• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    التأويل بالحال السببي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

كابتسامة فانديتا (قصة)

كابتسامة فانديتا (قصة)
أ. محمود توفيق حسين

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 14/8/2013 ميلادي - 7/10/1434 هجري

الزيارات: 5819

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

كابتسامة فانديتا

 

يجلس صائدُ الضحايا منذ أوَّل المساء الذي يبدو بغير نهاية، خلف عربتين مركونتَين، في إحدى النواصي المضطربة المطلَّة على جبهة صراعٍ ثوري بين فريقين من المصريين، يتابع بعينيه مستغرباً هذا الاشتباك المحموم السريعَ الذي تجدَّدَ فجأةً، يندهش من شعورهم السريِّ بالفصيلة، وغريزتهم البدائية المتوقدة التي تساعدهم على التفرقة بينَ من لهم ومن عليهم بغير أي علامةٍ مميزة، بل وفي قلب العتمة نفسها يشمُّون الولاءات التي بين الجوانح؛ وها هي سرايا منهم تلتقي في الطرقات الجانبية وتمزِّق بصراخها حشمةَ الشوارع المنزوية، ولا يصيبُ أحدهم أخاه أبداً، فيرفع حاجبيه الممسوحَينِ متعجباً.

 

تتحيَّز السرايا المتفرقة إلى بعضها بعضاً، بنداء الغرائز القديمة التي اكتشفَها المصريون في أنفسهم في الأيام الشديدة، الأيامِ الشديدة التي فضَّت ذخائرهم المرعبة التي تحرسها اللعنات، يتباعد الفريقان الآن مسافةً يحرسونها بالتهديد والعواء الذئبي، كوحوش منهكة تحارب بأحقادها الفطرية على مناطق النفوذ.

 

يجلس صائدُ الضحايا تحت النوافذ المغلقة، وتحت الغماماتِ المارَّة من دخان القنابلِ المسيلة للدموع التي بعثرها الهواء. عيناهُ الجاحظتان حمراوانِ من طول السهر، ومن وهجِ الليزر الأخضر المعربد في الفضاء، هذا الوهج الذي جعلهُ يشكُّ مع الأثر الجامح لنصف حبة هلوسةٍ أخذها على سبيل التجربة، بأنه موضوعٌ في أُسطوانة من أسطوانات ألعاب التصويب، كتلك الأسطوانات التي ينهمك الصِّبية معها في ظلام صالةِ اللعب المتواضعة في مدخل حيِّهم الفقيرِ بأفواههم الفاغِرة، وأعيُنهمِ اللامعةِ الصغيرة.

 

كان احتمالاً شديد الإغراء بالنسبة إليه، أن يكون مرسوماً لا مخلوقاً، كائناً خفيفاً بأكثر من سبعِ أرواح، يتعرض للقتل، فيقبل الأمرَ بصبرٍ جميل؛ فحياته تتجدد مع فرصة تشغيلٍ تالية، ليبدأ من الصفرِ بكامل لياقتهِ وتفاؤله، في دنيا قائمةٍ على الملابسات والفُرص، والأساليب والتركيز، ولا معنى للحق والباطل والعيب والأخلاق فيها بأيِّ وجه. وعندما يتلفُ القرص المضغوط في آخر الأمر، تنعدم الشخصية، وكلُّ من كانوا معها، وكل من كانوا ضدَّها، بغير حساب، تذهب سُدًى ، وينتهي الأمر.

 

عيناهُ حمراوانِ كذلك من وحشية الأمل، الأمل الذي يملأ نفسه في أجواء الليل الفوضوي المهتَّكِ لباسُه، وينفخ فيه إيقاع الطلقات السارحةِ التي يُدبدب صوتها المتقطع البعيدُ في أذنَيه كنبضاتٍ مسترخية، بعد فترة من ضجيج الخرطوش وقنابل المولوتوف وأصوات التحطيم، والسباب، والتأوه، والاستغاثات؛ الأمل في الاختلاء قليلاً بمصابٍ تساقط في أي جنبةٍ من الجنبات، ليجرَّهُ من رجليه للعتمة، ويتظاهر بمحاولة إسعافه، أو بفحصه، أو بالإجهاز عليه، حسب الظرف البشري المحيط، ويجرِّدَهُ مما معه في ثوانٍ قليلة، حافظة نقوده، جواله، ساعة يده، خاتَمه، بل والحذاء كما حدث في إحدى المرات.

 

صاحب الإصابة الخطرة يكون مستسلماً استسلاماً يشبه استسلامَ الميت بين يدَيِ المغسِّل، أما المصاب الذي يَعي ما يدور حوله، ولديه صحةٌ للصراخ، فيلوِّح له بالمطواة فوق عينيه المذعورتين مباشرةً وهو يهدده بأن يطفئَ له نورَ عينيه إن صرخ. ولو أن الضحية أنثى لا يكتفي وقتَها بالسلب، بل يعبث بأصابعه المحمومة والمتعجلة بفاكهة الجسد قبلَ أن يجمعها الموت في سلَّتهِ للعفن، مؤمناً بأنه أولى من الدود، لتشعر وهي تسكب الدم من فمها بما يمكن أن تشعر به سمكةٌ شُقت بطنها وهي حيَّة.

 

عيناه الجاحظتان القاسيتان المتقاربتان في الوجه الموميائي النحيف، وأذناهُ الطويلتان المنتبهتان، وأنفاسه المتلاحقة، وسكوته المهدِّد، كلُّها أعطته مَلمح (سلعوة) لاهثة أكلها هجير الصحراء وسمُّ السعار الذي يعتملُ فيها، فتسلَّلتْ خفيةً حتى وصلت إلى كبد المدينة المفتوحة، لتعضَّ أي بائسٍ زاغت عليه عين الشرِّ المبللةُ بطبقةٍ رقيقةٍ من الدمعِ الخبيث. ورغم الأذى المترب الذي تنطق به تقاطيعُ وجهه، والعناءِ الشرس القديم، إلاَّ أنه لم يكن مثيراً للشك والانزعاج بعد أن صار وجود البَلطجيَّة والمشبوهين في مناطق الاشتباك أمراً واقعاً ومألوفاً، مثل حوَمان النسور المشؤومِ في العصور الوسطى حولَ صَلصلةِ المعارك، في انتظار تِرْكةٍ من الهدوء الدمويِّ والجثامين الممزقة.

 

يجلس ضيِّقَ النفَس بين حائطٍ وعربتين، ضيق النفَس مثل كل المنفلِتين بالشوارع المحيطة، بل وكلِّ من بالبيوت أيضاً، هؤلاء الذين يتابعون ما يحدث أسفل عمائرهم من خلال شاشات التلفزيون، هؤلاء الذين يتابعون مصرَ التي عاشت شبقاً للفيضان المنقطع بخيره وشرِّه، فصنعَت من أبنائها الفيضان.

 

لم يكن بالطَّبع يشعر بالكرب أو حتى بالتوتر، بل كان متحفزاً تماماً وهجوميًّا، كأي شخصٍ مرسومٍ داخل لعبةٍ دموية، تحتَّم عليه أن يقتل، وأن يتجنَّب القتل. لا يشوش على انتباههِ إلا تلك الرغبةُ العارمة التي تتغلب عليهِ بعد تعاطيه الحبوبَ التي تساعده على البقاء منتبهاً وجسوراً وقاسياً، والتي اشتدت عليه مع حبة الهلوسة التي لم يعتد عليها، البرشام يطلب الشاي، وهو الآن في رغبةٍ ملحَّةٍ في كوب شايٍ كبير ساخن، وثقيل، يمصه على مهل، ويتمتع بموجات الدفء التي تتصاعد في مسامِّ رأسه.

 

وهذه الرغبة المحمومة في كوب شايٍ ثقيل هي إحدى العلامات التي كانت ترجح له، وهو يحاول أن يستجمع قدرته على التفكير المنطقي وقد أسندَ رأسه على إحدى العربتين، ترجح له كونه إنساناً من لحمٍ ودم، فهو لا يظن أنه بإمكان بطلٍ من أبطال الرسوم أن يشعرَ بالقلق والتحرق الذي يشعر به (الخرمان)، مهما أحسن المصمِّم صُنعَه.

 

لم يستطع حسم أمر نفسه وحسمَ أمرِ ما يدور حوله، إنه محتارٌ بالفعل، فالتجسيم، والروائح، والأحاسيس الحاضرة، والآلام، كلها واقعية، واقعيةٌ تماماً؛ إلاَّ أن كل ما حوله يبدو خياليًّا ومبالغاً فيه، كالكراهية الشديدة عند المصريين، تجاه المصريين، والتلذذ الذي يشعر به هؤلاء المتعلمون أولادُ الناس بتحطيم الممتلكات الخاصة، ليجلسوا من بعد ذلك في المقاهي القريبة يتكلمون بجانبه هذا الكلام الذي لا يفهمه عن الدستور والحرِّيات. كل ما حوله يبدو خياليًّا ومبالغاً فيه، كالطريقة الرشيقة التي يقوم بها رجلٌ أُصيبَ ليستأنف المخاطرةَ بنفسه، والنمط الهادئ غير المذعور الذي يطفئُ به أحد الشباب النار التي مسكت بطرف سرواله من قذيفة المولوتوف، وتلك البسمة العريضة التي يراها الآن على قناع فانديتا بخدَّيه المتورِّدين، تلك البسمة التي فيها كل شيء، ولا شيء فيها على الإطلاق، يتسلل بها شابٌّ بهدوءٍ خلفَ رجلٍ سمين يترنَّح في دَمه، رجل سمين يشخر كخنزير برِّي يمضي في جراحِ السهام البدائية، ليهديَه بمطواته طعنةً إضافيةً في عجيزته، فحارَ منها ودار حول نفسه فاقداً الإحساسَ بالاتجاه، واستسلم ووقَع.

 

كان صائدُ الضحايا يلحظ بعينه المنتبهة ذلك الرجلَ السمين وهو يمضي وعلى ظهره حقيبة كحقيبة أطفالِ المدارس، وفي يده كيس ورقي، هذا الكيس ظل قابضاً عليه إلى أن مات. كل ما حدث من هذا السمين أنه شق المنطقة الملتهبة بهدوء ماضياً إلى حال سبيله، فانهمرت على حقيبة ظهره وكيس يده حزمٌ من كل اتجاه من الليزر الأخضر، هذا يعني أنه أثار الشك بما يحمله، صار بها رجلاً يجب التعامل معه. سببت له حزم الليزر بعض الارتباك، كحيوان بليد حاصرته الأضواء الباهرة لعربات الصيد من كل ناحيةٍ في ليل الصحراء، وهو مصرٌّ على أن بإمكانه أن يمضي، وأن بإمكانه أن يحتفظ بهدوئه.

 

ها هو يسقط في آخر الأمر مثلَ دبٍّ مثخَن، يتقدَّم إليه الشباب ليتفحَّصوه وقد اندس بينهم صائد الضحايا، يتضح لهم جميعاً من ملامح وجهه أنه مريضٌ بالبلَه المَغولي، وتأكد هذا الأمر من ميكي المرسوم على الحقيبة، ومن الكيس الذي لم يفرِّط فيه للنهاية، المليءِ بثمار (الحرنكش)؛ لقد ابتسم لهم ابتسامةَ خجول، ابتسامة طفل تم الإيقاع به في لعبة (الاستغمَّاية)؛ رحل الذي كان صدقاً يحتفظ بمسافة واحدة من الجميع، بعد أن زفر زفرة أخيرة أخرج فيها عناءه.

 

يلحظ صائد الضحايا أن القتلى حولَه والمصوِّبين بالليزر قد تأسفوا قليلاً، أقل مما كان يراه على وجه واحدٍ من مثل هؤلاء إن دهس قطة. حتى هذا القدر القليل من الأسف لم يظهر على وجه من أجهز عليه، فقد كان خلف القناع محكوماً حتى في هذه اللحظة المؤسفة وهو ينحني على جثته بابتسامة فانديتا التي لم تكن مناسبة.

 

ينفضُّون عنه إلى نقاط الارتكاز، متابعينَ النضال؛ ليفتِّش هو القتيل بخفةِ يد، ولم يجد معه شيئاً، فكان كيس الحرنكش غنيمتَه الوحيدة، فأخذه من يد القتيلِ ومضى؛ خياليٌّ ومبالغٌ فيه هذا الرعب الهزلي، للدرجة التي ترجِّح كون الأمر لعبةً متطورة، وموسَّعة، ومكلفة، حد الإدهاش.

 

أخذ يأكل الحرنكش على الرصيف وهو ينظرُ للميتِ المدد في الطريق ولا زالت الحقيبة على ظهره، وعيناه الضيقتان مفتوحتانِ على السماء، حتى أنهى كلَّ ما في الكيس. وتحركت فيه بعد هذه الوجبة رغبةٌ مفاجئة وعارمة في التبرز، جعلَته يعاني بشريَّته الحقيقية، ويتلمَّس واقعية ما يدُور حوله؛ فالرغبة في التبرز تفصيلٌ إنساني لا يخطر ببال مصممي البرامج؛ وحتى لو وردت بذهنِ مصممٍ متمكن لا يفوته شيء، سيكتفي بالعلامات الخارجية التي تؤكد احتياج شخصيته لتلبية نداء الطبيعة، كالتلوِّي، ومسك البطن، والعض على الكف، هذا ميسور، لكن من أين يأتي مصمم برامج اللعب ذاتِ المؤثرات الفائقة بتلك المهارة لصنعِ هذه التقلبات الداخلية التي تفرض نفسها، وكيف يبثها في جوفِ أبطاله؟! مستحيل. مستحيل. هذا البراز الذي أوشك أن يغلبه، وهذا الحقد اللاهب من جوف المتظاهرين، لا يمكن أن يكونا لعبة.

 

رفع رأسه المستند على العربة وهزَّه، نعم، نعم؛ أنا أظن إذاً أنني إنسان حقيقي، للأسف؛ هكذا حدَّث نفسه، على سبيل الترجيح لا الحسم. وشعر أنَّ عليه أن يتصرَّف بسرعة، فهو يحسُّ وكأنه يحمل قِربة مكتظة رجراجة، فمها لأسفل، وسينحل حبلها المربوط بعد قليل. ونظر خلفه لممر العمارة الداخلي، حيث أقرب الحلول، وهذا الحوض الطيني الطويل المسوَّر بالرخام والمزروع بأشجار الياسمين، واتخذ قراره وهو يعض شفته من إلحاح أمعائه.

 

وفي هذه اللحظات التي كان يتسلل فيها في ممر العمارة ليقضي حاجته، وهو يحل حزامه، وينزل سحَّاب سرواله، بعد أن طوَّق جبهته بشارة مكتوب عليها: (الثورة مستمرة)، تلك الشارة التي لا يستطيع قراءتها، الكفيلة وحدَها بتغيير قيمته، بأكثر كثيراً مما يفعل جواز السفر الدبلوماسي، في هذه اللحظات كان طبيب أسنانٍ شابٌّ من سكان العمارة، توحي ملامحه بالانطواء والدماثة، ينزل بامرأته مهندسة الديكور على السلالم باتجاه مستشفى الولادة، من أجل أن تضعَ طفلها بولادةٍ قيصرية كما وَلدت طفلها الأول، ووجهُها شاحب لدرجة توحي بالتعاسة والظمأ، وحول عينيها هالة غامقة، من آثار الحمل، ومن افتقار البشرة للمكياج الذي اعتادَت عليه، ترتدي (دريلاً) واسعاً من الصوف الداكن، وتنتعل حذاءً من القماش بغير كعب، وتمسك بيَدها الأخرى بطنها من أسفل تكورها. وحقيبة أغراضها البيئية الأنيقة المصنوعة من قش الأرز، التي جهزتها منذ نصف شهر، التي نسي الزوج أن يسبقها بها ليضعها بالسيارة ويعود لمرافقتها، ها هي معلقة على كتفه وممتلئةٌ عن آخرها بشكل مرتب وتفوح منها رائحة طيبة ككل حاجاتها؛ وضعت بها للمولود القادم مقعد سيارة، وعلبة حفاضات، وبذلةً شتوية من قطعة واحدة؛ ووضعت كذلك لنفسها ملابس للنوم، وملابس للتمشي داخل المستشفى، ووسائد للثدي، وفوطًا صحية، وقميصين بأزرارٍ أمامية لتسهيل عملية الرضاعة، وبعض أدوات المكياج الخفيفة، وراديو ترانزيستور.

 

الحقيبة على كتفه، ونظارته الطبية الرقيقة توشِك أن تقع من فرط الارتباك، وهي تلومه في نزولها مرة أخرى على أنه لم يسبقها للسيارة بالحقيبة، وعلى كراهيته الفطرية لأن يكون مستعدًّا، تنزل بحذر وهي تنظر لمواضعِ قدمَيها المختبئة تحت بطنها المتكور، وهي تحمد الله على أنه لم يكن جرَّاحاً، لأنه كان سيترُك جوَّالاته في أحشاء المرضى.

 

في نقطة تلاقٍ رهيبة، وهي تستند على زوجِها والألم يعتصرها، خارجَيْن من الباب الداخلي ذي الزجاج المُعْتم، وهو يصبِّرها ويطلب منها التحمل حتى الوصول إلى مستشفى هليوبوليس القريب، ويرجو اللهَ أن يكون الطريق آمناً، ومدافعاً عن نفسه ضدَّ تهمة عدم الاستعداد، بأن هذه الأيام التي تمرُّ على مصر لا يستفيد المستعدون فيها من استعدادهم كثيراً، وما أن أتم هذه الكلمات حتى كان صائدُ الضحايا، الذي له ملمح السلعوة، مريعاً في المواجهة، جالساً بفُحش طرزان وقد غمره الضوء الأبيضُ الساطع لمصباح الزئبق، فوق الإفريز الرخامي للحوض، وبين شجرتَين، يقضي حاجته وفي يده ياسمينة يشمها. أصابتهما معاً ارتعادةٌ واحدة، وارتباكٌ شديد وشعور بالضياعِ الذليل، تركت يدَ زوجها، مسكت بطنها بيديها الاثنتَين وهي تنظر للمشهد البشع فاغرةً فمها تتأوه، غيرَ قادرة على أن ترفع عينيها بعيداً عنه من شدة الصدمة، فيما سقطت نظارة الزوج الطبية، والتقطها من الأرض، ووضعها على عينيه بغيرِ أن يمسح ما عليها من تراب، وأخذ يُبعد نظر زوجته عن متابعة الشاب الجالس، الذي رسم الألم اللذيذ للتبرز على وجهه ما يشبهُ ابتسامة فانديتا؛ وفي ذات الوقت، وجد نفسه يعتذر إليه عن اقتحامهما خلوته في مدخل العمارة، مبرراً ذلك بصوتٍ شرخه الخوف بأنه ذاهب بها للمستشفى لتضع مولودها، فرد عليه بلسانٍ ثقيل وبلهجة خاملة وهو يحزق: (طيب، بس ما تتأخروش).

 

مضَيا أمامه متجهَين للباب الخارجي يسرعان الخطوات، مرتبكين أشدَّ الارتباك، هو متحسر ومنكفئ في قامته الطويلة، يحاول الدفاع عن نفسه بكلماتٍ متلعثمة ضد تهمة الجبن التي لم تنطق بها، مبرراً أدبه وسعة صدره مع صاحب الشارة الثورية الذي يتبرز عند مدخل العمارة، بأن هذا ربما يجمع عليهما بصيحةٍ واحدة العشرات من الهمج إن احتكَّ به، وهي هاربة في هيئتها شبه الكروية هروباً يشبه التدحرج، مستغنية بآلامها عن سماع عذره؛ وأخفى هو عنها ما تذكَّره للتو من أنه نسي حافظة النقود والجوال فوق التلفاز، مضَيا معاً هاربَين من الغم الذي أصابهما به إلى همِّ الشوارع المستباحة، فيما لا زال هو في جلسته يشم الياسمينة. لكن لا بأس؛ فهذا المشهد الذي اعتبره هو دليلًا مقنعًا على إنسانيته وواقعية ما يدور حوله، واعتبراه هما دليلاً على أنهما في كابوس مشترك، هذا المشهدُ كان له الفضل بعد قليل في أن تلد المرأة ولادة طبيعية، بغير حتى مساعدةٍ من الطلق الصناعي.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • خط العنقز (قصة قصيرة)
  • ذئب يبيت وحده في غرفة عمي ( قصة )
  • إعفاء ( قصة )
  • خلف الباب (قصة)
  • انتشاء!
  • ابتسامة وشقاوة (قصة قصيرة)
  • خطبة الجمعة (قصة)
  • النافذة (قصة)
  • ليلة الانقلاب (قصة)
  • من يوميات الحصار
  • كفرس جموح
  • دواء الكروب (قصة)

مختارات من الشبكة

  • سر الابتسامة ( قصة )(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الابتسامة في الإسلام(مقالة - آفاق الشريعة)
  • سيد البرية رائد الأخلاق وتأليف النفوس البشرية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة عن: الابتسامة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الابتسامة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الابتسامة تليق بك (بطاقة أدبية)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • علاج المشاكل الزوجية (1) الصمت والابتسامة(مقالة - موقع د. محمود بن أحمد الدوسري)
  • أجمل ابتسامة في التاريخ(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الابتسامة وإفشاء السلام(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ابتسامة خطيبتي لا تعجبني(استشارة - الاستشارات)

 


تعليقات الزوار
1- وصف دقيق للحالة المصرية
Malak Mohamed - مصر 03-09-2013 03:46 PM

والله لا أعرف هذا واقعنا أم كابوس نعيش فيه ..
أبدعت يا أستاذ محمود .

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 22/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب