• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة
علامة باركود

شمس غاربة

نوال مهنى

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 18/1/2010 ميلادي - 2/2/1431 هجري

الزيارات: 8340

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

(1)

احتجبت الشمس وغطى السحاب الكثيف صفحة الأفق، كان يومًا شتائيًّا باردًا حينما قرر (حازم) أن يصحب إخوته وذويه إلى قرية العلوية المجاوِرة لقريته لمقابلة العمدة، حاول الأهل إرجاء الموعد ليومٍ آخر يكون مشمسًا؛ خوفًا من تقلُّبات الطقس المحتملة، غير أنه أصرَّ على الالتزام بالموعد المتَّفَق عليه، فركب الجميع خيولهم وحملوا مظلاتهم الصغيرة؛ تحسُّبًا لنزول المطر، ما كاد الطريق ينتصف حتى عصفت الريح، ولاح البرق، ودوَّى الرعد، وتتابعت زخَّات المطر، احتمى الراكبون بمظلاَّتهم وأسرعوا في السير، لكن انهمار الغيث جعل الطريق الترابي موحلاً؛ مما زاد من عناء الرحلة وصعوبتها.

(2)

لم يكن بيت العمدة فخم البناء وثير الفراش، بل هو بيت ريفي بسيط متَّسع، جدرانه من الطوب اللبن وسقوفه من الأخشاب وأهم جزء فيه المندرة، وهي قاعة كبيرة فُرِشت بالكليم وبها عدد من الدكك والمساند، وفي وسطها منضدة كبيرة مستطيلة، ولها بابان: أحدهما خارجي ويفتح على الصالة الكبرى المؤدِّية للشارع، والأخر داخلي وهو مغلق أغلب الوقت، ولا يُفْتَح إلا عند دخول التحية من المأكولات والمشروبات للضيوف، وباقي المنزل عبارة عن صالات وحجرات مختلفة المساحة خُصِّص بعضها للمعيشة وبعضها للخزين، أما الحجرات الخلفية فهي مُخَصَّصة للمطبخ وأفران الخبيز، وفي الطابق الثاني توجَد حجرات النوم.

وعمدة القرية السيد (همام) رجل وقور وكريم؛ ولذا فهو يتمتع بحب أهل قريته، ويبذل لهم من ماله وهو وطني يعلق صور مصطفي كامل وسعد زغلول وعرابي في صدر المندرة، ولا يخلو بيته من الضيوف مطلقًا، وخاصة في فترات الانتخابات حيث تأتي الوفود أفواجًا فيحتفل بهم ويُقِيم لهم الولائم، وكان بيته أشبه بالمحكمة؛ فبعد صلاة العشاء يجتمع مشايخ القرية وأعيانها مع العمدة، وينظرون في مشكلات أهل البلدة ويستمعون إلى شكاياهم، ويتشاورون في حَلِّها، وتزدحم المندرة والفناء الخارجي بأهل القرية، وعادة ما تكون الخلافات على الميراث ومساقي المياه والعجز عن سداد الدين، وأحيانا تنتج الخلافات بسبب الخصومة بين عائلتين أو المشاكل الأسرية من زواج وطلاق وحضانة.

وهذه المحكمة العرفية أحكامها مُلْزِمة للجميع، فالعرف في القرية له قوة القانون الرسمي، وفي ذلك الزمان كان الناس يرضون بحكم كبراء البلد ويحترمون رأيهم، فتقدير الكبار واجبٌ لا يحيدون عنه، وكل عائلة لها كبير مسؤول عن تنفيذ الأحكام الصادرة بشأنها، ومكلَّف بما يستحق عليها من التزامات وتعهدات أمام المحكمة العرفية.

وفي الأمسيات التي تخلو من المشاكل يجلس العمدة وحوله أصدقاؤه من الأزهريين وأعيان القرية في المندرة، ويجتمع أهل القرية في الصالة والفناء الخارجي يستمعون إلى الراديو ذي البطارية الموضوع في شباك المندرة؛ كي يسمعه كل من يمرُّ بالشارع، فيصغون إلى نشرة الأخبار وقراءة القرآن الكريم، والقرويون يحفظون جيدًا اسم الشيخ القارئ لكل يوم من أيام الأسبوع ويتسابقون للإعلان عن اسمه فيقول أحدهم: اليوم سوف يقرأ الشيخ فلان، فيردُّ الآخر مؤكِّدًا قوله، ربما كان راديو العمدة هو الوحيد في القرية، ولذا فهو النافذة التي تطلُّ منها القرية على العالم الخارجي، وهو الوسيلة الوحيدة لمعرفة أخبار الدنيا، فالجرائد لا تصل إلى القرية إلا في حالة واحدة عندما يذهب أحدهم إلى البندر لأمر مهم - ونادرًا ما يحدث ذلك - فيعود ومعه عدد من الصحف الصادرة في ذات اليوم، فيجلس بعضٌ ممَّن يجيدون القراءة على المصطبة ويقرأ الجرائد بصوت مرتفع، ويتجمهر حوله الرجال والصبيان لمعرفة الأخبار، ثم يتناقلونها فيما بينهم ويقصُّونها على زوجاتهم وأبنائهم، فتصبح مادةً للحديث بين أهل القرية، ثم تبدأ السهرة فيتحوَّل البيت إلى منتدى ثقافي تُذْكَر فيه القصص والنوادر والطرائف والأشعار والمواعظ وأخبار الملوك والخلفاء.

لذا اعتاد الناس الجلوس في الشارع لِمَن لا يتَّسع له المكان في المندرة أو الصالة فتمتلئ الساحة الفسيحة التي تحيط بالمنزل بالبشر لمتابعة ما يدور داخل المندرة، وتستمرُّ السهرة وينام أهل المنزل جميعًا عدا العمدة وبعض الخدم و(علية) ابنة العمدة الكبرى التي تجلس وراء الباب الداخلي للمندرة وقد افترشت سجادة صغيرة، وتصغي باهتمام لكل ما يقال حتى تكاد تحفظه، وهي شديدة الاستيعاب للشعر خاصة، والأم تعرف ميول ابنتها؛ فلا تكلفها بما تكلف به شقيقاتها من أعمال المنزل، غير أن (علية) رغم ذلك تفوَّقت في صناعة أصناف معيَّنة من الحلوى مثل فطائر الرواني ولقمة القاضي وسد الحنك والألماظية، وقد اعتاد إخوتها التندُّر عليها بقولهم: أعدِّي نفسك غدًا لصناعة سدِّ الحنك ونحن مستعدُّون لمساعدتك.

(3)

أوشك الظلام أن يعمَّ ويلفَّ القرية بحلوله فأُضِيئت الفوانيس وعُلِّقت داخل البيت وأمامه، فرغ العمدة من صلاة المغرب واتَّخذ مجلسه في المندرة وقد أطرق مفكرًا فيما عرض من مشاكل في الليلة الماضية وما اقترح من حلول، وإذا بالخادم يدخل مسرعًا معلنًا أن ضيوفًا بالخارج يستأذنون في الدخول، فيخرج العمدة لاستقبالهم والترحيب بهم، بينما يودِّع الخادم دوابَّهم في دوار الماشية تتساءل النسوة في الداخل عن القادمين، ويدفع الفضول بعضهن دفعًا لمعرفة ما يدور في المندرة بين العمدة وضيوفه، فيلجأن إلى التحايل على الخدم ورشوتهم لنقل الأخبار إليهن، فيعرفن أن (حازم) قد جاء بصحبة أهله لخطبة (علية)، فتطرق (علية) برأسها وتنهض مسرعة متَّجِهة إلى حجرتها وقد غطَّت وجهها الأبيض حمرة الخجل، فتتبعها أمها وشقيقاتها وتلحُّ الأم على ابنتها أن تقبل الخطبة بعد أن ظلَّت ترفض المتقدِّمين لها بحجج واهية، مع أن شقيقاتها اللاتي يصغرنها قد تمت خطبتهن، ومن المعتاد أن تتزوَّج الفتيات قبل أن يبلغن السادسة عشرة من عمرهن وقد تخطت هي هذه السن ويجب أن تتزوج وخاصة أن أباها يرفض تزويج شقيقتيها الصغريين (عائشة) و(فاطمة) قبل زواجها، رغم موافقته على مَضَضٍ على خطبتهما بعد إلحاح الأم، ولكنه علَّق إتمام الزواج لحين زواج الابنة الكبرى، تقف الأم في مواجهة (علية) وتسأل في عبارات محددة:

• ماذا تريدين بالضبط؟ وما الذي يمنعك من الزواج؟

• لا أجد مَن أرتضيه.

• أكلُّ هؤلاء لا يعجبونك؟ هل نحضر لك عريسًا من السماء؟

• لم أقل هذا، ولكن ما الداعي للعجلة؟ ربما يأتي مَن يناسبني، فلننتظر.

• يا ابنتي، العمر يجري، والبنات مثل الزهور تذبل سريعًا وأخشى أن يفوتك القطار، ثم ما ذنب (عائشة) و(فاطمة)؟

• وهل أنا الذي أرفض تزويجهما؟

• أعرف أن أباك هو الذي يرفض؛ لأن زواجهما قبلك يسيء إليك، ثم أن (حازم) عريس ممتاز ومناسب لك.

تُومِئ (علية) برأسها (علامة القبول)، بينما الأختان تنظران إليها وهما تشعران بأن الأم قد انتزعت موافقتها انتزاعًا.

تخرج الأم، وتحاول الأختان تشجيعها على قبول العريس وإقناعها بأنه شاب وسيم كريم ثري ومن عائلة معروفة، ومن الخطأ أن ترفضه وتضيِّع هذه الفرصة، بينما (علية) صامته فهي تعرف جيدًا أن من الواجب زواجها أولاً؛ لأنها الكبرى طبقًا للتقاليد المتبعة والعرف السائد.

(4)

تمضي الساعات والرجال يتحدثون بصوت مرتفع في الخارج، والنساء يتحدثن بصوت منخفض في الداخل، بينما الخدم يروحون ويجيئون وهم يحملون صواني الشاي والقهوة والقرفة والتسالي، فجأة ينفرج باب المندرة الداخلي ويدخل العمدة مرتديًا عباءته وطربوشه وفي يده مسبحة وينادي على زوجته قائلاً: يا "ست أم أمين"، فتخفُّ (السيدة) لاستقباله: نعم يا عمدة، يقف العمدة أمام حجرة (علية) متعمدًا ويقول بصوت مسموع كمًن يريد أن يعلمها: (حازم) وأهله جاؤوا لخطبة (علية) وأنا أرى أنه مناسب، وقبل أن أعطي وعدًا للرجال لن أرجع فيه أريد معرفة رأيكن، فتجيب الأم وهي تنظر إلى ابنتها: على خيرة الله وبالتوفيق - إن شاء الله.

بينما (علية) تلتزم الصمت ولا تجد سببًا للرفض فيعلق العمدة: السكوت علامة الرضا - ثم يستدير عائدًا إلى المندرة ليعلم ضيوفه بالموافقة، انصرف الضيوف بعد قراءة الفاتحة، وقام العمدة وأقاربه بتوديعهم والسير معهم حتى نهاية الشارع.

أقبلت الفتيات على (علية) يعابثنها ويداعبنها وأقبلت النسوة بالتهنئة على الأم التي بدت سعيدة بخطبة ابنتها الكبرى التي ظلَّت ترفض الراغبين في الزواج منها مع أنها حلم شباب القرية، فهي جميلة ذات بشرة بيضاء وعيون زرقاء وشعر ذهبي ناعم أمَّا قامتها فليست بالطويلة أو القصيرة إضافة إلى رقَّتها ولُطْف حديثها، وقد حفظت أجزاءً من القرآن الكريم في كُتَّاب القرية وكانت أسرع إخوتها حفظًا وأكثرهم حبًّا في العلم، وعندما شبت عن الطوق أحضر لها أبوها أحد أساتذة اللغة العربية لتعليمها بالمنزل، فداوَمتْ على استذكار الدروس وحفظ الشعر وقراءة القصص والتاريخ، ولم يكن بين المتقدمين لخطبتها مَن يشاركها هذه الاهتمامات أو يهتم بمثْل هذه الأمور أو يقدِّر تلك المواهب ولذا لم تجد من بين هؤلاء الشبَّان مَن يروق لها أو تشعر أنه جدير بها، ومن ثَمَّ كان رفضها للمتقدِّين لخطبتها، بَيْدَ أن هذه الأسباب لم تكن مقنعة للرفض في نظر العائلة التي لها معايير أخرى في الاختيار.

(5)

زوجة العمدة التي تلقَّب بـ(السيدة) ماهرة في إدارة المنزل وإعداد الولائم، ذات باع طويل في الطهي، وهي تتابع وتشرف بنفسها على كل شيء: من إعداد الخبز إلى ذبح الشاة والطيور، وعمل الفطائر والرقاق الذي يقدم في صواني نحاسية مستديرة كبيرة إلى جانب اللحوم والأرز وأصناف الخضار، ثم عمل الشاي والقهوة مرات عديدة للضيوف الذين لا يخلو منهم بيت العمدة؛ مما جعل (السيدة) في حركة دائبة طوال اليوم بين الطابقين الأول والثاني من هذا المنزل المتَّسع، واشتهرت (السيدة) بالحكمة والفراسة وقوة الشخصية والتمسُّك بالأصول.

وكانت تُجِيد تحضير بعض الوصفات الطبية؛ كالمراهم والغسول المطهر للعيون، وعمل الكمادات وكؤوس الهواء الشهيرة، ولذا اعتادت الفلاحات أن يحملن أطفالهن إليها للعلاج والإسعاف السريع، فلا يكاد يمرُّ يوم دون أن يأتي مَن يشكو من ألم أو وجع طالبًا العلاج من (السيدة)، داعيًا لها بالصحة والستر والبركة، فالقرية نائية ولا يُوجَد بها أطباء أو وحدات صحية في ذلك الوقت، بعد يوم مُجْهِد حافل بالعمل تململت (السيدة) في فراشها وهي تحدثها نفسها: لا بُدَّ من الذهاب للمدينة في أقرب فرصة متاحة، لقد نفدتْ كل الأدوية والإسعافات التي أعددتها، ولا أستطيع أن أردَّ مريضًا استعان بي بعد الله - سبحانه وتعالى - وهو الشافي المعافي.

فقد اعتادت (السيدة) حينما تجد فرصة للسفر إلى البندر أن تتَّجه إلى العطَّار ثم إلى الصيدلية؛ كي تبتاع الزيوت والأعشاب والأدوية والمراهم وتحملها معها إلى بيتها وبكميات كبيرة، وتقوم بإعداد وتحضير ما يحتاج إلى ذلك وتقديمه لِمَن يحتاج، وهي تقوم بهذا العمل حبًّا في الخير ورغبة في مساعدة الناس وتخفيف آلامهم، ويبدو أنها سمعت بهذه الوصفات من كتب الطب القديمة ثم أتقنتها بالتجربة.

(6)

بعد أيام من الخطبة حضرت (أم حازم) لزيارة بيت العروس، حاملة معها الهدايا فأحسنت (السيدة) استقبالها وعهدت إلى بناتها بإعداد طعام الغداء حتى تتفرغ للاحتفاء بضيفتها وجلستَا تتحادثان والفرحة تعلو وجهيهما، عندما حان موعد الغداء، دخلت (علية) وسلمت على الضيفة وأخبرت أمها بأن الطعام جاهز، أُعْجِبت (أم حازم) بـ(علية) وأثنتْ على جمالها وأدبها فتُبادِر الأم قائلة: "وكمان طاهية ماهرة سوف تذوقين الطعام وتحكمين بنفسك".

• طبعًا بنت الشاطرة شاطرة سلمت يداها.

• هيَّا بسرعة أحضري الغداء حتى ترى حماتك وتطمئن على زوجة ابنها، وتعرف حلاوة نَفَسِك في الطعام وطريقة طهيك.

في غرفة واسعة مفروشة بالبساط العربي وتُحاط جدرانها بالطنافس والوسائد التفَّ الحاضرون من سيدات العائلة حول الطبلية الكبيرة الحافلة بأنواع الطعام، وجلست (علية) عن يمين الضيفة والأم عن يسارها حتى تتمكَّنا من مجاملتها وتقريب الأصناف إليها ولم يَفُت الأم أن تمدح طريقة ابنتها في الطهي زاعمة أنها أعدَّت الوليمة بمفردها.

بينما النساء اللواتي يخدمن في بيت العمدة وقفن على مقربة لتلبية الطلبات، أشارت (السيدة) إليهن فأسرعن بإحضار الحلوى من الرواني والألماظية ولقمة القاضي التي أعدَّتها (علية) وتجيد صناعتها، بدتْ (أم حازم) شديدة الإعجاب كثيرة الثناء على (علية) وأهل البيت جميعًا، فالعروس جميلة، بنت أصول والبيت مشهور بالعز والكرم على حدِّ قولها.

وتمَّ الاتفاق على إتمام الزواج بعد موسم جني القطن، إذ إن محصول القطن هو مصدر الدخل الرئيس لأهل القرى المصرية كما هو المحصول الرئيس والمصدر الأساس للدخل القومي للدولة، ومن المعتاد أن يحضر التجار إلى القرية قُبَيل جني المحصول للاتِّفاق على شراء قناطير القطن وسعر القنطار من أصحاب المزارع، وإعطائهم جزءًا من المبلغ كعربون لحجز المحصول ويدفعون إليهم بأكياس كبيرة من الخيش لكبس القطن بداخلها.

أما الفلاحون البُسَطاء الذين لا يملكون أرضًا فهم يستعدُّون لموسم جني القطن كعمل موسمي؛ فيدفعون بأبنائهم وبناتهم للعمل في الحقل، وربما يقبضون جزءًا من الأجر مقدَّمًا، ومن عادات القرى أن يكون أجر الرجل أو الفتى أكبر من أجر المرأة أو الفتاة ويُسْتَثنى من ذلك جني القطن؛ حيث يحسب الأجر بناء على كمية القطن التي جُمِعت، ففي نهاية اليوم يقوم المشرف أو مقاول الأنفار - كما يسمونه - بوزن كميات القطن على ميزان كبير ويحسب الأجر طبقًا لعدد الأرطال، وقد يحدد سعر الرطل بقرش أو قرشين فالفلاح أو الفلاحة يستحق خمسون قرشًا أو مائة قرش عن خمسين رطلاً قام بجمعها طوال اليوم تحت حرارة الشمس وصعوبة العمل والحركة بين أعواد الحطب، وبعد الانتهاء من جمع المحصول وبيعه يبدأ أهل القرية في تحقيق بعض مطالبهم، فمَن يبنى بيته ومَن ينوى الحج فيدَّخر المال حتى يحين الموعد، ومَن يشترى الأثاث، ومَن يشترى أرضًا جديدة، ومَن يذهب إلى البندر لشراء الملابس والحلي لآل بيته، غير أن أهمَّ الظواهر هي إقامة الأعراس، فمعظم زيجات القرية تتمُّ عقب محصول القطن، فلا يكاد يمرُّ يوم إلا ويُقام عُرْسٌ أو أكثر في القرية.

بدَا (حازم) سعيدًا بقرب موعد زفافه إلى (علية)، وخاصة أن محصول هذا العام جاء وفيرًا وسعره مرتفعًا، فعاد عليه بالخير الكثير، وباتت الأحلام تتراقص أمام عينيه، وقد أوشكت أمنياته في الزواج من (علية) أن تتحقق.

(7)

بدأت الاستعدادات لتجهيز العروس وحياكة الثياب فأحضرت الخياطة من البندر إلى بيت العمدة ومكثت أسبوعين كاملين، وكلما أعدَّت ثوبًا ارتدتْه العروس فتثني الحاضرات على جمالها وقوامها ويمتدحن الخياطة وتنطلق الزغاريد، وكثيرًا ما تصحب الخياطة العروس إلى البندر لشراء ما يلزم من أشياء صغيرة ثم تعودان في نهاية اليوم.

أما المصاغ فلا بُدَّ من حضور رجال الأسرتين ويتفق عليه مسبَّقًا، وهو يخضع للمستوى الاجتماعي لأسرتي العروسين، فإما أن يكون قطعتين؛ أي: عقد (كردان) وحلق (قرط) والحلق يعتبر قطعة واحدة، أو يكون عقدًا وحلقًا وخلخالاً؛ أي: ثلاث قطع أو يُضَاف سوار إلى السابق فيصير أربع قِطَع، ويتحدَّد الوزن وعمَّا إذا كان الخلخال من الذهب أو الفضة طبقًا للحالة المالية للعريس؛ فهو المكلَّف بدفع ثمن المصاغ كله.

رفضت (علية) لبس الخلخال المفضَّل لدى الفلاحات وكان البديل سوارين من الذهب بدلاً من سوار واحد، ثم جاءت هدية الأب عبارة عن خاتمين ثمينين أُضِيفا إلى المصاغ.

(8)

أسابيع قليلة مرَّت أعدَّ (حازم) خلالها بيت الزوجية بأثاث متواضع، ثم ذهب لبيت العمدة لتحديد موعد نهائي ليوم الزفاف وعقد القران، وبعد أن تمَّ الاتفاق إذا بصوت طلق ناري يعقبه صراخ ونحيب، خرج العمدة ومَن معه لاستطلاع الأمر حيث تبين أن خلافًا نشأ بين عائلتين بسبب النزاع على حدود الأرض الزراعية ومساقي المياه، وتحوَّل النزاع إلى معركة أسفرتْ عن قتيل من إحدى العائلتين ومُصَاب من أخرى، وتحوَّلت القرية إلى مأتم كبيرة، وتحوَّلت دار العمدة إلى ساحة للأمن والطب الشرعي والتحقيقات، وتأجَّل زواج (علية) وانتابها إحساس بأن ذلك فأل سيِّئ ونذير شؤم، وباحت لأمها بمخاوفها وشعورها بأن هذه الزيجة لن تكون موفَّقة، ربتت الأم على كتفها مطمئنة إيَّاها، زاعمة أن ذلك يحدث كثيرًا ولا داعي لتشاؤمها، ونصحتْها أن تستعيذ بالله من وسواس الشيطان الرجيم.

تذكرت (علية) ما قالته لها العرَّافة ذات يوم تلك المرأة التي تجوب القرية بين الحين والآخر حاملة على رأسها قُفَّة صغيرة مليئة بالتمائم والأحجار الصغيرة الأثرية والزواحف المحنَّطة، وتدَّعي أنها تُبْطِل السحر وتفكُّ الأعمال وتساعد على زواج البنات، ورغم أن (علية) المؤمنة المثقَّفة لا تؤمن بذلك إلا أن الغرقان يتعلق في قشة كما يقول المثل السائر، فإذا بها تنظر من النافذة وتُشِير للعرَّافة بالدخول، وبعد أن تنظر العرافة في عينيها وتتحسس يدها وتوشوش المحار وتقلب الأحجار وتقرأ التعاويذ تخبرها بأن زواجها قريب من رجل غريب، وإنها مطلوبة ومرغوبة ومن الجميع محبوبة، ولكن طريقها مليء بالعثرات، لقد نسيت (علية) كلَّ ما قالته العرَّافة إلا هذه الجملة الأخيرة التي حُفِرت في ذاكرتها حفرًا.

(9)

أربعين يومًا قضاها رجال الأمن في القرية خشية أن يثأر أهل القتيل لقتيلهم من الخصوم، كانت عبئًا ثقيلاً على الجميع فهم يتدخَّلون في شؤون الناس ويعطِّلون أعمالها ويستفزُّونهم بعنفهم وهمجيتهم، ويقومون بحملات تفتيشية ليلية للبحث عن السلاح غير المرخَّص في المنازل بطريق عشوائية فيها إهانة للبعض؛ مما جعل خفراء القرية يتظاهرون بالتعاون مع الأمن لكنهم في الواقع يناصرون أبناء قريتهم ضدَّ رجال الأمن الغرباء، فكانوا يتَّفقون مع أهل القرية على أسلوب معيَّن لتحاشى الصِّدَام مع رجال الشرطة وينصحونهم بإخفاء السلاح في أماكن معيَّنة لا يصل إليها رجال الأمن، بل إن شيخ الخفر نفسه صار يتعمَّد تضليلهم تضامنًا مع أهل قريته فكان يُخْفِي السلاح في بيته ويقوم بتهريب المطلوبين إذا كانوا أبرياء أمَّا المذنبون بالفعل فكان ينصحهم بتسليم أنفسهم.

وكان على العمدة أن يطعم العشرات من رجال الشرطة ثلاث وجبات يوميًّا وإعداد مكان لمبيتهم لمدَّة أربعين يومًا؛ مما جعل زوجته وبناته وكل مَن يعمل في بيته يضيقون بهذا العبء ويدعون عليهم وعلى مَن كان سببًا في مجيئهم للقرية، حتى إن (أمين) ابن العمدة راح ينقم على العمدية التي استنزفت أموالهم وأرهقتهم بمسؤولياتها وأعبائها ولم يجنوا من ورائها سوى التعب والهموم، ولذا لم يفكر أبدًا في الترشيح للعمدية بعد وفاة والده رغم إلحاح الأهل عليه وخصوصًا أمه (السيدة) أم (أمين).

(10)

انصرفتْ قوات الأمن من القرية، وتمَّ تحديد موعد جديد لعقد القران والزفاف، وانشغلت أم (أمين) في صناعة الكعك والفطائر التي ستبعث بها مع لوازم العروس إلى بيت الزوجية.

وجاء يوم الزفاف، وقفت (علية) وسط شقيقاتها وقريباتها يساعدنها في إِتمام زينتها وارتداء فستانها، وجاءت الأم وانتحتْ بها جانبًا؛ كي تزودها بالوصايا التي تعينها في حياتها الجديدة.

• عليك يا ابنتي أن تصغي إلى زوجك إذا تحدَّث، وأن تتجنَّبي ما يغضبه، وأن تُحْسِني إلى أهله، وأن تكوني مطيعة صبورًا، خفيضةَ الصوت، وأن تُعامِلي أمه كأمك، فدعاؤها لك خير وبركة، وخاصة بعد وفاة زوجها وقد أصبحت وحيدة، وعليك ألا تكثري من الشكوى ولا تبوحي بأسرار بيتك وزوجك لأحد، وأن تحافظي على نظافة منزلك والاهتمام بمظهرك، وكانت الأم توصي ابنتها في حنان وتُرَبِّت على كتفها في مودة، بينما (علية) تُومِئ برأسها علامة الطاعة والموافقة وهي تصغي باهتمام شديد.

(11)

ثلاث ليال مهمة خاصة بالعرس لا ينساها القرويون مطلقًا ويعدُّونها أهم أحداث حياتهم وأحلى ذكرياتهم، أوَّلها ليلة الحنَّاء وهي الليلة السابقة لليلة الزفاف وتبدأ الاحتفالات بعد الغروب؛ حيث يجتمع أقارب العريس وأصحابه في بيته، وأقارب العروس وصديقاتها في بيتها، ويستمرُّ الحفل لوقت متأخِّر من الليل ويسود المرح والغناء والزغاريد والحديث ويستمرُّ السمر إلى قرب طلوع الفجر وقد يبيت بعض المقرَّبين، وخاصة القادمين من السفر في بيت العروس أو العريس، ويدور الحديث غالبًا عن برنامج الفرح والجهاز والفرجة على ملابس العروس ومصاغها بين الكبار تاركين الرقص والغناء للشباب، ويستمرُّ تقديم الحلوى والشربات والمشروبات الأخرى طوال الليل، ثم تُعْجَن الحنَّاء وتوضع في اليدين والقدمين لكلٍّ من العريس والعروس كل في بيته وبين ذويه وأصدقائه، وعادة تقوم بعجن الحنَّاء ووضعها سيدةٌ لها خبرة خاصة، ويهتمُّ الأطفال من الجنسين بوضع الحنَّاء في أيديهم تشبُّهًا بالعريس والعروس، ويتباهون بها كلما كانت ذات لون أحمر قاني أو رسومات جميلة.

أما الليلة الثانية فهي ليلة الزفاف ويسبقها أثناء النهار عقد القران ثم تقديم الطعام، بعد ذلك يبدأ الاحتفال إلى أن تَصِلَ العروس إلى بيت الزوجية، ويستمرُّ الفرح لفترة من الليل ثم ينصرف المهنئون.

وفي (الصباحية) تأتي الزيارة الأولى من أهل العروس إلى ابنتهم وهي طعام الإفطار للعروسين وأهل البيت جميعًا، ومعنى ذلك أن أم العروش وشقيقاتها ومعهن بعض الأقارب والجيران يسهرن طوال الليل بعد انصراف العرس في عمل الفطائر المطبقة التي يتساوى فيها الزبد والطحين بكميات كبيرة، وتجهيز كميات كبيرة من الجبن والعسل والبيض المسلوق، إضافة إلى حلة كبيرة مملوءة بالأرز المطهوِّ باللبن والمحلى بالسكر، ويُرْسَل كل ذلك في الصباح الباكر إلى بيت العريس ليكون ساخنًا طازجًا بعد عزل كمية لإفطار أهل البيت والمقرَّبين إليهم من الأهل.

أما الليلة الثالثة فهي ليلة الصلح وهي ثالث ليلة للزفاف، وفيها يدعو العريس أهله وأصهاره وخاصة الكبار منهم مثل الأب والأعمام والأخوال، إضافة إلى الأشقاء وبعض الأعيان، فتذبح الشاة وتعدُّ الوليمة وعادة ما تكون (عزومة الصلحة) كما يسمونها على وجبة العشاء، وينزل العريس من الطابق الثاني إلى الطابق الأرضي لأوَّل مرة بعد الزفاف لمقابلة ضيوفه والترحيب بهم، فيقبِّل أيادي الكبار، وبعد الانتهاء من العشاء يحضر إبريق الماء ومعه الإناء الخاص به (الطَّست) ومعه قطعة من الصابون المعطَّر، ويمسك العريس بالإبريق والفوطة ويقوم بصبِّ الماء حتى يغسل جميع الكبار أيديهم، وسط تندُّر الشباب وغمزهم له خلسة من أعين الكبار.

ومغزى هذا التقليد أن الشاب رغم أنه تزوَّج وأصبح رجلاً مسؤولا إلاَّ أنه ما زال الابن المطيع الذي يحترم الكبار ويشرف بخدمتهم، أما العروس فلا تقابل رجال العائلتين وخاصة الكبار منهم إلا بعد مرور سبعة أيام كاملة.

(12)

ذُبِحت الخراف وأُقِيمت الولائم في القريتين بعد عقد القران، وجاء أهل (حازم) لاصطحاب العروس التي بدتْ في ثياب العرس كأميرةٍ من أميرات ألف ليلة وليلة، هبطت من الطابق العلوي فوق السلم الحجري المتَّسع بفستانها الأبيض الفضي الذي تتَّصل به من الخلف طرحة طويلة من الدانتيل وقد قسَّمت شعرها الذهبي الطويل إلى قسمين وضفَّرتهما بشرائط من الستان اللامع تتدلَّى منه حبات اللؤلؤ، وتحوطها الفتيات يمسكن بأطراف الطرحة، أو يرفعن ذيل الفستان الطويل حتى لا تتعثر خطواتها.

ما أن وصلت إلى الفناء الخارجي حتى أخذ أخوها بيدها ورفعها فركبت حصانًا أبيض اللون عليه سرج أحمر من القطيفة المضلَّعة المزركشة بالخيوط الذهبية، وركب أمامها طفل صغير جميل يرتدى جلبابًا أبيض وطربوشًا أحمر حتى تنجب الذكور حسب اعتقادهم، سار الركب من منزل العمدة بقرية العلوية حتى منزل (حازم) بقرية البرج، يتقدَّمه الفرسان وهم يرقصون بخيولهم، بين الحين والآخر يتوقَّف الموكب، ويرقص الفتيان بالعصي بينما الفتيات يصفقن ويزغردن على ضربات الدفوف، قُبَيل الغروب وصل الموكب إلى بيت العريس ووقفت العروس، وبدأ استعراض الرقص والغناء وإطلاق النار في الساحة الكبيرة المواجهة للبيت، وخرجت أم (حازم) لترشَّ الملح وتقرأ المعوذتين وتطلق البخور؛ لتحصين العروس ضد الحسد، ثم نزلت العروس من فوق الحصان بمساعدة شقيقها الذي أمسك بيدها وسار بها وخلفها شقيقاتها وصُوَيحباتها إلى داخل المنزل، هبط (حازم) من الدور العلوي مستقبلاً عروسه على أولى درجات السلم فحملها بين ذراعيه وصعد بها إلى أعلى حيث عشُّ الزوجية.

(13)

مرَّت الشهور الأولى للزواج كأنها حلم جميل فـ(حازم) وأهله فرحون بـ(علية) التي تسكن جزءًا من بيت العائلة الكبيرة الذي يُقِيم فيه إخوة زوجها وزوجاتهم وأطفالهم، ورغم أن لكل أسرة قسمًا مستقلاً وعيشة مستقلة، إلا أن هناك جزءًا مشتركًا في المنزل يجعل المقيمين فيه دائمي الاحتكاك وأطفالهم دائمي اللعب والشجار، وكثيرًا ما تنشأ المضايقات والخلافات بين زوجات الإخوة، غير أن (علية) دائمًا لطيفة ودودة تعاملهم بحبٍّ وتحنو على أطفالهم وتتجاوز عن الإساءات وتعلو فوق التفاهات وهي أيضًا شديدة العطف على أم (حازم) ترعاها إذا مرضت، وتعرض عليها خدماتها وتصغي لمشورتها وتجعل لها نصيبًا مفروضًا من كلِّ ما تصنعه من طعام أو شراب، ولم يُعْرَف عن (علية) أنها أساءت إلى أحد أو أغضبت أحدًا بسبب صبرها وتسامحها وقبول أعذار مَن أساء إليها أو إلى أطفالها.

لاحظت (علية) منذ البداية أن زوجها حادُّ الطباع عصبي المزاج، سريع الغضب، لكنها احتوتْ غضبه وعصبيته وحدَّته فهي بطبعها صبورٌ هادئة، ولكن يبدو أنه اعتبر صبرها عليه ضعفًا منها وقلة حيلة؛ فتمادَى في ذلك وصار يعاملها بغلظة وينتقدها في كل صغيرة وكبيرة، وخاصة بعد أن أنجبت طفلتين في الأعوام الأولى للزواج، فراح يتَّهمها بالتقصير في حقِّه حينًا ويعيرها بإنجاب البنات حينًا آخر ويفتعل المشكلات افتعالاً.

حاولت (علية) أن تقوم بواجباتها من إرضاء زوجها إلى رعاية أطفالها وتحمل مسؤوليات بيتها قدر استطاعتها، لكن (حازم) كان دائم التذمُّر لانشغالها عنه ولما كانت مترفة في بيت أبيها لم تحتمل هذا الجهد البدني العنيف والضغط النفسي الشديد، فبدتْ حزينة كئيبة، وفارقت الابتسامة شفتيها وكأن البهجة غادرتها إلى غير رجعة.

أخيرًا أنجبت الولد بعد شهور حمل مؤلمة، وولادة متعسِّرة كادت تُودِي بحياتها وتصوَّرت أن زوجها سوف يُغَيِّر من معاملته معها ومن نظرته إليها، وما كادت تُفِيق من متاعب الوضع حتى مرضت ابنتها الكبرى (علا) فعكفتْ على خدمتها والسهر إلى جوارها، ثم توفيت الطفلة فحزنتْ عليها حزنًا شديدًا، ولم تَجِدْ مَن يواسيها أو يخفِّف أحزانها ويمسح دموعها، ولم يقدر (حازم) مشاعرها أو يراعِ ظروفها الصحية والنفسية، بل كان كثيرَ التغيُّب عن البيت والسهر إلى فترات متأخِّرة من الليل تاركًا لها كلَّ المسؤوليات والأعباء وكأنه غير موجود، فقررت (علية) أن تواجهه وانتهت المواجهة بمعركة ساخنة ارتفع فيها صوت (حازم) وزادت حدَّته مما أزعج سكان البيت فراحوا ينظرون من النوافذ وبعضهم خرج لاستطلاع الأمر مما أحرج (علية) فصاحتْ فيه وقد بلغ بها الانفعال حدًّا كبيرًا: لن أبقى هنا بعد اليوم، سوف أترك لك البيت وأذهب إلى بيت أهلي.

• اذهبي كما تشائين، الباب "يفوِّت جملاً".

• هل تظنني جمادًا دون حسٍّ أو شعور أم قطعة أثاث ألقيتَ بها في بيتك دون اعتبار لكرامتي أو احترام لحقوقي؟

• هذا هو طبعي، وتلك هي حياتي، أنا رجل البيت أفعل ما أشاء، وليس من حق أحد أن يحاسبني.

• وهل من الرجولة أن تتخلَّى عن مسؤولياتك؟

• ألم أقل لك: إنني لا أطيق النقاش والجدال، ومَن لا يعجبه ذلك يتفضل "برَّة"؛ كي يريح ويستريح، أتفهمين؟

• طبعًا لا يعجبني، وسوف أضع حدًّا لكلِّ هذا لقد سئمت الحياة معك ويئستُ من إصلاحك، خرج (حازم) من البيت ثائرًا يزمجر بينما عزمت (علية) على حسم الأمر فلم يعد في طاقتها المزيد من الصبر، أو القدرة على احتمال الأذى، انتهت المواجهة وعلى أثرها أخذتْ أطفالها وتوجَّهت إلى بيت أبيها، ما كادت تصل حتى فُوجِئت بأن العمدة مريض يصارع الموت فنسيت مشكلتها الخاصة وجلستْ إلى جواره، فقد كانت - وما زالت - أحبَّ بناته إليه ويأنس بالحديث معها.

وبعد أيام تُوفِّي العمدة وخيَّم الحزن على القرية كلها، بقيت (علية) في بيت أبيها إلى جانب أمها وأشقَّائها يُواسِي بعضهم بعضًا، جاء (حازم) بصحبة أهله؛ لتقديم واجب العزاء للأسرة دون أن يسأل عن (علية) مما زاد غضبها منه، بعد أن مرَّتْ أربعون يومًا كاملة جاء (حازم) طالبًا منها العودة إلى دارها كانت عازِفة عن العودة زاهدة في لقائه، ولكنَّ الأهل نصحوها بالرجوع من أجل أطفالها فعادتْ معه ومنذ ذلك الوقت عرف الجميع بخلافاتهما وتصدَّع العلاقة بينهما.

(14)

بعد زواج (علية) بفترة قصيرة تزوَّجت الأختان (عائشة) و(فاطمة) وعاشتَا في القرية، وكانت زيجات موفَّقة وقد أنجبت كلتاهما عددًا من البنين والبنات، وبعد أن عرف الأهل بما بين (علية) و(حازم) من خلافات بدؤوا يكثِّفون من زياراتهم لها والسؤال عن أحوالها ومحاولة رَأْب الصدع وتضييق شُقَّة الخلاف بينهما، وخاصة الشقيقتين (عائشة) و(فاطمة) اللتين تعوَّدتا حمل الهدايا واصطحاب زوجيهما إلى قرية البرج لزيارة (علية) والاطمئنان عليها، والتوفيق بينها وبين (حازم)، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من علاقات المودة والرحمة التي أفسدها الخصام.

لكن الخلاف اتَّسع وزادتْ حدَّته، فالعاصفة تهدأ قليلاً ثم تهبُّ من جديد وفشلت وساطات الأهل من الطرفين في إخماد النيران المشتعلة أو تضييق هُوَّة الشقاق وحدَّة الخلاف؛ والسبب هو التباين الشديد بين شخصيتي (حازم) و(علية)؛ فهي رقيقة وديعة متسامحة مجاملة إلى أقصى حدٍّ، لذا فهي تتمتَّع بحبِّ كل مَن يعرفها إلا (حازم) الذي يهوَى التحكُّم والتسلُّط، وإعطاء الأوامر بصوت جهوري وكأنه قائد عسكري يلقى فرمانًا على جنده وهم لا يملكون إلا السمع والطاعة، فليس لهم حقُّ الاعتراض أو المناقشة أو إبداء الرأي، وإنما دورهم التنفيذ فقط.

هكذا كان حال (علية) مع (حازم)، فالويل كل الويل لها إذا لم تنفذ تعليماته بحرفية تامَّة وبالطريقة التي يريدها، وهي مضطرة أن تفعل ذلك اتقاءً لشرِّه فهو ثائر أبدًا لا يتورَّع عن إخراجها أمام الضيوف والجيران فضلاً عن الأهل، مما يجرح كبرياءها وينغِّص عليها حياتها ولكنها تتحمَّل وتتجمَّل أمام الآخَرين، فإذا خلتْ بنفسها انهمرت دموعها الغزيرة، وغرقت في بحر من الأحزان لا تفيق منه إلا على صوت أطفالها الصغار فتكفكف دموعها وتُوَاصِل حياتها من أجلهم.

مضتْ سنوات عِدَّة على هذه الحال حتى نفد صبرها أو كاد، واقترب يوم العيد فاستأذنت زوجها في الذهاب إلى بيت أبيها للاطمئنان على والدتها وزيارة قبر أبيها فهذا هو العيد الأول الذي يأتي بعد وفاته، ولذا فهو بمثابة ذكرى للمتوفى كما تقضي تقاليد القرية، فسمح لها وبدأت تستعدُّ للزيارة.

(15)

حان وقت السفر، لبس الطفلان ملابس العيد الجديدة وارتدتْ هي ثوبها البنفسجي المنقَّط بالأبيض والأسود وغطتْ شعرها بشال أزرق لامع، ذلك اللون المفضَّل لديها الأثير إلى نفسها، وأسدلتْ وشاحًا رقيقًا على وجهها، ثم ركبت عربة أشبه بالحنطور يجرُّها حصان، وركب الطفلان (نجوى) و(رأفت) إلى جوارها، بينما ركب الخدم في المقدمة لتوجيه الحصان، وقد وضع أمامه سلة كبيرة تحوي المستلزمات الخاصة بـ(علية) وطفليها.

الطريق بين القريتين لا يزيد عن بضعة أميال لكنه مترب غير معبَّد وتتخلَّله كثبان الرمال فتبدو المسافة شاقَّة طويلة والأطفال لا يكفُّون عن العبث طوال الرحلة فيتعمَّد (رأفت) خطف العصا من السائق ثم يسقطها على الأرض ثم يقفز لالتقاطها، بينما (نجوى) تصرخ خوفًا عليه، ويحاول الخادم منعه ونصحه بدون جدوى، بينما (علية) شاردة ساهمة تسترجع ما حدث لها وتجترُّ همومها وأحزانها، ظلَّت تنظر إلى الفلاحين والرعاة وهم يسوقون أغنامهم ومواشيهم ويحملون محاصيلهم من الحقول على ظهور الدواب وهم يغنون في رحلة العودة إلى منازلهم، لاحظتْ أنهم ينظرون إليها ويتهامسون، إنهم يعرفون أن هذه العربة تقلُّ بنت العمدة، التي كانت يومًا ما ملكة جمال قريتهم وحلم جميع شبابها، ثم إن الذين يملكون مثل هذه العربة في القريتين قليلون ومعروفون للجميع وهم بالقطع العُمَد والأعيان.

بعد عدة ساعات من السير وصلت العربة، قفز الخادم من فوقها وأنزل الطفلين، ثم حمل السلة إلى الداخل، ونزلت (علية) واستُقْبِلت بترحاب كبير خصوصًا من الأم التي كانت شديدة الاحتفاء بابنتها وأطفالها والحنو عليهم تقديرًا لظروفهم، وفي الصباح الباكر تجمَّع رجال العائلة في المندرة بعد صلاة العيد لاستقبال الضيوف من أهل القرية الذين يمرُّون أفواجًا على البيوت التي تستقبل أول عيد بعد وفاة أحد أفرادها، بينما خرجت النساء لزيارة قبر العمدة وتوزيع الصدقات وقراءة الفاتحة.

مرت الأيام سريعًا وعلية تأنس بالحديث مع شقيقاتها وصديقاتها ونساء القرية اللائي يأتين لزيارتها وتستعيد معهن ذكريات طفولتها وصباها في هذا البيت الكبير، وبدأت تشعر بالسعادة والدفء اللذين افتقدتهما في بيت (حازم) الذي لا يعرف المودة والحنان، تصادَف أن وضعت زوجة أخيها مولودها الأول الذي جاء بعد انتظار طويل وفرحت بقدومه القرية كلها، فقررت أن تمد فترة بقائها في بيت أبيها طالما وجدت مبررًا للبقاء فاستغلَّت الفرصة، فلم تكن ترغب في العودة من داخلها وإن لم تصرح بذلك.

ذات مرة دخلت حجرتها التي كانت مخصَّصة لها قبل الزواج وأغلقت الباب خلفها، راحت تتأمل كلَّ ما في الغرفة؛ الفراش، الأثاث، السقف، الجدران، النوافذ، وشعرت بحنين جارف يشدُّها لكل ما حولها، توقَّفت عيناها على صورتها المعلَّقة على الحائط داخل إطار زجاجي رقيق، رنتْ في اهتمام إلى ملامح الصورة تتفحَّصها، كانت تبدو مثل فينوس أو الجيوكندة ملامح ملائكية وعينان تظللهما الأهداب الساحرة وتشعُّ منهما البراءة والجاذبية معًا تركت الصورة ونظرت في المرآة وهالها الشحوب الذي يكسو بشرتها، فركتْ عينيها ثم عاودت النظر إلى الصورة تتفحَّصها من جديد وهي تتساءل في أسًى وحزن: أين ذهبت تلك الحيوية المتدفِّقة والشباب النضر وتلك الضفائر الحريرية التي تحيط بوجهها وتتناثر على كتفيها؟!

تنقَّلت عيناها بين الصورة والمرآة وبين سريرها ودولابها وهي تحدث نفسها: ها هنا عشتُ أجمل أيام حياتي وحلمت أحلامي الوردية واستذكرت دروسي وخبَّأت حاجاتي وتشاجرت مع إخوتي ثم تصالحنا وتصافينا، ها هنا تسامرنا ولعبنا وضحكنا، آه ما أبعد هذه الحياة عمَّا أنا فيه الآن، جلستْ على حافة السرير وأمسكتْ رأسها بيدها وهي تتنهد قائلة: لقد كان إحساسي صادقًا عندما تنبَّأت بأن هذه الزيجة لن تكون موفَّقة، لقد تمت خطبتي في يوم عاصف لم تطلع له شمس، وتأجَّل العرس بسبب حادث مأساوي عكَّر صَفْوَ القرية كلها وخلَّف أحقادًا وثارات بين عائلتين بعد أن قتل أحد الشباب وأصيب الآخر، آه كل ذلك كان من سوء الطالع، ليت أهلي استمعوا لصوت مشاعري، ليت هذا الزواج التَّعِس لم يتمَّ، ولكن ماذا يفيد التمنِّي، إنه تمني المستحيل.

(16)

لاحظت (السيدة) غياب ابنتها فشعرتْ بالقلق عليها فطرقت باب الغرفة ودخلت، جلستْ إلى جوارها وأدارت معها حوارًا عن أحوالها: لماذا أنت شاحبة ذابلة حزينة دائما؟

• لا شيء يا أمي، هذا هو نصيبي في الحياة.

• هل أنت مريضة؟ أخبريني بما تعانين.

• ما أعانيه يا أمي يفوق مرارة المرض بكثير.

ثم كانت القنبلة التي ألقتْ بها الأم في وجه (علية) فانفجرت وتطايرت شظاياها حتى أصابت كيان (علية) كله، لقد تزوَّج (حازم) من سيدة أخرى منذ شهور كانت له علاقة بها قبل الزواج بـ(علية)، شعرت (علية) بالمرارة في فمها وجفَّ ريقها وتجمَّدت أطرافها من هول الصدمة التي لم تكن تتوقَّعها، لحظات من الصمت والذهول مرَّت كأنها الدهر، ثم انهمرت دموعها وانخرطتْ في بكاء متواصل، ضمَّتها الأم إلى صدرها في محاولة لتهدئتها.

استردَّت (علية) أنفاسها، وبدأت تفسر غيابه المتكرِّر عن البيت وتقتيره عليها في المصروفات، ثم موافقته السريعة على مجيئها إلى بيت أبيها دون معارضة، وطول إقامتها دون تذمُّر ولم يكن يسمح بذلك من قبل إلا بعد إلحاح وتوسُّل وربما تدخَّل أهله للحصول على موافقته، ويكون ذلك في المناسبات فقط، الجميع يعرفون خبر زواجه لكنهم تعمَّدوا إخفاء الحقيقة حرصًا على مشاعرها وإشفاقًا عليها من الصدمة، هي الوحيدة التي لا تعلم وكأن أحزانها حجبت الرؤية عن عينيها.

نصحتها الأم بالاستغفار وقراءة القرأن والتشهُّد؛ كي تهدأ نفسها وتسكن آلامها، تظاهرت بالتماسك وقرَّرت عدم العودة إلى بيت الزوجية بعد هذه الصدمة التي أضيفتْ إلى صدماتها السابقة، ولقد نفد صبرها وللصبر حدود، فعلامَ تبقى عليه بعد ما حدث؟ إن فعلتْه تلك هي القشَّة التي قصمتْ ظهر البعير كما يقول المثل.

مرَّت الأيام وعرف (حازم) أن (علية) وأهلها قد علموا بخبر زواجه فلم يجرؤ على الذهاب إليها، وأرسل بعض أقاربه لاسترضائها واصطحابها مع طفليها إلى بيتها، عاد الأهل وهم يأسفون: ترفض (علية) العودة معهم رفضًا باتًّا.

(17)

بدأت الخلافات تظهر بين (حازم) والزوجة الجديدة وتتطوَّر بشكل سريع وسافر، فهذه المرأة لا تملك صبر (علية) وحكمتها وطيبتها وتسامحها، فصارت تبادله غضبًا بغضب وثورة بثورة وصار صوتها دائمًا يعلو على صوته، كما أرهقته ماليًّا وقرَّرت استنزاف ثروته مما زاد من حدَّة الشجار، وكلَّما تدخَّل الأهل والجيران نالهم قدر من اللوم والسباب من هذه المرأة سليطة اللسان، بذيئة الألفاظ، سيئة الخلق؛ مما أسقط هيبة (حازم) وبدأ الجميع ينفرون منه ويبتعدون عنه، ويقارنون بينها وبين (علية) وكأنهم يقارنون بين شيطان رجيم وملاك رحيم.

لم يعد سرًّا غضب (علية) وإصرارها على الطلاق ولم يعد سرًّا زواج (حازم) من هذه السيدة الشريرة لقد انتشرت الأخبار في القريتين، وأصبحت قصصًا ومادة للحديث بين الناس كبارًا وصغارًا، وكلٌّ منهم يفسِّر الأمور بطريقته، واعتاد البعض من المتردِّدين على بيت العمدة نقل ما يصل إلى أسماعهم إلى (علية) مضيفًا إليه رأيه الخاص وتصوُّراته، وكأن قصة (حازم) و(علية) هي قضية العالم كله وقد فرغ من القضايا، ولم تبقَ سوى هذه القضية الشائكة.

(18)

وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها وكاد القرن العشرون أن ينتصف، وانعكست ظروف الحرب المأساوية على المجتمع المصري دون أن يكون طرفًا فيها أو صاحب مصلحة في دخولها، لكن الاحتلال الإنجليزي دفع به دفعًا إليها مع وعود كاذبة بالجلاء والاستقلال، ورغم استغلال أراضي مصر وموانيها وكل مقدراتها لصالح الحرب لم يفِ المحتلُّ بوعوده للمصريين الذين عانوا كثيرًا من جرَّاء هذه الحرب، ودفعوا ثمنًا باهظًا من أرواحهم وأموالهم واستغلال مواردهم؛ مما ترك أثرًا سيئًا على المجتمع المصري وضاعَف من تعقيدات الحياة.

انتشرت الحمَّى في الريف المصري وكان أكثر ضحاياها من الأطفال، وحصدت أرواح الآلاف من القرية والقرى المجاورة، والريف آنذاك محروم من الرعاية الطبية، كما هو محروم من غيرها، ولا توجد تطعيمات أو حتى إسعافات أولية سريعة، ومَن أراد الذهاب لأقرب مدينة للعلاج فعليه أن يركب حمارًا أو عربة يجرها حصان - وهى غير متاحة إلا للأعيان - أو يسير على قدميه لمدَّة ساعة على الأقل حتى يصل إلى الطريق الرئيس وينتظر عدَّة ساعات حتى تأتي للمكان أيُّ وسيلة مواصلات بدون مواعيد محددة، وهي في الغالب أتوبيسات صغيرة تعمل بالجاز، قديمة متهالكة مخلعة الأبواب، والفلاَّحون يطلقون عليها اسم (أحلاهم) سخرية وتهكُّمًا، ومَن يجد كرسيًّا يجلس عليه في عربة (أحلاهم) فهو محظوظ حقًّا حيث إن القاعدة أن يحشر الركاب وقوفًا بما يفوق طاقة العربة، وعند مدخل المدينة وقبل الوصول لأوَّل نقطة مرور ينزل معظم الركاب ويسيرون على أقدامهم، وينتظرهم السائق في مكان معيَّن معروف لديهم.

الأمر إذًا شاقٌّ جدًّا على المرضى، وأطباء المدينة يرفضون الحضور لهذه القرى النائية الواقعة في حضن الجبل، البعيدة عن الطريق الرئيس للمواصلات إلا فيما ندر وفي حالات خاصة جدًّا.

أصيبت الطفلة (نجوى) ابنة (علية)، وفشلتْ محاولات الجدَّة وطرقها البدائية في علاجها أو تخفيف آلامها، حملت (علية) طفلتها ورافقها شقيقها إلى طبيب المدينة، وبعد يوم حافل بالمتاعب وسفر شاق، أعطاها الطبيب بعض الأدوية ولم يخفِ عليها أن الحالة سيئة، وحذرها من العدوى فهذه الحمى خطرها على الكبار أشد، ولم يُعْرَف لها حتى الآن علاج، فكلُّ الأدوية المتاحة مسكِّنات ومطهِّرات معوية ليس أكثر.

بيد أن (علية) نسيت تحذيرات الطبيب وعكفت على تمريض الطفلة والسهر على رعايتها؛ فالتقطت العدوى من الطفلة التي لا تفارق حضنها تقريبًا وساءت حالة الاثنين، مما دعا (السيدة أم أمين) إلى عزل الطفل (رأفت) عن أمه وأخته خوفًا عليه من العدوى، لم تستجب الحالتان للعلاج وسارت الأمور من سيِّئ إلى أسوأ، وبات شبح الموت يحوم في الغرفة التي ترقد فيها (علية) وابنتها.

(19)

علم (حازم) بمرض زوجته وابنته فقرَّر الذهاب إليهم للسؤال عن (علية) وأطفالهما بعد إهماله لهم لفترة طويلة؛ مما دعا أهله إلى توجيه اللوم والعتاب إليه، عندما وصل جلس في المندرة واستقبله أخوها وأمها وبعد عتاب طويل ولوم شديد من جانبهما واعتذار أشد من جانب (حازم) سمحت له (السيدة) برؤية (علية) وابنتها فدخل إلى حجرتها لمقابلتها واسترضائها وقد اشتدَّ بها المرض، كانت ممدَّدة جامدة النظرات، تكاد أنفاسها أن تختنق، وعندما اقترب منها أشاحت عنه بوجهها، فوقف ينظر إليها وإلى (نجوى) التي ترقد بجوارها بلا حراك كالزهرة الذابلة، انهمرتْ دموعه وخرج حزينًا مهمومًا، وتوسَّل إلى (السيدة) أن تسمح له بصحبة الطفل (رأفت)؛ خشية أن يصاب بالعدوى، فوافقت (السيدة) حرصًا على الطفل، فعاد إلى قريته ومعه صغيره.

التفَّ الأهل حوله يسألون عن (علية) وطفلتها وعندما علموا بسوء حالتهما أكثروا من لومه وعتابه، ثم انصرفوا وهم غاضبون منه ساخطون عليه، راح يطوف بأركان البيت ويتذكَّر (علية) وتضحياتها من أجله وإخلاصها في خدمته، وحبها لأهله وصبرها عليه، وتسامحها وتواضعها مع الجميع، استيقظ ضميره فجأة وأفاق من غفلته وانتبه على صوت زوجته الشرسة التي لا تكفُّ عن الصياح والثرثرة فيما لا يفيد فضلاً عن افتعالها المشكلات وإرهاقها له بمطالبها الكثيرة، فهي لا تعرف القناعة قطُّ إضافةً إلى سوء فعالها مما جعل الأهل والجيران يبغضونها بل ويتحاشون التعامل معها بأيِّ شكل، حتى أصبح (حازم) منبوذًا بسببها من الأهل والجيران، فلم يَعُد له أصدقاء يزورونه أو يسألون عنه كرهًا في هذه المرأة، بعد أن كان بيته عامرًا بالناس من الأهل والجيران والأصدقاء حين كانت تسكنه (علية) الآن أصبح غريبًا وهو بين أهله وعشيرته لا أحد يهتمُّ بأمره حتى إخوته، وخاصة بعد وفاة أمه التي كان من الممكن أن تقرب بينهم.

(20)

انسحب وبيده طفله إلى غرفة (علية)، جلس حزينًا مهمومًا كاسف البال وأجلس (رأفت) إلى جواره، وراح يحوطه بذراعه ويقبِّل رأسه، فالشعور بالذنب يكاد يقتله، شعر بالوخز في صدره والضيق في نفسه، ظلَّ ينظر ويطيل النظر إلى الأشياء من حوله، وكلها تشير إلى (علية) وتذكِّر بها، فما زالت بقاياها في كلِّ ركن وطيفها يتراءَى له في كل اتِّجاه، وصدى حديثها يرنُّ في أذنيه، وعبيرها يعطِّر المكان، الذي استحال أنسه إلى وحشة وكآبة، توالت الذكريات تتلاحم وتتزاحم وتتلاطم، وهو غارق في بحرٍ من الشجون يحدث نفسه: إن زواجي بهذه الشريرة هو عقاب من السماء، نعم، إنه عقاب شديد دبَّرته العدالة الإلهية انتقامًا منِّي، جزاء وفاقًا على ما اقترفتْه من ذنوب في حقِّ (علية)، تلك الزوجة الطيبة الصالحة التي لم أعرف قدرها وقابلت إحساسها بالإساءة ونكران الجميل، آه كم كنت ظالمًا لها ولنفسي، والآن أدفع الثمن غاليًا كما كان الخطأ شنيعًا والخسارة فادحة.

هكذا دارت الأفكار في رأسه بعد أن استعاد ذكريات حياته مع (علية) منذ أن عرفها حتى خروجها من بيته كسيرة القلب شاحبة اللون دامعة العينين، فقرَّر التكفير عن ذنبه، عقد العزم على الذهاب فورًا إلى العلوية لاسترضاء (علية) واصطحابها هي وابنتها إلى أكبر أطباء العاصمة لعلاجهما ولو كلَّفه ذلك بيع كل ما يملك، فقد سمع عن قدوم طبيب أجنبي متخصِّص في فحص الحالات لتجريب دواء جديد فربَّما تتماثلان للشفاء فيعود بهما إلى بيته كي يبدأ الحياة معهم من جديد ويعوِّضهم عمَّا سبق من تقصير في حقِّهم، علَّهم يستعيدون سعادتهم المفقودة التي ضيَّعها هو بجهله وعناده وسوء تصرفه.

(21)

راقتْ له الفكرة فركب حصانه وأمامه صغيرُه وسار متَّجها إلى العلوية، راح يحثُّ حصانه على الجري بأقصى ما يمكن وقطع المسافة بين القريتين في نصف الوقت المعتاد ومع ذلك كان يشعر أن الوقت يمرُّ بطيئًا ثقيلاً وكأنه شهور طويلة، ما كاد يقترب من ناصية الشارع حتى ترجَّل عن حصانه وأمسك طفله بيده ومضى إلى بيت العمدة، وفجأة تسمَّرت قدماه وأوشك على السقوط إذ رأى الفناء المؤدِّي إلى البيت مزدحمًا بالرجال والنساء وهم يبكون وينتحبون، استجمع قواه وحمل صغيرَه، واندفع مخترقًا صفوف "المُوَلْوِلاَت" إلى أن وصل إلى غرفة (علية) حيث ترقد هي وابنتها وقد فاضت روحهما إلى بارئها في انتظار انتهاء مراسم الدفن، انكفأ على الجسد المسجَّى كي يودِّعه الوداع الأخير وانهمرت دموعه بغزارة حتى بللت الفراش الذي يغطي الحبيبة الراحلة، أزاح الغطاء عن وجهها الذي بدا طفوليًّا ملائكيًّا وراح يقبِّلها وهو يردد: سامحيني أيتها الحبيبة الطيبة.

أعاد الغطاء إلى وجهها مرَّة أخرى ونظر إلى ابنته، وزاد بكاؤه حدَّة ولوعة إلى أن تدخَّل شقيق (علية) وحمله خارج الغرفة وهو يهذي: لقد فات الأوان لم يَعُد بإمكاني فعل شيء، آه، ما جدوى الندم بعد فوات الأوان، انتهت مراسم الدفن وشُيِّعت الجنازة إلى مثواها الأخير، علم أهله بنبأ الوفاة فحضروا لتقديم واجب العزاء، وبعد أن تقبَّل العزاء وانتهى المأتم عاد إلى بيته حزينًا كئيبًا يحمل طفله الصغير (رأفت) ذلك الأثر الوحيد الباقي من (علية)، تلك الشمس التي غربتْ عن حياته إلى الأبد غير أنها أبتْ أن تمضي دون أن تترك شعاعًا من أشعتها حيًّا نابضًا لينير له بعضا من ظلمة حياته.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • بعد الليل شمس وسطوع

مختارات من الشبكة

  • قول رب الشمس عن الشمس(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الشمس في قصائد ديوان (مراكب ذكرياتي) للدكتور عبدالرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • تفسير سور (الشمس والليل والضحى) كاملة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سورة الشمس للأطفال(مقالة - موقع عرب القرآن)
  • كسوف الشمس وخسوف القمر(مقالة - موقع الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك)
  • القسم بالشمس وضحاها (1)(مقالة - موقع د. حسني حمدان الدسوقي حمامة)
  • الماء المسخن بالشمس(مقالة - موقع الشيخ دبيان محمد الدبيان)
  • كسوف الشمس آية الله في الكون القريب(مقالة - الإصدارات والمسابقات)
  • حكم الصائم المسافر الذي أمسك في بلده، وأراد أن يفطر في بلد آخر عند غروب الشمس(مقالة - ملفات خاصة)
  • فضل من جلس في مصلاه بعد صلاة الصبح يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 17/11/1446هـ - الساعة: 9:44
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب