الإحداد

فقه الأسرة

الحلقة الثامنة والخمسون

الإحداد

الحمدُ لله وحدَه، والصَّلاة والسَّلام على مَن لا نبيَّ بعدَه، نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

أمَّا بعدُ:

فحيَّاكم الله أيُّها المستمعون والمستمعات في برنامجكم فقه الأسرة، وفي هذه الحلقة نُواصِلُ الحديث في بعض مسائل العدَّة وأحكامها، وسبق التذكيرُ بأنَّ العدَّة في الشرع: تربُّصٌ محدودٌ شرعًا بسبب فُرقة نكاح، وما أُلحق به، وأنَّ العدَّة واجبةٌ بدَلالة الكتاب والسُّنَّة والإجماع، حسَب حال كلِّ معتدَّة، وأنَّ المعتدات على ستَّة أصناف:

أولها: الحامل.

وثانيها: المتوفَّى عنها زوجُها من غير حملٍ منه.

وثالثها: الحائل - أي: غير الحامل - التي تحيضُ وقد فُورقت في الحياة.

ورابعها: الحائل التي لا تحيضُ لصِغَرٍ أو إِياسٍ، وهي مُفارقة في الحياة.

وخامسها: مَن ارتفع حيضها ولم تدرِ ما رفعه.

وسادسها: امرأة المفقود.

وسبق الحديث عن هذه الأصناف الستَّة وذكر أهمِّ مسائلها وأحكامها.

وفي هذه الحلقة أعرضُ لكم مستمعيَّ الأفاضل بعض المسائل المهمَّة المتعلقة بعدَّة الوفاة.

فلعدَّة الوفاة أحكامٌ تختص بها، فمن أحكامها:

أنَّه يجب أنْ تعتدَّ المتوفَّى عنها في المنزل الذي مات زوجها وهي فيه؛ فلا يجوزُ لها أنْ تتحوَّل عنه إلا لعُذْرٍ؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((امكُثي في بيتك حتى يبلُغ الكتاب أجلَه))؛ أخرجه الترمذي وصحَّحه، وقال: والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وغيرهم لم يروا للمعتدَّة أنْ تنتقل من بيت زوجها حتى تنقضي عدَّتها.

وفي لفظٍ عند ابن ماجه: ((امكُثي في بيتكِ الذي جاءَ فيه نعيُ زوجك حتى يَبلُغَ الكتاب أجَلَه)).

فإنِ اضطرت إلى التحوُّل إلى بيتٍ غيره، بأنْ خافت على نفسها من البَقاء فيه أو حُولت عنه قَهْرًا، أو كان البيت مستأجرًا وأخرجها مالكه، أو طلب أكثر من أجرته - فإنها في هذه الأحوال تنتقلُ حيث شاءت دفعًا للضرر.

وعلى المعتدَّة أنْ تمكث في بيتها ولا تخرج منه إلا لحاجة.

ومن أحكام عدَّة المتوفَّى عنها:

وجوب الإحداد على المعتدَّة مدَّة العدَّة، وهو واجبٌ بإجماع أهل العلم، ولم يخالفْ فيه إلا الحسن وحدَه، قاله ابن رشد.

والإحداد مصدر أَحَدَّ يُحِدُّ، والحدُّ في اللغة: المنع، والإحداد في الاصطلاح: "امتناع المرأة من الزينة وما في معناها مدَّة مخصوصة في أحوال مخصوصة".

ومدَّة الإحداد: زمن العدَّة سواء طالت أم قصرت، فإذا كانت غير حاملٍ فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، وإحدادها أربعة أشهر وعشرة أيَّام، وإن كانت حاملاً فعدَّتها إلى وضع الحمل، وإحدادها إلى وضع الحمل كذلك، وإذا لم تعلمْ بموت زوجِها إلا بعدَ تمام العدَّة فلا إحداد؛ لأنَّ الإحداد تابعٌ للعدَّة.

وما الذي تجتنبه المحدَّة في وقت عدَّتها وإحدادها؟

الأصل أنْ تجتنب المحدَّة كلَّ ما يُعتبر زينةً شرعًا أو عرفًا، ممَّا يتَّصل بالبدن أو الثياب أو يلفت الأنظار إليها، هذه القاعدة، ومن تفاصيل ذلك أنَّه يجب عليها اجتنابُ الأمور الآتية:

أوَّلها: عمل الزينة في بدنها بالتحسين بالأصباغ والخضاب والحنَّاء ونحوه، وتتجنَّب لبسَ الحلي بأنواعِه، وتجتنب الزينة في الثِّياب؛ فلا تلبس الثياب التي فيها زينةٌ في عُرف الناس، وتقتصرُ على الثياب التي لا زينةَ فيها.

وليس للإحداد لباسٌ خاص، أو لونٌ خاص، بل تلبسُ المحدَّة ما جرت عادتها بلبسه، ما لم يكن فيه زينة.

ثانيها: تجتنب الطيب بسائر أنواعه، وهو كلُّ ما يُسمَّى طيبًا، ممَّا يتزين ويتطيَّب به، من سائر أنواع الطيب؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ولا تمس طيبًا))؛ متفق عليه، ولمسلمٍ: ((ولا تتطيَّب)).

فدلَّ على تحريم الطيب للمعتدَّة، وهو كلُّ ما يُسمَّى طيبًا، أمَّا الصابون والشامبو ممَّا لا يُتخذ للتطيُّب وإنما هو لنكهته ورائحته، فلا بأسَ باستعماله.

ثالثها: اجتناب الحلي مما يُتجمَّل به.

ولها غسلُ رأسها ويديها، ولا بأسَ بإزالة الوسخ والتفث من ثوبها وبدنها؛ كنتْف الإبط، وتقليم الأظافر ونحو ذلك.

وأمَّا الحكمة من مشروعيَّة الإحداد:

فإنَّ الأصل أنَّ المسلم والمسلمة يمتثلُ أمر ربه، وإذا أُمر أو نُهي امتثل، سواء علم الحكمة في الأمر أو النهي أو لم يعلمها.

وكلُّ ما شرعه الله تعالى لنا ففيه الخيرُ والحكمة، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6].

وممَّا يمكن التماسُه في حِكمة الإحداد:

احترام حقِّ الزوج وعدَّته، وإظهار أنها لا ترغب في الأزواج، بل تبتعد عن كلِّ شيء يدعو إلى خِطبتها؛ حتى لا يطمع أحد في نكاحها وتتعلق بها نفسه في هذه المدَّة، كما أنَّ في تشريع الإحداد تخفيفًا على المصاب ورفقًا بحاله.

وقد كان الإحداد في الجاهليَّة على صُورة بَشِعة لا يقبَلُها عقل ولا يُقِرُّها دِينٌ، فجاء الإسلام بالتشريع الرباني من لدن حكيم عليم - سبحانه وتعالى.

أخرج أبو داود وغيرُه عن زينب بنت أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالت: يا رسول الله، إنَّ ابنتي تُوفِّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها، أفنكحلها؟ فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا)) مرَّتين أو ثلاثًا، كل ذلك يقول: ((لا))، ثم قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهليَّة تَرمِي بالبَعرة على رأس الحول))، قال حميد: فقلت لزينب: وما ((تَرمِي بالبعرة على رأس الحول))؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا تُوفِّي عنها زوجها دخَلت حِفشًا، ولبست شرَّ ثيابها، ولم تمسَّ طيبًا ولا شيئًا حتى تمرَّ بها سنةٌ ثم تُؤتَى بدابَّة؛ حمار أو شاة أو طائر، فتفتض به فقلَّما تفتض بشيء إلا ماتَ، ثم تخرج فتُعطَى بعرة فترمي بها ثم تُراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره.

وينبغي أن يُعلم أنَّه لا صحَّة لما يظنُّه بعض العوام من أنَّ على الحادِّ لبسَ الأسود، وألا تخرج إلى فناء البيت، وألا تصعَد إلى السطح، وألا تُشاهد القمر ليلة البدر، وألا تُكلِّم أحدًا من الرجال، ولا تتكلَّم بالهاتف، وإذا قُرع الباب لا تكلم الذي عند الباب، وغير ذلك من الأشياء التي لم تردْ في الشرع.

وإنْ تركت المرأة المتوفَّى عنها الإحداد أثمتْ؛ لتركها امتثال ما وجَب عليه، ولا تنقطع عدَّتها بذلك؛ لأنَّ الإحداد ليس بشرطٍ لها، وعليها التوبةُ والاستغفار.

أمَّا إحداد المرأة على قريبٍ لها غير الزوج فإنَّه جائزٌ لمدَّة ثلاثة أيَّام فقط، ويحرُم الزيادة عليها؛ لما في الصحيحين من قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يحلُّ لامرأةٍ تُؤمن بالله واليوم الآخِر أنْ تحدَّ فوق ثلاث، إلا على زوج؛ فإنها تحدُّ عليه أربعة أشهر وعشرًا)).

نسأل الله تعالى الفقهَ في الدِّين، وحُسن الامتثال والتطبيق، والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهم المراجع:

• "الملخص الفقهي".

• "الشرح الممتع".

• "حاشية ابن قاسم".

• "المغني".

• "بداية المجتهد".

• "زاد المعاد".

• "الموسوعة الفقهية".