• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مواقع المشرفين   مواقع المشايخ والعلماء  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطبة (المرض والتداوي)
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    تحية الإسلام الخالدة
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    آداب التلاوة وأثرها في الانتفاع بالقرآن الكريم
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    الأحاديث الطوال (22) حديث أم زرع
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    أمثال القرآن: حكم وبيان (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    خطبة .. من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلما
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    نتائج بحث بلوغ المرام في قصة ظهور أول مصحف مرتل
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أثر الإيمان بالكتاب المنشور يوم القيامة، وفضائل ...
    الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري
  •  
    شرح كتاب السنة لأبي بكر الخلال (رحمه الله) المجلس ...
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    ابن تيمية وعلم التفسير
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    فوائد من قصة يونس عليه السلام (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    طبيعة العلم
    أ. د. فؤاد محمد موسى
  •  
    فضل ذي القعدة (خطبة)
    د. صغير بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / د. محمد منير الجنباز / مقالات
علامة باركود

قصة موسى عليه السلام (7) ما بعد العبور

قصة موسى عليه السلام (7)
د. محمد منير الجنباز

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 15/3/2021 ميلادي - 1/8/1442 هجري

الزيارات: 55900

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

قصة موسى عليه السلام (7)

ما بعد العبور


للإنسان الحقُّ في أن يحاول تصور البحر الذي عبره بنو إسرائيل، فإذا كانت البلدة التي خرج منها بنو إسرائيل هي منف؛ أي: قريبة من القاهرة، ثم خرج المهاجرون الفارون من فرعون باتجاه الشرق، فما البحر الذي سيصادفهم؟ قد يكون نهر النيل، وهذا يصح إذا كانت البلدة غربية، وعبر القُرْآن عنه بالبحر؛ لسَعته عرضًا، وكان قد عبر عنه في بداية قصة موسى باليم، وإذا ما اتجهنا شرقًا من القاهرة باتجاه سيناء فلا يصادفنا بحر، وإنما بحيرات، وقد تكون إحداها المقصودة [البحيرات المرة]، وهي عميقة، ولسَعتها تبدو كالبحر، وحاليًّا متصلة بقناة السويس وتمخر فيها أكبر السفن، وقد يكون خليج السويس في جزئه الشمالي، إلا أن الطريق إليه من الغرب جبلي صعب وشاق، فخليج السويس تحفُّه من جهتيه الشرقية والغربية جبال يصعب اختراقها للوصول إلى الشاطئ، والله أعلم.

 

المهم أن موسى عبَر بقومه سالمين جميعًا إلى سيناء، وهناك بدأت مرحة جديدة في حياة موسى وقومه، وينبغي عبور سيناء للوصول إلى الأرض المقدسة، والأرض المقدسة لم تكن خِلْوًا من السكان، بل كان فيها العماليق، وهم القوم الجبَّارون، وهذا يعني أن صراعًا جديدًا سيخوضه موسى وأتباعه، وقد يكون أشد مِن صراعهم مع فرعون، وإزاء هذا يجب أن يعبِّئ موسى أتباعه تعبئة إيمانية قوية ليتمكنوا من مواجهة هؤلاء القوم، ومِن أجل هذا فقد خضعوا لامتحانات في العقيدة والصبر وقوة التمسك بالدين، قد يكون صراعهم مع فرعون قد أخذ طابع القومية عند بعضهم، فتعصبوا لموسى لأنه منهم، ووقفوا معه ضد فرعون، إلا قلة منهم كانوا يدورون مع مصلحتهم في تولِّي فرعون وملئه، أمثال قارون، لكن الغالبية كانت مع موسى حمية؛ لذلك كانوا يترددون في الولاء ولا يصبرون على التحدي، ويؤثِرون حياة الذل عند فرعون على حياة التحرر من العبودية التي تكلفهم المقاومة وبذل الدم والنفس، وقد بين الله تعالى حالهم هذه؛ ﴿ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 129]، وعليه فإن قلة منهم كانوا متمسكين بالعقيدة، وناضلوا من أجلها؛ لينعموا بعبادة الله الواحد وتحكيم شريعته القويمة العادلة، ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [يونس: 83] - وكان الآخرون لهم تبعًا يحتاجون إلى فترة من التوجيه والتعليم ليسلكوا طريق الهدى عن علم وقناعة، لا عن تبعية وتقليد، وكان الامتحان الأول لهم.

 

الامتحان الأول:

رأى بنو إسرائيل المعجزة الكبرى عيانًا وممارسة، رأوا انفلاق البحر، ثم مروا بالطريق اليبس، وكان اثني عشر طريقًا، مروا وهم يرون بعضهم بعضًا لم يضِعْ منهم أحد أو يغرق أحد، ورأوا فرعون مع جنده يغرقون فلم ينجُ منهم أحد؛ ﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 50]، فهذه معجزة ظاهرة ظهرت جلية للجميع، لم تحصل بتدبير أحد من البشر، وكل ما صنعه موسى أنه ضرب بأمر ربه البحر فانفلق، ثم لما عبروا إلى شاطئ الأمان وكان فرعون وجنوده لا يزالون في الطريق اليابس، ضرب موسى البحر بعصًا بأمر ربه، فأطبق البحر على فرعون وجنوده فغرقوا جميعًا، وبنو إسرائيل مع نبيهم موسى يشهدون هذه المعجزة الخالدة، وقد شفى الله صدورهم التي امتلأت غيظًا من فرعون الظالم لهم، وبعد أن ودعوا هذه المعجزة وقد امتلؤوا عزة وإيمانًا تابعوا السير إلى الأرض المقدسة، مروا على قوم من عبدة الأصنام لهم طقوس وترتيل، فأعجبوا بما رأوا، وكان الواجب عليهم الاستنكار والإشفاق على هؤلاء الضائعين التائهين، ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [الأعراف: 138]، لقد وصفهم موسى بالجهل وعدم الوقوف على حقيقة التوحيد والتفرغ لطلب العلم، وقد يعذر هؤلاء بسبب تسلط فرعون وأتباعه على المؤمنين فوقعوا في هذا الخطأ الكبير، ومن هذا الطلب يتبين الهُوَّة الكبيرة بين المتعلمين والجاهلين، بين من آمنوا بالله الواحد ومن لا يزالون متأثرين بالفكر السائد عند الوثنيين وما كان يبثه فرعون، ﴿ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ﴾ [الأعراف: 127]، وأصبح من الواجب تعليم هؤلاء التوحيد، وأن هؤلاء القوم الذين يعكفون على الأصنام كفَّار غير موحدين، مصيرهم إلى النار، كان هذا جواب موسى على تساؤلهم: ﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 139]، و﴿ مُتَبَّرٌ ﴾ بمعنى: هالك ومَقْضِيٌّ عليه، وأنهم منغمسون في الباطل، وهم لهذا ضالون لا يقتدى بأفعالهم، ثم كان تصعيد الزجر من موسى لأتباعه وبيان الحق الواجب اتباعه، ﴿ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 140]، وذكَّرهم بما كان قريبًا، حيث أنقذهم من بطش فرعون وظلمه، ﴿ وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [الأعراف: 141]، وهكذا مرَّ الابتلاء الأول، وأخذ بنو إسرائيل درسًا في الإيمان، وهذا يحصل في كل مجتمع عندما يتلقون دعوة الأنبياء فيكونون أصنافًا، صنف يلازم النبي ويحرصون على التلقي منه، وهم الصفوة، كما في الحواريين أتباع عيسى، والمهاجرين والأنصار أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وصنف وسط يجمعون بين التلقي والعمل، وهم لا بأس بهم، ولكن قد يخدعون عندما يدعوهم داع ضال، إنما يؤوبون إلى الحق مع دعوة الداعية المخلص، وصنف من ضعاف الإيمان يعبدون الله على حرف، فهؤلاء لم يتعلموا العلم الذي يحصِّنهم من نزغات الشيطان، وهم سريعو التقلب، وفيهم تظهر الفتن والانحرافات، لقد قالوا لنبينا: "اجعل لنا ذات أنواط" شجرة يتبركون بها ويعلق الجاهليون عليها سلاحهم - فشابهوا بني إسرائيل: ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138]، وكذلك الرِّدة التي حصلت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت دعوة موسى إلى ذلك الوقت لا تزال تؤكد على التوحيد لبناء العقل الطاهر والفكر النظيف، كدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، ومن أتى من الأنبياء قبله: ﴿ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾.

 

وبعد الهجرة إلى سيناء مع هذه الجموع الغفيرة من بني إسرائيل احتاج الأمر إلى تأسيس مجتمع له عقيدة وشريعة تنظم حياته في بيئته الجديدة، وفكر راشد يشد من قوتهم وعزيمتهم على الصمود أمام الخصوم من غير المؤمنين، ويربطهم برباط الأخوة، ويفتح لهم طريق العمل الصالح، ويعرِّفهم بالثواب والعقاب وما يرضي الله وما يسخطه، وأن مرضاته موصلة إلى الجنة، ومخالفته مفضية إلى النار، وقد اختار الله - جلت قدرته - طريقة الوحي إلى موسى بأن جعله كليمه، يكلمه الله فيسمع كلام ربه، ويعمل بما أمر به، ﴿ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [الأعراف: 142]، وكانت هذه المواعدة من الله تعالى لموسى بأن يكون على جبل الطور بسيناء: ﴿ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ﴾ [طه: 80]، ليتلقى من ربه التوراة كاملة، وفيها التشريع الذي ينظم حياة بني إسرائيل، وقد ذكر أن الثلاثين يومًا هي شهر ذي القعدة وتمام العشرة من أيام ذي الحجة، وكان الكلام في نهايتها من رب العزة والجلال لموسى أي - وفق هذا القول - في يوم النحر، وقد ورد في سورة البقرة ذكر الليالي الأربعين مجملة: ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [البقرة: 51]، وذهَب موسى إلى الموعد، ومكث هناك ثلاثين يومًا يتعبد ربه ويصوم، فتغيَّرت رائحة فمه - خُلوف فم الصائم - فاستاك، فأمره الله بصوم عشرة أيام أُخَرَ؛ لكي يكلمه وعليه أثر العبادة، وهي خُلوف فم الصائم، عند ذلك كلمه ربه، فحصل عند موسى شوق عارم دفعه أن يطلب من ربه رؤيته: ﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]؛ فكان البيان بعدم قدرة موسى أو أي مخلوق على رؤية الله في الدنيا؛ فطبيعة الإنسان الدنيوي لا تحتمل ذلك، وكان البرهان المقنع من رب العالمين بأن ينظر موسى إلى الجبل الضخم من الصخر الأصم في شموخه وتحديه لعوامل الزمن والشمس والريح والمطر، فقد تجلى الله للجبل، فكانت النتيجة تصدُّع الجبل وتهشُّمه إلى ذرات رملية، وقد ورد في الحديث الذي رواه أنس وصححه الحاكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ هذه الآية: ﴿ فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ﴾ [الأعراف: 143]، قال: هكذا، وأشار بأصبعيه، ووضع إبهامه على أنملة الخنصر، بمعنى أن التجلي كان بهذا المقدار، فكان هذا الاندكاك من الجبل، فكيف بالتجلي الكامل؟! لأضحت الأرض هشيمًا، أوَيطيق مِثلَ هذا الإنسانُ؟ فسبحان من دلنا على وجوده بصفاته وبديع خلقه، وأما موسى فقد خر صعقًا من رؤية الجبل وهو يندك وينهار، وأغشي عليه مدة، ثم أفاق وقال: ﴿ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 143]، مِن بني قومه، وإلا فقد سبقه مؤمنون كُثر، وكانت توبته عن جراءته في هذا الطلب وأنه تمنى ألا يكون قد طلب الرؤية، وقد ذكَر العلماء أن الرؤية ستكون في الآخرة، وأن أهل الجنة سيرون ربهم؛ ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، والحسنى: الجنة ونعيمها، والزيادة: هي رؤية الله تعالى، وفي الحديث عن جرير بن عبدالله قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر، وقال: ((إنكم سترَوْن ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها، فافعلوا))؛ أخرجه البخاري، ومعنى لا تضامون: لا تشكُّون، ولا يشتبه عليكم، وعنى بالصلاتينِ الفجرَ والعصر.

 

وبعد الإفاقة جدَّد الله تعالى لموسى الاصطفاء والنبوة، واختصه بكلامه دون واسطة؛ منًّا منه وفضلًا، ﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأعراف: 144]، فقد كان التكليف من قبل في إرساله وأخيه إلى فرعون: ﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ ﴾ [طه: 47]، وهنا على جبل الطور: ﴿ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ ﴾ [طه: 80]، وكان الاصطفاء والتكليف نبيًّا على بني إسرائيل، وهو بمثابة تجديد العهد له ورضا عنه ليبدأ رسالته بقوة، ثم أيده بالتوراة كتابًا منزلًا من عند الله، فيه تفصيل الأحكام: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145]، وقد نزلت التوراة على موسى دفعة واحدة في ألواح نفيسة من زمردة خضراء أو ياقوتة حمراء، وقيل: عددها سبعة، فهي كلام رب العالمين الخالد لا تنمحي مدى الدهر، ولا تبلى مع الزمن، فيها هدى ونور وتفصيل كل شيء من الأحكام وأمور الحياة؛ لذلك وردت في الآية كلمة "شيء" مرتين؛ للتأكيد على شمولية التوراة للأحكام وأمور الحياة، وقد أمر موسى أن يتمسك بدعوته بقوة؛ لأنه على الحق، وألا يستمع للمعارضين وأهل الزيغ والانحراف، كما أوصاهم ربهم بأن يأخذوا بأحسنها، وهل في التوراة أحسن وأقل حسنًا؟ كلام الله كله حسن، ولكن المعنى أن يعملوا بصريحها ومحكمها، ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾ [آل عمران: 7]، ثم قال: ﴿ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾ [الأعراف: 145]، بمعنى أنه سيصف لهم النار التي هي دارهم ومستقرهم كأنهم يرونها رأي عين، ولقد تغيب موسى عن قومه أربعين ليلة، وهذه مدة طويلة، صحيح أن هارون كان معهم، ولكنه وصف بأنه كان لينًا رفيقًا بقومه، متأنيًا، أضف إلى أن القرار كان بيد موسى، أما هارون فكان بمثابة النائب له؛ ولهذا كان موسى قلقًا على مصير قومه، متشوقًا للعودة السريعة إليهم كأنما أحس بأن أمرًا ما قد وقع عندهم، وهو نبي يملك القلب الشفيف والرؤية البعيدة، وهو الخبير بما عليه قومه، ثم زال الشك باليقين؛ فقد أخبره ربه وهو في الطور: ﴿ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ﴾ [طه: 83 - 85]، والآية تفيد بأن المواعدة كانت لموسى ولعدد من قومه المخلصين المختارين، ولكن شوق موسى لهذا اللقاء جعله يتعجل ويخلِّف المختارين من قومه وراءه، وقد عوتب من ربه عن فعلته هذه؛ فالله تعالى أراد أن يشهد عدد من خيرة بني إسرائيل هذا اللقاء؛ لتقوية موقف موسى أمام قومه؛ كيلا يتشكك أحد بصدق دعوته، تمامًا كما كان يشهد الصحابة نزول الوحي على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوصفوه كما رأوه، وكان موسى حركيًّا دائبًا غير متقاعس؛ لذلك لم يبطئ في التلبية، فسبق قومه ابتغاء مرضاة الله وخشية التأخر، وقد أزعجه بعد ذلك خبر فتنة قومه، فحمل الألواح وعاد إلى قومه: ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 148]، وهذا ما كان يحذر من حدوثه موسى، بل لم يكن يتوقع مثل هذا الانحدار الخطير في العقيدة بعد كل ما رأوه من المعجزات والآيات التي ترسخ العقيدة في القلوب، رجع وهم يعبدون عجلًا من ذهب، وقد خُدعوا بما له من خوار، ولكن ليس في هذا عذر لهم، كيف يعبدونه وقد صنعوه بأيديهم وهو من حليهم؟! ولذلك عنفهم المولى: ﴿ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ﴾ [الأعراف: 148]، وهذا يدلُّ على ضعف في التفكير وانحدار في العلم إلى حد الأمية، يعيشون جهلًا مطبقًا، فما ميزتهم على غيرهم من الأمم التي تعبد الأصنام؟ وبنو إسرائيل يقودهم نبي ويحيا بين ظهرانيهم ثم ينحدرون هذا الانحدار في العقل والتفكير، وأولئك الأمم الذين شاهدوهم يعكفون على أصنام لهم قد ضلوا وتاه تفكيرهم؛ لبعدهم عن تعاليم الأنبياء، وبنو إسرائيل ضلوا بعد غياب أربعين يومًا لنبيهم فأحدثوا بعده من الضلال ما فاق غيرهم من عبدة الأصنام، فكيف يؤتمنون على الشريعة بعد موسى عندما يتوفاه الله؟! ولهذا فلا غرابة إن قيل عنهم فيما بعد بأنهم حرفوا التوراة، لكن العقلاء منهم الذين انجرفوا مع التيار الطاغي ندموا على ما وقع منهم، ﴿ وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 149]، وهذا تعبيرٌ قُرْآني جميل: ﴿ سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ ﴾ [الأعراف: 149] فُسِّر بالندامة والتحيُّر، وقيل: هو أشد الندامة والحسرة، فإن من يبلغ هذه الدرجة من الندامة على ما فعل من تقصير فإنه يلجأ إلى عض يده بشدة، وقد لا يشعر بما يفعل؛ لشدة انفعال النفس في التأثر من الخطأ الذي وقع فيه، إن هذا التعبير القُرْآني البديع يبدي لنا حال ذوي النهى النفسية الذين آبوا وتابوا مما وقع منهم، وهو فظيع شنيع ما كان أن يحصل، لكن الشيطان له فعله وعمله في فتنة القلوب والنفوس، والعاقل من يتخلص من حبائله ويعلن توبته وعودته الحميدة إلى الله فلا يقف عند العصيان، وباب الله واسع، فتحه على مصراعيه للتائبين؛ لذلك أتبعوا توبتهم وندامتهم بأن دلفوا إلى رحمة الله خاضعين خاشعين؛ ﴿ لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف: 149]، فقد عرَفوا الطريق فعادوا وقد خلعوا ما كانوا عليه من التيه والضلال، ولبسوا ثوب التوبة والعبودية لله مخلصين له، ﴿ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا ﴾ [الأعراف: 150] عاد وقد تملَّكه الغضب، واشتد به حتى بدا في ملامح وجهه واحمرار عينيه، فلم يسلم على قومه، ولم يهش أو يبش كعادة من يغيب ثم يعود، بل بادرهم بالسخط والتعنيف، ﴿ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي ﴾ [الأعراف: 150]، و"بئس" كلمة تستعمل للذم، لقد تركتكم على خير حال، فما إن غبتُ عنكم انحرفتم، ﴿ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ﴾ [الأعراف: 150] تعجلتم سخط ربكم وغضبه، قبل أن تأتيكم تعليماته لتبسط لكم الشريعة وتبين لكم أسس التوحيد، لقد تصرَّفتم التصرف الخاطئ الذي تلامون عليه، ألم يكن فيكم صبر حتى أعود إليكم ومعي ما أنزل إليَّ ربي من الشريعة الغراء لنتبعها على هدى وعلم؟ قال هذا وهو في غاية الغضب: ﴿ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 150]، ﴿ قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ [طه: 92 - 94]، فكان عليه السلام ذا رأي حصيف وعقل كبير، تصرف بحكمة إلى أن يرى موسى فيهم رأيه، وحين أشرف موسى على قومه ورآهم عاكفين على العجل يعبدونه امتلأ غيظًا واشتد أسفًا؛ فألقى الألواح من يده ومال إلى هارون - وكان قد اعتزل القوم بعد أن تهددوه - وكأنه أراد أن يحمِّله مسؤولية ما حدث من انحراف؛ لأنه كان المؤتمن عليه في غيابه، وعليه ألا يدعهم ينحرفون، فصب جام غضبه عليه، وأمسك برأسه يجره إليه وبلحيته تارة، وهذا تصرف الغاضب - ولم يكن موسى يغضب لأذية مسته في شخصه، وإنما غضبه لهذا الانحراف العقدي وهكذا الأنبياء - ولكن الأخ الهادئ هارون شرح له الموقف وأعلمه أنه لم يكن ليرضى عما فعلوه، وأنه حاول منعهم من ذلك، لكنهم استضعفوه، ووصل الأمر بهم إلى تهديده بالقتل إن وقف حائلًا دون رغبتهم، فلم تكن عندهم له مهابة كمهابة موسى القوي، وأثرت كلمات هارون بموسى، فقد بذل أخوه جهده، ومن الخطأ أن يعامله معاملة الظالمين المخطئين، أو أن يظن أنه جارَاهم في عبادة العِجل - معاذ الله أن يكون فعل هذا، ﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ﴾ [طه: 90، 91]، لقد اعتزلهم في هذه الفترة، كما بيَّن له أن النزاع بين الأخوين يُشمِت بهما الأعداء الذين يتمنون هذا الخصام؛ لأنهم بالطبع ضد الدعوة، وإلا لما فتنوا بني إسرائيل بالعجل الذي صاغوه، وهنا رجع موسى إلى نفسه بعد الغضبة الفولاذية، ورأى أن الأمر قد حدث، وعليه رأب الصدع والعودة ببني إسرائيل إلى جادة الحق، ومحاسبة من تسبب في هذا الشرخ الكبير، ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [الأعراف: 151]، ولقد كان نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حِلمًا، وكان يغضب إذا انتُهك حد من حدود الله، وهكذا الأنبياء، وعلينا أن نعرف أن عبارة: ﴿ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ ﴾ [الأعراف: 150] رماها من الغضب دون شعور منه؛ لأن ما شاهد أمامه من الارتداد وعبادة العجل لم يكن ليحتمله موسى، ولم يقصد عدم الاهتمام بقدسيتها؛ فهي كلام رب العالمين، وحاشا لموسى أن يصدر منه هذا، وأن يفضي غضبه إلى انتهاك المقدسات وهو الحريص على حمايتها واحترامها، فما مصير المتسببين في هذه الفتنة؟ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ ﴾ [الأعراف: 152]؛ أي: إلهًا، ﴿ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ﴾ [الأعراف: 152]، وغضب الله معناه النار والعذابُ في الآخرة، وهذا لمن عبدوه متعلقين به ومعتقدين ألوهيته.

 

أما الذين تابوا وأنابوا فمغفرة الله واسعة ورحمته كبيرة؛ لذلك أتبع الآية السابقة بما يفيد عفوه تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأعراف: 153]، كما توعدهم الله بالذلة والصَّغار في الحياة الدنيا، فهذا جزاء الذين يفترون الكذب على الله ويقلبون الحقائق، ﴿ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ﴾ [الأعراف: 154] وهنا لم ينسب الغضب لموسى، بل استعار للغضب محركًا آخر وأخرج موسى من دائرة الغضب المباشر، وهذه استعارة مكنية، ولكن اللافت هنا أنه لما أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة، وكانت لما أحضرها حافلة بالمعطيات من كل شيء، فماذا حصل؟ إن إلقاء الألواح ساعة الغضب حطم بعضها، فنسخ الله جزءًا كبيرًا منها، وقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أعطي موسى التوراة في سبعة ألواح من زبرجد، فيها تبيان لكل شيء وموعظة، ولما جاء فرأى بني إسرائيل عكوفًا على العجل رمى التوراة من يده فتحطمت، وأقبل على هارون فأخذ برأسه، فرفع الله منها ستة أسباع وبقي سبع"، وفي رواية سعيد بن جبير قال: "كانت الألواح من زمرد، فلما ألقاها موسى ذهب التفصيل وبقي الهدى والرحمة"، وبعد هدوء موسى واسترجاعه، ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ﴾ [طه: 86]، لقد ذكرهم بوعد الله لهم بالجنة إذا التزموا طاعته وتوحيده، وقال: هل أنساكم طول العهد ما التزمتم به من الطاعة وهذا عهد وموعود الله لكم قائم في حال التزامكم؟ فلمَ أخلفتم ما عاهدتموني عليه من الإقامة أثناء غيابي على الطاعة فنقضتم عهدكم، فعدت لأراكم تعبدون العجل؟ ما أكثر تقلبكم وما أضعف نفوسكم! لقد انحطت من عال، وفارقها شموخ العزة بالإيمان، لكن قومه سارعوا إلى تبرير فعلتهم، ﴿ قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾ [طه: 87] فكان ما حصل بغير إرادتنا، حيث قادنا إلى ذلك أمر ظنناه من الدين، ﴿ وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ﴾ [طه: 87] خرجنا من مصر ومعنا الحلي من الذهب الذي استعرناه من المصريين ورأينا أن هذا لا يحل لنا وهو وزر نحمله فقذفناه في النار تخلصًا منها، وهذا ما قاله لنا السامري بأن موسى تأخر عنكم واحتبس لأجل ما عندكم من الحلي، فجمعناه ودفعناه إليه، وقد وافق كرهنا للحلي ومحاولتنا التخلص منها هوى في نفس السامري، فاستغل هذا الكره لما خطط له من الخبث، فأخذ الحلي وقذفها في النار أمامنا، ثم أخرج لنا عجلًا جسدًا له خوار، فقال: هذا إلهكم وإله موسى، ﴿ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ﴾ [طه: 88]، وانطلت الحيلة على هؤلاء الجاهلين وخدعوا بخواره وهم حديثو عهد بالتدين وظنوا أن هذا من لوازمه، كما يفعل جهلة اليوم عندما يتمسحون بالأضرحة ويظنون فيها التقرب إلى الله وينسون العبادة الحقة من الصلاة وقصد الدعاء والتضرع لله وحده، فكثير منهم يترك اللب ويتبع القشور ويعتقدون فيها الأصل، وهو جهل وبُعد عن تلقي العلم الصحيح، ﴿ فَنَسِيَ ﴾ [طه: 88] لقد اتهم السامري موسى بأنه نسي مكان إلهه فراح يبحث عنه بينما هو مقيم بين ظهرانيهم، وهنا التفت موسى إلى السامري بعدما لزمته الحجة وأشارت إليه أصابع الاتهام، فهو الضال المضل الذي لعب بالعقول وفتن الألباب ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَاسَامِرِيُّ ﴾ [طه: 95] ما الذي حملك على ما صنعت مخالفًا عقيدة التوحيد؟! كان فتًى أوتي حظًّا من الذكاء تبع موسى وهو من قوم يعبدون البقر، فظل هذا الأمر يلازمه ولم يتخلص منه، فوجد فرصته بغياب موسى ليجرَّ بني إسرائيل إلى عبادة آلهة قومه الذين يقطنون في منطقة السامرة، ﴿ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 96]، رأى جبريل على فرسه التي وطئت بحافرها الأرض فتركت أثرًا لهذا الحافر وهي من العام العلوي، ووقع حافرها على الأرض فيه سر الحياة، فأخذ هذا الأثر وألقاه على العجل الذي صاغه من الذهب فدب به نوع من الحياة، ومن ذلك أنه أظهر صوتًا يشبه خوار البقر، ثم أردف قائلًا: هكذا زينت لي نفسي هذا الفعل ففعلته، اعتراف فيه استهتار بالقيم، يتكلم وكأنه ليس من أتباع موسى، فما كان من موسى إلا أن دعا عليه دعوة فريدة من نوعها يستحقها جزاء ما اقترفت يداه من تضليل المؤمنين، ﴿ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ﴾[طه: 97]؛ أي: لا يقرب أحدًا ولا أحد يقربه، وهو نفي عن القوم؛ لخطره ودرء فتنته، وزجرًا لغيره، فقد خلق الله فيه خاصية المباعدة، فهرب من الناس وهام في البراري مع الوحوش وكفى الله المؤمنين شره في الدنيا، وله في الآخرة حساب عسير، ﴿ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا ﴾ [طه: 97]، وبعد أن عرَّفه قدر نفسه وأنه خرج مغضوبًا عليه ثم بين له قدر هذا الإله المصنوع وأنه لا يدفع عن نفسه ضرًّا ولا يجلب خيرًا، فحطمه وحرقه حتى أذابه قطعة واحدة ثم دقه قطعًا صغيرة ونسفه في البحر نسفًا، وبدأ التركيز أكثر على التوحيد؛ ليصون به قومه من الانزلاق في مهاوي الشرك وسوء الاعتقاد، ﴿ إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98]، وعاد موسى إلى قومه بعد طرد السامري، وتلقينهم التوحيد ليبلغهم بأن الله قد عفا عنهم، ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 52]، ولكن استثنى من العفو عددًا ممن كانوا السبب في عبادة العجل، حيث تقرر أن يطهروا أنفسهم بالقتل، ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54]، فكيف تم هذا التطهيرُ؟

 

وقد رُوِيَ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال موسى لقومه: ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 54]، قال: أمَر موسى قومه عن أمر ربه عز وجل أن يقتلوا أنفسهم، وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضًا، فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل، وجعل للقاتل توبة وللمقتول شهادة، وتعددت الروايات مع اتفاق على أن القتلى سبعون ألفًا، وأن الله تعالى قد تاب على الجميع.

 

بنو إسرائيل لا يزالون في سيناء:

وتوالت الأحداث على بني إسرائيل في سيناء، فقد اصطحب موسى معه سبعين رجلًا من خيار قومه إلى جبل الطور ليعتذروا عن بني إسرائيل وما كان منهم من عبادة العجل وليسمعوا ويشاهدوا موسى وهو يكلمه ربُّه، وقال لهم موسى: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم، وتوبوا إليه مما صنعتم، وسَلُوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقَّته له ربه، فقالوا لموسى: اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، فقال: أفعل، فلما دنا موسى من الجبل غشى الجبل عمود من الغمام، وقال موسى لمن معه: ادنوا، ولما دخلوا في الغمام وقعوا سجودًا لله فسمعوه يكلم موسى يأمره وينهاه، افعل ولا تفعل، فلما فرغ إليه من أمر انكشف عن موسى الغمام، فأقبل إليهم موسى، غير أنهم شكوا بما حدث، فطلبوا رؤية الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55]؛ أي: علانية هكذا جهارًا نهارًا، وهذا الطلب فيه جراءة على الله وقلة تأدب، فكان الرد عليهم حاسمًا قاهرًا، ﴿ فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ﴾ [البقرة: 55]، فماتوا واحدًا إثر واحد، فكان ينظر بعضهم إلى بعض وهم يموتون، وفي هذا ألم وتعذيب لهم وردع لمن خلفهم من التمادي في الضلال، ولما رأى موسى هؤلاء النخبة من قومه وقد حلت بهم مصيبة الموت، قام يبكي ويدعو ربه ويقول: يا رب، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ فاستجاب الله لتضرع موسى، ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾} [البقرة: 56]، وهناك رواية ثانية عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم: أن موسى عاد إلى قومه ومعه الألواح، قال لهم: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمرُكم الذي أمركم به ونهيُكم الذي نهاكم عنه، فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله علينا ويقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما يكلمك أنت يا موسى، وقرأ قول الله: ﴿ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [البقرة: 55]، قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة فصعقتهم، فماتوا أجمعون، ثم أحياهم الله من بعد موتهم.

 

وهذه الرواية جيدة، فالعقاب كان لهذا التمادي في الباطل وطلب الرؤية بوقاحة واستهتار وإملاء لما سيكون عليه ظهور الرب كما يطلبون، ولكن أين طلبهم هذا من طلب موسى: ﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ﴾ [الأعراف: 143]، طلب محبة وشوق وخضوع لله؛ لذلك كان الرد رفيقًا بموسى، لا صاعقًا مميتًا.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • فوائد من قصة موسى عليه السلام
  • قصة موسى عليه السلام (1) ولادتة
  • قصة موسى عليه السلام (2) المواجهة مع فرعون
  • إضاءات على الطريق من قصة موسى عليه السلام وابنتي شعيب (خطبة)
  • قصة موسى عليه السلام (3) يوم الزينة
  • قصة موسى عليه السلام (4) مرحلة التخويف بالمعجزات
  • قصة موسى عليه السلام (5) الغرق
  • قصة موسى عليه السلام (6) نهاية الظلم
  • قصة موسى عليه السلام (8) التيه
  • قصة موسى عليه السلام (9) موسى والخضر
  • قصة موسى عليه السلام (10) بقرة بني إسرائيل
  • قصة موسى عليه السلام (11) قارون وطغيان المال

مختارات من الشبكة

  • قصة يوسف: دروس وعبر (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تعريف القصة لغة واصطلاحا(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • الابتلاء بالعطاء في ظلال سورة الكهف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • قصص فيها عبرة وعظة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ملخص لخصائص القصة الشعرية إلى عصر الدول المتتابعة(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • خصائص القصة الشعرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • فوائد القصص في المجال الإعلامي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • القصة وأثرها في بناء شخصية أولادنا(مقالة - حضارة الكلمة)
  • دروس وفوائد من قصة سيدنا شعيب(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • أربعين ساعة بين الأمواج (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب