• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مواقع المشرفين   مواقع المشايخ والعلماء  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    خطبة (المرض والتداوي)
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    تحية الإسلام الخالدة
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    آداب التلاوة وأثرها في الانتفاع بالقرآن الكريم
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    الأحاديث الطوال (22) حديث أم زرع
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    أمثال القرآن: حكم وبيان (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    خطبة .. من سره أن يلقى الله تعالى غدا مسلما
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    نتائج بحث بلوغ المرام في قصة ظهور أول مصحف مرتل
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أثر الإيمان بالكتاب المنشور يوم القيامة، وفضائل ...
    الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري
  •  
    شرح كتاب السنة لأبي بكر الخلال (رحمه الله) المجلس ...
    الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل
  •  
    ابن تيمية وعلم التفسير
    أ. د. إبراهيم بن صالح بن عبدالله
  •  
    المسارعة إلى الاستجابة لأمر الله ورسوله صلى الله ...
    د. أمين بن عبدالله الشقاوي
  •  
    فوائد من قصة يونس عليه السلام (خطبة)
    د. محمود بن أحمد الدوسري
  •  
    طبيعة العلم من المنظور الإسلامي
    أ. د. فؤاد محمد موسى
  •  
    فضل ذي القعدة (خطبة)
    د. صغير بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / أ. د. عبدالحليم عويس / مقالات
علامة باركود

الشريعة الإسلامية ومكانتها في تاريخ المجتمع الإسلامي

الشريعة الإسلامية ومكانتها في تاريخ المجتمع الإسلامي
أ. د. عبدالحليم عويس

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/4/2013 ميلادي - 28/5/1434 هجري

الزيارات: 28541

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الشريعة الإسلامية ومكانتها في تاريخ المجتمع الإسلامي


يظنُّ بعض السطحيين أن تطبيق القِيَم الإسلامية قديمًا أو حديثًا يرتبط بدولة أو مجتمع أو شعب ملائكي، فكأن تطبيق الشريعة في رأيهم مفتاحٌ سِحْري يُلْغي الجانب البشري، ويقضي على النوازع المادية والغرائزية!

 

إن هذا قد يجوز بالنسبة لقلة ذات فطرة واستعداد معينين، لكن المجموع البشري يعيش الصراع الداخلي بين الخير والشر، ويرتفع ويهبط، ثم يتوب ويرتفع، ويخلط العمل الصالح بغير الصالح.

 

بَيْدَ أن هناك ضمانتين استحق بهما المجتمع الإسلامي، وهذا التاريخ الإسلامي أن يكونا تاريخًا ومجتمعًا إسلاميًّا، وهاتان الضمانتان يرتفعانِ بهذا المجتمع عن مستوى أي مجتمع بشري آخر.

 

الأولى: أن هذا المجتمعَ مرتبطٌ بأصلين ثابتين لا يمكن تحريفهما عن موضعهما بتأثير سلطة فوقية عقدية (بابوية)، أو سلطة عسكرية أو سياسية حاكمة؛ فالقرآن والسنة فوق عبث العابثين وجبروت المتجبرين، وهذه هي الضمانة الأولى التي انبثق عنها - في مجال التطبيق والفكر معًا - أن أصبح محمد عليه الصلاة والسلام - صاحب السنة القولية والفعلية - هو الإمامَ النموذج لهذا التاريخ وحضارته الإسلامية.

 

على المسلمين - إن كانوا مسلمين حقًّا - أن يعيدوا عبر كل مراحل التاريخ تقويمَ حياتهم الفكرية والأخلاقية والإنسانية؛ لتقترب من نموذج هذا النبي (القدوة العملية، والقرآن المتحرك الحي)، وقد عاش سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام - كل أطوار الواقع البشري، فسالَمَ وحارَبَ، وتزوَّج وأنجب، وعاشر الأغنياء والفقراء، والخدم والعبيد والنساء، ومَرِض وعُوفِيَ، وباع واشترى، وعامَلَ الصغارَ والكبارَ، ودخَلَ الأسواق.

 

وبإيجاز قدم شخصية واضحة كل الوضوح تجمع بين البشرية والنبوة، تهتدي البشرية بالنبوة، ولكن تبقى النبوة في دائرة العصمة، التي لا يُطالَب الناس بها، وتصبح البشرية المهتدية بالنبوة مجالاً للاقتداء والسباق بين الناس.

 

أما الضمانة الثانية لهذا المجتمع الإسلامي: فهي الرأي العام - رأي جمهور الأمة - الذي يبقى - في ضوء فطرته التي امتزجت بالشريعة - داعيًا للمعروف، ومنكِرًا للمنكر، مهما كان السلوك مغلوطًا، ومهما كان ضغط بعض الحكام وبعض الأوضاع وبعض دعاة الإفساد؛ فالمجتمع المسلم يبقى منكِرًا للزنا، وللخمر، وللربا، وللاستغلال، والشذوذ الجنسي، ولم يسمح قط - في عرفه أو إجماعه - بإباحة شيء مما أباحتْه بعضُ الحضارات، وآخرها الحضارة الغربية التي تبيح اللواط، والزنا، والربا، والخمور، والتفرقة العنصرية، واستنزاف ثروات الشعوب، والكذب على أنبياء الله، واستئجار عقول بعض المزيفين من أبناء الحضارة المغلوبة؛ وذلك لتشويه حضارتهم، والتجني عليهم.

 

لقد كان هذا الرأي العام المسلم (ضمانة طبيعية)، تعصم المسلمين من التفرق الفكري والعَقَدي والتشريعي، ومن الضلال الأخلاقي - بصفة عامة - مهما استبد الجهل بالمسلمين، وكان من نتيجة هذا الرأي العام المسلم أن المسلمين الأوائل لم يقلِّدوا كل داعية - كما تفعل المجتمعات الغربية - "وإنما اختاروا - بوعيهم الإيماني - من بين آلاف الدعاة ومئات المجتهدين عددًا محصورًا أَوْلَوْهم الثقة، وانتظموا وراءهم، ونظموا أنفسهم، ولم يسمحوا - في الإفتاء - بمجال للفوضى"[1].

 

وفي ظل الثوابت والإجماع والحس الإسلامي العام، انطلقت الأمة الإسلامية في رحلة صناعة تاريخها وحضارتها، تواجه كلَّ عصر بما تحتاج إليه تحدياتُه، وتزودها الثوابت بالأسلحة، ويحكم حركتَها الرأيُ العام، وكانت تفرِّق دائمًا بين مجالي النص والرأي، والشريعة والفقه، وما يقبل الاجتهاد وما لا يقبله، ومعلوم أن التطبيقَ إنما يأتي تلبية للواقع العملي، ولما كانت الحالات الاجتماعية لا تكرر أبدًا في التاريخ، إنما تتشابه مجرد تشابه، فإن أي حكم تطبيقي في حالة مضت، وليس من شرع الله ولا من عمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما يصلح للاسترشاد به في الحالات المشابهة، التي تَعْرِض للأجيال المتجددة، ولكنه لا يبلغ حدَّ الإلزام المطلق؛ لأنه مجرد رأي بشري في شريعة الله، وليس جزءًا من الشريعة الثابتة الصادرة من الله[2].

 

فهكذا كان الميزان ثابتًا، وحول هذا الميزان نشأ في كل عصر مجتهدون، وأئمة عرفنا بعضهم، لكن أكثرهم لا يعرفهم إلا أهلُ الاختصاص.

 

أما على مستوى ارتباط التاريخ الإسلامي - بصفة عامة - بشريعته، فإن هذا الارتباط هو الذي صنع نسيج العلاقات الاجتماعية في شتى المستويات والتعبيرات، دون أن يعنيَ ذلك جمودًا عند أشكال معينة، بل إن تنوع المجتمعات، وتغيُّر العصور الذي هو الترجمة الصحيحة لصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، هذا التنوع قد مكَّن المسلمين - في ظل الثوابت والرأي العام بحسه الإسلامي - من أن يُبدِعَ أنماطًا حضارية مختلفة الشكل والتعبير، لكنها ذات رُوح واحدة، وإن الصور التاريخية للمجتمع الإسلامي لا تحدِّد ولا تستوعب كل الصور الممكنة للمجتمع الإسلامي؛ فلكل جيل أن يُبدِع نظمه الاجتماعية في حدود المبادئ الإسلامية، وأن يلبي حاجات زمانه باجتهادات فقهية قائمةٍ على الأصول الكلية للشريعة، على شرط اتباع مناهج صحيحة في الاجتهاد، والاتفاق بين جمهور فقهاء الأمة الإسلامية في كل جيل؛ بحيث لا تدَع الأمرَ فوضى لكل من شاء كيف شاء[3].

 

لقد كان المجتمع الإسلامي إسلاميًّا مرتبطًا بالشريعة، ولو لم يكن كذلك، لظهر فيه مجتهدون يبيحون ما حرم الله، كما وقع في المجتمعات الغربية التي أباحت زواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، وتقنين الشذوذ الجنسي، ودعوة جمعياته، وهي المجتمعات التي يخطئ بعض المؤرخين ويطلقون عليها (مجتمعات مسيحية)، فعلى الرغم من الثروة الفقهية الإسلامية الهائلة، لم نجد مذهبًا فقهيًّا، أو مجتهدًا ما يُبيح زواج الرجل بالرجل، كما باركت المجتمعات المسيحية العَلْمانية ذلك، ولم نجد أي مذهب فقهي - ودعْنا من الخارجين على الإسلام، أو المأجورين من قِبَل دين آخر، أو نِحْلة أخرى - يبيح الزنا، أو الربا، أو الخمور، أو الدعارة الرسمية.

 

ومن البديهيات أن المسلمين عاشوا حياة اجتماعية عبر أماكن شاسعة، وبصورة كثيرة، وأن هذه الحياة الاجتماعية قامت على نُظُم أُسرية، وعلى عادات وتقاليد، وعلى أنماط من العلاقات الموجهة من قبل المبادئ المسيطرة، وقد كانت لهؤلاء المسلمين بالتأكيد نشاطات يتكسبون منها - زراعة أو صناعة أو حِرَفًا أو تجارة، أو مِهَنًا عقلية وثقافية - كما كان لهم بالضرورة أسواق للتبادل والبيع والشراء.

 

وفي تلك العصور - ونتيجة تخلف المواصلات - كان مستحيلاً أن تعيش أمةٌ عالةً - في أساسيات حياتها - على أمم غيرها؛ ولذلك كان على المجتمع الإسلامي أن يعمل، وأن يكفي نفسه على الأقل، وإلا تعرض للفناء، ولقد بقي المجتمع الإسلامي - على الرغم من كل ما وقع فيه من انحرافات - بعيدًا عن صورة الإقطاع الأوروبي الذي يملِك فيه الإقطاعيُّ الأرضَ ومَن عليها من عبيد الأرض، الذين لا يملِكون حق الانتقال إلا بإذن السيد، كما كان الحال في العصور الوسطى، وكان الذي حماهم من "حتمية" الإقطاع - ماركسيًّا - تحاكُم ذلك المجتمع إلى شريعة الله، برغم كل الظلم الناشئ من تجاوُزِ بعض حكامهم فيما يتعلق بأشخاصهم لحدود الله، ولكن الناس - في ظلهم - يتحاكمون فيما بينهم بشريعة الله[4].

 

وقد بقِيَ المجتمع المسلم - بالرغم من كل ما وقع فيه من تجاوزات - مجتمعًا يحرص على نشر العلم، ويفتح المدارس، ويُوقِف عليها من الأوقاف ما يكفُلُ للمعلِّمين والمتعلمين معاشَهم من سكن وملبَس ومطعم، وذلك قبل أن تنهض أوروبا نهضتها وتعرف قيمة العلم.

 

وبقي المجتمع - رغم كل انحرافاته - نظيفًا إلى حد كبير من الفاحشة الخُلُقية؛ بسبب التزامه بتعاليم دينه في أمر الحجاب، ومنع الاختلاط والتبرج، وفي أمر الزواج المبكر، وبقي مجتمعًا متآخيًا متكاملاً مترابطًا، يخرج المسلم فيه من المغرب حتى يصل إلى إندونيسيا لا يُوقِفُه حاجز واحد من حواجز الحدود السياسية أو "القومية" أو "الوطنية"؛ فقد كان فوق كل ذلك.

 

وبقي - برغم كل ما اعتوره من اضطراب الأرض عند ضعف سلطان الدولة - أقلَّ مجتمعات الأرض جرائمَ، وأكثرَها طمأنينة وأمنًا وبركة[5].

 

وكان للمرأة المسلمة مكانُها ونصيبها في صناعة هذه الحياة الاجتماعية في إطار الشريعة الإسلامية، وهي أن بناءَ الإنسان هو أول الأبنية في صناعة الحضارة، وأن التضحية بوظيفة بناء الإنسان - عن طريق هدم الأسرة - تمزيقٌ للبناء الاجتماعي كله، وقد ضمت كتب التراجم والطبقات وأعلام النساء ما يؤكِّد وجود المرأة في الحياة الإسلامية وجودًا بنَّاءً تحكُمُه شريعة الإسلام.

 

ونحن لا نريد أن نُسهِبَ في الحديث عن موضوع (الرق) والموالي بصفة عامة، إلا أننا نستطيع القول بأن المجتمع الإسلامي كان مجتمع أحرار، وأن باب الحرية كان مفتوحًا أمام كل مَن يشعر في نفسه بقدرته على تحمل أعباء الحرية ومسؤوليتها، وذلك عن طريق حق "المُكاتَبَة" الذي يَذهب بعض الفقهاء إلى أنه حق للعبد، وأن على السيد أن يستجيب للرقيق متى طلب المكاتبة، وأن على المجتمع الإسلامي أن يساعدَ العبد في الحصول على حريته، وأن يدفع له من المال ما يُعِينه على تحقيق ذلك؛ كما جاء في آية: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون ﴾ [البقرة: 177].

 

لقد حرَّر الإسلام الإنسانية كلها نفسيًّا وفكريًّا وتشريعيًّا، عندما جعل العبودية لله وحده، وأرسى الحقوقَ الإنسانية العامة.

 

فلقد كان العبيد يقفون مع السادة في المساجد سواءً بسواء، وقد استطاعت أعداد كبيرة منهم أن تحتل مناصبَ رفيعة، بل أن تشكِّلَ دولاً خدمت الإسلام كثيرًا، وأن تكوِّن جيوشًا دافعت عن عقيدة الإسلام وبلاد المسلمين في معاركَ خالدة، وهذا يؤكد ما قلتُه من وجود أرضية فكرية ونسيج نفسي وأخلاقي وتشريعي يَسُود هذا المجتمعَ، بصرف النظر عن الوظيفة الاجتماعية للطبقات المختلفة.

 

وفي إطار هذه الحياة الاجتماعية الشاملة والعادلة كانت للمسلمين مساجدهم التي كانت تقوم بدور قائد، ولم تكن مجرد دُورٍ للعبادة؛ إذ إن هذا المفهوم الذي يؤدي إلى (الرهبنة) والانعزال أو الانسحاب لم يُعرَفْ في الإسلام، لا في داخل المسجد ولا في الحياة الاجتماعية كلها؛ فالمسجد يتفاعل مع الحياة، والأرض كلها مسجد تخضع لقِيَم الإسلام، وتهدف إلى عمارة الأرض؛ لتحقيق عبادة الله، ونشر عقيدة توحيد الله في الأرض.

 

وعندما نريد الحكم على مدى إسلامية هذه الحياة الاجتماعية - أو الحكم بعدم إسلاميتها - فإننا يجب أن نقومَ "بتفكيك" شتى النشاطات والعلاقات الفردية والأُسرية والاجتماعية العامة؛ أي: إننا - بإيجاز - يجب أن نرصد المجتمع الإسلامي، والناسَ الذين يعيشون فيه في كل أوضاعهم، وبكل شرائحهم، مسلِّطين الضوءَ على شبكة العلاقات الاجتماعية في شتى أحواله؛ من جد وترويح، وحزن وفرح، وسلام وخلاف، وزواج وطلاق، وإلى آخر كل الخيوط المشكِّلة لنسيج الحياة الاجتماعية.

 

وفي الحياة الاقتصادية - لكي يكون حُكمنا موضوعيًّا كذلك - يجب أن نرصد مدى تمثيل المجتمع الإسلامي لأبواب المعاملات كلها، ونقيس ما كان سائدًا من النشاطات الاقتصادية على أحكام المعاملات الإسلامية، فمثلاً: هل كان المجتمع الإسلامي في عصوره المختلفة يخضع لسيادة الربا؟ أو أن الربا كان - ككل صور الشذوذ - سلوكًا منبوذًا فرديًّا يقاومه المجتمع؟

 

لقد كان المجتمع الإسلامي - إذًا - مجتمع (القرض الحسن)، والتكافل الاجتماعي، (ونلاحظ هنا ظاهرة الحبوس والأوقاف التي امتاز بها المجتمع الإسلامي).

 

هل كانت الزكاة فقط هي الواجب الذي يؤدِّيه المسلم، أو أنه كان يؤدي واجباتٍ كثيرة، مثل: حقوق الجيران، وحق الماعون، وحق الضيافة، وحق ابن السبيل في الإيواء، إلى آخر هذه الحقوق؟

 

وهكذا نتدرج إلى شتى النشاطات الاقتصادية والمالية والاجتماعية؛ لنقدِّم الرأي المحايد فيها!

 

ولعلنا نتساءل هنا: لماذا لم تظهر - ولم تنجح - كلُّ صور الشيوعية أو الاشتراكية في العالم الإسلامي، بينما ظهرت أو انتشرت في المجتمعات الغربية، وكادت تجتاح الغرب كلَّه لولا أن بادر إلى تحقيق صُوَر من التكافل والضمان وحقوق الإنسان سدَّتِ الباب في وجه الشيوعية، وأطلقت الإنسان إلى عالَم العلم والعمل والإبداع؟ أليس قِيَمُ تحقيق التكافل والضمان، وحقوق الإنسان هي التي حالت دون وجود صراع اجتماعي أو اقتصادي في المجتمع الإسلامي على النحو الذي ظهر في حضارات الإغريق والرومان وأوربا الحديثة؟!

 

ولكي نحكُمَ على الحياة الثقافية والفكرية والتعليمية؛ يجب أن نقومَ بعملية التحليل نفسها، فنتبع كل الخلايا العلمية والتثقيفية؛ بدءًا بالدور والكتاتيب، وأَرْوقة المساجد، ومن ثمَّ المدارس النظامية، والجامعات، والرباطات، والمكتبات العامة والخاصة.

 

إن الأمر ليس عملاً هينًا ولا بسيطًا، ويجب أن يجتهد المؤرِّخون فيه، كما اجتهدوا في استقصاء الوقائع العسكرية، وحياة الساسة، وكل ما صغر من "أعمال الأعلام فيمن بويع قبل الاحتلام من ملوك الإسلام"[6]، وغيرهم ممن بويعوا بعد الاحتلام.

 

لقد قدمَت الشرائح المختلفة ما تستطيع من جهد؛ فأفرزت لنا كيانًا مستقلاًّ اسمه: (الحضارة الإسلامية)، وقد قام المسلمون أنفسهم - على نحو ما ذكرنا - بنَقْدِ مصادرهم ومؤرِّخيهم؛ بهدف الوصول إلى الحق، وقد قاموا بهذا النقد وَفْق مِبْضع جريء قوي، لا يخشى في الحق لومة لائم، وقد استطاعوا - بهذا المنهج - أن يصحِّحوا مفاهيمَهم وسلوكياتهم، وأن يحموا سيرة نبيِّهم وسنَّتَه القولية من كل أوهامٍ يريد المغرضون والأعداء إقحامَها لتشويه المَثَل الأعلى والقدوة، وتضليل منهج المسلمين.

 

كما أن مصادرَ كثيرة - لم تأخذ حقَّها من الدراسة والإفادة بعد، وقد ألمحنا إلى بعضها؛ ككتب الطبقات والرحلات والجغرافيين والأدب والفقه - قد قدمت أنماطًا ونماذجَ من الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وهي تحتاج إلى أن تصبحَ هي وغيرها من كتب الحضارة - قبل كتب السياسة - مناطَ البحث التاريخي؛ حتى نكتشف - بوضوح ويقين - كيف أن الشريعةَ كانت تحكم هذه الحياةَ الإسلامية المهيمنة والصانعة لنسيج الحياة، وشبكة العلاقات.

 

ومن الجدير بالتوضيح أن ما يفعله بعضُهم من ربط مستوى التزام الساسة بالإسلام بالتزام المجتمع، ومنهم مدرسة الأستاذ: "محمد أركون" - إنما هو ارتباطٌ في غير موضعه، ولو لزم وجود هذا الارتباط في مسيرة الأديان والعقائد، لَمَا عاش أي دين.

 

ولكان اليهود - مثلاً - قد ذابوا في الشعوب الأخرى؛ إذ إنهم قلما قامت لهم دولة في التاريخ، ومع ذلك تحملوا الاضطهاد والاغتراب، وبقوا حتى اليوم يعلنون هُويتهم الدينية، حتى في اسم الدولة استطاعوا تسخير القوى الكبرى لإنشائها "إسرائيل"، بل ربما كان الاضطهاد السياسي دافعًا إلى مزيدٍ من التمسك والالتزام.

 

وفي التاريخ الإسلامي كانت رغبة المجتمعات الإسلامية الدائمة هي الالتزام بالإسلام والتمسك به "إنها ما استسلمت بسهولة لتقاليد الحكام، بل شقَّت طريقَها المستقل بمواجهتهم، وعمِلت جادة من أجل إعادتهم إلى جادة الصواب"[7].

 

وعندما كانت تعجز، فإنها كانت تقاوم بالفعل الحضاري، فيعمل الدعاة والفقهاء والمحتسبون على إنكار المنكر ومقاومة مفاسد السياسة، ويتطوع المجتمعُ المسلم ببناء المؤسسات الإسلامية التي تُغْنِيه عن الحاكم، ويحاصر بها أهواء الحكام المنحرفين، ومعظم المساجد والكتاتيب والأوقاف الخيرية كانت تقوم على أكتاف الشعوب المسلمة، ولا زالت حتى اليوم في أكثر بلاد الإسلام.

 

وعبر عصور الحضارة الإسلامية المختلفة كان المجتمعُ الإسلامي - اعتمادًا على بنائه للفرد والأسرة المسلمة والتربية والتعليم الإسلاميين - يتحرَّك في عملية جهاد مستمر لصياغة حياته وَفْق شريعة الإسلام، ماضيًا على جهات ثلاثٍ متناغمة ومتكاملة: حركة ذاتية عميقة؛ لتمكين الإنسان الفرد من المزيد من التحقق بالإيمان، وحركة جماعية أفقية؛ لتمكين المجتمع المسلم من حماية نسيجه وإحكام حَبْكَته، وحركة صوب الخارج تحمل بُعْدًا عَقَديًّا، يتوسل بالسياسة أو القوة العسكرية حينًا، وبالفعل الحضاري والكلمة المؤمنة الهادية في أكثر الأحايين[8].

 

وبالمنظور الشمولي نفسه نرصد الإطار العام لحركة التاريخ الإسلامي وحضارته، من خلال فاعلية الإنسان المسلم وإبداعه، فنجد هذا الإطار تنتظمه مراحلُ أساسية كبرى، هي[9]:

 

1- مرحلة تكوين الإنسان المؤمن (النموذج):

لقد تم في عهد الرسول - عليه الصلاة والسلام - تكوينُ المسلم تكوينًا دينيًّا شاملاً لشؤون الحياة الدنيا، وهذا العهد النبوي - عهد الصحابة رضي الله عنهم - هو أساس كلِّ تحضر إسلامي، وفي كثير من مراحل التاريخ الإسلامي تمت محاولات ناجحة لبناء إنسان مسلم يقتفي أثر النموذج، وكان لهؤلاء دورٌ كبير في إثراء الحضارة الإسلامية، ونهوضها في محاط كثيرة.

 

2- مرحلة تبليغ أساسيات الحضارة الإسلامية للأمم:

وهي مرحلة الفتوحات الكبرى التي كان العصر الأموي قمَّتَها، وقد تكرر نموذجهم في التاريخ على يد المرابطين في المغرب، وبني أمية في الأندلس، والمماليك والأكراد والعثمانيين في بعض عصورهم.

 

3- مرحلة اللقاء الحضاري بين الإسلام وبين حضارات الأمم:

وقد تفاعل المسلمون مع حضارات غيرهم، وسرعان ما تفهموا روح الحضارات الأخرى وعناصرها، وقاموا ببناء حضارة رُوحها وجوهرها: الإسلام، ورداؤها: كل مظاهر التحضر الإنساني، وهذا تحقَّق في العصر العباسي حتى أواسط القرن الرابع الهجري - مع بعض الملاحظات على عصر المأمون - وهذا النموذج تكرَّر في فتح الإسلام للهند، وفي التفاعل الإسلامي الواعي - وليس العلماني - مع حضارة أوروبا المعاصرة.

 

4- مرحلة الإبداع مع التنوع:

وهي تمتد حتى أوائل القرن الثامن الهجري، وإن كانت قد عاقتها غزوات المغول وما أعقبها، وفي هذه المرحلة كان التأثير الكبير لحضارة الإسلام في الحضارة الغربية الأوروبية، وهي التي لم تزدهر إلا بعد المعرفة بالإسلام وحضارته[10].

 

5- مرحلة الحضارة عند مختلف شعوب الإسلام في فارس والهند ومصر وفي الدولة العثمانية.

 

6- مرحلة الركود والتخلُّف تحت سيطرة الغرور الحضاري وقهر الاستعمار.

 

7- مرحلة النهضة الحديثة في مختلف بلاد الإسلام: في القرنين التاسع عشر والعشرين وما تبع ذلك من ظهور الصحوة، وبروز الرؤية الإسلامية والمناهج الإسلامية لكتابة التاريخ، ولتأصيل علوم الاجتماع والتربية والنفس والإعلام والأدب، بمنظور حضاري إسلامي متميز[11].

 

ومرة أخرى، ونحن نقدم نظرة تقويمية أخيرة لتاريخنا الإسلامي وحضارته، بعد تقديمنا بعض التفصيلات الضرورية عن العصور التي "عَلْمَنَهَا" الأستاذ/ محمد أركون بعدد من الأسطر! - مرة أخرى - ونحن نقدم هذه النظرة التقويمية العامة لتاريخنا الإسلامي، وحضارتنا الإسلامية - نوضِّح أن المنهج العلمي يقتضي من الذين يحكمون على تاريخنا ومستوى ارتباط أبنائه بالشريعة - أن يقوموا بالبحث الدقيق في نسيج الحضارة الإسلامية أو الفحص العميق لمكوِّناتها وعناصرها الفاعلة، وخلاياها المتعددة في مستويات القاعدة، وفي مستوى القمة، وفي مستوى الإبداع الفكري، وفي مستويات العمل الجسدي والنشاطات اليومية، كما يقتضي المنهج تتبعًا منصفًا للحركات التي يحلو لبعضهم أن يسميها: "حركات ثورية"، مع أنها في تصورنا "حركات إصلاحية"، أرادت العودة بالأمة إلى الكتاب والسنَّة، حتى إن أخطأ بعضها في أساليب التغيير، هذا إذا استثنينا بعضَ الحركات الموجهة من عقائد مضادة كحركة الباطنية والقرامطة.

 

لقد كان كل المختلفين في حضارتنا يطالبون بالعودة إلى الإسلام الصحيح، إنه القاسم المشترك الذي لا يختلف حوله، وكلهم يظن أنه الأقرب للصواب في دعوته ومنهجه، وكلهم مجتهد، ولم يكن أحدُهم ليدعو لنَبْذِ الإسلام، وإلا لانتهى فورًا؛ لأن الخروج على الإسلام اتجاهٌ مرفوض من الأمة كلها، ولم يكن الأمر - كما فهمت المَدْرسة العَلْمانية وعلى رأسها: (محمد أركون) مجردَ تمسُّحٍ في الإسلام، أو تدثُّرٍ به لتحقيق أغراض شخصية، بل كان الإسلام - بيقينٍ - هو الهدف المشترك، وكان مصدر الخلاف بينهم تغليبَ حقٍّ على حق، أو اعتماد بعضهم ورفض الآخرين للتأويل، أو ترجيح فقه على فقه آخر.

 

وهذا الخلاف بالطبع - قد يحتدم عند وجود خلل في السلوك الذي هو من طبيعة البشر، فتتقدم جماعة للتصويب، ويقاومها الآخرون؛ لخروجها عن الطريق الشرعي - في رأيهم - أو لأنهم في موقف يبصرون فيه بعضَ الحقائق التي لا يبصرها الآخرون.

 

ونحن بالطبع لا نقوِّم هنا شتى السلوكيات التي وقعت في عصور تاريخية كثيرة؛ كي نثبت صحة هذه الحقيقة[12] بدءًا بخلاف علي ومعاوية - رضي الله عنهما - وحتى ثورة البربر في المغرب ضد ولاة الجَوْر، الذين كانوا يُبقون الجزية على مَن أسلم، وأيًّا كان الأمر فعندما كانت تتكاتف الأخطاء وتَكِلُّ السواعد عن حمل الراية الإسلامية والحضارية، كانت سواعد أخرى فتيَّة تتقدم، فتنتهي المرحلة السابقة، وتبدأ مرحلة لاحقة، لِتَكُنِ السواعد القادرة على حمل الراية سواعد عربية أو بربرية أو تركية أو فارسية أو كردية أو حتى مماليك من هؤلاء الذين كانوا عبيدًا فرفعهم الإسلام بحضارته إلى مستوى القياد والسيادة، ليَكُنْ هؤلاء أو أولئك، المهم أن يكونوا تحت الشعار الثابت شعار الإسلام.

 

إن حضارة الإسلام حضارةٌ منفتحة قادرة على المواجهة، وتغيير أدوار البطولة بين أبنائها، والكشف عن طاقاتها الكامنة، واستثارة كل الطاقات.

 

وفي نهاية هذا الشوط، وبالإضافة إلى كل ما ذكرناه، نقول: إن رَصْد المجتمع الإسلامي من داخله يحتاج إلى تحليل اجتماعي خاص؛ فهذا المجتمع يمزج بين العبادات والمعاملات، وتمتد فيه مساحة العبادة، فتصبح الأرض كلُّها في مفهوم المسلم وسلوكه مسجدًا.

 

ولا يصلح للمسلم أن يعطيَ للمسجد يومًا وينفلت من العبادة بقية أيام الأسبوع، وعندما ننظر في حقيقة العبادات والشعائر التي يُطالَب المسلمُ بها، ولا يستحق صفةَ الإسلام إذا لم يؤدِّها، نجدها ذات طبيعة اجتماعية؛ فهي غير محصورة في المسجد أو الفرد أو الأسرة.

 

فالصلاة ذات أبعاد اجتماعية، والحضور لها في المسجد يحقق صلات ووظائف اجتماعية، وصلة الزكاة بأنواعها المختلفة بالحياة الاجتماعية لا تحتاج إلى دليل، ويتفرع عن العبادة وظائفُ اجتماعية لها قيمتها، وعلى رأسها برُّ الوالدين، وصلة الأرحام، وحقوق الجيران، وزيارة المرضى، وحق الضيافة، الذي يذهب فقيهٌ مثلُ ابن حزم الأندلسي (ت456هـ) إلى وجوبه ثلاثة أيام، كما يذهب إلى أن "حق إعارة الماعون" فرض كذلك في حدود الطاقة.

 

ولو ذهبنا نستقصي شتى العبادات والأوامر، والنوافل المؤكدة، وفروض الكفاية، لوجدنا أن المسلم - بحكم كونه مسلمًا - يعيش الحياة كلَّها محكومًا بشريعة الله، ولا يجد إلا اللهَ يتجه له بنشاطه؛ لأن هذا من مقتضيات توحيد القصد والعناية، "ومن ثم تُعَد كل خدمة اجتماعية وكل عمل من أعمال الخير عبادةً"[13]، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار))[14].

 

وإذا رصدنا بعض الأخطاء، فهذا - كما ذكرنا سلفًا - ضرورة بشرية؛ لأن المجتمع الإسلامي ليس مجتمعَ معصومين أو ملائكة، بَيْدَ أن ضمير المسلم ووعيَه يرفضان الأخطاء، ولم يَسْعَ المجتمعُ الإسلامي إلى تقنين خطأٍ قط أو تحويله إلى قاعدة، كما تفعل المجتمعات المادية والعَلْمانية، فعندما عجزت أمريكا منذ نصف قرن عن تحريم الخمور، وأنفقت ملياري دولار، عادت فأباحتها بقانون طرب له الشعب الأمريكي، أما المجتمع الإسلامي، فهو يقاوم الذين يبيحون المحرَّمات، ويرفض فتاواهم، ويصُوغ حياته أفرادًا أو عائلات، أو تقاليد وعادات، أو تربية أو أخلاقًا - وَفْقَ شريعة الإسلام.

 

وإذا نظرنا إلى خضوع المجتمع الإسلامي للشرعية من زاوية انبثاق أفكار المسلم وسلوكه عن عقيدته، مثلما تنبثق الأخلاق المادية عن الاشتراكية، والأخلاقية الفردية والبورجوازية عن الرأسمالية، والسلوكيات المتخبطة عن العقائد الوثنية، فسوف نجد الصلة قوية بين عقيدة التوحيد، وقِيَم المسلم المسيطرة عليه، "فهناك قِيَم وأخلاق تنبثق من تصور أن هناك ألوهية واحدة، وعبودية شاملة لكل شيء وكل حي... وهناك أخلاقٌ تنبثق من التصور الإسلامي للوجود وعلاقته بخالقه، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية وجوده ووظيفته، ونوع ارتباطاته وعلاقته بالكون المادي، وبالأحياء وببني جنسه كذلك، وعلاقة هؤلاء جميعًا بالله"[15]، وبإيجاز: فإن الأوضاعَ الاجتماعية بجملتها، والأوضاع السياسية - تطبيقٌ واقعي للقِيَم المنبثقة من هذا التصوُّر[16].

 

وبالإضافة إلى الترابط العضوي بين العقيدة والشريعة من جانب، وحياة المسلم من جانب آخر، فثمة طبيعة أخرى للإسلام تجعل الترابط بين حياة المسلم ودينه ترابطًا قويًّا لا ينحصر في دائرة العبادات - مع اتساعها - ولا المعاملات - مع اتساعها - بل إن العلاقات التشريعية الإسلامية تغطي كل النشاطات البشرية في المجتمع، وليس هناك منطقة يشعُرُ فيها المسلمُ بأنه خارج دائرة الثواب والعقاب، ولئن كانت المصادر الشرعية صادرة عن الوحي، فإن التطبيق الحي لأصولها في واقع الحياة جعلها تثمر ثروة فقهية تراكمت أحكامُها من خلال الصلة المباشرة بين الجمهور والفقهاء؛ فالناس يقصدون الفقهاء بمشكلاتهم، ويقصدون القضاة بمنازعتهم، وهم يجدون من الفقهاء والقضاة والمحتسبين والعلماء الرأيَ والتوجيه، والكل يأخذ من شريعة الإسلام[17].

 

وفي ضوء هذه الحقائق يتجلى لنا - بيقين - أن القول الذي يلُوكُه العَلْمانيون حول عدم تطبيق الشريعة في التاريخ الإسلامي بعد الراشدين - يمثِّل غاية في الاستخفاف بالعقل البشري، وهو يؤدي - كما يقول الكاتب والمفكر "غير المنحاز لتراثنا" (محمد عابد الجابري) - إلى عدمية مُخيفة - إلى "العدم التاريخي"[18]، فأين سنضع آلاف بل عشرات الآلاف من الفقهاء الذين عرفهم تاريخ الإسلام؟ وأين سنضع كتب الفقه والاجتهادات والفتاوى؟ ونحن إذ نُطلق هذه الأحكام التعسفية نتساءل مع الجابري: ما حقيقة إسلام أجدادنا وأسلافنا؟ ألم يكونوا مسلمين؟ ألم يطبقوا الشريعة في عباداتهم وعقود زواجهم ومعاملتهم؟ إننا نقول: الإسلام دين ودولة، نعم، وقد كان كذلك بالفعل، أما إذا قلنا: إن الشريعة لم تطبق منذ الرسول - عليه الصلاة والسلام - أو منذ الراشدين، فمعنى ذلك أن الإسلامَ لم يكن دينًا مطبَّقًا، ولا كان دولة، طوال الأربعة عشر قرنًا المنصرمة، فهذا غير صحيح تاريخيًّا، وغير مقبول منطقيًّا، إنه قولٌ يجرُّ إلى عدمية مخيفة، تتركنا بدون هُوية ودون تاريخ، وبالتالي بدون حاضر وبدون مستقبل.



[1] حسن الترابي: تجديد الفكر الإسلامي، ص: 58، الدار السعودية للنشر، ط2 / 1407هـ بتصرف.

[2] سيد قطب: نحو مجتمع إسلامي، ص: 52، دار الشروق، ط8/ 1988م - مصر.

[3] سيد قطب: نحو مجتمع إسلامي، ص: 52.

[4] محمد قطب: حول التفسير الإسلامي للتاريخ، ص: 145، نشر المجموعة الإسلامية - السعودية، ط1.

[5] المرجع السابق، ص: 146.

[6] اسم كتاب المؤرخ الكبير لسان الدين بن الخطيب.

[7] عماد الدين خليل: ملاحظات في تاريخ المجتمع الإسلامي، ص: 8، نشر مكتبة الثورة - القاهرة.

[8] المرجع السابق، ص: 5، بتصرف.

[9] محمد عبدالهادي أبو ريدة: روح الحضارة الإسلامية ومميزاتها، دراسة نشرت ضمن أعمال قسم الثقافة الإسلامية في جامعة الإمام (1403هـ)، بتصرف.

[10] الموضع السابق.

[11] د/ محمد أبو ريدة: المكان السابق.

[12] انظر في الحديث عن الخلاف بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - العواصم من القواصم؛ لأبي بكر ابن العربي، بتحقيق/ محب الدين الخطيب، وانظر في تحقيق الفتن في المغرب: ابن عذاري: البيان المغرب، بتحقيق إحسان عباس، وغيرهما من المصادر.

[13] سيد قطب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، ص: 15، طبع دار الشروق، ط/7
(1400هـ/ 1980م).

[14] رواه الشيخان، والترمذي، والنسائي.

[15] العدالة الاجتماعية في الإسلام، ص: 272.

[16] المرجع السابق.

[17] طارق البشري: ندوة التراث وتحديات العصر، القاهرة (1984م) (مركز دراسات الوحدة العربية).

[18] انظر بتصرف كتابات محمد عابد الجابري في: "المسألة الثقافية"، ص: 67، وغيرها، نشر مركز دراسات الوحدة العربية، وانظر الجابري "الدين والدولة وتطبيق الشريعة"، ص: 62، ومواطن كثيرة، بيروت 1996م.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • لماذا نطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية؟
  • إشكاليات خطيرة - تطبيق الشريعة الإسلامية (1)
  • الشريعة الإسلامية وفضائلها الأخلاقية
  • تقنين الشريعة الإسلامية .. الأمل المنشود
  • أسلوب تطبيق الشريعة الإسلامية
  • تطبيق الشريعة الإسلامية

مختارات من الشبكة

  • تطبيق الشريعة الإسلامية بدولة الكويت بين الشريعة والقانون (PDF)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • معاملة المدنيين في أثناء القتال في الشريعة الإسلامية والشريعة اليهودية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • منهج ابن كثير في الدعوة إلى الشريعة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الشريعة عالمية وشاملة ومفصلة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حكم السحر في الشريعة الإسلامية(مقالة - ملفات خاصة)
  • آثار التجنس بجنسية دولة غير إسلامية في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • مقاصد الشريعة في القضاء والشهادة والعقوبات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من محاسن الشريعة الإسلامية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مواجهة الخطورة الإجرامية في الشريعة الإسلامية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الإسلام وحقوق المعاقين: دراسة فقهية في كيفية حماية حقوق المعاقين في المجتمعات الإسلامية وفق الشريعة(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب