرجوع، وقد جاء لفظ التأويل في نصوص الشرع لمعان منها التفسير وما يؤول إليه الأمر من حقائق الأمور، وصرف اللفظ عن معناه الصحيح إلى معنى فاسد غير مراد، بينما المؤول في الاصطلاح: "هو حمل اللفظ على الاحتمال المرجوح بدليل"، وهذا التعريف يشمل التأويل الصحيح والفاسد.

فالتأويل الصحيح هو حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل قوي يقتضي ذلك.

والتأويل الفاسد هو حمل اللفظ على الاحتمال غير المتبادر للذهن بدليل ضعيف لا يقوى على صرف اللفظ عن ظاهره.

مثال التأويل الصحيح: تخصيص العام بدليل خاص، مثل تخصيص قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] بالأحاديث الدالة على تحريم البيع على بيع أخيه، والبيع مع النجش، وبيع الحصاة ونحوه من بيوع الغرر، ومثله قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، فإنها مؤولة عن ظاهرها، والمقصود: إذا أردتم القيام للصلاة؛ لأن الوضوء يسبق القيام للصلاة.

شروط التأويل الصحيح:

1- أن يكون اللفظ محتملا للمعنى الذي يراد صرفه إليه في لغة العرب، أو العرف.

2- أن يقوم على التأويل دليل صحيح، إما من السياق الذي جاء فيه اللفظ أو من دليل آخر لا يمكن الجمع بينه وبين هذا الدليل إلا بتأويل أحدهما، مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، فلفظ النَّاس ليس على عمومه؛ لأنَّ السياق يدل على أن هناك قائلا ومقولا له ومخبرا عنه، بالإضافة إلى دلالة الحس على أن أكثر الناس في أقطارهم لا علاقة لهم بالواقعة، ومثال ما كان دليل التأويل فيه مستقلا كالتخصيص بالمخصصات المنفصلة، وحمل المطلق على المقيد كما تقدم بيان ذلك، بأمثلته هنالك.

ثالثا: المجمل:

وهو في اللغة المبهم، واصطلاحًا: "ما دلَّ على أحد معنيَين لا مزيَّة لأحدهما عن الآخر بالنسبة إليه"، فقولهم (ما دل) قيد خرج به اللفظ المهمل الذي لا دلالة له ولا معنى، وقولهم (على أحد معنيين) أخرج النص، فإنه يدل على معنى واحد معين، وقولهم (لا مزية لأحدهما على الآخر) أخرج الظاهر، فإنه يدل على معنيين لكن أحدهما أرجح من الآخر، وقولهم (بالنسبة إليه) أي بالنظر إلى ذات اللفظ المجمل وحده، فما من مجمل إلا وقد بين بأكمل بيان والحمد لله، فمَثلا قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها...)) الحديث، فإنَّ هذا الحق قد بُين بالنصوص المبينة لمقادير الزكاة، وأما النصوص المجملة المتبقية فلا يتعلق بها تكليف وذلك كالحروف المقطعة في أوائل بعض السور، وسماها آخرون بالمتشابه.

أسباب الإجمال: من أهم أسبابه ما يلي:

1- الاشتراك اللفظي: وهو تردُّد اللفظ بين معنيَين فأكثر، ولا يوجد في نفس النَّصّ ما يدلّ على أحدِهِما صراحة، مثل لفظ القروء الوارد في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فإنَّه يحتمل الأطْهار والحيض.

2- اشتهار المجاز وكثرة استعماله: مثل لفظ النكاح، فإنه في أصل اللغة للوطء، ثم أطلق على العقد مجازا واشتهر حتى ساوى الحقيقة، فإذا ورد لفظ النكاح في الأدلة الشرعية احتمل المعنيين فصار مجملا ما لم يصحبه بيان، وذلك كقوله تعالى: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، فلولا بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمراد من ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك)) لكان مجملا.

[قلت: الأصل بقاء اللفظ على حقيقته، ولفظ النكاح صار في عرف الشرع يطلق على العقد فهو حقيقة فيه، ولا يكون على غيره إلا بدليل والله أعلم].

3- الإطلاق أو التعميم المفتقرين إلى تحديد: كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فالحقّ مطلق غير محدود ولا معروف المقدار، وكذلك الأمر بالصلاة قبل بيان صفتها.

الفرق بين المجمل والمشترك:

أ- أن المجمل أمر نسبي يختلف من عالم لآخر، فقد يكون الدليل مجملا عند عالم، مُبيّنا عند غيره، وذلك بحسب ما يصل إليه اجتهاد كلٍ منهما.

ب- أنَّ الاشتراك يكون من حيث الوضع اللغوي، وأما الإجمال فيكون في نفس الأدلة الشرعية التي تحتاج إلى بيان.

[ج- أنَّ الاشتراك لا حدَّ في انتهائه من اللغة العربية، وأمَّا الإجمال فكله قد بُين في نصوص الشرع].

د- [قلت: والذي يبدو أنَّهما يشتركان في نفس التعريف ويختص المجمل المشترك بأن معاني ألفاظه متضادَّة لغة ومتدافعة لا يمكن الجمع بينها كلفظ القروء، وأما المشترك فكل معاني ألفاظه غير متضادة بحيث يمكن أن تدخل فيه جميع معانيه، كحديث: ((لا يمسّ القرآن إلاَّ طاهر))، فالمسلم طاهر، والمغتسل من الجنابة طاهر وإن لم يتوضَّأ، والمتوضئ طاهر، فنحمل اللفظ على جميع معانيه، وذلك باشتراط كلّ أنواع هذه الطهارات التي يشتملها لفظ: "طاهر"؛ لأنَّ إعمال الجميع مقدم على الإهمال ويكثر مثل هذا في التفسير كما هو معروف والله الموفق]. اهـ.

تقسيم الحنفية دلالة اللفظ من حيث الوضوح والخفاء:

قسم علماء الحنفية اللفظ إلى واضح الدلالة وخفي الدلالة، وقسموا واضح الدلالة أربعة أقسام رتبوها من الأدنى وضوحا إلى الأعلى على النحو التالي: الظاهر فالنص، ثم المفسر فالمحكم.

وقسموا خفي الدلالة إلى أربعة أقْسام رتَّبوها من الأقلّ خفاءً إلى الأكثر على النَّحو التالي: الخفي فالمشكل، ثم المجمل فالمتشابه.

فأما الظاهر: فهو ما ظهر المراد به للسامع بصيغته، كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]، فهو ظاهر في إباحة البيع وتحريم الربا، وهذا الظاهر عندهم يقبل التأويل والتخصيص والنسخ.

أمَّا النص فهو "ما زاد وضوحًا على الظاهر بمعنى في المتكلم لا في نفس الصيغة"، مثال ذلك قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فالآية نص في جواز نكاح الأربع وما دونها، وعندهم أن النص يقبل التخصيص والنسخ، ولا يقبل التأويل.

وأمَّا المفسّر فهو ما ازداد وضوحًا على النص بمعنى في النص أو بغيره، مثال ذلك قوله تعالى: {فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر:30]، فهذا مفسر لكونه أكد العموم على وجه يمنع احتمال التأويل والتخصيص؛ لذلك كان المفسر عندهم لايقبلهما، ولكنه يحتمل النسخ في عهد الرسالة.

أمَّا المحكم فهو ما ازداد قوة وأُحكِم المراد به عن احتمال النسخ والتبديل.

أقسام خفي الدلالة:

1- الخفي: وهو "اسم لما اشتبه معناه وخفي المراد منه بعارض في الصيغة يمنع نيل المراد بها إلا بالطلب"، مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، فإن دلالته على قطع النباش دلالة خفية؛ لأنَّ له اسم يختص به.

2- المشكل: وهو اسم لما لا يعرف المراد منه إلا بدليل، وهو عندهم قريب من المجمل ضد النص، مثل قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]، فيحتمل أنه يدل على إتيان المرأة في دبرها، ودلالته على المنع من ذلك دلالة خفية تتبين بالنظر إلى فائدة الحرث وهو الإنتاج، ومعلوم أن الوطء في الدبر لا ينتج الولد فيكون غير داخل في مقصود الشارع بالآية.

3- المجمل: "وهو اللفظ الذي لا يفهم المراد منه إلا باستفسار المجمِل وبيان من جهته يعرف به المراد"، مثل قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]؛ فإن الربا في اللغة: الزيادة، وليس ذلك المعنى مرادا؛ لأن البيع ما شرع إلا للربح وطلب الزيادة، ولذا فإن لفظ الربا كان مجملا حتى جاء بيانه من قبل الشارع نفسه، ولا يمكن أن يعرف المراد منه في الآية إلا ببيان من جهة الشارع.

وهذا هو الفرق بين المجمل والمشكل، فإنَّ المشكل قد يعرف المراد منه بالتأمّل والنظر في القرائن المصاحبة ونحو ذلك، بخلاف المجمل فإنه لا يمكن معرفة المراد منه إلاَّ ببيان من المتكلم به.

4- المتشابه: وهو "اسم لما انقطع رجاء معرفة المراد منه لمن اشتبه فيه"، مثل الحروف المقطعة في أوائل السور، وكيفيَّات صفات الله - جلَّ وعلا - فإنَّها من المتشابه مع أن أصل الصفات معلومة، وإنَّما التشابه في كيفياتها.

ومما تقدَّم يتبيَّن أنَّ الأقسام الثلاثة الأولى تسمى بالمجمل عند الجمهور، مع تفاوت في درجة الإجمال، وأمَّا القسم الرابع وهو المتشابه فيطلق عليه الجمهورُ الاسمَ نفسَه.

البيان:

تعريفه: البيان في اللغة: الإيضاح والكشف، ويُطلق اصطلاحًا على المُبيِّن، وهو "الدليل الذي أوضح المقصود بالمجمل، أو هو إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي"، أما المبيَّن بالفتح فهو الدليل المحتاج إلى بيان.

مراتب البيان: البيان يحصل بأمور بعضها أقوى من بعض، وهي:

1- القول: وهو الغالب في بيان الشريعة، وبه بُينت أنصبة الزكاة، وأكثر أحكام الصلاة، والبيوع وسائر المعاملات.

2- الفعل: وهو أن يفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يبين مجمل القرآن أو مجمل سنة سابقة، وذلك كبيان صفة الصلاة وصفة الحج كما مر في بابه.

3- الكتاب: والغالب أن لا يكون البيان بالكتابة إلا للبعيد عن المدينة، مثل كتابه لأهل اليمن الذي فيه بيان الزكاة والديات.

4- الإشارة: كقوله - عليه السلام -: ((الشَّهر هكذا وهكذا ...)) وعقد في الثَّالثة أحد أصابعه؛ إشارة إلى أنَّ الشهر يكون تسعة وعشرين يومًا.

5- التنبيه: وذلك بالإيماء إلى المعنى الذي يعلق عليه الحكم حتَّى يكون علَّة له، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أينقُص الرطب إذا جفَّ)) فإن فيه إشارة إلى أن العلة في التحريم عدم تساوي الرطب والتمر.

6- الترك لفعل الشيء مع قيام الداعي له: كترك الوضوء مما مسته النار، وترك تجديد أنكحة من أسلم من الكفار، وترك أخذ الزكاة من الخضروات، [وأمثال ذلك مما يكون في تبيين أحكام الشرع، فإذا قام هذا الدَّاعي الشَّرعي ثمَّ وجدنا أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تركه كان ذلك دليلا على تعيّن تركه، بخلاف الترك المعلل بعلة فإنه يزول الترك بعدمها]، كترك صلاة التَّراويح جماعة بعد أن صلاها ليلَتَين فإنَّه قد بين علَّة التَّرك وهي خشية أن تفرض عليهم.

وأمَّا مجرَّد الترك المطلق للشيء [مما لا يكون بيانًا لمجمل من أحكام الشَّريعة] فإنَّه لا يدلّ على المنع، وذلك كترك قيام الليل ليلة جمعٍ، وترك مباشرة الأذان والإقامة فإنَّه لا يدلّ على كراهتهما.

تأخير البيان:

لقد نقل ابن السمعاني الاتّفاق على امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة، والمقصود به هو الوقت الذي يحتاج فيه المكلَّف إلى البيان؛ ليتمكَّن من الامتِثال؛ أمَّا تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة فهو محلّ خلاف، والمراد منه: هل يُمكن للشَّارع أن يُخاطب المكلَّفين بخطاب مجمل فيه تكليف مطلق أو مؤقَّت بوقت لم يأت بعد، ثمَّ يؤخَّر بيانه إلى أن يأتي وقت العمل؟ في ذلك أقوال:

أحدُها مذهب أكثر الحنفيَّة وبعض الشافعية وهو المنع من تأخير البيان مطلقًا؛ لأنَّ فيه تجهيلا على المكلّف، وهذا أمر قبيح عقْلا وشرعًا، قالوا: ولأنَّه لو جاز تأخير البيان فإمَّا أن يجوز إلى أجَلٍ معيَّن أو من غير أجل، فإن حدَّدتم أجلاً معيَّنا فلا دليل عليه، وإن لم تحدّدوا أجلا لزم الخطاب بما لا يفهم معناه، والتَّكليف بما لا يطاق، وأُجيب عن الأوَّل بأنَّ المطلوب من المكلَّف آنذاك هو اعتِقاد أنَّه حقّ وصدق، ونوقش الثَّاني بأن التأخير الجائز هو تأخير البيان إلى حضور وقت العمل، ولا يلزم من ذلك التكليف بما لا يطاق؛ لذلك ذهب الجمهور إلى جواز تأخير البيان من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة مطلقًا، برهان ذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18، 19]، فعطف تعالى البيانَ على الأمر بالاتباع بحرف (ثم)، وهي للتَّرتيب مع التراخي، يؤيّد ذلك قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، ثمَّ ورود الأحاديث الكثيرة في بيان مجمل ذلك.

وذهب بعضُهم إلى جواز تأخير بيان المُجْمل دون العام الَّذي أريد به الخصوص، أو المطلق الذي أريد به المقيد؛ لأنَّهما لو أُخِّرا لأدَّى ذلك إلى اعتقاد ما ليس مرادًا لله تعالى، بخلاف المجمل فليس له ظاهر يمكن العمل به فلا يلزم من تأخير بيانه إيقاع المكلَّف في اعتِقاد الخطأ؛ ولذا جاز تأخير بيان المجمل دون غيره.

ويمكن أن يناقش هذا بأنَّ الواجب على المكلَّف أن يعتقد أنَّه عام محتمل للتَّخصيص، أو مطلق محتمل للتقْييد، لا أن يجزم بكونِهما على العموم أو الإطلاق، أمَّا العمل فلو حضر وقته قبل التَّخصيص والتَّقييد علم أنَّ العموم والإطلاق مرادان، وبهذا يتبيَّن رجحان قول الجمهور.

التَّخريج على قاعدة تأخير البيان: إنَّ هذه القاعدة ذات شقين كما أسلفنا:

الأوَّل عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة، والثَّاني جواز تأْخير البيان إلى وقت الحاجة.

فأمَّا الشق الأوَّل فهو محل وفاق، وقد خرجوا عليه قواعد كثيرة، من أهمها:

1- حجّيَّة تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكوته عمَّا فُعل أو قيل بحضرته أو في زمنه وعلِمَ به؛ ولهذا عدّوا ذلك من أقسام السنَّة وسمَّوها بالسنَّة التَّقريريَّة.

2- رتَّب الشَّافعي على ذلك قاعدة من قواعد العموم، ونصُّها: أنَّ ترك الاستفصال في مقام الإجمال ينزل منزلة العموم في المقال، والمقصود بها أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سئل عن مسألة تحتمل أكثر من وجه فأفتى فيها من غير استِفْصال من السَّائل دلَّ ذلك على أنَّ حكم جميع الأوجه واحد.

3- الأصل إجراء العامّ على عمومه، والمطلق على إطلاقه إذا حضر وقت العمل.

وأمَّا الشّقّ الثَّاني من القاعدة فقد انبنى على الخلاف فيه اختلاف في مسائل أصولية مهمة أهمها:

الخاص المتأخّر عن العامّ هل يعدّ مخصصًا أو ناسخًا لما يقابله من أفراد العام؟

فذهبت الحنفيَّة المانعين تأخيرَ البيان إلى أنَّ هذا يُعدّ ناسخًا لا مخصّصًا، فيشترط فيه ما يشترط في الناسخ، أمَّا الجمهور المجيزون تأخيرَ البيان إلى وقت الحاجة، أجازوا أن يكون الخاص المتأخر مخصصا للعام المتقدم، ما لم يعمل بالعام في عمومه.

 

الباب الرابع

التَّعارض وطرق دفعه

التعارُض في اللغة بمعنى التقابُل، وفي الاصطلاح: "تقابُل الدليلين على سبيل الممانعة".

أمَّا التعادُل في اللغة: التَّساوي، وفي الاصطلاح: تساوي الدليلين من كلّ وجهٍ، بحيثُ لا يبقى لأحدهما مزيةٌ على الآخَر، فينسدُّ بابُ الترجيح، ولم يبقَ إلاّ البحثُ عن أدلّةٍ أخرى، أو التوقُّف أو التخيُّر، أو الذَّهاب إلى الأشدِّ، أو إلى الأخفِّ من الحكمين اللذين دلَّ عليهما الدَّليلان المتعادلان.

شروط التعارض: اشترط بعض الأصوليِّين لحصول التعارُض الشروطَ التاليةَ:

1- التساوي في الثبوت، فلا تعارُضَ بين الكتاب وخبر الواحد، بل يقدم الكتاب.

2- التساوي في القوَّة، فلا تعارُضَ بين النصّ والظاهر، بل يُقدَّمُ النص.

3- اتّحادُ الوقت، فلو اختلف الوقتُ، فالمتأخِّرُ مقدَّمٌ.

4- اتّحادُ المحلّ، فلو اختلف المحلُّ فلا تعارُضَ.

5- اتّحادُ الجهة، فلو اختلفت جهةُ تعلُّق الحكم بالمحكوم عليه، فلا تعارُضَ، مثل النهي عن البيع بعدَ نداء الجمعة الثاني، مع الإذن فيه في غير هذا الوقت.

6- اختلافُ الحكم الثابت بكلِّ من الدَّليلين، فلا تعارُضَ مع اتّحاد الحكم.

وفي هذه الشروط نظر لأنها لو تحقّقت لانسدَّ بابُ الترجيح، وامتنع الجمعُ بين الدليلين، وامتنع القولُ بالنسخ؛ لأن الدليلين إذا تساويا في الثبوت والقوَّة لا يُمكنُ الترجيحُ بينهما، وإذا اتّحدا في المحلّ والزمان والجهة لا يُمكنُ الجمعُ بينهما، ولا القولُ بنسخ أحدهما بالآخَر، والصواب أن التعارُض يصدُقُ على التقابل في الظاهر للمجتهد ولو لم تتحقق فيه تلك الشروط، يؤيده قول الجمهور: إن التعارُضَ بين الأدلّة إنَّما هو في الظَّاهر، أمَّا في واقع الأمر فلا تعارُضَ، ولذلك اختلف العلماءُ في [التعارُض الَّذي يعجز المجتهد حلّه]، فذهب بعضهم إلى التَّخيير بين العمل بهذا الدَّليل أو ذاك، ثمَّ خرجه المصنف بأنَّه مبني على القول بأنَّ كلَّ مجتهدٍ في الظنيات مصيبٌ، وأنَّ الحقَّ عند الله يُمكنُ أنْ يتعدّدَ.

[قلت: لا يلزم منه قول المصوبة، بل إنَّ التخيير في العمل بين الدَّليلين المتعارضين يلزم منه تخطئة أحدهما؛ لأنَّ التخيير بينهما بسبب عدم القدرة على الجمع بينهما، فالعمل بهما أولى من إهمالهما، خاصَّة إذا حضر وقت العمل، ولم يتضادَّا من كلّ وجه، فيكون صاحبهما بين الأجر والأجرين، فإن عمل مرَّة بما خالف مراد الشَّرع كان له أجر واحد لاجتِهاده، وإن عمل بالآخر كان حتمًا موافقًا لمراد الشَّارع فله أجران وهكذا، مثال ذلك حديث النهي عن البروك كالبعير، فإن الأدلَّة فيه متعارضة وقويَّة حديثيًّا ولغويًّا، فمن لم يبدُ له الصواب عمل بهذا وهذا، وكان بين أجري الإصابة وأجر الخطأ، فهذا هو مراد الشافعي من العمل بالدليلين - والله أعلم - لا أنَّه من المصوبة]. اهـ.

وذهب بعضُهم إلى التوقُّف؛ بناءً على أن المصيبَ واحدٌ، وذهب آخرون إلى أنه على المجتهد أنْ يأخذَ بالأشدِّ؛ لأن الحقَّ شديدٌ، وقيل بل يأخذ بالأيْسر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يَسِّروا ولا تُعَسِّروا))، ورجح المصنف التوقُّفَ والبحثَ عن دليلٍ آخَرَ مرجّح، فإنْ حضر وقتُ العمل ولم يترجّحْ له شيءٌ عمل بالأحوط منهما، أو قلَّد الأعلمَ منه، وليس له أنْ يُفتي بل يُخبرهم بأنه لم يترجّحْ عنده شيءٌ.

طرقُ دفعِ التعارُض الظاهريّ: لدفع التعارُض الظَّاهريّ بين الأدلّة ثلاثُ طرقٍ وهي: الجمع والنَّسخ والتَّرجيح، وقد اختلف العلماءُ فيما يجبُ المصيرُ إليه أوّلاً:

فذهب الحنفية إلى تقديم النسخ، فإن لم يُمكنْ فالجمع ثم الترجيح، وقدم الجمهور الجمع بطرقه، ثم النسخ ثم الترجيح، وإليك بيانُ هذه الطرق مع أمثلتها:

أولاً: الجمع: وهو إظهارُ عدمِ التضادِّ بين الدَّليلين المتضادَّينِ في الظاهر بتأويل كلٍّ منهما أو أحدِهما، [بطرق]:

1- [الجمع بالحمل على اختلاف الأحوال أو الحالات]: مثل الجمع بين حديث: ((ألا أُخبِرُكم بخير الشُّهداء؟ الَّذي يأتي بالشهادةِ قبلَ أنْ يُسأَلَها)) وحديث: ((إنَّ بعدَكم قومًا يخونون ولا يُؤتَمنونَ، ويَشهدون ولا يُستشهدون))، وذلك أن الحديثَ الأولَ يدلُّ على مدحِ مَن يأتي بالشهادةِ قبلَ أنْ يُسألَها، والثاني يدلُّ على ذمِّه، فيُجمَعُ بينهما بحمْل الأوَّل على حالة مَن لديه شهادةٌ لصاحب حقٍّ لا يعلمُ بها صاحب الحق، والثاني على مَن لديه شهادةٌ بحقٍّ وصاحبُه يعلمُ بذلك، ولم يطلبْ منه أنْ يشهدَ.

2- الجمع بحمل أحدهما على الآخر كحمل العامِّ على الخاصِّ، والمطلَقِ على المقيَّدِ، كالجمع بين حديث: ((فيما سقت السماءُ العشرُ))، مع حديث: ((ليس فيما دون خمسة أوسُقٍ صدقةٌ))، وذلك بحمْل الأوَّل على ما بلغ خمسةَ أوسُقٍ.

ثانيًا: النسخ: لغة هو الإزالة، وفي الاصطِلاح: "رفعُ الحكمِ الثَّابتِ بخطابٍ متقدِّمٍ بخطابٍ متأخِّرٍ عنه"، فقولهم: "الثابت بخطاب متقدم" يخرج ما كان ثبوته بمقتضى البراءة الأصلية، فإن رفعه لا يسمى نسخا، وقولهم: "بخطابٍ متأخِّرٍ عنه" يعني أن النسخَ لا يكونُ إلاّ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّرٍ عن الدليلِ المنسوخِ، ولم يختلفُ العلماءُ في ذلك، وأمَّا اختلافُهم في حقيقة النسخ: أهو بيانٌ أو رفعٌ وإزالةٌ؟ فهو خلافٌ لفظيٌّ لا ثمرةَ له، كما نصَّ على ذلك إمامُ الحرمين وغيره من المحققين.

شروط الناسخ: يُشتَرَطُ في الناسخ شروطٌ هي:

1- أن يكونَ نصًّا من قرآنٍ أو سنّةٍ، فلا يصحُّ النسخُ بالقياس ولا بالإجماع، عند الجماهير.

2- أن يكونَ النصُّ الناسخُ متأخِّرًا عن المنسوخ، وهذا لا اختلافَ فيه.

3- أن يكونَ النَّاسخُ في قوَّة المنسوخ أو أقوى منه، فالقرآنُ يُنسخُ بالقرآن، والسنَّةُ تُنسخُ بالسنَّة بالاتّفاق، والقرآن لا يُنسخُ إلاّ بقرآنٍ مثلِه؛ لأنَّ السنَّةَ لا يُمكنُ أنْ تكونَ مثلَ القرآن ولا خيرًا منه، والله تعالى يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، هذا هو مذهب الشَّافعي وبعض أصحابه، وأجاب الجمهور عن استدلال الشافعي بالآية بأنَّ المراد من الخيريَّة هي للمكلفين، والمعنى أنَّا نأتي لهم بحكم هو خير من الحكم المذكور السابق؛ لذلك قالوا بأنَّ القرآن يمكن أن ينسخ بالسنَّة المتواترة أو المشهورة، واستدلُّوا على ذلك بأنَّه ممكن عقلاً وواقع شرعًا، فأمَّا الوقوع فمثَّلوه بآية الوصية للوالدين: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] نسخت بحديث: ((لا وصيَّة لوارث))، ولأن الله تعالى قد قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، وتعقَّبهم المصنّف بأنَّ الآية منسوخة بآيات المواريث، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نسخها بآيات المواريث فقال: ((إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه فلا وصيَّة لوارث)).

[قلت: ليس في الآية أيّ إشارة إلى نسخ الآية السَّالفة أصلا، ولولا الحديث لكانت الوصية ثابتة للوالدين مع حقّهما في الإرث، وقد قيل: إنَّ الآية عامَّة مخصوصة بالحديث، فتجوز الوصية للوالدين المشركَينِ، ولا تجوز للمسلَمين].

أمَّا نسخُ القرآن بالسنَّة الآحادية فالجمهور على منعه، والذين أجازوه استدلُّوا بقياس النسخ على التخصيص، وبالوقوع، ومثّلوه بنسخ آية الوصية للوالدينِ بحديث: ((لا وصيَّةَ لوارثٍ))، ونسخ آية: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] بالنهي عن كلّ ذي نابٍ من السباع وكلّ ذي مخلبٍ من الطير، وأُجيب عنه بأنها ليست منسوخةً؛ بل فيها أنَّ الَّذي حُرّم إلى نزول الآية هي الأربع المذْكورة فيها، وهذا لا يمنع الزيادةَ عليها بعد ذلك، [قلت: وقد يُقال: إنَّ الآية قد حصرت المحرَّمات في هذه المذكورات، ثم جاءتِ السُّنَّة بنسخ هذا الحصر والزِّيادة عليه].

نسخُ القياس والنسخُ به: القياسُ لا يكون أصلا ناسخًا للكتاب والسنة؛ وقال بعضهم: إذا كانت علتُه منصوصةً فيجوزُ النَّسخُ به، وهل يُمكنُ نسخُ القياس؟

أمَّا نسخُه تبعًا لأصله فجائزٌ، وأمَّا نسخُه مع بقاء أصله فلم يجزْه الجمهور، ولكنَّ الظَّاهرَ من صنيعهم أنَّهم منعوا تسميةَ ذلك نسخًا، مع أنَّهم لا يمنعون بقاءَ حكمِ الأصْل، والمنع من القياسِ عليه لدليلٍِ يمنعُ ذلك؛ إذْ لا قياسَ مع النصّ.

وأمَّا القياسُ على أصل نُسخ حكمُه فقد منعه الأكثرُ، ونُقل عن أبي حنيفةَ جوازه؛ ومنه جواز قياس صيام الفرض بنيَّةٍ من النَّهار على صيام عاشوراء الَّذي كان واجبًا ونسخ كما مرَّ.

نسخ المفهوم والنسخ به: لا يَجوز النَّسخ بمفهوم المخالفة؛ لأنَّه أضعف من المنطوق، وأمَّا نسخه فجائز، مثل نسخ مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الماء من الماء))؛ فإن مفهومه إذا لم يُنزلْ فلا غُسل عليه، لكنه نُسخ بحديث: ((إذا مس الختانُ الختانَ فقد وجب الغُسل)).

وأمَّا مفهومُ الموافقة فالجمهور على جواز النسخ به؛ لأنه كالمنطوق أو أقوى.

وأمَّا نسخه مع بقاء أصله فالأكثر على منعِه، ومنهم مَن جوَّزه مطلقًا، ومنهم مَن جوَّزه إذا كان المفهومُ أولى بالحكم من المنطوق، ولم يشتهرْ له أمثلةٌ في كلام الأصوليّين.

طرق معرفة النسخ: يُعرف النسخُ بأمور أهمها:

1- النَّصّ على النسخ: كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كنتُ نَهيتُكم عن زيارة القبور فزُوروها)).

2- تأخُّر أحدِ النَّصَّين المتعارِضَين عن الآخر مع تعذُّر الجمع بينهما: فإذا عرفنا المتأخِّرَ منهما كان ناسخًا لما تقدمه، ويُعرف ذلك بالتاريخ أو بنص الصحابي، وغير ذلك.

3- اتفاق الصحابة على نسخ أحد النَّصَّين بالآخر.

4- تركُ الصَّحابة والتَّابعين العمل بالحديث من غير نصٍّ على النسخ: مثل تركهم العمل بحديث أخذِ الشطْر من مال مانع الزكاة، وحديث قتْل الشَّارب في المرَّة الرابعة، [قلت: لم يتَّفقوا على ذلك بل عمل بالحديثَين طائفة من السَّلف كما هو معروف].

ثالثًا: الترجيح:

التَّرجيح في اللُّغة: مأخوذٌ من رُجحان الميزان، وهو مَيَلانُ إحدى كفَّتيه، وفي الاصطلاح: "تقويةُ إحدى الأَمارتين على الأخرى، وقيل: بيانُ اختصاص الدليل بمزيد قوَّةٍ عن مُقابِلِه"، والفرق بين التعريفين أنَّ الأوَّلَ عبَّر بالأَمارة، والثَّاني عبَّر بالدَّليل، وهو أقربُ إلى اصطلاح الفقهاء الذين يُطلقون الدَّليلَ على القطعيّ والظنِّيّ.

شروط الترجيح: يشترط في التَّرجيح ما يلي:

1- أنْ يكونَ بين الأدلّة لا بين البيِّنات أو الدعاوى؛ لأن البيّنةَ على المدعي واليمين على مَن أنكر، هكذا قالوا، وفيه نظرٌ أشار إليه ابنُ القيِّم في إعلام الموقّعين.

2- تحقُّقُ التعارُضِ في الظاهر بين الدليلين.

3- تعذُّرُ الجمعِ بين الدليلين تمامًا؛ لأنَّ العمل بالدليلين ولو من وجهٍ أولى من إهمالهما أو إهمال أحدِهما.

4- عدم معرفة تاريخ كلٍّ من الدليلين، فإنْ عُرفَ التاريخُ فالمتأخِّرُ ناسخٌ للمتقدِّم.

واشترط بعضُهم أنْ يكونَ التَّرجيحُ بصيغةٍ في الدَّليل، لا بدليلٍ مستقلٍّ، والصَّواب عدمُ اشتراط ذلك؛ لأنَّه يمكنُ أنْ يتساوى الدَّليلان ويترجَّحُ أحدُهما بموافقة دليلٍ آخَرَ، وستأتي أمثلةُ ذلك.

حكم التَّرجيح:

يجب على المجتهد في حالة التعارض مع تعذر الجمع والنسخ أنْ يبحثَ عن مرجِّح ليعملَ به إجماعًا، دليل ذلك قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} [الزمر: 55]، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]، والآيتان فيهما دليلٌ على اتّباع الدَّليل الرَّاجح؛ لأنه أحسنَ من المرجوح، ولأنَّ إعمال أحدهما أوْلى من تركِهِما، وعلى ذلك إجْماع الصَّحابة - رضِي الله عنهم.

وجوه الترجيح:

لقد جرت عادةُ الأصوليين أنْ يفصلوا الترجيحَ بين الأدلّة النقلية عن الأدلّة العقليّة؛ لذلك نقول:

طرقُ الترجيح بين الأدلَّة النقليَّة:

وله ثلاثة أوجُه: أوَّلها التَّرجيح من جهة السند، ثمَّ من جهة المتن، ثمَّ لأمر خارجيّ، وهاك بيانها:

أولاً: التَّرجيح من جهة السَّند: وله طرقٌ أهمُّها:

1- ترجيح ما كثرت رواته على الأقل، خلافًا للحنفيَّة الذين قاسوا الأخبار على الشهادات، فكما أنَّ الحقَّ لو شهد به شاهدان ثبت، ولا يزيدُ ثبوتُه بشهادة ثلاثة أو أربعةٍ، أو بمعارضتهم، فكذلك لا يُرجَّحُ بالكثرة في الرواية، والرَّاجح صحَّةُ التَّرجيح بالكثرة في الأخبار؛ لأنَّ الشَّهادة لها نِصابٌ، إذا وُجد تمَّتْ وقضى بها القاضي، وأمَّا الرّواية فليس لها نِصابٌ محدَّدٌ، فقد تصلُ إلى التَّواتر أو الاستفاضة، وقد تقفُ عند درجة الآحاد.

وذهب القاضي الباقلاَّني والغزالي إلى أنَّ العبرةَ بظنّ المجتهد، فإن غلب على ظنِّه صدقُ الواحد أخذَ بحديثه وتركَ حديثَ الاثنين أو الثلاثة، وهو قريبٌ من قول الحنفيَّة.

2- فقه الرَّاوي: حيث تُقدّمُ روايةُ الفقيه على غيره مطلقًا، سواء أكانت الروايةُ باللّفظ أو المعنى؛ لأنَّ الفقيهَ أقدرُ على نقل اللَّفظ والمعنى من غيره، مثل تقْديم رواية إبراهيم النخعيّ عن علقمةَ عن ابن مسعود، على رواية الأعمش عن أبي وائل عن ابن مسعود؛ فالأعمش وأبو وائل أقلُّ فقهًا من النخعيّ وعلقمةَ.

3- كونُ أحدِ الرَّاويين صاحبَ الواقعة أو له صلةٌ قويَّةٌ بما رواه: مثل تقْديم رواية ميمونة - رضي الله عنها -: تزوَّجني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان، على رواية ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكحها وهو محرمٌ.

4- كونُ أحدِ الرَّاويين ممن تأخَّر إسلامُه: لأنَّ في ذلك دليلاً على تأخُّرِ حديثه، فيكونُ ناسخًا لما يُعارضه.

5- قوَّةُ الحفظ والضبطِ: ومثَّله إمامُ الحرمين بتقديم رواية عبيدالله بن عمر بن عبدالعزيز على رواية أخيه عبد الله؛ لأن الشافعيَّ قال: "بينهما فضلُ ما بين الدرهم والدينار".

6- تقديم المسنَد على المرسَلِ؛ للخلاف في حجّية المرسَل: وقيل بتقديم المُرسَل إذا كان صاحبه لا يُرسلُ إلاَّ عن ثقات.

ثانيًا: الترجيح من جهة المتن: وله طرقٌ أهمها:

1- ترجيحُ الخاصِّ على العامِّ، والأخصُّ من العامَّين على الأعمّ منهما: وهذا مذهب الجمهور، وعند الحنفية أنهما سواءٌ، فإذا عُرف المتأخِّرُ فهو ناسخٌ للمتقدِّم في القدر الذي اشتركا فيه، وإنْ جُهل التاريخُ نُظِر في عمل الصَّحابة بأيِّهما كان، وعلى الأوَّل يكونُ الخاصُّ مخصِّصًا للعامِّ مطلَقًا، ومقدَّمًا عليه كما تقدَّم تمثيلُه في العموم والخصوص.

ومن ذلك كذلك تقديم الأخصِّ من العامَّين على الأعمّ منهما، كما يقدَّمُ حديثُ: ((مَن قَتل قتيلاً فله سلَبُه)) على عموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]، مع أنَّ الحديثَ فيه عمومٌ من جهة المستحِقّ للسلَب، ومن جهة السلَب نفسِه، فإنه يشملُ الثيابَ والسلاحَ، ولكنَّه أخصُّ من الآية فإنَّها عامّة في جماعة المسلمين، وعامَّةٌ من جهة الغنيمة (ما غنمتم)، وعند الحنفية أنَّ السَّلَبَ يُخمَّسُ كسائر الغنيمة، ولا يروْن تخصيص الآية بالحديث المذكور.

2- ترجيح العامِّ المحفوظ على العامِّ المخصوص: لأنَّ التَّخصيصَ يُضعفُ دلالةَ العامِّ، مثل تقديم حديث: ((إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلا يجلسْ حتَّى يُصلِّيَ ركعتَين)) على حديث النَّهي عن الصَّلاة في الأوقات الخمسة.

[قلت: لكن خرَّجه الجمهور على أنَّهما تعارضَا فيقدم الحاظر على المبيح فلا تصَلَّى].

3- ترجيحُ ما قلَّت مخصِّصاتُه على ما كثرت مخصِّصاتُه: مثلُ تقديم آية: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 5] على آية: {وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] في الدلالة على حِلّ متروك التسمية من ذبائح أهل الكتاب؛ لأنَّ الآيةَ الأولى مخصِّصاتُها أقلّ.

4- ترجيحُ العامِّ المطلَق على العامِّ الوارد على سببٍ في غير صورة السبب: مثل تقديم حديث: ((مَن بدَّلَ دينَه فاقتلوه)) على حديث النهي عن قتل النساء؛ فإنه واردٌ على سببٍ وهو الحرب.

5- ترجيحُ الخبر الدالّ على المراد من وجهين على الخبر الدالّ عليه من جهةٍ واحدةٍ: مثل تقديم حديث: ((إنَّما الشفعةُ فيما لم يُقسمْ، فإذا وقعت الحدودُ وصُرِّفت الطرقُ فلا شُفعةَ)) على حديث: ((الجارُ أحقُّ بصَقَبِه)).

[قلت: ومن الناس من سلك مسلك الجمع في هذا فأثبت الشفعة للجار إذا كانت لهما طريق واحدة أو يشتركان في شيء، والله أعلم].

6- ترجيحُ ما فيه إيماءٌ إلى العلَّة على ما ليس كذلك: مثل تقديم حديث: ((مَن بدَّلَ دينَه فاقتلوه))، على حديث النهي عن قتل النساء، فإنَّ الأوَّلَ فيه تنبيهٌ على العلَّة وهي الردَّةُ، والثاني مطلَقٌ عن التَّعليل.

7- ترجيحُ ما سِيقَ لبيان الحكم على الدالِّ على الحكم بلفظه من غير أنْ يُساقَ لبيانه: مثل ترجيح الحنفيَّة أحاديثَ النَّهي عن بيع الملامسة والمنابذة على عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]؛ فإنَّ الآيةَ لم تُسَقْ لبيان حكم البَيع بجميع صوره، وإنَّما سيقت لبيان الفرق بين البيع والرِّبا، وأمَّا الأحاديث فقد سيقت لتحْريم تلك البيوع بأعيانِها.

8- ترجيحُ النَّاقل عن حكم الأصل على الموافق لحكم الأصل وهو البراءةُ الأصليةُ: وهذا مذهب الجمهور، مثل ترجيح أحاديثِ تحريمِ الحُمُرِ الأهليةِ على الأحاديث التي فيها إباحتُها؛ لأن التحريمَ ناقلٌ عن حكم الأصل.

9- ترجيحُ ما يقتضي الحظر على ما يقتضي الإباحة: لأنَّه أحوط، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَريبُك))، [ويُمكن تمثيلُه بتحيَّة المسجد كما سبق].

10- ترجيحُ المثبِت على النافي: لأن مع المثبت زيادةَ علمٍ خفِيت على النافي، مثل ترجيح حديث بلالٍ - رضي الله عنه - في صلاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - داخلَ الكعبة على حديث أسامةَ - رضي الله عنه - أنه لم يُصلِّ، وخَصَّ ذلك بعضُهم بما لو لم يذكر النافي سببًا واضحًا للنَّفي، فإنْ ذكر سببًا لجزمه بالنفي غيرَ عدم العلم فهما سواءٌ.

11- ترجيحُ النصِّ على الظَّاهر، والحقيقةِ على المجاز: مثل ترجيح الخاصِّ على العامِّ؛ لكون العامِّ ظاهرًا والخاصِّ نصًّا، وأمثلتُه معروفةٌ.

12- ترجيحُ المنطوقِ على المفهومِ المخالِفِ: مثل ترجيح منطوق حديث: ((الماءُ طهورٌ لا يُنجِّسْه شيءٌ)) على مفهوم حديث القُلَّتين؛ فإنه يُؤخذُ منه بطريق مفهوم المخالَفة أنَّ ما نقص عن القُلَّتين يتنجّسُ بملاقاة النجاسة، وإنْ لم يتغيَّرْ، ومنطوقُ الأول يدلُّ على عدم تنجُّسِه إذا لم يتغيّر لونُه أو طعمُه أو ريحُه.

ثالثًا: التَّرجيحُ لأمرِ خارجيٍّ، وله طرقٌ منها:

1- اعتضادُ أحدِ الخبرين بموافقة ظاهر القرآن: كما نُقل عن الشافعيّ قولُه: "ما وافق ظاهرَ القرآن كانت النفوسُ أميلَ إليه".

2- ترجيحُ القول على الفعل المجرَّد: لأنَّ الفعلَ إذا لم يصحبْه أمرٌ احتمل الخصوصيةَ أو غيرها، مثل ترجيح حديث النهي عن استقبالِ القبلةٍ واستدبارِها عند قضاء الحاجة، على حديثِ ابنِ عمرَ: "رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجتَه مستقبلاً بيتَ المقدِس، مستدبرًا الكعبةَ".

3- ترجيحُ ما كان عليه عملُ أكثر السَّلف على ما ليس كذلك: لأنَّ احتمالَ إصابة الأكثر أغلبُ.

4- ترجيح الخبر الموافق للقياس على المخالف له: مثل ترجيح حديث: ((إنَّما هو بَضعة منك)) على حديث: ((مَن مسَّ ذكره فليتوضَّأ))؛ لأنَّ الأوَّل موافق للقياس دون الثاني.

5- ترجيحُ الخبر المقترن بتفْسير راويه له بقولٍ أو فعلٍ، دون الآخَر: كما في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في خيار المجلس، فقد فسَّره ابن عمر بالتفرُّق بالأبدان.

الترجيح بين محامل اللّفظ الواحد: وهذا يحتاج إلى معرفة قواعد الترجيح بين معاني اللّفظ وأهمها:

1- تقديمُ الحقيقة على المجاز اتِّفاقًا: مثل ترْجيح مَن حمل حديث: ((الجارُ أحقُّ بشفعة جاره)) على المجاوِر لا على الشَّريك؛ لأنَّ إطلاقَ الجار على الشَّريك مجازٌ، وأمَّا إذا كانت الحقيقةُ مهجورةً فإنَّ المجازَ يُصبحُ حقيقةً عرفيةً، فتُقدَّمُ على الحقيقة اللُّغوية المهجورة، كمَن حلف أن لا يأكل من هذه النَّخلة، فيُحمَلُ على الأكْل من ثمرِها لا من خشبها.

وأمَّا إذا كان المجازُ غالبًا على الحقيقة مع بقاء استعمال اللفظ في حقيقته، ففيه خلافٌ ليس هذا موضع بسطه.

2- ترجيحُ الحقيقةِ الشَّرعيَّة على الحقيقة اللُّغويَّة: مثل حمل لفظ الصلاة في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تقبل صلاة بغير طَهورٍ)) على الصَّلاة الشرعية لا الدعاءِ.

3- تقديمُ الحمل على المجاز على الحمْل على الاشتراك: لأن المجازَ يُمكنُ العملُ به، بخلاف المشترَك فيجبُ التوقُّفُ فيه على البيان، مثل لفظ النكاح في مثل قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم} [النساء: 22]، فإنَّه يحتمل أن يكون مشتركًا بين الوطء والعقد، ويحتمل أن يكون مجازًا في العقد فتحرم المرأة به.

[قلت: ومن جعله من المشترك فلا إشكال في قوله لأنَّه يجعله عامًّا في كل معانيه لعدم التنافر بين المعنيين كما تقدم].

4- تقديمُ المعنى الذي لا يحتاج إلى إضمارٍ على المعنى الذي يحتاج إلى إضمارٍ: مثل تقديم ابنِ حزمٍ تركَ الإضمار في قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، ولم يضمرْ (فأفطر)، كما فعل الجمهور، ومن ذلك أنَّ الجمهورَ حملوا حديث: ((ذكاةُ الجنين ذكاةُ أمّه)) على أن ذكاةَ أمّه تكفي عن ذكاته، والحنفيَّة قالوا لا بدَّ أنْ نُضمر (مثل)؛ ليكونَ المعنى مثل ذكاة أمّه، وترك الإضمار أوْلى من الإضمار.

5- تقديمُ التأسيس على التَّأكيد: مثل مَن قال لزوجته: أنتِ طالقٌ طالقٌ، فهل يُحمَلُ على التَّأكيد فلا تقعُ إلاّ واحدةً، أو على التَّأسيس فتقعُ طلقتان، والقاعدة تُؤيِّدُ الاحتمالَ الثاني.

الترجيحُ بين المعقولين:

والمراد به هنا الأقيسةُ أمَّا طرقُ الفقه الأُخرى، كالاستِصْحاب بأنواعه والاستِصْلاح والاستِقْراء فستأتي، وفيما يلي أهمّ طرُق التَّرجيح بين الأقيسة:

1- تقديمُ القياس في معنى الأصْل على قياس العلَّة وقياس الشَّبَه: مثل تقديم قياس العبد على الأمة في تنصيف الحدّ، على قياس الشبه على الحرّ الذَّكر بجامع الذُّكورة.

2- تقديمُ قياس العلة على قياس الشَّبَه وقياس الطَّرْد: مثل تقديم قياس البيرة المُسكِرة على الخمر بعلّة الإسكار على قياسها على عصير التفاح؛ للتشابُه بينهما في الصورة والشكل.

3- تقديمُ القياس الذي علّتُه مطَّرِدةٌ منعكِسةٌ، على ما ليس كذلك: مثل تقديم تعليل الشافعيّ للربا في الأصناف الأربعة (البُرّ، والتمر، والشعير، والملح) بالطُّعم، على تعليل مَن علّله بالكيل أو الاقتيات؛ لأنَّ تعليلَ الشافعيّ يشملُ القليلَ والكثيرَ، والتعليلُ بالكيل لا يَشملُ الشيءَ اليسيرَ الذي لا يُكالُ، ولأنَّ المِلْح ليس قوتًا.

4- تقديمُ القياس الذي علَّتُه منصوصة أو مومأ إليْها على ما ليس كذلك: مثل تقديم قياس الشَّافعيَّة التين على البرّ في تحريم التَّفاضُل بجامع الطُّعم على قياس غيرهم التّين على القَصَب بجامع عدم الكيل.

5- تقديمُ القياس الذي علَّتُه مُثبتةٌ على الَّذي علَّتُه نافية: مثل المثال السَّابق؛ لأنَّ علّةَ الطُّعم مُثبِتةٌ، وعلَّةَ عدمِ الكيل نافية.

6- تقديمُ القياس الذي ثبت حكمُ أصله بالنَّصِّ على الَّذي ثبت حكم أصله بالظاهر: مثل تقديم قياس المذْي على البول في النجاسة، على قياس المذي على المنيّ؛ لأن نجاسةَ البول ثبتتْ بالنصّ، وكذلك الإجماع قائمٌ على نجاسة بول الآدميّ، وأمَّا المنيُّ فطهارتُه ثابتةٌ بالظاهر؛ حيث كانت عائشةُ - رضيَ الله عنها - تحُتُّه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يابسًا، وتغسلُه إذا كان رطبًا.

7- تقديمُ القياس الموافق للأصول الثَّابتة في الشَّرع على ما ليس له إلاّ أصلٌ واحدٌ: مثل ترجيح قياس الجناية على العبد، على سائر الإتلافات التي تحدث من الإنسان، على قياسها على دية الخطأ في كون ديته على العاقلة؛ لأنَّ جعْلَ ديةِ الخطأ على العاقلة أصلٌ واحدٌ لا نظيرَ له في الشرع، وجعْلُ الإتلافات الماليَّة على الفاعل تشهدُ له أصولٌ كثيرةٌ في الشرع، فكان القياسُ عليْها أوْلى.

8- تقديمُ القياس الموافقِ لظاهر قرآن أو سنَّةٍ أو قول صحابيٍّ على ما ليس كذلك: مثل ترجيح قياس جراح العبد على الإتلافات الماليَّة المذكورة في المثال السَّابق، على قياسه على دية الخطأ؛ لكون الأوَّل متأيِّدا بظاهر قوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، ومثل تقديم قياس الاستِصْناع على البيع والإجارة، على قياسه على بيع المجهول؛ لأنَّ الأوَّلَ متأيِّدٌ بعمل الصَّحابة، ومن ذلك قياسُ الأجير المشترَكِ على المشتري أو المستعير في ضمان ما تلف عنده بجامع القبض لمصْلحته، على قياسه على المؤتمن في عدم الضَّمان، والأوَّل متأيِّدٌ بفعل علي - رضي الله عنه - مع سكوتِ مَن حضر منهم.

الباب الخامس

الاجتهاد

تعريفه: الاجتِهاد في اللغة بذل الجهد، وهو الوسع والطاقة، واصطلاحًا هو: "بذْل الوُسع في إدراك حكمٍ شرعيٍّ بطريق الاستنباط من متأهل"، فقولُنا (بطريق الاستنباط) خرجَ به بذلُ الوُسع لإدراك الحكم الشرعيِّ بالحفظ.

أركانُ الاجتهاد:

للاجتهاد ثلاثةُ أركانٍ، هي: المجتهِد وهو الفقيه، والمجتهَد فيه وهي الواقعةُ المطلوبُ حكمُها، ثمَّ النَّظرُ وبذلُ الجهد للتوصُّل إلى الحكم.

الاجتهادُ في عصر الصَّحابة والتَّابعين وكبار الأئمَّة:

لقد كان الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - في عهده هو المرجع في الفتوى، ومع ذلك فكان الصَّحابة - رضي الله عنهم - يجتهدون في غيابهم عنه، فإذا جاؤُوه عرضوا عليه اجتهادَهم، كما فعلوا عندما بعثهم إلى بني قُريظةَ قائلا لهم: ((لا يُصلّينَّ أحدٌ العصرَ إلاَّ في بني قُريظةَ))، فلما جاءهم وقتُ العصر قال بعضُهم: لم يُردْ منَّا أنْ نُؤخِّرَ الصلاةَ، وإنما أرادَ استعجالَنا، وقال آخرون: بل نأخذُ بظاهر النَّصِّ، ولا نُصلِّي حتَّى نصل بني قُريظةَ ولو غربت الشَّمس، فعمل كل فريق باجتهاده، ولم يعنف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحدًا منهم.

وأمَّا بعدَ وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد اشتهر اجتهادُ الصحابة، ونُقل إلينا كثير من ذلك، ومنه أنَّ ابن عباس - رضي الله عنه - كان لا يرى العولَ في الفرائض، خلافًا لأكثر الصَّحابة الَّذين قاسوه على ضيق التَّركة عن سداد الدَّين وتوزيعها على الغُرماء، كلٌّ بحسب دَينه، بحيثُ ينقُصُ ما يأخذُه كل منهم بمثل نقص التركة عن مجموع الدَّين.

وفي عهد التَّابعين ازدادت الحاجةُ إلى الاجتهاد؛ لكثرة الوقائع، واختلاطِ المسلمين بالأُمم الأُخرى، ونشأ على إثر ذلك ما عُرف بمدرسة أهل المدينة أو أهل الحديث، ومدرسة أهل العراق وهي لأهل الرأي.

شروط الاجتهاد: هي كثيرة عندهم وإنما نكتفي منها بما قام عليه الدليلُ وهي:

1- الإسلام: دليل ذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100].

2- العقل والبلوغ: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((رُفع القلمُ عن ثلاثةٍ)) وذكر منهم: ((الصَّبي حتَّى يحتلِم والمجنون حتَّى يعقل)).

4- معرفةُ الآيات والأحاديث الدَّالَّة على الأحكام: وذلك بمعرفة الطرق الواضحة كطريق النصّ أو الظاهر، ومعرفة الكثير من صحيح تلك الأحاديث أو سقيمها، أمَّا الإحاطة بكلِّ ما في القرآن والسنة من معان فليس ممكنًا؛ إذ لو اشترطنا ذلك لما تمكن أحدٌ من الاجتهاد.

5- معرفة الناسخ والمنسوخ: وذلك حتَّى لا يأخذ أحد بالمنسوخ من تلك الأحكام.

6- معرفةُ مواطن الإجماع: حتى لا يخالفَها مجتهد لأنَّ مخالفتَها حرام.

7- معرفة بقيّة الطرق الموصلة إلى الفقه وكيفية الاستدلال بها: كالقياس والاستصحاب والاستصلاح والأعراف والعوائد في الأحكام المبنيَّةَ عليها.

8- معرفة دلالات الألفاظ: وذلك بمعرفة ما يصحُّ من الأساليب وما لا يصِحُّ ونحو ذلك.

9- معرفة مراتبِ الأدلَّة، وطرقِ الجمعِ بينها، وطرقِ التَّرجيحِ عندَ التعارُض.

10- العدالةُ: فمن ليس عدلاً لا يُقبلُ قولُه في الشَّرع، كما لا يُقبلُ في الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنَّ الفُتيا خبرٌ عن حكم الله تعالى.

تجزُّؤ الاجتهاد: ومعناه أنْ يكونَ الفقيهُ مجتهدًا في مسألة أو بابٍ من أبواب الفقه دون غيره، ويُمكنُ تلخيصُ ذلك فيما يلي:

فمن المعلوم أنه ليس من محلّ النزاع أن لا يتوفر في المجتهد شروطُ الاجتهاد العامَّة، كمعرفة العربيَّة ودلالات الألفاظ والقدرة على الاستنباط، ومعرفةُ ما يحتاج إليه في المسألة من أصول الفقه، فمن لم يُحصِّل هذه الشروط لا يُمكنُ أنْ يُعدَّ مجتهدًا في شيءٍ، وإنما موضعُ النزاع فيمن له قدرةٌ على النظر في الأدلّة والاستنباط منها، وحصَّل الشروطَ العامّةَ للاجتهاد إذا لم يُحطْ بأدلّة الفقه كلِّها، فهل له أنْ يجتهدَ في المسائل الَّتي أحاط علمًا بأدلَّتها أم لا؟ فيه خلاف:

فذهب جمهور العُلماء إلى أنَّ مَن حصَّل هذه الشروط العامَّة فله أنْ يجتهد في المسألة المستقلَّة، ومنع من ذلك آخرون لأنَّ الاجتهادَ لا يتجزأُ، ومَن لم يُحطْ بأدلَّة الفقه على الوجه المذكور فليس له الاجتِهاد أصلا؛ لأنَّ مسائلَ الفقه متَّصلٌ بعضُها ببعضٍ، وذهب بعضُهم إلى أنَّه يتجزَّأُ بالنِّسْبة للأبواب لا بالنِّسْبة للمسائل في الباب الواحد، وفرق المصنّف بين المسائل التي تكلَّم فيها الفقهاءُ السابقون فيجوز، وبين النوازل التي لم يشتهر البحثُ فيها فلا.

مسألة اجتهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - واجتهاد الصحابة في عهده:

أما مسألةُ اجتهادِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فالجمهور على اجتهاده، إذا لم يأته وحيٌ، وقد يتوقّفُ إلى نزول الوحي، وإذا اجتهد فمنهم مَن يقول إنه مسدَّدٌ للحقِّ لا يُمكنُ أنْ يُخطئَه أبدًا؛ برهان ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى} وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، [وقوله - عليْه السَّلام - لابن العاص: ((والَّذي نفسي بيده، لا يخرج منه إلاَّ حقّ))].

ومنهم من يقول: قد يُخطئُ، ولكنَّ اللهَ يُصوِّبُه حالاً، كقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]، وقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 1 - 3]، وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: 67]، وغير ذلك، وليس في هذا انتقاصٌ لمنزلة الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - وإنما فيها دليلٌ على بشريَّته، وصدقه وأمانته؛ حيث بلغ الأمَّة خطأه وتصويب الله له.

[قلت: ما ذُكر من أخطائه في بعض اجتهاداته، فهو محمول على الأمور الدنيويَّة كأمور الحرب والأسارى ونحو ذلك ممَّا يتناسب مع بشريَّته، أمَّا الأمور الشَّرعية فلا يجوز القول بأنَّه قد يخطئ فيها، ولم يثبت هذا أبدًا، والله أعلم]. اهـ.

أمَّا مسألة اجتهادِ الصَّحابة في عهده - صلى الله عليه وسلم - ففيها خلافٌ، والصَّحيحُ جواز ذلك في غيابهم عنه - عليْه السَّلام - أو في حضوره بإذْنِه، فمن الغائب اجتهادُ عليٍّ - رضِي الله عنْه - حينما بعثه إلى اليمن قاضيًا في وقائعَ حدثتْ له، واجتهادُ عمار - رضي الله عنه - في التيمُّم للجنابة، ومن الحاضر اجتهادُ سعدِ بنِ معاذٍ - رضي الله عنه - في الحكم على بني قريظة، واجتهادُ عمرو بن العاص - رضي الله عنه - بإذنه.

وأمَّا الدليلُ على منع الحاضر إذا لم يُؤذنْ له فقولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]، وأمَّا قول أبي بكر - رضي الله عنه - لمن طلب سلَبَ القتيل الذي قتله أبو قتادةَ: "لا ها الله إذًا! لا يعمدُ إلى أسد من أُسْد الله يُقاتل عن الله وعن رسوله فيُعطيك سلَبَه"، فليس اجتهادًا بل أخذًا بالنَّصِّ؛ فإنَّ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - كان قد قال: ((مَن قتل قتيلاً له عليه بيِّنةٌ فله سلَبُه))، وهو وعدٌ منه - صلى الله عليه وسلم - وليس من عادته إخلافُ وعده، أو هو قضاءٌ سابقٌ ولم ينقُضه.

ومما أُخذ من المسألتين: حكمُ الرجوع إلى الظنّ مع إمكان اليقين، فأجازه مَن أجاز الاجتهادَ في المسألتين، ومنعه مَن منعه، وذلك مثل الوضوء من الماء الذي يغلبُ على الظنِّ طهارتُه، مع كونه على شاطئِ البحر المقطوع بطهارته، ومن ذلك الإفطارُ بناءً على سماع الأذان أو النظر للسَّاعة دون الخروج لرؤية غروب الشَّمس، ونحو ذلك من المسائل.

مسألة المصيب في المسائل الاجتهاديَّة أهو واحدٌ: وخلاصةُ الكلامَ عليها في مقامين:

أوَّلهما: هل يُصوب كل من المختلفين؟ والثَّاني: هل يأثمُ من خالف ما هو الحقّ عند الله؟

فأما المقام الأوَّل، فإن المسائلَ العلميةَ الخبريةَ لا يُمكنُ أنْ يتعدَّدَ الحقُّ فيها؛ لوجود التَّناقُض الممتنع عقلا، وعليه فمَن خالف دليلا قطعيًّا أُثِّم.

وأمَّا المسائل العمليَّة، فإن كانت قطعيَّة، فالحقّ فيها ما قام عليه الدَّليل، وإن كانت ظنّيَّة فقد اختلفوا فيها: أيُقال: الجميع مصيبون أم المصيب واحد؟ والثَّاني أرجحُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سمّى أحدَ المجتهدَين مصيبًا، والآخَرَ مخطئًا، فقال: ((إذا حكم الحاكمُ فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجرٌ))، ولأنَّه لو كان الجميعُ مصيبًا فيها للزم اجتماعُ الضدَّين، ولما كانتْ هناك حاجةٌ إلى المناظرة والاستدلالِ على المخالف؛ لأن الخلافَ يكونُ من باب اختلاف التنوُّع، والإجماعُ على خلاف ذلك، وأمَّا ما نُقلَ عن الشَّافعيِّ من تصويب المجتهدين فهو محْمول على أنَّ المجتهد قد أصاب في عمله بما توصَّل إليه اجتهادُه، وليس المرادُ أنَّه أصاب الحقَّ عند الله في واقع الأمر.

وأمَّا عن المقام الثاني: وهو مقام التَّأثيم، فإن كان في مسائل الاجتِهاد فإنَّ الجماهيرَ متَّفقون على أنَّ كلَّ مجتهدٍ من المسلمين مأجورٌ، إمَّا أجرًا واحدًا أو أجرين، للحديث السابق، ولم يُنقلْ خلافٌ في ذلك، إلاَّ عن ابن عُليَّةَ وبعضِ الظاهرية، وقد بنى بعضُ العلماء على الخلاف في تصويب المجتهدين اختلافَهم فيمَن اجتهد في القبلة فصلى، ثمَّ تبيَّن له أنَّه صلَّى إلى غير الجهة الصَّحيحة، فهل عليه إعادةٌ؟

وقد ساق بعضهم المسألةَ على وجهٍ آخَر فقالوا: الواقعةُ إما أنْ يكونَ عليها نصٌّ أو لا، فإنْ كان عليْها نصٌّ، فإما أنْ يجتهدَ في طلبه أو لا، فإن اجتهد ووجد المجتهدُ نصًّا وحكم به فهو مصيب، وإنْ وجده ولم يحكمْ به مع العلم بدلالته، فهو مخطئٌ آثمٌ، وإنْ قصَّر في البحث فهو آثمٌ.

وأما إنْ كانت المسألةُ لا نصَّ فيها، فقد قال جمهورُ المتكلِّمين: ليس لله فيها حكمٌ معيَّنٌ وكلُّ مجتهدٍ فيها مصيبٌ، وقال أكثرُ الفقهاء: لله فيها حكمٌ معيَّنٌ قبلَ الاجتهاد، والمصيبُ فيها واحدٌ، والمخطئُ معذورٌ.

سبب الخلاف:

قال ابنُ دقيق العيد: "سبب الخلاف في هذا اختلافُهم في أصلٍ، وهو: هل لله في كلّ واقعةٍ حكمٌ معيَّنٌ، أو أنَّ حكمَه في مسائل الاجتهاد تبَعٌ لاجتهاد المجتهدين؟ فعلى الأوَّل المصيبُ واحدٌ، وعلى الثاني كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ".

[قلت: وفي الكلام بأن حكم الله يكون تبعًا لاجتهاد المجتهدين - نظرٌ لا يخفى، وكأنه مبني على قول المعتزلة أنَّ الله تعالى لا يعلم بالأشياء حتَّى تقع، فتكون إرادة الله وتقْديره تبعًا لفعل العبد، نعوذ بالله من هذا القول]. اهـ.

تجديدُ الاجتهاد:

ونعني به إعادةُ النظر من المجتهد في حكم الواقعة، لتجدُّد وقوعها أو السؤال عنها، فهل له أنْ يُفتيَ بما أفتى به سابقًا، أو يُعاودَ النظرَ في المسألة؛ لاحتمال أنْ يظهرَ له دليلٌ لم يكنْ قد ظهر له أوَّلاً؟ وهل يكونُ الحكمُ واحدًا لو نسيَ طريقَ اجتهاده الأوَّل أو ذكره؟ وكل ذلك لا يخلو صاحبه من أن يكون ذاكرًا لاجتهاده الأوَّل أو غير ذاكر، أو لم يتجدّدْ له ما يَحتمل أنْ يُؤدّي إلى رجوعه وهو غيرُ ذاكرٍ لطريق اجتهاده السابق، ففي كل هذا أقوال، أحدها: وجوب تجديد الاجتهاد في كل هذه الصور لأنَّه إذا لم ينظرْ فإنه يكونُ مقلِّدًا لنفسه، وقد يكون الحقُّ في غير ما أفتى به أوَّلاً، وخالف آخرون فقالوا بعدم وجوب إعادة النظر، لأنه هو الأصل، ولو أُمرَ بتجديد الاجتهاد لكان إيجابًا من غير دليلٍ، وفصل آخرون فقالوا: إنْ كان ذاكرًا لطريق اجتِهاده السابق فلا يجبُ عليه معاودةُ النظر، وإنْ كان ناسيًا وجب عليه معاودةُ الاجتهاد والنظر، وهو الرَّاجح جمعًا بين الحجَّتين، وبهذا نعرف فائدةَ هذه القاعدة التي تُحيي التجديدَ المستمرَّ للفقه.

أسباب تغيُّر الاجتهاد:

منها الاطِّلاعُ على دليلٍ أو وجه دلالة جديدين، أو تغيُّرُ الأعراف والعادات في مسألةٍ مبناها على العرف والعادة، أو تغيُّرُ المصالح والمفاسد المترتّبة على الفعل في وقتٍ من الأوقات، فيُفتى بناءً على ذلك، ثم يتغيَّرُ الحالُ فتتغيَّرُ الفتوى، أو قد لا يتحقق المناط في الواقعة الجديدة، إما لفوات شرط أو وجود مانع، كما أوقف عمر - رضِي الله عنه - القطع في السرقة عام المجاعة؛ لغلبة الاضطِرار على الناس، والحدّ يمنعه الاضطرار إلى الفعل الموجب له.

القواعدُ المبنيةُ على تغيُّر الاجتهاد: ينبني على ذلك عدة قواعدُ أصولية أهمها:

1- الاجتهادُ لا يُنقضُ بالاجتهاد: فمن تغيَّر اجتهادُه فإنَّه لا ينقَضُ حكمه السابق، ولا يرجعُ فيه بعدَ نفاذه، وكذلك إذا أفتى بفتوى وعمل بها المقلِّدُ، فإن رجوعَه لا ينقُضُ فتواه الني اتّصلَ بها العمل.

2- الاجتهادُ يُنقضُ إذا خالف نصًّا صريحًا، أو إجماعًا صريحًا.

3- هل يلزمُ المجتهدَ إخبارُ مَن أفْتاه بتغيُّر اجتهاده؟ والأكثرون على أنَّه لا يلزمه ذلك، وقيل يلزمُه إنْ لم يتَّصلْ به العملُ وأمكنه إخباره من غير مشقَّةٍ، وهو أرجح؛ لأنَّه من النصح لعامّة المسلمين، والتعاون على البر والتقوى المأمور بهما، وهذا كلُّه إن لم يخالف نصًّا، فإنْ خالف نصًّا صحيحًا لا معارضَ له، أو خالف إجماعًا صريحًا صحيحًا فيجبُ عليه إخبارُ مَن أفتاه بالفتوى الخطأ.

4- لا يُنكَرُ تغيُّرُ الفتوى بتغيُّر الأزمان: وإنَّما يكون هذا فيما له تحديد بالأعْراف والعادات، مثل حكم النَّفقة للزَّوجة وطبيعة السُّكْنى، فقد كان يُقدَّرُ بشيءٍ يسيرٍ من ذلك لتعارُف الناس عليه، وفي هذا الوقت لم يعُدْ كافيًا، ومن ذلك كذلك حكم إنكار المنكر فإنَّه يختلف باختلاف تمكن المسلمين من عدمه.

الباب السادس

التقليد

تعريفه: التقليدُ في اللُّغة وضعُ القِلادة في العُنق، واختلف في تعريفه اصطلاحًا اختلافًا انبنى عليه اختلافُهم في حكمه.

فعرَّفه بعضُهم بأنه: "قَبُول قولِ الغير من غير حجةٍ"، ويشكل عليه إنْ أُريد أنَّ القَبولَ لا حجةَ عليه لزم خروجُ اتِّباع العاميّ للعالم؛ وهذا قد قامت حجَّتُه بقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وبالإجماع على صحًّة سؤال العاميّ للعالم، وإنْ أرادوا أن الذي ليس عليه حجَّةٌ هو القولُ نفسُه، فهذا مشكِلٌ من جهة أنه ما دام كذلك فلا يجوزُ اتباعُ العالمِ فيه عند أكثر العلماء.

لذلك عرَّفه آخرون بأنه: "أخذُ مذهب أو قول الغير بلا معرفةِ دليله"، وهو أولى، ولكن يرد عليه اعتراضٌ وهو: هل يخرج الإنسانُ من مرتبة التقليد إذا عَرف دليلَ المسألة، وإنْ لم يقدر على دفع الشُّبَه عن الدَّليل، والجواب عن أدلَّة القول المخالف؟ والظَّاهر أنَّهم لا يُخرجونه عن مرتبة التقليد بمجرَّد معرفة الدليل؛ ولهذا يجب أن يزيدوا قيدًا فيقولوا: "أخذ مذهب الغير من غير معرفة رجحان دليله"، حتى يصدُقَ اسمُ المقلِّد على مَن لا يعرفُ رجحانَ الدليل، وإن عرف الدليل.

أركانُ التقليد:

للتقليد ثلاثةُ أركانٍ هي: المقلِّدُ وهو العاميُّ، والمقلَّدُ؛ أي: المجتهدُ، والمقلَّدُ فيه، وهو الحكمُ المأخوذُ عن المجتهد.

حكمُ التقليد:

إنَّ حكمه مبني على تعريفه؛ فمن عرَّفه بأنه: "قَبول قولِ الغير من غير حجَّةٍ"، وقصدوا بهذا أنَّ القولَ المقلَّدَ فيه لا حجَّةَ عليه إلاَّ قولُ المجتهد أو فعلُه، ذهبوا إلى تحريمه والمنعِ منه، وهو ما فعله ابنُ حزم وابنُ القيّم والشوكانيُّ، ونقلوه عن جمهور العلماء، ولا يعني هذا أنَّهم يمنعون العامَّةَ من سؤال العلماء، فإنَّ هذا مجمعٌ عليه، وقد أوجب ابنُ حزم على العاميِّ أنْ يسألَ المفتيَ عن دليله، فلا يَقبل فتواه إلاَّ إذا ذكر له الدَّليلَ، أو قال له: إنَّ هذا حكمُ الله - جلّ وعلا - وحينئذٍ لا يكون مقلِّدًا، بل متَّبعًا لشرْع الله الذي ظهر على لسان المفتي.

وأمَّا ابنُ القيم والشوكانيُّ فقد اتَّجه ذمُّهما لتقليد أتْباع المذاهبِ لأئمَّتِهم ولو تبيَّن لهم أنَّ الدليلَ قامَ على خلافها.

وأمَّا الفريقُ الثَّاني الذين عرّفوه بأنَّه: "قَبولُ قولِ الغير من غيِر معرفةِ دليلِه"، أو نحو ذلك، فإنَّهم فرّقوا بين التقليد في أصول الإيمان، والتقليد في الفروع، فمنعوا الأولَ وأجازوا الثاني، وفيما يلي بيان هذا الخلاف المذكور في الموضعين:

1- التقليدُ في الأصول: لقد ظنَّ بعضُ الأصوليين أنَّ المقصودَ بالأصول مسائلُ الاعتِقاد عمومًا، والصواب أنَّها الأصولُ التي يَدخل بها الإنسانُ في الإسلام، وهي الإيمان بالله - جلَّ وعلا - واستحقاقُه العبادةَ وحده، والإيمانُ بصدق رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهذه الأصولُ هي الَّتي لا يجوزُ التقليدُ فيها، وإنَّما يجبُ على كلّ مسلمٍ أنْ ينظرَ في أدلَّتها حتّى ترسخَ في قلبه، فلا يتزعزعُ إيمانُه بها لأدنى شبهة، واستدلُّوا على ذلك بالآيات التي فيها ذمُّ التقليد، كقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [البقرة: 170]، وقوله تعالى في معرِض ذمِّ المشركين: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].

قالوا: ولأن المقلِّدَ إما أنْ يكونَ شاكًّا في صدق مَن قلّده أو متيقِّنًا صدقَه، فإنْ كان شاكًّا فلا يصحُّ إيمانٌ مع الشَّكّ، وإنْ كان متيقِّنًا: فإما أنْ يكونَ بناء على نظرٍ واستدلالٍ، أو بناءً على ثقته بمَن قلّده، فإنْ كان بناءً على نظرٍ واستدلالٍ فهو قد استدلَّ وليس مقلِّدًا، وإنْ كان بناءً على ثقتِه بمَن قلّده وسكونِ نفسِه إليه، فما الفرقُ بين سكونِ نفسِه وسكونِ أنفُسِ المقلِّدين من النَّصارى إلى ما يقولُه القُسسُ والرّهبانُ؟!

[قلت: يؤيّد ذلك حديث البراء بن عازب في سؤال القبر وفيه عن المؤمن: ((يأتيه ملكان فيجلِسانه فيقولان له: مَن ربُّك؟ فيقول: ربّي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرَّجُل الَّذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولان: وما يدريك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدَّقت))، فذكر أنَّه على علم بذلك، بخلاف المنافق المقلّد الذي يقول: هاه هاه لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيضرب].

وتظهر ثمرة الخلاف في أنَّ مَن أوجبَ النظرَ في تلك المسائل فإنَّه يحكمُ بتأثيم مَن تركه مع قدرته عليه، أمَّا مع العجز عنه فلا، ولا يعدُّ شرطًا لصحّة الإيمان، بل الإيمان صحيحٌ إذا لم يخالطْه شكٌّ، وإن لم يعرفْ ما يدلُّ عليه بالنَّظر.

2- التقليدُ في الفروع: والمرادُ بها ما ليس من الأصول التي يدخل بها الإنسانُ في الإسلام، فيدخلُ في الفروع بعضُ مسائل الاعتِقاد، ومسائلُ أصولِ الفقه والفقهُ التي اختلفوا في جواز التقليد فيها:

فذهب الجمهورُ إلى الجواز، واستدلّوا على ذلك بأنَّ فرضَ الجاهلِ سؤالُ العالم، دليل ذلك قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقول الرجل في قصة العسيف عند النبي - صلى الله عليه وسلم -: وإني سألت أهلَ العلم فأخبروني أنّ على ابني جلدَ مائةٍ وتغريبَ عامٍ، ولم ينكرْ عليه الرَّسولُ - صلى الله عليه وسلم - سؤالَه لأهل العلم، بل قد قال الرَّسولِ - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا سألوا إذْ لم يعملوا))، قالوا: ويجب على العالم إفتاء العوام إذا سألوه، وهم عليهم أن يتَّبعوه، وإنَّما الممنوع هو التعصُّبُ المذهبيُّ وتركُ الدليل مع معرفتِه والعلمِ برُجحانه، ومنع من التقليد ابنُ حزم والشوكانيُّ [لأن سؤال أهل العلم بدليله هو سؤال عن حكم الشَّرع، فإذا أخذ به كان متَّبعا لا مقلّدًا]، ولأنَّ التَّقليد لم يكنْ معروفًا في صدر الإسلام، ويؤدِّي إلى التعصُّب وتركِ الحق.

ومن هؤلاء مَن منع التقليدَ الذي هو التزام بمذهب إمامٍ معيَّنٍ من غير بحثٍ عن حجّته، بينما أجاز للعاميّ تقليدَ مَن شاء.

حكمُ تقليدِ المجتهد لمجتهد آخَرَ:

نقل كثيرٌ من الأصوليين الاتّفاقَ على أن المجتهدَ إذا نظر في الواقعة وتوصَّلَ فيها إلى ظنٍّ غالبٍ بحكم الله، فلا يجوزُ له أنْ يتركَ ما غلب على ظنّه ويعملَ بظنِّ غيره، واختلفوا في حكم مَن لم ينظرْ في المسألة بعدُ، أو نظرَ فيها ولم يتوصّلْ إلى ظنٍّ غالبٍ، أو ضاق عليه الوقت من النَّظر إلى أقوال:

أوَّلها: مذهبُ الجمهورِ القائلين بعدم جوازِ التَّقليد للمجتهد مطلقًا، واستدلُّوا بعموم الأدلَّة الدالَّة على ذمِّ التقليد، وأنَّ التقليدَ إنَّما أُذنَ فيه للعاجز عن الاجتهاد، فلا يشملُ القادرَ؛ ولأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((دعْ ما يريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ))، قالوا: ورأي المجتهدِ الآخَرِ مما يرتابُ فيه المجتهد، بخلاف رأيه هو.

وقال آخرون: لا يجوزُ له التَّقليدُ إلاّ إذا ضاق الوقتُ وحضر وقتُ العمل ولم ينظر، أو لم يتبيّنْ له رأيٌ، وقد جعله بعضُهم جائزًا بالاتّفاق في هذه الحالة، دليلُ ذلك أنَّه إن لم يتمكَّنْ من النَّظر لضيق الوقت، أو نظر فلم يظهرْ له حكمٌ معيَّنٌ يكونُ بمنزلة العاميّ؛ إذْ لا يُمكنه التوقُّفُ إلى الأبد.

وذهب محمَّد بن الحسن إلى جواز تقليد المجتهد للأعلم منه، دون مَن هو مثلُه أو أقلُّ منه، وقال بعضهم بجواز تقليد الصَّحابة وحدَهم، وقيل الصَّحابة ثم التابعون، والرَّاجحُ جوازُ التقليد مع ضيق الوقت لا مع سعته؛ لأنه لا يجوزُ لأحد تركُ العمل مع قدرته على سؤال غيره.

سؤالُ العاميّ مَن شاءَ من المفتين:

يجوزُ للعاميّ أنْ يسألَ مَن شاء من المفتين، وله أنْ يسألَ المفضولَ مع وجود الفاضل عند الأكثرين؛ لأنَّ العوامَّ في عهد الصَّحابة كانوا يسألون المفضولَ فيُفتيهم، ولا يأمرُهم بسؤال الفاضل، بينما أوْجب بعضُهم على العاميّ البحثَ عن الأعلم والأتقى ليسألَه.

موقفُ المستفتي من اختلاف المفتين:

إذا سأل المستفتي أكثرَ من عالمٍ فاختلفوا، أو اشتهرتْ فتاوى العلماء مع اختلافها، فالواجب على المستفتي أنْ يأخذَ بفتوى الأعلم من المفْتين، فإنْ تساووا أخذَ بقول الأتْقى والأورع، فإنْ جهل الأعلمَ أو الأورعَ سأل العارفين بهم عن ذلك، ثم أخذ بمَن يغلب على ظنِّه أنَّه الأعلمُ أو الأتْقى، وقال بعضُهم: يتخيَّر، وقيل: يعملُ بالأحوط، وقيل: بل يعملُ بالأسهل.

تقليدُ الميت: اختُلِف فيه على أقوال:

أحدها: مذهب الجمهور أنَّه جائزٌ، وحُكِيَ ذلك إجماعًا أخذًا بعمل أتباع المذاهب، وقياسًا على قبول شهادة الشَّاهد إذا مات قبل الحكم بها، ومنع قومٌ من تقْليد الميت مطلقًا؛ لأنَّ الميتَ لا يُعتدُّ بقوله في الإجماع؛ ولأنَّ تجديدَ الاجتهاد واجبٌ، والوقائعَ تختلفُ صفاتُها المؤثِّرةُ في حكمها، وتغيُّرُها يُوجبُ إعادةَ النظر فيها، وكل هذا لا يُمكنُ تقديرُه إلاّ من الأحياء.

والصوابُ: أنَّ الوقائعَ التي أفتى فيها المتقدِّمون إمَّا أنْ يغلِبَ على ظنِّنا أن تغيُّرَ العصر لا مدخلَ له في تغيُّرِ حكمِها، أو لا.

فإنْ غلب على ظنِّنا أنَّ الأعرافَ والعاداتِ والمصالحَ لم تتغيَّرْ في هذا العصر عنها في العصر السابق، أو أن التغيُّرَ لا مدخلَ له في حكمِها، فلا بأسَ بنقْل فتاوى المتقدّمين والعملِ بها من المقلّدين.

وإنْ لم يحصلْ ظنٌّ غالبٌ بذلك، لم يجز الفتوى فيها بنقْل مذاهب الأموات، ولم يجزْ للمقلّد إذا اطّلع على فتوى المتقدّمين فيها أن يأخذَ بها حتَّى يُراجعَ علماءَ العصر فيها، وهذا الكلام خاصٌّ بمسائل الاجتهاد، التي لم يردْ فيها نصٌّ صريحٌ صحيحٌ، لا معارض له.

التلفيق:

يُطلقُ التلفيقُ في الفقه وأصوله ويُرادُ به في الغالب: "الإتيانُ في مسألةٍ واحدةٍ بكيفيةٍ لا تُوافقُ قولَ أحدٍ من المجتهدين السابقين"، مثل أن يتوضَّأ فيمسحَ على شعراتٍ من رأسه تقليدًا للشَّافعيّ، ويمسَّ امرأةً فلا يتوضّأُ تقليدًا لأبي حنيفةَ، ثم يُصلّي بهذا الوضوء، فهذه الصلاةُ لا تصحُّ على مذهب أبي حنيفةَ؛ لعدم مسح ربع الرأس، ولا على مذهب الشَّافعيّ؛ لكون الوضوء عنده قد انتقض بلمس المرأة.

ويُطلق التلفيقُ على أعمَّ من هذا المعنى عند بعضِهم، حيثُ أدخلوا فيه أخذَ المقلِّد في مسألةٍ بمذهب إمامٍ، وفي مسألةٍ أُخرى بمذهب إمامٍ آخَرَ، حتى ولو لم يكنْ بين المسألتين تلازمٌ.

وهذا لا يُمكنُ منعُه، إلاَّ على قول مَن يُوجبُ على المقلِّد الالتزامَ بمذهبٍ واحدٍ في جميع ما يفعلُ أو يتركُ، وهو قولٌ فاسدٌ لا دليلَ عليه، وقد قام الإجماعُ في عهْد الصَّحابة والتابعين على أنَّ للمقلِّد أنْ يسألَ مَن شاءَ من العلماء، وأنَّ مَن سأل عالمًا في مسألةٍ لا يُمنعُ من سؤال غيره في مسألةٍ أخرى.

كما يُطلَقُ التلفيقُ على أخذ المجتهد بقولٍ جديدٍ مركَّبٍ من قولين مختلفين في المسألة، وهو ما يُسمّيه بعضُهم بإحداث قولٍ جديدٍ، وقد مضى.

وقد يُطلَقُ التَّلفيقُ على فتوى المجتهد بقولٍ مركَّبٍ من قولين مع عدم اعتقاد رُجحانه، وإنما يُفتي به تخليصًا للمستفتي من ورطةٍ وقع فيها، وهذا يدخلُ فيما يُسمّى بمراعاة الخلاف.

والصَّحيحُ أنَّ المجتهدَ إذا رأى أنَّ هذا القولَ أرجحُ في حقِّ هذا المستفتي مراعاةً ليُسر الشَّريعة، ورفعًا للحرج، فيكونُ قد ترجَّحَ عنده القولُ في هذه الصورة بخصوصها، وفتواه حينئذٍ صحيحةٌ.

وأمَّا إذا كان يرى أن الصورةَ المعروضةَ عليه فيها قولٌ آخَرُ أرجحُ، فليس له تركُه والفتوى بالمرجوح.

أمَّا التَّلفيقُ بالمعنى المشهور وهو: "الإتيانُ في مسألةٍ واحدةٍ بكيفيَّةٍ لا يقولُ بها أحدٌ من المجتهدين السابقين"، فقد اختُلف في جوازه، وهو لا يخلو من أن يقع من المقلِّد بقصدٍ أو بغير قصدٍ.

فإنْ وقع بغير قصدٍ فلا شكَّ في جوازه؛ للإجماع على أن له أنْ يعملَ برأي مَن استفتاه، ولا يمتنع أنْ يستفتيَ شافعيًّا في الوضوء ويستفتي مالكيًّا في نقض الوضوء، ثم يُصلي بوضوءٍ لم يُعمِّمْ فيه مسحَ الرَّأس ولا أكثره، وقد مسَّ امرأةً أجنبيةً.

وأمَّا إنْ كان التَّلفيقُ مقصودًا فإمَّا أنْ يحصلَ من مجتهدٍ أو مقلدٍ، فإنْ حصل التَّلفيقُ من مجتهدٍ فيفرَّقُ بين أنْ يرى رجحانَ القول الجديد المركَّب الذي أدَّاه إليه اجتهاده إمَّا مطلقًا أو في هذه الصورة التي استُفتي فيها، أو أنَّه لا يرى رجحانَه حتَّى في هذه الصورة.

فإنْ كان يرى رجحانَ القول مطلقًا أو في هذه الصورة ففتواه صحيحةٌ على الرَّاجح؛ لأنَّ المسألةَ خلافيَّةٌ لا إجماعَ فيها.

وإنْ كان لا يرى رجحانَه لا في هذه الصورة ولا مطلقًا ففتواه باطلةٌ.

وأمَّا إنْ حصل التلفيقُ المقصودُ من مقلِّدٍ فلا يصحُّ؛ لاحتمال أنْ يقعَ في مخالفةِ نصوصٍ شرعيَّةٍ من حيثُ لا يعلمُ، ولأنَّ العملَ بقولٍ جديدٍ من غير استفتاءٍ عملٌ بالهوى والشَّهوة، وهو ينافي التديُّنَ.

شروط التلفيق: اشترط بعض العلماء لصحَّة التلفيق شروطًا أهمها:

1- أن لا يخالف إجماعًا أو نصًّا من كتاب أو سنة.

2- أن لا يكون بقصد التحلل من عهدة التَّكليف.

تتبع الرخص:

ويُقصدُ به الأخذُ بأخفّ الأقوال في المسائل الخلافية.

وهذا العملُ قد يحصُل من مجتهدٍ أو مقلّدٍ، فإن كان من مجتهد فلا يجوز، إلا أنْ يؤدّيَه اجتهادُه إلى رجحانه مطلقًا، أو في صورةٍ من الصور التي سئلَ عنها كما تقدم في التلفيق.

وأمَّا من المقلد فإنَّ التتبُّعَ للرخص لا يكونُ إلاَّ ممَّن له علمٌ بالمذاهب، وقد أجازه بعضُهم، والصَّوابُ منعُه؛ لأنَّ فرضَ المقلّد سؤالُ أهل العلم، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، ولأنَّ تتبُّعَ الرخص عمل بالهوى يؤدِّي بصاحبه إلى التحلُّل من التَّكاليف الشرعيَّة، كما قال بعضُهم: مَن تتبّع الرخصَ فقد تزندق، وإنما يكون هذا فيمَن هذا ديدنُه في مسائل الخلاف.

وأمَّا من أخذ في المسألة والمسألتين بالقول الأخفّ لحاجته إليه، فهذا قد اختُلف في صحَّة عمله، بناءً على ما ذكرناه سابقًا في مسألة العامِّي إذا سأل أكثر من عالم، والرَّاجح أنَّه يطلبُ التَّرجيحَ فيأخذُ بفتوى الأعلم والأوْرع، فإنْ تساويا سأل ثالثًا.

وقد استأنس القائلون بجواز الأخذ بالأسهل بما رُوي عن الإمام أحمد، أنَّه "سأله رجلٌ عن مسألةٍ في الطلاق فقال: إن فعل حنث، فقال له: يا أبا عبدالله، إن أفتاني إنسان (يعني: بعدم الحنث)، فقال: تعرف حلْقةَ المدنيّين؟ - حلقة بالرّصافة - فقال له: إنْ أفتوني يحلُّ؟ قال: نعم".

وهذه القصَّة إنَّما تدلّ لو صحَّتْ على جواز أخذ المقلِّد في مسألةٍ اجتهاديَّةٍ لا نصَّ فيها بأسهل الرأيَين، وقد لا تدل هذه القصَّة على التخيُّر أصلا؛ لأنَّ الإمامَ أحمدَ أرسله إلى علماءٍ ثقاتٍ يعرفهم، وقال له: إنْ أفتوك بالحلِّ فرأيُهم أرجحُ لكثرتهم، وللعاميّ عند اختلاف المفتين أنْ يأخذَ بقول الأكثر منهم؛ لأن الكثرةَ من المرجِّحات.

الخاتمة

الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصَّالحات، وترفع الدَّرجات، وتُقبل الطَّاعات، وبفضله تُكفَّر الخطيئات، وتُمحى السيئات، وبعد:

فقد انتهى - بحمد الله وعونِه - تلخيصُ هذا السِّفْر المبارك الذي احتوى على مجمل مباحث علم الأصول، والَّذي أرجو أن يكون لوجه الله خالصا، ولمضمونه مُلخِّصا، وبمسائل الأصول وافيًا لا منقصا، وأن يكون على وجه يفي عن المطوَّلات، ويبين كثيرًا من المبهمات، ويحرّر طائفة من المشكلات، آملا في كلّ ذلك من ربّ السَّماوات، أن يجعل بذْل جهدي في ميزان الحسنات، وتكفير السيّئات، وما كان فيه من سداد، فهو من الله ربّ العباد، وما كان فيه من خلل أو تقصير، فهو من نفسي أو مِن الشَّيطان الحقير، وفي الختام أسأل الله العليَّ القدير، أن يُريَنا الحقَّ حقًّا ويرزقَنا اتباعه، وأن يرِيَنا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه سبحانه، وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه أجمعين.

 





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص أول)
  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص ثان)
  • أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ملخص ثالث)
  • علم فقه الحديث
  • زاد العقول شرح سلم الوصول (1/ 17)
  • الأحكام الفقهية الخمسة

مختارات من الشبكة

  • المقدمات في أصول الفقه: دراسة تأصيلية لمبادئ علم أصول الفقه (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • خصائص ومميزات علم أصول الفقه: الخصيصة (3) علم أصول الفقه علم إسلامي خالص(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خصائص ومميزات علم أصول الفقه: الخصيصة (1) علم أصول الفقه يجمع بين العقل والنقل (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • من قضايا أصول النحو عن علماء أصول الفقه (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • من قضايا أصول النحو عند علماء أصول الفقه (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد (5)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد (4)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد (3)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد (2)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفصيل ثلاثة أصول من أصول العقائد (1)(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
1- شكرا
Mohamed ba - Sénégal 10-02-2016 06:24 AM

جزاكم الله خيرا

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب