• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة
علامة باركود

الخندق (قصة قصيرة)

الخندق (قصة قصيرة)
د. علا حسان

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 8/2/2012 ميلادي - 15/3/1433 هجري

الزيارات: 12552

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الخـندق

(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

 

يُحدِّقون حيال الخندق راغبين في تجاوُزه، عُبوره إلى عالمهم القديم؛ الغناء والسَّمر، الفراغ والأمل، العيون ترنو إليه في غموضٍ مُبهم، يبدو خاليًا من الشجون المحصورة في ثَنِيَّات القلوب الموجوعة، يبدو أروعَ ما تراه العين، أبهى من كلِّ الظنون، ممتدًّا في رَحابة لَم تُعايش آلامَهم، لَم تَعرف أخطاءهم، خوَّفهم الصقيع.

 

تَتَراجَع الأيدي لتصدَّ الملهوفين لعبور الخندق، لتحولَ بينهم وبين اندفاع مهووس، والرؤوس المُطأطئة نحو القاع، كأنَّ أحداقها عُقِدت بخيوط غير مرئية؛ لتصدَّها كتلة صمَّاء واضحة الصدوع، وكأنما تتحدَّى لهفتهم، تَسخر من عجزهم، تُلبِّي مشيئة غيرهم، الخندق!

 

الخندق هاوية سحيقة، تُميط اللِّثام عن صراعٍ مَوْءُود في مجاهل الأدغال المتشاجرة، المتعانقة عناق المُتصارعين.

 

يستشرفون خندق الفضاء بعيونهم العمودية، فيُطل عليهم كوتدٍ شامخ، مغروز في الحنايا؛ ليَعتقهم من الأَسْر الآدمي، ليَضمَّهم إلى زُمرة أولئك المُرَفْرفين في جَنبات الكون البديع، أولئك التيَّاهين بحريَّتهم وخلودهم، إنه العِتق من ربْقة المثول - فوق جاذبيَّة الأرض - من قَيْد غلافها الزجاجي البلوري الشظايا، هل حان موعد الصعود؟

 

تَرَكتْهم تُرَّهاتُهم يتخبَّطون:

• أليس بوسعنا مغادرة تلك الأرض الجَرداء؟

 

ما اعتادوا الثقل، ما تعوَّدوا أن تدوسَ أقدامهم ترابًا، أن تغوصَ فيه، هنالك كانوا يُحلقون كما الطيور المُرفرفة، يتنقلون كالفراشات تمتصُّ الرحيق.

 

• تَخَلَّوا عنَّا!

 

• إنها كواكبهم المشيدة باسمهم، من نحن حتى نَجرُؤ على التفكير في المغادرة إليها؟! وهل نَملك شيًئا حتى نَرقى إليهم؟ دَعْنا فيما نحن فيه.

 

• لقد صُنِعت من أجْلنا وليس مِن أجلهم.

 

• هذا قَدَرُنا، فلنَسْتَسْلم له.

 

• ماذا بوسعنا أن نفعلَ؛ لنحقِّق حُلْمَ الرجوع؟

 

• الكثير، نفعلُ الكثير.

 

• وأين حضارتنا؟ هل تخلَّت عنَّا؟

 

• وهل بَقِي شيء منها؟

 

عيونهم معلَّقة بالخندق المشقوق، مُولجة في حَيْرة لا نهائيَّة، كيف انشقَّ من جوف الكون؟ وهل ينشقُّ غيره؟ هل نسقط في دائرة من الانشقاق اللانهائي؟ مَن يوقف انهيارًا وشيكًا؟

 

الجزع يَقبض أطراف الجسد، فيُرعشها في تراخٍ وضَعْف، تربَّعوا أمام الخندق خانعين، عجَزوا عن التقدُّم نحوه، أو النظر إلى لَهيبه الحارق، رُبَّما لَم يَبق لهم سوى اتِّخاذ مواضعهم - القشيبة المُجدبة - مضاجعَ غير مُطمئنَّة، وهل يَملكون قرارًا غيره؟

 

استغاثاتهم لَم تتوقَّف، ولَم يَعبأ بهم سوى السكون، الفضاء لا يَحملها لأولئك الذين حَملوهم إلى تلك البقعة الخادعة؟ لَم يَتدارسوا الأمر جيدًا، لَم يَكتشفوا حقيقة الكوكب؟

 

أحياء نحن أم أموات؟ كيف تحوَّل الفضاء إلى خندق؟ وكيف نخشى السقوط؟

 

• إلى أين تريدون العبور؟

 

• نريد العبور إلى الجهة الأخرى؛ الأشجار والأنهار، والجداول العذبة الرائقة.

 

• الخندق يغوص إلى قاعٍ مُظلم، ويَعلوه لهيبٌ مُطبق.

 

• لِمَ لا نَردمه؟

 

• وهل يُرْدَم هكذا خندق؟

 

• إذًا نصنع جسرًا لعبوره.

 

• أين هي الأشجار؟

 

• إنها هناك على الجانب الآخر.

 

• سيَبتلعنا الخندق قبل الوصول إليها.

 

• وهل نموت في هذا المكان المُقفر، أنَسْتسلم للموت؟

 

• اجلسوا حتى يأتي الله بالفرَج من عنده.

 

وقَف الصِّبية يتطلَّعون إلى الجانب الآخر، رافضين الاستسلام والقعود، اتَّحدَت أناملُهم في قوة وبأسٍ، فتَوَارَت ارتجافاتها ضمن إسار الاحتضان، أرادوا العبور سويًّا، القفز قفزة واحدة.

 

فجاءهم شيخ مُهروِل:

• تمهَّلوا يا شباب، تمهَّلوا، أتريدون قتْلَ أنفسكم، تراجَعوا، إنه الموت.

 

• الموت خير من حياة باردة.

 

• إنه شرٌّ مُستطير، لا قِبَل لنا به.

 

• تمهَّلوا أيها الشُّجعان، تمهَّلوا وتَريَّثوا.

 

وقَفوا في ثباتٍ لَم يَغمض طَرْفٌ، لَم يُعر أحدُهم كلمات الشيخ اهتمامًا.

 

• سترسل لنا السماء حلاًّ آجلاً أو عاجلاً.

 

• السماء لا تُساند الضُّعفاء الخائفين المَرهوبين.

 

دبَّت أقدامهم في قوة وبُطءٍ، ترتفع وتَهبط؛ لتجوب قطر الأرض، تكاد الأرض تَهتزُّ لسَيْرهم الجَبروتي، تَميد لكُتلتهم الصمَّاء التي لا يَنفذ عبرها هواءٌ، بُنيانهم المَتين يَعلو ويتراخَى كأعمدة جرانيتيَّة، فاسْتَدارَت جَنباتها تحت أقدامهم، وعانَقَت الأُفق عند مَرمى البصر.

 

الْتَحَمت الأصابع، فانصَهَرت ارتعاشاتها إلى دِفءٍ وثيرٍ، وجِنانٍ مُخضرَّة، وحُور عين يتراقَصْنَ عن يمين وشمال، يُبْدِينَ دَلالاً وغُنْجًا، ويَحْمِلْنَ قيثارات الهوى العُذري المُغلَّف بغِلالة لَم تُفَضَّ، والخيط الموصول بين بطانتهم وسَدَنة العرش، يُغريهم بالالتِحام والتلاصُق.

 

تطَّلعوا نحو الخندق، رأَوْه يَفْغَر فاه مُبتلعًا التاريخ، الضلوع المقدامة ترتجف، تُناضل رَباطة الجأْش في مكانها الثوري وزعامتها التي لا تُقهَر.

 

سَرَت هَمْهَمة بين قطيع الصفوف المتراصة في الخلف، كعيدان ذرة تُطَوِّحها الريح، وأصوات لَم تَختبر مشكاة الوجود الدُّرِّي: "إنهم مَيِّتون لا مَحالة، جُنُّوا؛ إنهم يُلقون بأنفسهم إلى التَّهلكة"، حذَّرهم آخرون في جَزَعٍ:

 

• عودوا إلى الوراء، ارجعوا، ارجعوا.

 

أبرق البرق، ودوَّى الرعد، حلَّت صاعقة ارتطَمَت بالصخور، فانفجَرَت ذرَّاتها في غضبٍ، النظرات خوف، قَبَعوا في العَراء، متوسِّلين بالشمس البعيدة التي تُذكِّرهم بمكانهم هناك في الفردوس، علَّها تَنقل إليهم شيئًا من هَمْسه وانطلاق الريح بين أغصانه وتلافيف أشجاره، وربما يَرون صفحة الجداول معكوسة في مرآة الشمس، هزَّهم صوت من عُمقٍ دفينٍ وهو يُردِّد:

 

• انْهَضوا أيها الغفير، انْفُضُوا رمال موضعكم الجديد، وأَلْقُوا بأنفسكم في الخندق، فيُعيدكم إلى موطنكم القديم.

 

• هل نعود إن فعَلنا؟

 

قال آخر:

• لا، بل يُحوِّلنا الفضاء إلى ذرَّاتٍ مُفَتَّتة، ويأكلنا هجيره، ويُشَقِّقنا غلافه.

 

• وهنا، ماذا سيأتيكم سوى موت باردٍ، واختناق ضيِّق رغم رحْب الكون.

 

• بعد أن يَحِلَّ الليل ستأخذنا سكرة النوم، فنَغفو غير مُستشعرين ألَمَ الموت.

 

فقال الصوت:

• لن يأتيَكم الليل، فأنتم منه على بُعد عشرات السنين، نهاركُم أبديٌّ.

 

اعتَرى الشحوب الوجوه المُضناة، وأطبَق الذهول، تَقوْقَعت الأجساد، تلاصَقَت وقد لفَّها صمتٌ.

 

صرَخ أحدهم قائلاً في حَشْرَجة:

• مدُّوا أيديكم الحائرة نحو الفضاء، واسْتَصْرخوا السماء.

 

صَمَتوا راضخين، ثم قال أحدهم:

• إنها جَريرتُنا، وهذا عقابنا، وعلينا أن نمتثلَ له ونرضى به.

 

• تَرضون بالهوان؟ دافعوا عن بقائكم، عن أصداء الأرواح الغائبة في أصلابكم.

 

• بل سنموت، لنَخلط أديمَ هذا السطح المنحني بخلايانا، وربما تتكاثَر يومًا بعد يوم؛ لتَنفُث الحياة في ثراه المُفتقر إلى رائحة الآدميَّة.

 

• لن يبالي بكم أحدٌ.

 

• نعم، ولكن عندما يأتي أحفادنا، سيشمُّون في الثرى رائحتنا، فتَمنحهم زادَ البقاء والتجدُّد، ويمشون فوقنا، فيَستعيدون ذكرى أديم الأرض، سيَبحثون عن قبورٍ تضمُّ عِظامنا، ومن القبور تبدأ حياتنا.

 

أفزَعهم الجوع، مدُّوا أياديهم إلى أوراق الشجر، لذَعَت مرارتُها ألْسِنتهم، حتى اكتَشَفوا ثمارًا فيها حلاوة شهيَّة الطَّعم، ورَكَضت على البُعد غِزلان تائهة، فانتَبَهوا إلى لذَّة بقاءٍ مُحتمل، وما زالوا يَحلمون:

 

• ألن نعود إلى هناك؟

 

• ألن نرجع مرة أخرى؟

 

• آهٍ أيها الفردوس الجميل!

 

• هذه الكائنات البغيضة!

 

• تلك الأصوات القبيحة!

 

• هذا الهَمْس الخانق!

 

جاء صوت مِن أقصى السنين يُردِّد: اخْلُقوا جنتكم هنا، إن لَم تَستطيعوا الذَّهاب، اصْنَعوها بأيديكم أينما كنتم.

 

سنوات طويلة تمرُّ وهم قاعدون، مَخذولون، توقَّف إدراكهم عن الوعي بها، اعتقَدوها أيامًا مُدْلَهِمَّة، ولكنَّها كانت سنوات مُهَرْولة، مُشعِلةً الشَّيبَ، مُثيرةً أُوارَ الشيخوخة في العِظام المُتهتِّكة، ماذا حدَث لهم؟ هل انقضى العمر دون أن يَنتبهوا؟ هل تنتهي الحياة ولَمَّا يَحْيَوْها؟ الجوف المُبتلع لاطمئنانهم يَفْغَر فاه هازئًا مُشْمَئِزًّا.

 

• بالأمس جِئنا.

 

• الأمس المهزوم؟ أم الأمس المغلوب؟ أم منذ ذلك اليوم الموعود؟

 

تبادَلوا نظرات التيه والحَيْرة:

 

• لا ندري.

 

• منذ متى كان ذلك اليوم؟

 

• منذ كنَّا عُراة، حُفاة، منذ حَملنا الوتد، وأشْعَلنا الشجر.

 

• منذ مليارات السنين؟

 

نظروا حولهم حائرين، ووجوههم الشاحبة تُخبرهم أن بُشراهم غائبة، وأنَّ السماء ناقمة.

 

قَعْقَعات الرمال والحَصى المتطايرة، تبثُّ ترنيمة العدم وراء الخلق، حيث الكائن البديع يَرفل في حضرة صانعه الأوحد، مُطيعًا مستسلمًا، ينظر بحَدَقتين - واسعتين كبيرتين - مُستكشفًا ما حوله، مُلَبِّيًا الصوت الأبدي، مذهولَ الغيب، يُحلِّق في ثِقَلٍ وتُؤَدَةٍ، في بُنيان نقي صُلب، عارٍ خالٍ من الأحلام والأوهام، من الأوجاع والأسقام، تَقبع بين جَنْبيه بلايين الأصوات المُصغية، غير أنَّ ذاكرة النسيان أقوى من الغيب.

 

مضى حاملاً ثِقَليه، يجوب مع الفِيَلة، مُترعًا بوَهْم الرجوع، يتطلَّع حاضره الأسيف إلى الماضي المُرتحل، فيجده غيبًا مُستعصيًا، يَوَدُّ أن يُمسك بتلابيبه؛ حتى لا يَرحل، يَستنشق أثره؛ علَّه يعود أو يرقى إليه، يَذرف دموع الحسرة والألَم، والغيب يَدرج في صفحات مُشوهة الأسطر، مُمزَّقة الحروف، عاش قرونًا لا حصْرَ لها يُنشد البلورة التي خلَبت لُبَّه وعقله، التي لَم يُقَدِّرها حقَّ قَدْرها، يَتَلهَّف على شيءٍ من مرآها؛ عِطر قديم، رائحة ذكية، نهرٍ من خمر، شتَّان ما بين قحطٍ وبلبلٍ سادرٍ في الجنان.

 

الشَّظف والصراع البائد، والفرع المُتأهِّب، يُنسيه حلاوة الذكرى، فسيفساء القصور الشاهقة، زئير الطيور المُغرِّدة، دبيب أقدامه الراكضة فوق بُسُط مفروشة بحصًى مُدَبَّب الرأس.

 

صوت الكائنات يُشجي بكاءَه، فيُردِّد صدى الشجن، وتتأوَّه مليارات الخلايا التي نَمَت في حِصنه القديم، مفاتيح فردوسه ذي الأبواب المغلقة، والستائر المُسدلة، بعض من بصيص ضوء نشأ في رَحابته، لَم تَجُد عليه السدول ببريقٍ خابٍ، تلثمها دموعه المخذولة، يعود إلى مَخدعه باكيًا نادمًا، متوسِّلاً المثولَ عند الأعتاب المُقدسة، واللحن المنقضي يتغنَّى بمهْد مسيرته الحجريَّة.

 

ها هو الآن نَمَا في العصور وكبر عبر الدهور، وصنَع معجزات، اخترَق السحاب والفضاء، طارَ في الهواء وغاصَ في الماء، يَسكن الوديان، يَفترش السحاب، ويُحلِّق فوق الهِضاب، ويَنطلق كنَوْرَس فوق الجبال، فتبدو في مَرْآه أَخْيِلَة راكضة.

 

اليوم استوى فارع الطول، اليوم اكتمَل عقله، ومن قبلُ كان أكثر حِكمة، ولكنَّه الآن أكثر ذكاءً وفِطنة، اليوم أفاق من التيه؛ ليُبصر الأشياء ببصر حادٍّ، وبعينين ثاقبتين، ولكنَّه يَزداد طُغيانًا وأحيانًا يَزداد صبرًا، يَحمل وجهين، بل يَنشطر وجهه إلى خير وشرٍّ، الشطر القبيح يَعْظُم ويتضخَّم، وشطر هَزيل ساكن، كلَّما ارتَقَى إلى العَلياء درجةً، حطَّم في سبيله ألف درجة ودرجة.

 

يُحَدِّقون حِيال الخندق يَرغبون في تجاوزه، عبوره إلى عالَمهم القديم؛ الغناء والسَّمر، الفراغ والأمل، العيون تَرنو إليه في غموض مُبهمٍ، يبدو خاليًا من الشجون المحصورة في ثَنِيَّات القلوب الموجوعة، يبدو أروعَ ما تراه العين، أبهى من كلِّ الظنون، ممتدًّا في رَحابة لَم تعايش آلامهم، لَم تَعرف أخطاءَهم، خوَّفهم الصقيع.

 

كان الزمن سرمديًّا، غير مُتَجَزِّئ، ثم تَفَتَّت بين أيديهم، فعجزوا عن حَصْره والإلمام به، يتطلَّعون نحو تلك البقعة من السماء، فهنالك صَدَحت ترانيم الكون، وغرَّدت طيور الجنة، ينظرون بشَغفٍ؛ علَّ شيئًا من رائحتها يُذكي أنوفَهم، ولعلَّ القلب يَظفر بالسكون، بالرَّغد والطمأنينة، هَلُمُّوا إلى هناك، مادَت الطريق، ها هو ذاك، نحن نراه، ألا ترونه؟ إنه مُضيء كاللآلئ، كالعناقيد، صاعد في معارج ذهبيَّة، رفَعوا رؤوسهم، تلفَّتوا، فاختفى البرهان، وتَقَوْقَعت آمالهم بين طَيِّ السراب، شُغِلوا عن الخندق، راحوا يَبحثون عن الرَّمق الذي يَسدُّ جوعهم، عن الزاد السرمدي، وكلَّما أشْبَعوا بطونهم، ارتدَّت إلى جَوْعتها، لِمَ لا يعود الطعام سرمديًّا، والضحك أبَديًّا؟ والفجر لِمَ لا يتزيَّن بخيوط عَسْجديَّة، ورماديَّة أزَليَّة؟ لِمَ لا نَهنأ بسعادة أبديَّة؟!

 

وبعد دهور طويلة، أغْدَف الليل، واعْتَرَكت ظُلماته، ولَم يَنْبسط في غَياهِبِه بصيصٌ من أملٍ، حتى كان نهار الأمس حُلمًا باهرًا، "ضِقتُم بالنهار، فاهْنَؤُوا بظلمات ليلٍ لا فجرَ بعده".

 

أشْعِلوا بعض الحَطَب، وفي الليلة التالية بعض القَشِّ، وفي ليالٍ أخرى طويلة أشْعِلوا شموعًا وقناديلَ، فبددوا ظُلمة الليل بأنوارهم، ومَضَوْا يتجوَّلون ويتكاثرون، يضحكون ويبكون، يَمَلُّون ويَهنؤُون، يَسعدون ساعة ويَسْأَمون الليل كلَّه.

 

انتظَمَت الموجودات، فتعاقب ليلٌ وراءه نهارٌ، ونهارٌ بعده ليلٌ، صاروا ينظرون إلى الخندق، فيرونه سماء مُطبقة، رائقة الزُّرقة، مليئة بالغيوم أحيانًا أخرى، استكانوا إلى وَشْوشة الخريف للدُّروب العارية، وُعود وثَرْثرات عن الرجوع إلى البقعة المباركة، والهناء في رِحابها، وكلما انقادُوا لصوت، جاء غيرُه؛ حتى أنساهم الدَّأب ما يُنشدونه، وانْهَمكوا في تلبية نداءات القلب والرُّوح، فطمرت عوامل التَّعرية الرسمَ القديم، واندَثَرت الذكرى تحت الأقدام المُهَرْوِلة، وكلما برق الطريق العنقودي، استعادوا قليلاً من الذكرى، وسَرعان ما تُتْلفها الأوهام والأحلام، كلما صنَعوا جنَّتهم، واستَطابوا المُقام بها، دَنَت منها أجنحة السواد فدمَّرتها، وأشْعلوا بها نيرانًا فأحْرَقتها، ونَسُوا أنها جنَّتهم المُثلى ففارَقَتها، البساتين الغنَّاء، والطيور المُغرِّدة، والألوان المُبهجة، وعلا صوت الصَّخب والمُجون، وناحَت الغِربان.

 

حُلمهم اليوم بلا حدود، يَشرع في مَدِّ طريق عنقودي مُتَلألِئ من صُنع عقولهم المعقودة بحبال مَتينة مع جَنبات الكون، والمُتآلفة مع هَمْس الكائنات، عقولهم التي لَم يَستعصِ عليها شيء، فهبَّت تَلقُط معاريجَ الطريق المفقود، وتَصعد درجاته لاهِثةً.

 

ها هي الكائنات النورانيَّة تَبحث عن مَلجأٍ، تُوصِد الأبواب في قلقٍ، تتوجَّس هجومًا من أولئك الذين ألْقَت بهم في العَراء وسط الخندق، تَستغيث سائلةً النجاةَ، تَرجُم طارقي الأعتاب بشُهبٍ ثاقبة، بيد أنَّ الكائن الطيني لا يَرْعَوي أمام المستحيل، يَنفُذ نحو الأقطار مُتَحَدِّيًا ظافرًا، قائدًا زُمرتَه، فلم يَروا سوى نجومٍ وكواكب مُعلَّقة في طبقات سبعٍ، راحوا يبحثون عن جِنان الأمس التي طُرِدوا منها، عن الصوت الصَّدَّاح الغَرِد، عن جداول الأحلام، فما أبْصَروها، لَم يُصبهم شيءٌ من اليأس، بل سلَّطُوا إشعاعَهم، فتكشَّفت لهم أسطحٌ فيروزيَّة، ومرابع سُندسيَّة، شبيهة بربوعهم، مَطليَّة بالصمت، خاضُوا بداخلها، تمشَّوا على مَهَلٍ، فكانوا غرباءَ مُنْكَرِين وسط كائنات لا يَرونها، يَسيرون بينها، وقد غَشِيَتْهم حواجزُ: "أين الذين ألْقَوا بنا في العَراء بالأمس؟ أين الذين طَرَدونا من مرابعنا؟ ها نحن قد عُدنا، فليُعلنوا عن أنفسهم، فليَكشفوا سِتْرَهم".

 

الْتَحَم الشَّرْخ المميت، واختفى الخندق، والْتَصَقت طبقات الأرض؛ لتَنْبَسط نحو السماء، والْتَحَمت جزئيَّات الزمن في بَوْتَقة ذاكرة مُوحدة، توقَّف كلُّ شيءٍ عن الإلحاح؛ البطون والأجساد، والأشواق والأسقام، وإذا بالطريق العنقودي مُتلألئٌ مرة أخرى، حلَّ كالصاعقة، تسمرَّت الأحداق وذَهِلَتِ العيون، وعَلِقت به الأبصار، اليوم عبَروا الخندق، قفَزوا خلاله إلى تلك النجوم الساطعة، فتسامَروا في جَنباتها، وعلت قَهْقَهاتُهم في أَرْوِقتها.

 

دُهُوركم الطويلة لَم تكن سوى بارقة، ها هي منقوشة فوق السِّدرة العُليا بمِداد البحور والمحيطات، فأين أنتم منها؟ ظَنَنتُموها ممتدةً، وما بَقِيت سوى بُرهةٍ، ألن نعود إلى حياة الخندق؟





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • شهداء الخندق

مختارات من الشبكة

  • قصة غزوة الخندق(مقالة - موقع د. محمد منير الجنباز)
  • غزوة الخندق (الأحزاب)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • غزوة الخندق(مقالة - موقع د. محمد منير الجنباز)
  • دروس وعبر من غزوة: «الخندق» و «بني قريظة»(مقالة - موقع د. أمين بن عبدالله الشقاوي)
  • غزوة الخندق(مقالة - موقع د. أمين بن عبدالله الشقاوي)
  • خاتم النبيين (25) مواقف ودروس من غزوة الخندق(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خاتم النبيين (24) غزوة الخندق(مقالة - آفاق الشريعة)
  • دروس غزوة الخندق وبني قريظة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حديث: أصيب سعد يوم الخندق(مقالة - موقع الشيخ عبد القادر شيبة الحمد)
  • الحياء والعزة من دروس غزوة الخندق(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب