• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

الحق في الحياة ( قصة )

سواري العروسي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/12/2014 ميلادي - 16/2/1436 هجري

الزيارات: 8176

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الحق في الحياة


ضجَّ بستان اللوز والصبار بأزيز حوَّامة عسكرية، وهدير عربةِ جند مكشوفة، السماء صافية تتراقص فيها خيوط شمسِ صيْفٍ حارقة، مرَّ ما يناهز ثلاثة أشهر على اليوم الذي بلَّل فيها المطر هذه الأرض التي تصلَّبت، وجفَّ واصفرَّ عشبُها.

 

بعد انتهاء موسم الحصاد، خَزن الفلاحون ثِمار جُهدهم، جمعوا أكوام التِّبن وبنوها على شكل قبب شمسية اللون، مُرِّرَت من فوقها حبال مُثقلة بأحجار تثبتها متوازنة فوق الأرض وتساعدها على مقاومة الرياح، تمَّ طلي قبب التبن بلون تراب القرية، قشرة من الطين الأحمر حجبت التبن بالكامل، في السنين الأخيرة بدأ البعض يستعيض عن هذا الأسلوب باستعمال الغطاء البلاستيكي، الهدف: حفظ التبن من ماء المطر وأشعة الشمس لضَمان طراوته وادِّخَاره عَلَفًا لفصل الشتاء، يبدأ البناء عادة بعد صلاة الظهر، وينتهي قبل صلاة المغرب؛ حيث يلي ذلك إقامة وليمة بمنزل صاحب البناء، تتم العملية لصالح كل فلاحي القرية، يقيم الفلاح المستفيد وجبة عشاء في بيت مفروش بزرابي من صنع محلي مزركشة ومرشوشة بعطر طيب يبدِّد روائح العرق البارد وعبَق الشمع المحترق، عندما يغشى الليل النهار، تنبعث من بساتين القرية رائحة المسك الزكية، النسيم خارج البيت مُنعش ككل ليلة من ليالي الصيف، أما البيت فقد أصبح على غير عادته مزهوًّا بالألوان، تنظيم وترتيب محتوياته، والطعام الذي يقدم فيه بهذه المناسبة: شكل من أشكال الاستعراض غير المباشر لمهارات وذوق صاحبة البيت وبناتها، قد تكون هذه - في اعتقاد النسوة - مناسبة جيدة لوخز وتشجيع من يُفكر في الزواج من الشباب.

 

كل المشاركين في البناء دُعُوا للحضور، جلسوا مُصطفِّين مُتقابلين على طول وعرض البيت، انتصبت على المائدة التي يختفي من خلفها النصف الأسفل لصاحب الجلباب الأبيض والرزة البيضاء المطرَّزة بخيوط تترقرق مع حركاته، صحن من النحاس الأصفر اللامع (صينية)، رُتِّبت فيها بتناسق وانسجام، من حول براد كبير مصنوع من الرصاص، أكوابٌ زجاجية أحاديَّة الشكل ومختلفة الألوان، بدأ الرجل صاحب العينين الكبيرتين الراقصتين بجلْب الاهتمام إليه بالتظاهر بعرض مكانه لمن يريد تحضير الشاي، وتلك رسالة مشفرة وجَّهها للحاضرين؛ لتزكيته وحثِّه على الاحتفاظ بمكانه، هذا ما كان يعتقد أنه من العرف والكبرياء، وقد نال ما كان يبحث عنه، كان صوته غليظًا قويًّا يصِل لكل السامعين، استدار بجسده نحو الجالسين على يمينه وأمرهم بالتحرُّك لشَغْر مكان لليافع محمد الذي أشار إليه بالتقدُّم إلى الأمام، بدا الرجل على كامل الاستعداد ليكون مُحرِّكا للجمع، كان كل شيء فيه يتحرَّك بنظام وانتظام: رأسه، رموش عينيه، نَظَراتُه الذكية، يداه وجسدُه، لا يكاد الرجل يهدأ هنيهة حتى يستدير يمينًا أو شمالاً، وكأنه تذكَّر شيئًا لم يقله، فيسترسل في الكلام باستعمال حركات متناسقة بكلتا يديه وأصابعه، شمَّر عن ساعده، فتلألأت ساعة مثبَّتة بمعصمه الأيمن، ملأ راحة يده بحب الشاي ووضعها داخل قعر البرَّاد، أومأ لحامل المقراج النحاسي بإفراغ الماء المغليِّ لغسل الحبات، رفعَ الإبريق وأداره يمينًا وشمالاً في الهواء، ثم أفرغ ما فيه في الكأس الأكبر حجمًا، وضع السكر في وعاء البراد، وأضاف رطبة من نعناع، أومأ مجدَّدًا للواقف بسكب الماء، وناوله البرَّاد ليضعه على النار، رفع رأسه باتجاه الحضور وكأنه ينتظر تعليقًا ما على حركيته، البرَّاد فوق النار، فرَكَ الرجل يديه وأعطى انطلاقة قراءة القرآن بصوت شجيٍّ استملحته النفوس.

 

أصبح الرجل مركز جذب الحضور بدون منازع، كانت هيئته البيضاء ووجنتاه الحمراوان البارزتان بين صدغيه وأنفه الكبير تعطيان الانطباع على أنك أمام طفل بريء، أسفل الصدغين وحتى الذقن يجثم شعر كثيف أسود على شكل هلال وَخَطَه الشيب، من حين لآخر كان يمسح بمنديله بعض صبيب العرق على جبهته التي بدت تترقرق من وراء البخار المتصاعد نحو شعلة الشمعة المثبَّتة في النافذة، أُحضر البراد الحارق على جناح السرعة، صعد البخار في أرجاء البيت الذي انتشرت فيه رائحة الشاي المنعنع، سُكِب ووُزِّعت الأكواب، استحسن الجميع مذاق صنعة الفقيه، بعد مرور وقت طويل نسبيًّا احتكر فيه الرجل الحديث، صار الكلام مفتوحًا، تحدَّث الحاضرون عن كل شيء، تناقلوا أخبار الساعة الدولية والعربية والمحلية، كانوا يتناقشون ويتجادلون حتى وهم متحلقون من حول موائد العشاء، يضحكون ويقهقهون، عندما كان يكثر الصخب وتبدأ فوضى الحديث كان الرجل يقطع بإطلاق قراءة القرآن أو المديح بصوت جوهري، بعد الانتهاء من تناول الكسكس المسقي بالمرَق ولحم الدجاج البلدي المدهون بالسمن الحار، أحضر صاحب البيت الصينية، شُرِّف رجل الأركيسترا لتحضير الشاي من جديد، وهو فقيه القرية بالمناسبة، رتَّل وجَوَّدَ القرآن بصوت جميل، صعد بخار ورائحة الشاي الساخن المنعنع في أرجاء البيت ثانية، سُكِب ووزعت الأكواب، استحسن الجميع مذاق الشاي كما يقتضي العُرْف ذلك، فتح الفقيه موضوع الوعظ، حدَّث وفسَّر ووعظ، قرأ القرآن بشكل فردِيٍّ، انسحبت الشياطين من البيت ذليلة مدحورة، نزلت السَّكينة والطمأنينة على الأنفس، مرَّ الوقت سريعًا بشكل لا يُصدَّق؛ لتجيء لحظة الختم بالدعاء إلى الله، تفرَّق الجمع راضيًا في انتظار الفرصة القادمة، هكذا بالتتابع من بيت مستفيد لآخر على مدار أسبوعين أو ثلاثة متتالية.

 

محمد الذي شارك في مثل هذا البناء التعاوني وهو يافع هو الابن الثاني لعمتي "مومة"، عندما كانت تنتهي السنة الجامعية بكلية الطبِّ بالرباط، كان محمد يأتي إلى القرية ليقضي بضعة أيام مع والديه بمناسبة وجودهما بها لمدة طويلة لجني ثمار اللوز، محمد ينظر لما يحدث من الجبل، يتربَّع منزل العائلة على جانب الشعبة المنحدرة سريعًا من الجبل، عند منطلقها، تظهر الشعبة بين الجبلين واسعة، في وسطها حفر يزداد عمقًا مع ازدياد الانحدار، الصخور الرمادية تتخلَّلها النباتات الجبلية لتجعل طرفيها مزيجًا من الأخضر والرمادي الغامق؛ لهذا السبب يُطلِق عليها أهل القرية اسم شعبة القوق تشبيهًا بلون هذا النوع من الخضر، عند وصولها للسفح حيث تتقارب الصخور، تضيق الشعبة لتختفي في غابات أشجار اللوز والصبار، ثم تعود بعد ذلك للظهور متفرِّعة في شكل أودية من الحصى والحجر الصغير، ثم تبتعد عن بعضها البعض شيئًا فشيئًا لتتوغَّل في عَرْض السهول الممتدَّة نحو الأفق وتتيه، في هذا المنزل نفسه كان رجال المقاومة يعقدون اجتماعاتهم ويخطِّطون لعملياتهم الفدائية.

 

العمة "مومة" امرأة خفيفة الحركة، أول شيء يُثير انتباهك وأنت تلتقي بها أول مرة هو شخصيَّتها القويَّة والوَشْم الذي تحمله على جبهتها، حديثُها يَشدُّ المنصتين من حولها، دومًا تُخرِج الكلامَ والابتسام يُزيِّن ملامح وجهها، كانت دائمًا جميلة، الأسلوب العفوي في التحدُّث إلى الناس يضفي على كلام العمة مومة قبولاً واهتمامًا، ومعها زوجات إخوة بعلها. كانت تتكفَّل بطهي الطعام، وتحضير القهوة، وغسل ملابس جيش المقاومة النشيط بالمنطقة، وكذا بعض خلايا جبهة التحرير الجزائرية المارة من هنا، رغم شخصيتها القوية والمثيرة للإعجاب، كان والد محمد - العم بن عيسى زوجها - حريصًا على تحذيرها من الوقوع في الخطأ القاتل المؤدِّي إلى إفشاء سرِّ المنزل المضياف، لكن شيئًا مثل هذا لم يحدث، فرغم استفزازات وترغيبات العسكر والمقدم - الكورات - والتحايل الذي كانت بعض نسوة القرية تمارسنه للحصول على الأخبار المفيدة، ظلَّت عمتي مومة كاتمة للسرِّ، ولم يستطع أيُّ شخص - بيَّاع - أن يَصل إلى شمِّ ما كان يحصل، غداةَ قتل أحد المعمرين (نشير)، وحرق منزله على يد رجال المقاومة بجوار القرية، ضرب عسكر الاحتلال طوقًا على المنزل، اجتاحه وقام بتفتيشه بحثًا عن الأسلحة داخل جنان الصبار، إلا أنه لم يعثر على ما يبحث عنه؛ لأن الأشياء كلها كانت تُدفَن تحت الأرض بالنهار، وتستخرج منها عند حلول الظلام، عقب هذا الحدث، اعتقل أبو محمد لبضعة أيام، تمَّ التحقيق معه، وأطلق سراحُه لاحقًا، كما تمَّ استدعاء العمة مومة لاستنطاقها ولم تقل شيئا يُفيد إدارة العسكر، كانت - يرحمها الله - تُجيد تمثيل المرأة التافهة.

 

كان مدمنًا على قراءة الكتب الفكرية والتاريخية والروايات والقصائد الشعرية، لم يعثر على الكتب التي تتحدَّث عن تاريخ بلده، تلقى بالمدرسة بعض الشذرات "مما سُمِّي تاريخ البلاد" عندما كان تلميذًا بالسلك الابتدائي، لكنه فهم لاحقًا أنه ليس هو التاريخ، لقد زادته المصادر الموثوقة من الوالدة والوالد وأبناء العم عن ممارسات الاستعمار وأعوانه قناعة بأن إعادة كتاب التاريخ فرض عين على القادر على ذلك، مع تقدُّمه في درجات العلم، بدأ يخطِّط لكتابة جزء من التاريخ يهم منطقته بالأساس؛ وذلك بالعمل على الاتصال بالذين ساهموا في حركة التحرير بالمنطقة، كانت إرادته قويَّة لإنجاز المشروع، وكان ينتظر نضج الشروط التقنية التي يتطلبها عمل خطير كالذي فكَّر فيه.

 

وهو في بداية الطريق توقَّف المشروع، لا شك أن الكثير من الحقائق والأسرار التي استقاها محمد من مصادره الموثوقة بات من غير الممكن الكشف عنها، ولا شك كذلك أن نصرة قيم ومبادئ الحرية لها ضحاياها وثمنها الباهظ.

 

من حين لآخر كان محمد يصعد إلى الجبل؛ ليتفقَّد خميسًا، وليرصد الحركة بالأماكن المجاورة، يتميَّز تنقُّل محمد بأعلى الجبل باستعماله للمنظار الذي أهداه إياه عمُّه القيادي السابق بالمقاومة المسلَّحة، محمد شابٌّ مليء بالحيويَّة، رغم دراسته للطب كان يساعد والده كلما سمحت له الفرصة بذلك، في الكثير من المرات مارسَ محمد الرعي مع خميس المكلَّف رسميًّا بالمهمة، كم كان محمد يعظم شأن هذه المسؤولية وشأن القائمين بها!

 

نشأ خميس أميًّا متنقلاً مع أسرته بين الأحراش والسهول وسفوح الجبال البعيدة عن بعضها البعض بمئات الأميال، العرب الرحَّل لا تُسعِفُهم الظروف لإدخال أبنائهم إلى المدرسة؛ لأنه لم يكن يومًا بمقدور هذه الأخيرة التنقُّل معهم وتلبية حاجياتهم، علمًا أن التعليم حقٌّ من الحقوق الأساسية للإنسان، أسرة خميس تقطُن بخيمة صوفيَّة قاتمة، تتشكَّل من الأب العمِّ "غيل" وزوجته العمة "حادة"، وخميس وأختيه الباقيتين مع أبيهما وأخوين اثنين يشتغلان في مجال الرعي عند غيرهم بعيدين من هنا، نشؤوا جميعهم تحت سقف الخيمة، لون بشرتهم بنيٌّ غامق، يلفِّف الذكور رؤوسَهم بمناديل رقيقة تشبه الرزاز، عانت الأسرة ولا زالت تعاني شحَّ المياه وقسوة البرد وشدَّة الحرِّ، لا يأكلون ولا يشربون كما يأكل ويشرب سكان الأحياء الراقية بالمدن، لكنَّهم كرماء، شِيمَة من شيَم العرب، حياتُهم بسيطة إلى أقصى الدرجات، ولدتهم أمهم جميعًا بالخيمة، كما ولدت فاطمة والأخضر اللذين تُوفيا بعد إصابتهما بمرض الحصبة، كانوا جميعًا ضعفاء البنية، يمرضون باستمرار ولا يزورون الطبيب على الإطلاق؛ لأنه لا وجود لمستوصف يهتم بالرحل، سبق وأن زارتهم قافلة من الأطبَّاء الأجانب منذ سبعة سنين في حملة ضد مرض العيون، هذا الوباء لا زال حتى الساعة منتشرًا بالجنوب الشرقي للبلد يفترِس أعين ضحاياه، لم يجلس أحدهم يومًا على مقاعد المدرسة أو بالكُتاب، الفرق عن أيام الاستعمار: أن في ذلك العهد كان الآباء يُجبَرون على إدخال أبنائهم إلى المدرسة.

 

يصعد خميس إلى الجبل في الصباح ولا يعود منه إلا قبل الغروب، كان يعاني من فقر الدم وأوجاع الرأس المزمنة، لهذه الأسباب كان محمد يتفقَّده من حين لآخر بأعلى الجبل عند وجوده بالقرية، في مثل هذه المناسبة، كان يصحب معه بعض الحلويات ولا ينسى الشوكولات، كان خميس يكاد يطير من الفرح عند قدوم محمد إلى القرية؛ لأنه يعرف أنه سيأكل الشكولاتة، كان خميس يحب أكل الشوكلاتة حبًّا شديدًا، لدرجة أنه كان يتمنَّى لو أسكنه والده بالمدينة ليتمكَّن من تناولها في كل الأوقات، اصطحب محمد معه هذه المرة منظارَه؛ ليرصد ما جدَّ في المنطقة.

 

كان محمد هو أول من رصد ظل حوامة الجند يتحرَّك فوق الصخور الجبلية بتزامن مع التحرُّك السريع لعربة الجند على الطريق الوحيد السالك إلى القرية، كانت أكوام الغبار المتصاعدة إلى السماء تشي بأنَّ أصحاب العربة على عجلة من أمرهم، انتهى المطاف بالآليتين إلى بستان العمَّة مومة التي كانت مع زوجها تقضي أيام الصيف بالقرية، انقبض قلب محمد ووجل، صوَّب منظاره نحو البستان ليرى ما يجري هناك، رغم وجود بقايا نبات الزرع المحصود وبعض الحشائش، تطاير غبار الأتربة من تحت الطائرة التي حطَّت عند مدخل البستان، بعد وصول العربة قفز بعض الجند المدجَّجين بالأسلحة من الآليتين، رجال مسلَّحون يتحرَّكون في العتَمة، لم يتمكَّن محمد من ضبط عددهم نتيجة احتجاب الرؤية بفعل الغبار الذي تصاعد إلى السماء.

 

كان الطريق السالك إلى المنزل ضيِّقا وملتويًا بين الأشجار، بعد بضع دقائق تلاشى الغبار، واستطاع محمد بمنظاره رُؤية بعض الدرك وقد تسلَّلوا إلى فِناء المنزل، حاصر بعضهمالموقع من كل الجهات، وبقي البعض الآخريحرسون الآليتين، كانوا يلبسون لون الحجر الرمادي، حجر مبرقع بالأبيض والأصفر المختلط بالأحمر كأنه لون الصدأ، لكنه لامع عند الاقتراب منه، لون ذلك المنزل من لون الجبل الذي يمتد إلى الأعلى ليبدو ملامسًا للسماء، بين أحضان هذه الجبال الشاهقة تتجمَّع بيوت القرية الرمادية، وقُرْبَ هذا التجمُّع كانت المياه العذبة تتلألأ في السواقي وهي تشقُّ طريقَها إلى بساتين القرية الكثيفة الأشجار، كان الجلوس تحت ظلالها كجلسة في جنَّة الدنيا، ومع ذلك رحَلَ اليومَ عنها أغلب أهلها وتركوا كل شيء، كلٌّ يُجمِع على أن سبب تلك الهجرة يَرجِع إلى انعدام البنيات التحتيَّة؛ كالطرق والمستشفى والمدرسة والماء الصالح للشرب وغيرها من ضروريات العيش بالبادية.

 

بعد لحظات من حدوث مشهد حصار المنزل سمِع محمد طلقات رصاص، استشعر محمد الخطر على أمِّه وأبيه، فركضَ هابطًا من الجبل وهو يقفز من فوق الصخور، توقَّف خميس بعد أن جرى لبعض المسافة وراء محمد، كان قلبه يخفق بقوة وسرعة، لم يفهم ما يجري من حوله، وقفَ مذعورًا وحائرًا، بعد هنيهة تمالك نفسه وهمَّ بالالتحاق بمحمد، بدأ يركضُ باتجاه السَّفْح، لكنَّه توقَّف ووضع رأسه بين يديه، تراجَع عن النزول وقد تذكَّر أنه ليس بالإمكان تَرْك القطيع وحده بالجبل، كان الانحدار يدفع محمدًا بقوة نحو والديه، وكانت الصخور تعترضه فيقفز على بعضها، ويضع رجله على أخرى، كان الجري في مثل هذا المكان شديد الخطورة، انزلق محمد أكثر من مرة وهو يركضُ، ساعده الانحدار الجبلي على الوصول سريعًا إلى مكان الحدَث، تسمَّر في مكانه ورأى رجالا ملثَّمين، تفاقم قلقُه، ارتفعت وتيرَةُ خفقان قلبِه وارتعاش أطرافِه، قفزت إلى ذهنه واقعة العمِّ شالوط الذي تمَّت تصفيتُه بالرصاص السنَة الفارِطة، اندفع نحو المنزل.

 

• قِف، ارفع يديك فوق رأسك، ماذا تفعل هنا؟ (الدركيُّ مصوِّبًا رشاشَه باتجاه محمد).

• لا أسمعك، هدير المحرِّك لا يسمح بذلك. (محمد ينظر إلى سلاح الدركي).

• قلت: لا تتحرَّك، انبطِحْ وإلا أطلقت النار.

• هذا منزل والدي، ماذا تريدون أنتم؟ أريد رؤيةَ والدي.

 

وجَّه الدركي فوَّهة رشاشه إلى صدر محمد، وأرغمه على التراجع بخطوات إلى الخلف إلى أن التصق ظهره بجِذْع الشجرة، (اجلِسْ، صاحَ الدركي بصوت مُرتفِع).

 

جرى نحو محمد رجلان يلبسان المدنيَّ وانقضَّا عليه، ألصقاه بجِذْع الشجرة، عندما تمكَّنا منه طرحاه أرضًا، وشدَّا مِعْصميه وراء ظهره بقيْد، انتزعوا مِنظارَه المشدود إلى عُنُقِه، أزالوا خَيْط حذائه الرياضي، وضعوا كيسًا أسودَ غطَّى رأسَه ووجهَه، واقتادوه منحنيًا ورمَوه داخل الحوَّامة.

• لم أفهم ماذا يحدث، لم أفعل شيئًا. (محمد وهو يحتجُّ).

• قل هذا للمعنيِّين عند التحقيق، نحن ننفِّذ فقط (حارس الحوَّامة).

 

مرَّت بضع ثوانٍ على الاعتقال غير المفهوم، فصعِد دركيٌّ إلى الحوَّامة يحمل راديو اتصال مشغل، يُستنتَج من صوته الأخنِّ أنَّه رجل متقدِّم في السنِّ، رفع الكيسَ من فوق رأس محمَّد وقال له: على سلامتك، هذا أنت؟

في يده اليمنى يحمل مسدسًا، وفي اليسرى الراديو المشغل، كانت أسنانه منخورةً يعلَق بهاسوادُ السجائر، كان كلامه ثقيلاً مرتعشًا يشي بأنَّ الرجل في حاجة ماسَّة للخلود إلى الراحة، بدا من خلال تحرُّكاته وسلوكاته أنه المسؤول الأول عن العملية، من نافذة الحوَّامة أعطى بعض التعليمات، الأعداد والوسائل التي وُظِّفت لاقتناص محمد تُوحِي بأن الصيْدَ ربما كان ثمينًا، لم يَنْس إعادة الكيس إلى رأس محمد، أمرَ بالإقلاع، ارتفعت الحوَّامة في السماء، واتجهت نحو الغرب.

مرَّت سنين عديدة...


عانت الأمُّ مومة مرارة اختطاف فلذة كبدها، كانت تعتقد في البداية أنه اعتقال سرعان ما سينتهي كما حدث معها ومع أبي محمد في عهد الاستعمار، لكن الأمر كان مختلفًا تمامًا.

 

كان ذلك اليوم فارقًا في حياة أسرة مغربيَّة.

منذ ذلك الحدَث ومصيرُ محمد مجهولٌ.

مات أبو محمد وماتت العمة مومة.

يقولون: إن سنوات الرصاص انتهت، لكن مصير العديد من المختطفين لا زال لم يُكشَف عنه بعد.

 

عائلة الضحيَّة إلى جانب الجمعيَّات الحقوقية الجادَّة، لا زالت تُطالب بالمحاكمة العادلة لتسليط الضوء على السبب الذي جعل السلطات تختطف بعض المواطنين لمدة تزيد عن خمسة وثلاثين عامًا، وتحرمه من أبسط حق من حقوق الإنسان، الحق في الحياة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • من الحياة (قصة قصيرة)
  • عبور إلى الحياة (قصة قصيرة)
  • صابر والحياة نحو الأفضل ( قصة للأطفال )

مختارات من الشبكة

  • التبيان في بيان حقوق القرآن (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أهم ما ترشد إليه الآية: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}(مقالة - آفاق الشريعة)
  • يا دعاة الباطل لا تكونوا كاليهود: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}(مقالة - موقع أ. د. فؤاد محمد موسى)
  • {يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون}(مقالة - موقع أ. د. فؤاد محمد موسى)
  • تفسير قوله تعالى: {يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين}(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير قوله تعالى: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير قول الله تعالى: (يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون)(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 21/11/1446هـ - الساعة: 10:16
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب