• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مواقع المشرفين   مواقع المشايخ والعلماء  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطبة (المرض والتداوي)
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    تحية الإسلام الخالدة
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    آداب التلاوة وأثرها في الانتفاع بالقرآن الكريم
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    الأحاديث الطوال (22) حديث أم زرع
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    أمثال القرآن: حكم وبيان (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    خطبة .. من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلما
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    نتائج بحث بلوغ المرام في قصة ظهور أول مصحف مرتل
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أثر الإيمان بالكتاب المنشور يوم القيامة، وفضائل ...
    الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري
  •  
    شرح كتاب السنة لأبي بكر الخلال (رحمه الله) المجلس ...
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    ابن تيمية وعلم التفسير
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    فوائد من قصة يونس عليه السلام (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    طبيعة العلم من المنظور الإسلامي
    أ. د. فؤاد محمد موسى
  •  
    فضل ذي القعدة (خطبة)
    د. صغير بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري / تفسير القرآن العظيم
علامة باركود

تفسير سورة الفاتحة (8)

الشيخ عبدالرحمن بن محمد الدوسري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 23/12/2010 ميلادي - 16/1/1432 هجري

الزيارات: 12044

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

في العبادة والسلوك:

الثاني والأربعون بعد المائة:

يجب أن تسيطر عبودية الله على العابد الصادق في سائر أنحاء سلوكه في تصرفه بماله, وفي تربيته لعياله, وفي معاملته مع الناس في الشارع, والمتجر, والمصنع, والمؤسسة والدائرة, وفي جميع واقعيات الحياة, من شئونه الاجتماعية, ونظرته السياسية, ومعاملاته الاقتصادية, وسلوكه في الحكم, إن كان حاكماً, أو منتظماً في دواوين الحكم. فيراقب الله ويخشاه ويتقيه في كل من ذلك، ففي المسلك الاقتصادي يعتبر المال مال الله, لا يصرفه في التبذير ولا في شهواته ورغباته, بل لا يصرف منه أقل قليل في معصية، ولو كانت صغيرة؛ لأن المعصية الصغيرة إذا اقترن بها صرف حقير المال كانت كبيرة.

 

فالعابد لله كما يكتسب المال من حقه لا ينفقه إلا في حقه من طاعة الله, وما يستعين به على حمل رسالته, والقيام بإعلاء كلمة الله, بأي وجه من الوجوه، ومن الإنفاق الواجب عليه, ناوياً الاستعانة به على ذلك، مجتنباً الأشر والبطر ومجاراة السفهاء, أما في ميدان التربية, فيربي عياله وخدمه ومن يمونه من المسلمين تربية دينية صحيحة لا مادية صرفة, بل يجمع فيها بين الروح والمادة, مغلبًا جانب الروح لا جانب المادة, ملاحظاً مسئوليته أمام الله في كل من هم تحت مسئوليته وإشرافه, فلا يذهب للصلاة ويترك من تحت يده, بل لا يدع لهم مجالاً للتمرد على حكم الله والإعراض عنه, والانشغال بغيره, كيلا يكون خائناً لله في ميدان التربية والتعليم، ولا ينام ويغفل عنهم, ولا يتركهم لقرناء السوء، أو يعتمد في تربيتهم على المدارس المادية, ولا يجلب إليهم ممن يسير على مخطط مخالف لوحي الله, بل لا يعتمد ولا يثق بأي معلم حتى يراه صالحاً مطيعاً لله، عالماً بحكمه, وقافاً عند حدوده، معظماً لحرماته, ويبعد أولاده عن التعلم ممن خالف هذه الصفات, إذ لا خير في العلوم المادية إذا خلت عن الدين, فكيف إذا انحرفت بصاحبها عنه, فالمفضل لها ليس عابداً لله، بل هو من عبيد المادة.

 

والعابد لله حقاً من يجعل المستقبل الديني غاية همه, ومنتهى قصده, معتمداً على الله في تحصيل المادة, ساعياً لها سعياً لا يضر بدينه، ويفضل أن يكزن ابنه عابدا لله حاملا لرسالته، ولو في أبسط حرفة, على أن يكون رئيساً ملحداً؛ لأن ولده من كسبه ولا ينتفع إلا بصلاحه وسلامة دينه وسعيه في مرضاة الله, وبعكسها يحرم النفع ويجني الأوزار، إذا كان ضلاله بسبب تفريطه في تعليمه العلم النافع, فعبودية الله تهديه لذلك وتجعله يؤثر الناحية الدينية.

 

أما معاملته مع الناس في السوق والشارع, والمتجر والمصنع, والمؤسسة ونحوها, فإنه يقيم حكم الله في نصحهم وتوجيههم إلى الله, وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وحضهم على الفضيلة, والتعاون معهم على البر والتقوى, وعدم مجاراتهم, أو السكوت على ما يراه من إثم وعدوان, وأن يكون طبيباً لقلوبهم، رحيماً بهم في النصح والتعليم, لا يستهزئ بهم ولا يدعهم بدون توجيه وإنكار، ومن أعياه أمره منهم ابتعد عنه وهجره وقاطعه حتى يفيء إلى أمر الله, ولا يسمح لأي نوع من الفساد أو دواعي الفتنة أن ينتشر في سوقه أو أي مرفق من مرافق بلده أبدًا.

 

وفي سلوكه في الحكم يقف عند حدود الله، ولا يتخطى شريعته أبداً, وفي معاملته مع الحكام ومصاحبته لهم, يذكرهم بأمر الله، وسلطانه الأعلى, ويسدد خطاهم فيما قصروا فيه, ويعظهم ويقول لهم في أنفسهم قولاً بليغاً، ولا يداهنهم بالسكوت أو يغريهم بالمدح الباطل، فإن هذا خيانة لله من جهة, وغش لهم من جهة أخرى، وكله مخل بعبودية الله.

 

الثالث والأربعون بعد المائة:

لا تقوم أي دعوة إصلاحية، ولا ينجح أي مجهود لتقويم الأخلاق، وتطهير المجتمع من أنواع الفساد, وتزكية النفوس من الغش والأحقاد, والنفاق والشهوات و الأنانية، إلا بتحقيق عبودية الله على أساس تصحيح العقيدة والاستقامة على الإخلاص لله والصدق معه, حباً له وطمعاً في ثوابه, وشوقاً إلى لقائه, والأنس بقربه ورضوانه, وخوفاً من غضبه وعقابه, وطرده من رحمته, وحرمانه من رؤيته، فيخضع لسلطانه بتدبر وحيه من كتاب وسنة والقيام بتنفيذهما, وتقرير القيم, ووضع موازين النظم على أساسهما, وجعل سلطته خاضعة لهما, مسيرة في فرضهما وتنفيذهما على المجتمع,إذ بدون ذلك تتأرجح الأخلاق, وتتخبط المفاهيم, وتطيش الأوزان، وتتغلب الأغراض النفسية والشهوات, وهمزات الشياطين على كل حركة لا تقوم على أساس العبودية لله, والخضوع لحكمه والتزام وحيه.

 

ولذا كانت جميع دعوات الرسل إلى عبادة وتقرير منهج (لا إله إلا الله) لتحرير الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات, ولكي يتوجهوا إلى خالقهم، وينشغلوا بحبه وذكره, والعمل بطاعته, ويستلهموا الهداية في كل شأن من شئونهم, ونائبة تنوبهم من وحي الله فقط لا يلتفتون إلى غيره, ولا يريدون سواه, وبذلك ينجح عملهم ويثمر مجهودهم وتتوحد صفوفهم؛ لأنه لا يشعر بعضهم بضغط بعض, بل ولا يراه حاصلاً, إنما يرى حكم الله هو المسيطر, وذلك بعدما تتقرر (لا إله إلا الله) في القلوب، وتتكيف بها الأعمال والنظريات والمقترحات, وسائر الأحوال، فتطهر الأرض من طواغيت الأهواء وأرباب الحكم المبني عليها, وهم الذين عارضوا الرسل وقاوموهم.

 

ولو دعتهم رسل الله إلى التكتل تحت قومية أو وطنية يقيمون لأجلها حكماً علمانياً لما عارضوهم, بل طاروا فرحاً بما اقترحوه؛ لأنه يؤيد أهواءهم ويبعثهم على مللهم ونحلهم، ورغباتهم التي هي افتراء على الله وابتعاد عن سبيله, ولكن يأبى ذلك؛ لأنه ليس فيه تحرير صحيح ولا تطهير, وإنما فيه إقرار للتسلط وعبادة الهوى وتوسيع لرقعة الشقاق والجرائم بدل الوحدة والأمن، فالله لم يرسل (نوحاً) لتقرير سلطان قومه على ما يريدونه من التكتل الوطني والعمل المادي, ولم يرسل (هوداً) ليقرر سلطان (عاد) ويجعل لهم الخيرة في النوع الذي يريدونه من الحكم والشهوات،ولم يرسل (صالحاً) إلى (ثمود) لهذا الغرض الذي يعشقه القوميون من مخططات الماسونية اليهودية, ولم يرسل خليله (إبراهيم) ليقرر سلطان قومه ويبيح لهم ما أرادوا, بل قال لهم: ﴿ أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 86-87] وإنما أرسلهم لتقرير عقيدة (لا إله إلا الله) وتوحيد سلطتها, وإعلاء كلمتها على جميع أهوائهم وشهواتهم،فما رضوا برسل الله من أجل انتزاع سلطتهم، وقاوموهم للإبقاء عليها والاحتفاظ بها, مع أنهم لا ينكرون ربوبية الله، ولكن لا يريدون الخضوع لسلطانه، والتقيد بأوامره المزيلة لسلطتهم، والقامعة لأهوائهم.

 

وكذلك لم يرسل محمداً صلى الله عليه وسلم لإقرار سلطان العرب أو غيرهم على ما يريدون, ولو كان هكذا لقلَّ المخالف, بل قال تعالى: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ﴾ [ المؤمنون: 71] إن العرب وقت البعثة المحمدية كانوا أشد شراً من حالهم في مطلع هذا القرن الرابع عشر الهجري، والعشرين الميلادي, إنهم أسوأ حالة منا في البؤس والشقاء, والفرقة والتناحر والاستعمار المطوق لهم من جميع الجهات، فالجنوب العربي يتقلب بين استعمار الفرس والأحباش, وباقي الجهات تحت نفوذ الرومان والفرس, ولم يسلم من الاحتلال المباشر إلا ما لا يستحق الاحتلال من الأراضي, التي يصور لنا الشاعر العربي معيشة أهلها في فخر واعتزاز، وتنويه وإعجاب:

 

فما العيش إلا الضب يحرشه الفتى
وورد بمستن اليرابيع أكدر

 

فلو قام يدعوهم ويلهب شعورهم إلى قومية يتكتلون تحت لوائها وشعاراتها؛ ليطردوا بها المحتل لبلادهم، وسائر ثغورهم، لاستجابوا له بدون كلفة ولا تعنت, واستراح من عنادهم وإيذائهم، وقد يتوجوه ويملكوه أمرهم لما يعرفون من شرفه وأمانته, ولأنه يدعوهم إلى ما لا يخالف أهواءهم ولا يطمس مللهم ونحلهم, ويكبت مقاصدهم؛ لأن الدعوة القومية فيها إقرار لكل ذي باطل على باطله فيما يتعلق بالله.

 

وكذلك لو دعاهم إلى مذهب اجتماعي من مخترعات اليهود المفسدين يثير بها الأكثرية الغوغائية على طبقة الأشراف و الأثرياء، لاستجاب له الأكثر, ثم كان الأقل مغلوباً وانتصر في الحال, بدلاً من أن يتعثر بدعوة (لا إله إلا الله) التي لا تدع لأحد من كل الطبقات شيئاً من الخيرة في أمره, ولكن الله لا يريد شيئاً من ذلك ولا يرضاه ولو في فترة قصيرة؛ لأن الله لا يرضى الشرك لحظة واحدة, ولا يجيز لأحد من أنبيائه وأتباعهم الممالأة عليه أبداً, وليس من حكمته التدرج في خلقه على ضلال؛ لأنه لا يجدي في النهاية, بل يكون هادماً لمقصود الرسالات, ومعجزاتها, ومبادئها الثابتة, من أول وهلة إلى النهاية.

 

ولو علم الله في ذلك خيراً لأمر أنبياءه أو بعضهم أو خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى مبدأ قومي، أو مذهب اجتماعي, يسير الناس عليه, حتى إذا تجمعوا وقهر بعضهم بعضاً عليه دعاهم بعده إلى التوحيد الخالص بعدما أركسهم في الشرك المتنوع, ولكن يأبى الله أن يشوب دعوة الرسل, أو يتقدمها شيء من ضروب الوثنية المادية، واتباع الهوى، بل كانت الغاية والحكمة بعث الرسل بالتوحيد الذي ينتزع فيه سلطان الأهواء والشهوات من كل ناحية, فلا يبقى للأهواء والشهوات مرتع في الحكم, أو في سائر أنواع السلوك, وهو العليم الحكيم-جل وعلا- يريد أن يمحو سلطان البشر على البشر من أي نوع كان؛ حتى لا يحكم أحد أحداً إلا بحكم الله المطهر للنفوس والجوارح، والمصلح لجميع الأحوال بتحقيق العبودية له وحده.

 

الرابع والأربعون بعد المائة:

العابد لله يكون مرهف الإحساس، قوي الشعور, صادق العزيمة عظيم الهمة, يطير إلى الله بجناح الشوق، مسارعاً في مرضاته, نشيطاً في طاعته, محباً للقائه, غير ضجر ولا ملول، فلا يُفقد في مواقف الطاعة ومواقع الجهاد, فضلاً من أن يتفقده أهل الحسبة أو يأطروه؛ لأن من كان كذلك فشعوره بارد,ومحبته ضعيفة، وشوقه مفقود.

 

فعباد الله حقاً يطيرون إليه بأجنحة من الشوق دون زاجر أو مرهب, سوى ما في قلوبهم من معرفة الله الصحيحة ومحبته الصادقة التي انبعث منها الشوق إلى لقائه, تصديقاً بوعده ورغبة في جنته, فتجدهم رهباناً بالليل وفرساناً بالنهار، يستهمون على الجهاد نصرة لدين الله وطلباً للشهادة المسرعة بهم إلى ما وعدهم ربهم, قد قادهم إلى الله علمهم به, وتقديرهم له حق قدره, وقيامهم العملي بشكر نعمته وبره وإحسانه, ومعرفتهم لوظيفتهم في الأرض من أنهم خلفاؤه فيها, وأمناؤه على وحيه ورسالته, فلذلك لا يبغون عنهما بديلاً.

 

بخلاف الجهلة الذين لعبت عليهم الماسونية واليهودية، وجعلتهم يعملون للطين لا للدين، ويقاتلون في سبيل الشيطان, شيطان الهوى وشيطان الإنس الذي يحبونه ويعملون له من دون الله, ولذا قال تعالى: ﴿ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ﴾ [يس: 60- 61] وقد أوضحت معنى الشيطان في أول التفسير, فليرجع إليه.

 

الخامس والأربعون بعد المائة:

الابتهال إلى الله بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ يستلزم من صاحبه تجديد حياته كل ساعة بمراقبة الله وخشيته والرجوع إليه بالتوبة والاستغفار, والتزام حكمه في كل شيء, لئلا يتعثر في سيره، أو يستمر على تعثره بدوام ميله مع الشهوات واقترافه للدنايا بسبب إثرته التي لا ينجيه منها إلا تصديق ذلك الابتهال بالعمل, وحسن المراقبة ودوام الاستغفار الصحيح وصدق الاستعانة بربه, حتى لا يكله إلى نفسه ويدعه حيران يتخبط في ضلال حيرته، ويدور في حلقات مفرغة من التجارب المخفقة المضيعة لوقته وطاقاته.

 

السادس والأربعون بعد المائة:

الاستعانة الصادقة بالله تحيي الأمل في الإرادة الضعيفة الباردة أو المخدرة المسلولة, وينهض عزيمة العبد الراقدة أو المتبرة, فتجعله يستأنف سيره إلى الله, ويسترجع قواه حسياً ومعنوياً, وتزيل عنه الكنود القديم الذي يعوقه عن ذلك، ويجعله ينال منزلته الحقيقية في الدنيا وفي الآخرة, ذلك أن المستعين بالله محب له, واثق به, معتمد عليه، ناصب وجهه إليه، ملتزم لحكمه, ساعٍ فيما يرضيه, فيكون متسلحاً بالأسلحة الروحية مع الأسلحة المادية فلا يغلبه غالب, وقد جربت الدنيا ذلك على أيدي الصحابة الكرام.

 

السابع والأربعون بعد المائة:

الضراعة الصادقة المتكررة من عبدالله بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ حياة متجددة من المقبل عليه, وعودة ونقلة حاسمة من الغافل عنه, تتغير بها معالم النفس المتغذية بوحي الله, كما تتغير الأرض الموات بالمقادير الكافية من الماء والمخصبات، إنه بالتكرار لهذه الضراعة يصقل قلبه بتكرير مناجاة محبوبه الأعظم، وتتحرك جوارحه لتصديق ما في قلبه بتكرير مناجاة محبوبه الأعظم, وتتحرك جوارحه لتصديق ما في قلبه من الحب والإخلاص لله, فتنفجر طاقاته في حمل رسالة ربه والجهاد في سبيله، ويتوقد ذكاؤه, وتتبارك جهوده ومساعيه ببركة قربه من ربه وعمله لوجهه الكريم؛ لأن الضارع الصادق بهذه الآية تنحصر تحركاته من أقوال و أعمال لله وفق شرعه, لا يشوبها شائبة من نزغات الهوى والشيطان, فيحظى بهذه الثمرة باطناً وظاهراً.

 

وبعكسه البعيد من الله يكون محروماً من النور المعنوي، وعقيماً من النجاح الصحيح فمواهب الذكاء والمعرفة والقوة والجمال تتحول إلى نقم ومصائب, وشقاق ومتاعب، عندما يبتعد صاحبها من الله فيحرم من بركته وتوفيقه، هذا إذا قدر له نجاح مادي مؤقت يئول إلى هكذا، وإلا فالغالب هزيمته وإفلاسه, ولذلك يخوّف الله عباده سوء العاقبة بقوله تعالى: ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾ [ الذاريات: 50 - 51] وكل ما يجريه الله من المهلكات والمروعات في الدنيا فهو إشعار لعباده بما يتعرضهم من المعاطب بسبب التفريط في جانبه, فكما تلتمس النجاة من الخطر الداهم الذي تنظره بعينك فاحسب أعظم حساب لما يوعدك الله به, فاهرب منه إليه.

 

الثامن والأربعون بعد المائة:

العابد لله حقاً لا يتجاوز نصوص الوحيين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم معتقداً كفايتهما في كل شيء، مستيقناً أن ربه – سبحانه – ليس (نسياً) وأنه لا يعزب عن علمه شيء في السموات ولا في الأرض، وأن علمه محيط بالسابق واللاحق, وأن أحكامه وتشريعاته كافية مغنية لحل جميع المشاكل في كل عصر، وأن ما يجري مما يسميه أعداء الله تطوراً إنما هو زيغ وضلال وتهتك وانحلال، وأن التطور الصحيح يجب أن يمشي وفق ما شرعه الله, فإذا خالفه فليس تطوراً, بل هو رجوع إلى جاهلية وهمجية جديدة وإن ظهر بألوان وأسماء مخترعة شتى للدجل والتضليل.

 

فإن خبثاء القصد والعمل قد بهرجوا جاهليتهم بطلاء العلم والمعرفة والحضارة والمدنية ليسوّغوا تسميته تطوراً, والعلم الصحيح والمعرفة الحق على خلاف ما يريدون؛ لأنهما يدلان إلى الله ويخضعان صاحبهما لحكمه, فالعابد لله المتصور لمقصوده من إرسال الرسل يعرف أن الجاهلية ليست صورة معينة لفترات تاريخيه قد مضت وانتهت بلا رجعة, وليس مقابل ما يسمى بالعلم والمعارف والرقي والحضارة؛ لأنها لو كانت كذلك من هذا النوع أو ذاك لفندها القرآن وعاب أهلها بعدم معرفتهم العلوم والفنون المادية والنظم الإدارية أو السياسية، ولأوضحها لهم ليخرجوا بها من جاهليتهم إلى طور جديد, فأعطاهم البديل من الجهل المادي بعلم الكيمياء والفلك والرياضة والطبيعة والجيولوجيا وغيرها، وأعطاهم البديل من الجهل السياسي بالنظريات السياسية المختلفة في المكر والخديعة.

 

ولكن جاهليتهم ليست من عدم علمهم بهذه الأشياء وممارستهم لها, فإن عندهم علوماً مادية ورياضية على حسب متطلبات بيئتهم وزمانهم, وعندهم من فنون القوة والجمال شيئاً لم يبلغ بعضه من بعدهم، كما قال تعالى في الآية (9) من سورة الروم, والآية (69) من سورة التوبة، والآية (21) من سورة المؤمن, وغيرها، وعندهم من أساليب المكر السياسي ما يلائم أحوالهم مما يماثل المكر المعاصر أو يزيد.

 

وإنما جاهليتهم مبنية على اتباع الهوى والشهوات, وتقليد الآباء، ومسايرة الناس بغير هدى من الله, بل على أساس رفض وحي الله ومحاربة رسله وأتباعهم، وإعلان بغضهم، والتنفير عنهم, وتمجيد الاعتماد على النفس وانطلاقها في التصورات والأفعال دون وازع سوى حكم الطاغوت أو القوة المادية, هذه حقيقة الجاهلية الأولى المعادية لرسل الله، سواء كانت جاهلية عربية أو رومانية أو يونانية أو فرعونية أو فارسية أو هندية أو صينية, فلا عبرة بالأسماء ولا بالانتساب، إنما العبرة بالحالة النفسية التي تأبى الانقياد لأمر الله والانصياع لحكمه؛ اتباعاً للهوى ورغبة في الأنانية والنفوذ المطلق بأي صورة ظهرت، وبهذا التعريف الظاهر المنضبط الصحيح يتضح لعبد الله أن لكل قوم في كل زمان جاهلية، فيحذرها ويفر منها إلى الله بالاستمساك بوحيه والاستغناء به والرجوع إليه في كل ورد وصدر, واعتقاد أن جميع المظاهر والتصورات والأعمال المخالفة له جاهلية ورجس من مبتكرات الطواغيت المختلفة, ويدرك الأغوار البعيدة والمقاصد الخبيثة لما يطنطن به الملحدون والمغفلون من كلمات الحرية والحضارة والمدنية, التي هي من شعارات الماسونية البارزة في الثورة الفرنسية وألاعيبها في السلطنة التركية، تلك الأمور التي كان من ثمراتها الحنظلية تمركز اليهودية العالمية وأذنابها بكثير من المراكز الحساسة في أغلب الدول المنصبغة بالجاهلية الحديثة, سواء ادعت العروبة أو الإسلام أو النصرانية أو غيرها من الألقاب المبهرجة, كما كان من ثمراتها فصل الدين عن الدولة, بل إقصاؤه عن جميع واقعيات الحياة ومناصبته العداء، واستغلالهم مسمى (الحرية) لجميع أنواع الإلحاد والعهارة التي تهز القيم الدينية والأخلاق النبوية والأعراف المنبثقة عنهما, وتجاهر بتسفيه أهلها وتشكيك الناس فيهما، وإطلاق العنان للشهوات البهيمية تحت رعاية دولهم, مما يجعل هذه الدول على غاية من (الدياثة) لإقرارها السوء في أعراض أهاليها, وتشجيعهم على ذلك, ويعملون بكل جد ونشاط على جعل الإنسان يعبد نفسه بخدمتها والسعي وراء متطلباتها دون الالتفات إلى الله جعل الإنسان يعبد إنساناً مثله باسم المبدأ أو الفلسفة للمبدأ أو الزعامة فيه, وإعطائه قداسة الألوهية بتعظيم صورته وعرض تماثيله على الجماهير والانحناء له حياً وميتاً في قبره, بل يعملون على عبادة الشخص لفئة خاصة أو وطنه كما هو معروف معمول به في مناهج القوميات التي قلبوا فيها دين الحق، دين تعدد بمختلف الغايات والأصنام الناطقة والاتجاه إليها, مما جعلهم في أحط أنواع الجاهلية واعتقادهم في سوء التأثير والإصرار بسبب عمق التضليل وقوة الدجل واللعب بالعواطف واستغلال العلم المادي وسائر الفنون في هذا السبيل, بحيث قال شاعرهم:

 

لا رب إلا الشعب جل جلاله
فله العبادة لا شريك له ينوب

 

وقال الشاعر الوثني الآخر:

 

انطلق في ضحاها ومساها
يا أخي قد أصبح الشعب إلها

 

مع أنه الشعب الذي يتغنى المغرضون باسمه ويأخذون كل شيء باسمه ويحاكمون ويقتلون ما شاءوا باسمه ليس له من أمره و لا مثقال ذرة بل يسوقه الحكم العسكري الغاشم إلى ما يريده, ويحركه تحريك الآلة بحيث تكون الأنعام أحسن منه حالة, وقد قدمنا فيما مضى أن ذلك عقوبة من الله يجريها على من تنكب عبادته فيبتليه بعبادة من لا يرحمه ولا يقبل منه معذرة ولا تسويفا، ومنشأ هذه الأحوال التي يتردى فيها الإنسان هو الانتقاص من كفاية وحي الله وعدم الاستغناء به والانشغال بتدبره؛ فتحصل الرغبة في غيره أو طلب المزيد من غيره لحل المشاكل، فتتلطخ الأدمغة وتفسد التصورات, وبفساد التصور يحصل الانحراف وينقلب الاتجاه بانقلاب المفاهيم, حتى أن الذين ابتلوا بالنظريات العصرية والمذاهب الثورية يرفضون الأخلاق والفضيلة, ويزدرون ما يسمى (الحق) فلا يوجد عندهم ميزان صحيح للحق والفضيلة، كأن الحق والقيم الخلقية ليست إلا أشياء نسبية، اقتصرت شرعيتها وفائدتها على زمان أو مكان خاص أو بيئة مخصوصة، وقد لقبوا المجتمعات المؤسسة على الدين والأخلاق النبوية بالجمود والتزمت والتأخر، وعملوا على القضاء عليها باسم العلم والفنون والتصنيع والتجميل, كأن ذلك لا يتم إلا على حسابها، وصدق معنى الحديث المروي عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنها ستكون فتنة)) قلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: ((كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين, وهو الذكر الحكيم, وهو الصراط المستقيم, وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء, ولا يخلق على كثرة الرد, ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: ﴿ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ ﴾ [الجن:1-2] من قال به صدق, ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم))[1].

 

فكل ما حدث وما يحدث من النظريات والفتن والفساد وأنواع المحن سببه الانحراف عن تحقيق العبودية لله، والانصراف عن وحيه زهداً فيه أو انتقاصاً له إلى غيره من العلوم المادية والنظريات الماسونية اليهودية المتنوعة, وهداية الله النافعة في كل ميدان والدالة على عبوديته وطريق مرضاته والمحققة للوحدة والأمن الصحيح والعيشة الراضية في الدارين لا تحصل إلا من طريق الوحيين: كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالمنحرف عنها والمنصرف إلى غيرها مبتعد عن عبودية الله وهدايته ونيل وعده الصادق.

 

وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ثم قال: ((هذا سبيل الله)). ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله وقال:"هذه سبل, على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه وقرأ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153][2].

 

ولا يحصل الاستغناء بالنصين وتحقيق اعتقاد كفايتهما إلا بالإقبال التام عليهما وبذل الجهد في معرفة معانيهما, وحصر التلقي لجميع أنواع الهداية منهما, وحصر معالجة المشاكل كلها فيهما, والتصميم الجازم على دفع كل ما عارضهما مع اعتقاد فساده واعتقاد ظهور ما خفي من فساد, عاجلاً أو آجلاً, فيرفض كل مذهب أو نظرية أو علم يخالفهما من أي مصدر كانت, وبذلك تكمل عبوديته لله ويصدق في ضراعته لله بسؤاله الهداية إلى الصراط المستقيم.

 

التاسع والأربعون بعد المائة:

العابد لله لا يقرأ القرآن لأجل المزيد من المعلومات فقط, ولا لأجل تحصيل الثواب الموعود به على كل حرف, فيشرع في قراءته أو يكررها دون تفهم وخشوع, ودون تصميم على التنفيذ لأوامر الله فيه بكل قوة وتحمس, ولا تكون قراءته بقصد الاستمتاع بفصاحته أو التذوق من بلاغته, شأن المائقين المتحذلقين من ذوي الابتعاد والشكوك في الماضي والحاضر، بل يقرأ القرآن لأجل أن يتلقى كلام رب العالمين, كلام الملك العلام, مالك الملك المختص بالفصل يوم القيامة, اليوم الذي لا ينجو فيه إلا العاملون بالقرآن.

 

فعبودية الله تستلزم من عبده الصادق أن يقرأ ذلك الكتاب كقراءة الجندي والموظف الذي يقرأ كتاب رئيسه ليعمل بمقتضاه, وينفذ وصاياه متشرفاً به – إن كان مخلصا – فعبد الله المخلص له، الصادق معه, يتشرف بقراءة كتابه العزيز ووحيه الثاني المفسر له من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم, ويفرح بهما أعظم فرحة، ويتلقاهما كتلقي الجندي في الميدان لتوصيات رئيسه, معرضاً عما سواهما, لا يرفع به رأساً, وبذلك تحصل الطواعية لله ولرسوله، وتنحصر صلة العبد بهما، وينفصل عما عداهما انفصالاً كاملاً, عن شعور إيماني عميق، منبثق من محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومنابذة ما عداهما فراراً من الإثم، والتزاماً بقواعد المحبة وضوابطها.

 

وإذا قرأ عباد الله كتاب الله على هذا النحو وتلقوه بهذه الصورة, انفتحت لهم كنوز العلم والمعرفة، وتيسر لهم العمل به دون إحساس بأي تكليف, بل يستطيعون العمل لله, ويتلذذون به, ويتنافسون بالتضحية في سبيله, ويتسابقون إلى الفداء؛ لأن ذواتهم تكيفت بوحي الله الذي انخنست به قلوبهم, وتغلغل في شرايينهم، وهناك تتفجر طاقاتهم وتصبح ثقافتهم ثقافة محمدية متحركة, زحافة في كل ميدان, وإلى كل صقع ووادِ, لا تقتصر على ملازم الكتب أو أعمدة الصحف والمجلات, و لا تتحجر في الصناديق والدواليب, وإنما تحرك أهلها ذات اليمين و ذات الشمال، حيث أراد الله من الزحف المقدس، الذي قام به أسلافنا عباد الرحمن, والذي لا نزال نسعى في آثاره وبقاياه من الأرض.

 

هذا نتاج القرآن لمن أقبل عليه بفرح وحب، وتشرف وتشوق، وتعاهده حتى ينغرس في قلبه, وينمو في عروقه، ولقد كان السلف لا يتجاوزن بعض آيات منه حتى يحفظوها ويتدبروها ويقوموا بواجبها من التنفيذ، ولم يكن همهم مقصوراً على الاستكثار من قراءته كحالنا في هذا العصر, لشعورهم بعظم المسئولية من الواجبات والتكاليف حتى حصلت عندهم الملكة على تحملها بكاملها، ورعايتها حق رعايتها.

 

فإن هذا القرآن لم يجعله الله كتاب قصة وفن أو أدب وتاريخ، وإنما جعله الله ميثاقه العظيم المتين لعباده في الأرض؛ ليكون منهاجاً لسيرهم في جميع ميادين الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ومرجعاً وحيداً لهم في سائر ما ينوبهم من ذلك، لا يبقى رمزاً في الخيال مجمداً في الذهن، أو محجوراً في مكان، أو مقصورا على شيء دون شيء, والذين يريدون حصره في شيء من ذلك من المثقفين ثقافة عصرية مادية حسب مخطط أعداء الإسلام قد سلكوا أقبح مسالك الشرك في تنقيص الله وبخسهم لحقه وانتزاعهم لسلطانه, وتأليه أنفسهم من دونه, بجعل الحاكمية لغيره من البشر الذين يريدون أن تكون لهم الخيرة من أمرهم.

 

أقول عن هؤلاء المتلبسين بأقبح أنواع الشرك وأفظعها: إنهم لا يرضون لمواثيقهم و أنظمتهم التي دبروها أن تكون خيالاً في الذهن، لا وجود له في الخارج, أو يكون العمل بها مقصوراً على ناحية دون ناحية, بل يعتبرون هذا ردة وخيانة، كما لا يجوزون لأحد من الشعوب المدينة بها أن يخرج عن طاعة واضعيها، أو يختار لنفسه منهجاً يلائمه سواها، فيعتبرونه متمرداً أو عميلاً خائناً ومتآمراً على سلامة الوطن أو الدولة، إلى غير ذلك من التهم التي يصبون عليه بسببها أنواع العقوبات, فقد جعلوا لأنفسهم منزلة أعظم من الله، إذ جعلوا لأنفسهم ونظمهم الوضعية كامل الإيمان والسلطة والنفوذ في كل شيء دون الله ووحيه العزيز، الذي يزعمون أنه في الضمير فقط, بالله عليكم أي شي في الضمير لا يلهب الحماس, ولا يحرك الجوارح؟!! هذا خيال لا وجود له.

 

وهل يقبلون من أحد دعوى الوطنية في ضميره, وهو لا يعمل لصالح وطنه, ولا ينطق لصالح وطنه؟ أو هل يقبلون من أحد دعوى إيمانه بالقومية في ضميره، وهو يسلك المسالك المخالفة لها في عرفهم العصبي؟ أو يقبلون دعوى الإيمان بالشيوعية وفروعها من الاشتراكيات في الضمير, دون التقيد بخططها ومواثيقها الماركسية؟ إذا كانوا لا يرضون ذلك – وطبعاً لا يرضونه – فما قيمة دعواهم أن الدين في الضمير؟ أو أن العبادة مختصة في المساجد والمعابد، أو أن القرآن جاء بشريعة ودين لعصور قديمة متخلفة؟ أو نحو ذلك من المفتريات الماسونية.

 

حقاً, إن ما في الضمير لا بد أن ينطق به اللسان، وتتحرك به الجوارح والأحاسيس، فإن حلَّ حب الله و رسوله حقاً في الضمير؛ كان وحي الله من كتاب وسنة غذاء للقلب, ومتعة للأحاسيس، فانشغل اللسان بوحي الله وذكره, وتحركت الجوارح إلى طاعته وتنفيذ أوامره، وابتعدت عن موجبات سخطه بدافع روحي لا مثيل له، بحيث إن الإنسان يقدر على التهرب من النظم الوضعية، فيخالفها بشتى الوسائل، ولكن الوازع الديني من خشية الله ومراقبته, والطمع في ثوابه الجزيل, والخوف من عذابه الأليم المقيم، يجعله لا يستهين بأوامر الله، أو يتهرب من تنفيذها، لما حل في ضميره من الحب والمراقبة، وعلى العكس إذا خلا الضمير من حب الله وتعظيمه، وحل فيه حب غير الله أو تعظيم غير الله والخوف منه, انصرف إليه واستمال إلى ما يقذفه عليه, وتحرك إلى ما يريده دون مبالاة بالله, كما هو المشاهد من حال أكثر أهل هذا العصر.

 

ثم إنا نسأل الذين يحصرون الدين في الضمير، نقول لهم: هل تسمحون للمسلم الصحيح أن ينطق بما يمليه ضميره, ويتحرك لما يوجهه إليه ضميره المحب لله حقيقة؟ أو تقيدونه به من كل ناحية على حسب ما تريدون؟ فأي قيمة لما في ضميره. بل أي حرية تتشدقون بها؟

 

إن المواثيق الماركسية والدساتير الوطنية – بأي صبغة صبغت – لا قيمة لها، إذا كانت خيالاً في الضمير، لا يظهر مفعولها ويبرز وجودها في الخارج, ولكن جندت لها جميع القوى الإعلامية والثقافية والعسكرية حتى انطبعت بها الأدمغة، وفرضت على الناس، وأبرز باسمها طواغيت شتى، فرضوا ألوهيتهم ونفوذهم على البشر, بمختلف أنواع التسلط من فكري وعسكري, فما بال الدين يبقى أكذوبة مزعومة في الضمير؟ وما بال المسلمين يظلون متسولين عطف غيرهم عليهم؟

 

إن من أعظم الواجب لتصديق حب الله وتحقيق تعظيمه في قلوبهم: الخشوع لذكر الله وما نزل من الحق, وتدبر القرآن بكل حب وشغف ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 24]. والتصميم على تنفيذ أوامر الله والزحف برسالاته والسعي لإعلاء كلمته في الأرض أشد مما يسعى غيرهم من أهل المبادئ العصبية، والمذاهب المادية الوثنية، فمن العار أن يغلبهم أولئك، إنهم لا يحققون عبودية الله حتى يرعوا ميثاقه الأعظم بتنفيذ وصاياه في وحيه وإقامة حكمه، وأن يقوموا لله قومة الصادق المخلص، لا يخشون غيره ولا يرقبون سواه، فكل منهم مطالب بتحقيق شعار المسلمين ﴿ وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79] ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162-163].

 

وكيف يحقق هذا الشعار بدون تدبر القرآن والتزام نصوصه وتحكيمه فقط على نفسه وعلى غيره في كل ورد وصدر؟ لابد من ذلك، وبتحقيقه يحصل البعث الإسلامي من جديد، وتحصل الوقفة الصحيحة أمام كل جاهلية، مهما انصبغت بالأسماء والألقاب، ومهما ادعت لنفسها من العلم الذي ادعاه أسلافها من الجاهليات, إذ يقابل عباد الله خططهم بما يدفعها و يدمغها ويزهقها ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [الإسراء: 81] أما الذي يتبع معهم أو يؤول النصوص على وفق أهوائهم أو اكتشافاتهم, أو يضرب بعضها ببعض طالباً وراغباً الراحة في حياة بهيمية يذوب بسببها في بوتقتهم، أو يقتصر من كلام الله على مجرد التلاوة, فهذا فيه شعبة أو شعب من النفاق شعر بها أو لم يشعر, وبعضهم يكون جاهلاً ناقص الإيمان، وبعضهم فيه مشابهة للذين يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكّروا به أو فيه مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني – أي: مجرد تلاوة – ومنهم من هو سَمّاع للقوم الظالمين, فيه استعداد تام لقبول الكذب.

 

وجميع أهل هذه الأصناف مذموم عند الله كما هو صريح وحيه, فلا يكون من المحققين لعبادته بالعمل الصحيح لدينه، وقد روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين"[3].

 

وفي الأثر المعروف الذي رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني - وقد ذكره الطلمنكي -: حدثنا يزيد بن عبد ربه: حدثنا بقية، حدثنا عتبة، عن أبي حكيم: حدثنا عمارة بن راشد الكناني، عن زياد، عن معاذ بن جبل، قال: يقرأ القرآن رجلان, فرجل له فيه هوى ونية يفليه فلي الرأس, يلتمس أن يجد فيه أمراً يخرج به على الناس، أولئك شرار أمتهم، أولئك يعمي الله عليهم سبل الهدى، ورجل يقرأه ليس له فيه هوى ولا نية[4] يفليه فلي الرأس فما تبين له منه عمل به, وما اشتبه عليه وكل إلى الله ليتفقهن فيه فقهاً [5] وما فقهه قوم قط, حتى لو أن أحدهم لبث عشرين سنة ليبعثن الله له من يبين له الآية التي أشكلت عليه أو يفهمه إياها من قبل نفسه, قال بقية: أشهدني ابن عيينة حديث عتبة هذا[6].

 

الخمسون بعد المائة:

العابد لله الذي يأخذ حمده وتقديسه بشغاف قلبه, ويشكره شكراً عملياً على فضله وإحسانه, ومجموع آلائه، مصدقاً بها وقائماً بحقوقها عن حب وتعظيم، وشوق إلى لقائه، وخوف من سخطه وعقابه، وطمعاً قي قربه وثوابه ﴿ يَوْمِ الدِّينِ ﴾ يوم الجزاء والحساب هو الذي يصدق بضراعته إليه بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ وهذه الضراعة لا تكون صادقة إلا إذا كان صاحبها محسناً معاملته مع الله، أعظم مما يحسن معاملته مع الناس, فإن المعاملة بمعناها العقلي والشرعي تشمل قبل كل شيء: معاملة المرء مع الله, ربه الذي خلقه وصوره, وشق سمعه وبصره, وأمده بالجوارح والقوى والأحاسيس، وسخر له مافي الأرض جميعاً، وأفاض عليه صنوف النعم، وهداه للتفكير في استعمال المواهب والاستثمار والتكسب، وأودع في كل مادة خصائص ومكيفات نافعة للناس في شتى أحوالهم.

 

هذا الرب الجليل العظيم المتفضل الكريم هو الذي يستحق أحسن المعاملة من طاعة أوامره عن رغبة ومحبة، واجتناب نواهيه عن خوف وحذر, وتنفيذ تشريعاته, وإقامة حدوده, عن تشرف وتطيب, معتقداً أحقيتها, ونجاح علاجها للمشاكل دون ما سواها أبداً, مقتصراً على طلب الهداية وسائر أنواع التثقيف من وحيه الكريم, كتاباً وسنة، ويكون مراقباً لله في سائر حركاته وتدبير شئونه، وبذلك يكون عابداً لله حقاً, ويهديه الله للصدق باستعانته في كل شيء.

 

وإذا راقب الله في ذلك كله سهل عليه حسن المعاملة مع سائر الناس, فلا يبخس أحداً أو يغشه، أو يكذب عليه أو يطمع في عرضه أو ماله, أو يحمل موجدة عليه, لمراقبته لله، وحسن معاملته له أولاً, فهذا معنى الأثر: "الدين المعاملة"[7]. وما أجهل من يقصر معناه على معاملة الناس فقط, بل هذا مع جهله باخس لحق رب العالمين, أو جاحد له.

 

ثم إن هذا الزعم مغالطة مفضوحة لمن تدبر أحوال أهلها؛ لأنه لا يحصل حسن المعاملة للناس تماماً, إلا بالتزام حسن المعاملة مع الله بالتزام حكمه وحفظ حدوده وحسن مراقبته في السر والعلن, فإن من يخشى الله بالغيب هو الذي يحسن المعاملة للناس بدون مقابل, أما الذي لا يخشى الله بالغيب ولا يرجو لقاءه ونيل مثوبته, فإنه وإن أحسن المعاملة للناس وقتاً ما فإنما يحسنها طمعاً في استجلاب مودتهم، أو مراغمة لخصومه, أو في مقابلة شيء, أو لمكر خفي, أو غير ذلك, ولابد أن تنعكس أحواله.

 

ثم إنه – أيضاً -: إن أحسنها في ميدان أو ميادين صغيرة, فلا بد أن يسيئها في أشياء كبيرة, وميادين أخرى، كما نجده من حال الأوربيين, الذين افتتن بهم بعض من رأى مظاهر سلوكهم, وصدق مواعيدهم,. وأمانتهم المؤقتة، ولكنه ينسى ما يفعلونه مع الشعوب التي يستعمرونها, وينسى تكالبهم على ذلك, وتعاونهم على الإثم والعدوان, ومبلغ ضراوتهم بالدم الإنساني, لأدنى طمع وأرخص غاية, كما ينسى قسوة قوانينهم في الماديات، وعبادتهم لها من دون الله، كل هذا ينساه أطفال العقول من المتجولين في بلادهم للسياحة أو الدراسة من أبنائنا, فتبهرهم مظاهر القشور دون أن تنفذ بصيرتهم إلى اللباب، فيلتفتوا إلى ما يعمله هؤلاء من الظلم الجماعي المتنوع.

 

بل إن صعاليكنا هؤلاء ينسون أن من خان أمانة الله في نبذ كتابه, ورفض حكمه وشريعته, فهو لخلقه أخون, وإن من لم يحسن المعاملة لله في السر والعلن, فمعاملته للمخلوق لا تتجاوز النفعية والانتهازية, مهما زعم وادعى، وكم رأينا فيما مر علينا من التجارب من متناقضات الأقوال والأفعال للماديين، وتقلباتهم في مسالكهم السياسية والاقتصادية وغيرها ما يبرهن على أنهم لا يحسون في قرارة نفوسهم بأي وخز في ضمائرهم، لعدم الوازع الديني من خوف الله وحسن معاملته؛ لأنهم في مكان بعيد من عبادة ربهم، فالصادق في ضراعته لله بـ (إياك نعبد) هو الذي يحسن معاملته لله حقاً كما فصلناه, وبحسن معاملته لله تحسن معاملته لخلقه, والعكس بالعكس, والعياذ بالله.

 

الحادي والخمسون بعد المائة:

لما كان تطور الأحاسيس، وتجدد الحركات في الإنسان نابعاً من داخل نفسه، وكان الحافز عليهما في بعض الأحيان رغبة بموعد, أو تجدداً لحالة, أو رفعة منزلة, أو ورود شيء من الذكريات يمد ضعفه بقوة, أو يأسه برجاء, أو كسله بنشاط،أو خموله بحزم, ولكن هذا الحافز المحرك في النفس لابد أن يخبو لما يعترضه, أو يسنح في النفس مما ينسخه, كان لابد للإنسان من قوة روحية معنوية, لها روافدها الكافية في قرارة نفسه, ألا وهو الإيمان بالمحبوب الأكبر للمسلمين الحنفاء الحقيقين.

 

فهو الإيمان الذي لا تنضب روافده، بل تتزايد في نفوس المؤمنين صادقي المحبة الذين يذكرونه في كل حال من أحوالهم، ويقدسونه ويكبرونه في نفوسهم تكبيراً معنوياً, نطقوا به فتحركت كوامن نفوسهم بما تنفجر به الطاقات بكل ما أرادوه وصمموا عليه, من تنفيذ أوامره ونصرة دينه, ولم يكن في نفوسهم مجال للخوف من سواه أبداً, ولا مجال للكسل عن طاعته, أو الخمول في تنفيذ حكمه, أو اليأس من مدده ورحمته, فهؤلاء هم أهل ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ لا يعتري نفوسهم ما يعتري نفوس غيرهم من الماديين، والذين تدفعهم حوافز وقتية إلى شيء ما، ثم تخبوا أو تتلون بهم حسب اختلافها وتلونها.

 

بل هم بذكر محبوبهم الله العظيم الكريم, وشوقهم ورغبتهم إليه ورجاء ما عنده مما هم موقنون به، تتجدد في نفوسهم تلك المزايا السالفة (كالآلات الأوتوماتيكية) فيملكون أنفسهم ويضبطون وقتهم, ويستغلون مشاعرهم نحو ربهم, ويحتفظون بحرية حركتهم لله وحده, لا يصرفونها لسواه, أو يملكونها غيره.

 

ومن هنا يدرك السر في إيجاد إقامة الصلاة المكررة وهداية الله لهم فيها إلى الضراعة له بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ لأنهم بصدق الاتجاه في العبادة والاستعانة يتمكنون من مجابهة الأهوال، ومقارعة الأعداء, دون انتظار أمداد خارجية أو استعمال المكر بين الشعوب, كما يفعله غيرهم, فالتاريخ يشهد أن المصطفى صلى الله عليه وسلم كاتب جميع الملوك مهدداً لهم في وقت واحد, قائلاً لكل ملك: "أسلم تسلم" [8] ثم أصحابه من بعده حاربوا أكبر دول العالم فارس والروم دون أن يهادنوا أحدهما أو يستعينوا به على قتال الآخر, بل حصروا استعانتهم بالله وتوكلهم عليه, فزادهم قوة معنوية وأمدهم بنصره.

 

فإن جميع ما أودعه الله في بني آدم يصلحه الإيمان به على الحقيقة، ويحركه محبته الصادقة ويستنهضه, رجاء ما عنده من النعيم المقيم في جنة عرضها السموات والأرض, ويفجر طاقاته التكبير المعنوي الصحيح، الذي يجعل صاحبه لا يقر له قرار على الضيم أو الانزواء في عقيدته, بل ينطلق بها كالليث الصائل, لا يدع فرصة لعدوه أبداً، ولذا لما رأى اليهود عظمة هذا الدين المفجر للقوى الكامنة, والملكات المدفونة, والمهيئ لأهله كل فرصة, عملوا على إشغال أهله بشتى الدسائس والمؤامرات, وصرفهم عن حقيقته بأنواع البدع والخرافات, ليحرموهم بركته ومدده، فيلعبوا بهم على الحبلين. لعنهم الله., فليعتبر المسلمون وليرجعوا إلى الأصل المعين.

 

الثاني والخمسون بعد المائة:

الضراعة إلى الله – جل وعلا – بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ مشعرة بهروب صاحبها من الشياطين والمغرضين، شياطين الجن أو شياطين الإنس, الدجالين الذين يبثون في وسائل الإعلام المختلفة زخرف القول غروراً, لعبيد المادة والشهوات والمبادئ والأغراض، هذه الضراعة بتلك الآية الشريفة هروب صادق من هؤلاء إلى الله الحبيب لكل مؤمن، والمتلطف إلى خلقه بنعمه وفضله المتواصل، ذلك الحبيب الذي يجب على العقلاء أن يطيروا إليه بأجنحة معنوية من الشوق، يحدوها الطمع في رضوانه والهرب من سخطه وعقوبته.

 

فإن بصدق الضراعة إلى الله بهذه الآية قولاً وعملاً وقصداً، ينال الإنسان أهليته من كرامة الله في الدنيا والآخرة، فإن الله خلقه ليكرمه ويسوده في الأرض، فإذا عصى الله وطاوع الشيطان – أي شيطان مبتعد عن وحي الله وأمره – فقد سعى في إهانة نفسه بدل كرامتها، وفي رقها لكل شيطان بدلاً من تحريرها لله وحده، وفي تأخير منزلتها وجعلها ذنبًا للغير، بدلاً من رفعتها وسؤددها، وكونها راسا مسيِّرًا لا ذنبًا مسيَّرًا.

 

فهذه الضراعة الجليلة القدر بهذه الآية الكريمة لا يتقدم بها الجهلة بالله وبدينه, من ذوي الشعور النافر عنه إلى غيره, كما لا يتقدم بها تقدماً صحيحاً من هو مسلم بالانتساب من ذوي الشعور البارد، وإنما يتقدم بها أهل التوحيد، العارفون بالله الذين يشعرون بواجبهم لله في حياتهم, فيجددون العهد معه والضراعة إليه بها؛ ليعينهم على مهمتهم التي بها بر من يستحق البر, وقمع من يستحق القمع, من كل ظالم لحق الله, مستهين بأمره, رافض لرسالته, وهو – جل وعلا- يعين الصادق بضراعته إليه فيها, ويسهل عليه طريق عبادته, ويؤهله لتحمل مشاق الدعوة إليه، والصبر في ذاته, ويوفقه للتوبة مما يلم به من الذنوب، التي تغلبه شهوته على ارتكابها، ويفرح بتوبته منها أشد من فرح المضيع لراحلته وقوته في أرض فلاة إذا وجدها، كما ورد في الحديث [9] فدينه محض الرحمة والخير والبركة واليسر, وفيه عصمة من زيغ الأهواء, وتسلط طواغيتها ودجاجلتها.

 

الثالث والخمسون بعد المائة:

هذا التوجيه العظيم من الله لعباده المؤمنين بصدق الضراعة إليه بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ مع كونه فيه حسم تام للتعلق بغير الله, فإن فيه حسماً صحيحاً لمواد التشاؤم التي تعتري الماديين, عبيد الدرهم والدينار والمتاع, عبيد الأهواء والشهوات, عبيد المطامع والأغراض المختلفة, ممن تتجسد أوهامهم بحسب تجسم أنانيتهم وانتهازيتهم, فيعيشون في الأزمات المتلاحقة، والأنانيات المسعورة, وكثيراً ما يخيب تفاؤلهم وتنعكس آمالهم، فيجرهم تشاؤمهم إلى الانتحار الحسي أو المعنوي بخلاف المؤمن المخبت لله المتوكل عليه، المطمئن إلى إنجاز وعده في العاجل والآجل، فإنه في حبور وسرور, وترفع عما ينحط إليه غيره.

 

الرابع والخمسون بعد المائة:

العابد لله حقاً يغتنم جميع الفرص بدون إضاعة فيهتبل فرصة صحته خوفاً من المرض, فيستعمل نشاطه في طاعة الله، بسائر أنواع الجهاد والكفاح، جهاد النفس،وجهاد شياطين الجن, وجهاد شياطين الإنس, المحاولين فتنة الناس عن الدين، مستعملاً شكر الله على الصحة والعافية في هذا السبيل، ويغتنم فرصة غناه وثروته فيجود ببذلها في سبيل الله, تقوية لعقيدته, وزحفاً برسالته, وصيانة لدينه, مهتبلاً فرصتها قبل زوالها بصروف الدهر, التي يقبلها الله كيف يشاء، وعاملاً على تقييدها بشكر الله باستعمالها الصحيح، عكس عباد الهوى الذين يصرفون ثروتهم ومكاسبهم في الأشر والبطر, أو في الصد عن سبيل الله؛ شأن الكفرة والملاحدة، فإن من سلك مسلكهم فقد تنكب عن عبادة الله.

 

كما أن المسرف المبذر للمال, مخالف لأمر الله ومخل بعبوديته، إذا بدد المال في الشهوات والأغراض، والكماليات والبذخ بأنواعه، أو صرفه لرياء الناس وهو مذموم من الله، ومعاقب على ذلك.

 

والعجيب أن هذا النوع من المبذرين يبخل على الله, فلا يصرف المال في الجهات الدينية، بل ويأمر الناس بالبخل في هذا السبيل، كما وصفهم الله في الآية (37) من سورة النساء, والآية (24) من سورة الحديد، فهذا المال من أقوى الطاقات الحيوية للمسلم الحامل رسالة ربه, فإذا أساء التصرف فيه صار مدداً للشيطان وأعوانه، لا مدداً لدين المسلم وعقيدته، ومن هنا تظهر حكمة تحريم الإسراف والتبذير، وحكمة حكم الله على المبذرين بأنهم إخوان الشياطين؛ لأن ثروتهم تسيل على أعداء الله وأعدائهم من الأجانب في الخارج أو من المعتنقين لمبادئهم ومذاهبهم في الداخل، ممن اصطبغوا بصبغة الوطنية ونحوها، وانسخلوا من صبغة الله.

 

فالعابد لله يضبط ثروته بحصر إنفاقها في سبيله، لا يصرفها في غيره, ولا يبخل بها عليه فيعاقبه بحرمانها أو خسرانها حسبما تقتضيه حكمته – جل وعلا – وكما يغتنم العابد لله صحته قبل حلول سقمه، وفرصة غناه قبل فقره, فكذلك يغتنم فراغه قبل شغله, فيهتبل فرصة نعمة الفراغ باستعمالها في طاعة الله، وخدمة دينه بكافة أنواعها، والجهاد في سبيله قبل مشاغل العيلة أو الفتن، ويغتنم فرصة قوة شبابه قبل حلول هرمه وضعفه، فإنه إن فرط في ذلك كان خاطئاً ومحاسباً من الله عليه، والجامع لهذا الاهتبال الواجب هو أن يغتنم كل فرصة، بل كل ساعة ودقيقة من عمره، باستعمالها في مرضاة الله وطاعته، والعزم الأكيد على الجهاد في سبيله بجميع أنواعه ومتطلباته، لا يخلي لحظة واحدة من عمل أو عزم صحيح أكيد على العمل؛ لأنه لا يدري في أي لحظة يموت، فكيف يفرط في أوقاته ولحظاته الغالية، التي لا يقبل الدنيا لها ثمناً؟

 

ولذا ورد في الحديث: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"[10]. وفي حديث الآخر عنه صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتا مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر"[11]. وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ"[12]. وقد أشبعت الكلام على هذه الأحاديث في كتاب (من كنوز السنة للحق والحقيقة) والله الموفق.

 

ومن بديع الحكم في ذلك قول القائل: (أتدري كيف يسرق عمر المرء منه؟ يذهل عن يومه في ارتقاب غده). ولا يزال كذلك حتى ينقضي أجله بغتة فيلقى ربه خاسراً أو نادماً, والذين ضيعوا أعمارهم سدى وباعوها على شياطين الهوى والدجاجلة يخبرنا الله عنهم بقوله: ﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمونَ مَا لبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ ﴾ ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [النازعات: 46].

 

الخامس والخمسون بعد المائة:

تكرار الضراعة الصادقة مع الله بـ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ يجعل المؤمن صلب العود, عظيم المراس, لا يميل مع كل ريح، ولا يضعف أو يلين أمام أي قوة, ولا ينحني مع أي خلة ولا يندهش أمام أي مفاجأة، أو يحزن عند أي مصيبة؛ لتوجهه إلى الله بكليته، واعتماده عليه في كل نائبة، واحتسابه العوض منه عن كل شي، فحبيبه الأوحد هو الله، وهو ذخيرته وملجؤه، وهو هدفه وغايته، وبذلك تكون شجاعته كاملة، وبطولته خالدة, وأخلاقه فاضلة، وصبره معيناً لا ينفذ، بخلاف ما عداه من أهل الهوايات المادية، والغوايات النفسية، فإنهم وإن كان في بعضهم شجاعة وصبر واستخفاف بالنوائب، فإنهم لابد أن تنال منهم الأحداث مأربها ويلويهم خصمهم على ما يريد في أدنى ما يصابون به من كوارث.

 

أما عباد الله أصحاب تلك الضراعة الصادقة فهم على ما قلناه كما صور لنا التاريخ عزمهم وثباتهم على ما يلاقون من المواقف الحرجة, والنكسات المريرة، كما في واقعة الجسر, وقبلها وبعدها, مما وهب الله لهم به الحياتين؛ لأنهم حرصوا على الموت، ولم يحرصوا على المادة والشهوات، ولم يوقف الزحف الإسلامي ويعكسه إلا الخصلة الأخيرة من الحرص على المادة والشهوة, والالتفات إليهما، مما جعلهم ينكصون على أدبارهم بعدما استنشقوا النصر في ضواحي (باريس).



[1] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه(6/125) رقم (30007) طبعه مكتبة الرشد, والبراز في مسنده (3/72) رقم (836) من طريق ابن أخي الأعور عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب به.

وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى إلا عن علي و لانعلم رواه عن علي إلا الحارث, اهـ.

قلت: ابن أخي الحارث الأعور مجهول. انظر ميزان الاعتدال (7/459) والحارث الأعور كذبه شعبة. انظر التقريب (1029).

[2] أخرجه أحمد (1/435), والنسائي في الكبرى(6/343) والدارمي (1/78)=رقم (202).

[3] أخرجه مسلم برقم (817) من حديث نافع بن عبد الحارث عن عمر رضي الله عنه.

[4] يعني بذلك: نية السوء التي لا يرضاها الله.

[5] كذا في الأصل , ولعل فيه سقطاً.

[6] لم أقف عليه فيما بين يدي من مصادر.

[7] لم أقف عليه.

[8] أخرجه البخاري في صحيحه برقم(7), ومسلم (1773) من حديث ابن عباس رضي  الله عنهما.

[9] الحديث المشار إليه أخرجه مسلم في صحيحه برقم (2744).

[10] أخرجه البخاري في صحيحه (6412) من حديث ابن عباس رضي الله عنه

[11] أخرجه الحاكم في المستدرك (4/341) من حديث ابن عباس رضي الله عنه وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

[12] أخرجه الترمذي (2306) من طريق محرز بن هارون عن الأعرج عن أبي هريرة به . واستنكره ابن عدي في الكامل على محرز بن هارون. انظر الكامل  (6/442), وكذا الذهبي في ميزان الاعتدال (6/30). والعقيلي في الضعفاء (4/230).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تفسير سورة الفاتحة (1)
  • تفسير سورة الفاتحة (2)
  • تفسير سورة الفاتحة (3)
  • تفسير سورة الفاتحة (4)
  • تفسير سورة الفاتحة (5)
  • تفسير سورة الفاتحة (6)
  • تفسير سورة الفاتحة (7)
  • تفسير سورة الفاتحة (9)
  • تفسير سورة الفاتحة (10)
  • تفسير سورة الفاتحة (11)
  • تفسير سورة الفاتحة (12)
  • تفسير سورة الفاتحة (13)
  • تفسير سورة الفاتحة (14)
  • تفسير سورة الفاتحة (15)
  • تفسير سورة الفاتحة (18)
  • تفسير سورة الفاتحة (19)
  • تفسير سورة الفاتحة (20)
  • الفاتحة (السبع المثاني والقرآن العظيم)
  • تفسير سورة الفاتحة (21)
  • تفسير سورة الفاتحة (22)
  • تفسير سورة الفاتحة (23)
  • التبيان من تفسير كلام الرحمن - الفاتحة
  • تفسير سورة الفاتحة
  • أسرار الفاتحة (1) اعرف ربك من خلال سورة الفاتحة

مختارات من الشبكة

  • تفسير سور المفصل 212 - سورة الأعلى ج 1 - مقدمة لتفسير السورة(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 10 ) تفسير الآيتين من سورة الفاتحة ﴿ مالك يوم الدين - إياك نعبد وإياك نستعين ﴾(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 9 ) تفسير الآيتين من سورة الفاتحة ﴿ الحمد لله رب العالمين - الرحمن الرحيم ﴾(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين تفسير سورة يونس (الحلقة السادسة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سور المفصل (34) تفسير سورة قريش (لإيلاف قريش)(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سورة المفصل ( 33 ) تفسير سورة الماعون(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 32 ) تفسير سورة الكوثر ( إن شانئك هو الأبتر - الجزء الرابع )(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 31 ) تفسير سورة الكوثر ( فصل لربك وانحر - الجزء الثالث )(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 30 ) تفسير سورة الكوثر ( إنا أعطيناك الكوثر - الجزء الثاني )(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • تفسير سور المفصَّل ( 29 ) تفسير سورة الكوثر ( إنا أعطيناك الكوثر - الجزء الأول )(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب