• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

نافذة للحزن وطاقة للأمل (قصة قصيرة)

نافذة للحزن وطاقة للأمل (قصة قصيرة)
مصطفى محمد الصوفي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 26/1/2012 ميلادي - 2/3/1433 هجري

الزيارات: 13339

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

نافذة للحزن وطاقة للأمل

(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

 

وجه الطَّبيب كان ذاهلاً، بينما كانت الطَّبيبة مُرتَبكةً أيضًا، وتتحدَّث بتردُّد وتلعْثُم، تُحاول جاهدةً أن تُخرِج الكلام مُتوازنًا خفيفًا ليِّنًا، يعبِّر عن المعنى بأقلِّ إثارةٍ مُمكنةٍ، وضِمْن حدودٍ معقولة حتَّى لا يُفسَّر، ولا يُؤوَّل بأنَّه آخِر الكلام أو نِهاية العالَم، فتُبقي قناةً ضيِّقة من الأمل مفتوحةً أمام الطَّرَف الآخَر.

 

حاولَ الطَّبيب أن يُساعدها في التَّعبير عن الحالة بالتَّحديد، دون زيادةٍ مُسيئة، ولا نقصانٍ لا يؤدِّي الغرَض، وكأنَّهما اتَّفقا على توزيع الأدوار والكلام بينهما.

 

رغم أنَّ ابتسامةَ الطَّبيبة الحلوة قبل أن تَدخل غرفة العمليات ما زالت مرسومةً على شفتَيْها، فإنَّها أصبحَتْ باهتةً قليلاً، بحيث لا يُميِّز الفرقَ بينهما سوى مَن عرَفَها جيِّدًا، والَّتي تعدُّ - تلك الابتسامة - جزءًا مِن شخصيتها المُحبَّبة الَّتي خبَرَها مَرْضاها وتعوَّدوها، وكانت طاقة تُمِدُّهم بالقوَّة، وتعينهم على تحمُّل آلامِهم ومُعاناتهم، ومَدْعاة لتفاؤلهم وحُبِّهم للحياة والأمل بالشِّفاء السريع.

 

كانت مفاجأةً لَم نتوقَّعْها، صدمَتْنا قليلاً، عندما فتَحْنا البطن، وجَدْنا الوضع غير عادي، شيءٌ غير معقول، فجمدنا، ولَم نعرف ماذا نفعل، ثُم ترَكْنا كلَّ شيءٍ على حاله.

 

فقط أخَذْنا خذعة بسيطة للتَّحليل، ثُم أعَدْنا خياطة الفتحة، بانتظار نتائج التَّحليل، وبعدها نعرف ماذا يُمكن أن نفعل، والباقي على الله.

 

لَم تَكُن الكلماتُ والعبارات قاسيةً جدًّا، وليستْ سيِّئة كثيرًا، ولا حتَّى ملامح الطَّبيبين وهُما يتحدَّثان تُنبئُ بِشَرٍّ داهم، ولكنَّها بالتأكيد ليست حسَنةً، إنَّما باختصارٍ كانت صادمةً مذهلة، تثير الحزن والكَآبة، وما حدَث كان كمَنْ دُعي إلى حفلةِ عرس، وجهَّزَ نَفْسَه لِهذا الموقف، وهناك يُفاجَأ بتحوُّل الفرح إلى مأتم، فيلجم الموقف قدرته على التصرُّف.

 

عند دخولنا إلى المَشْفى، أصرَّأحدُ الإخْوَة الكُرَماء إلاَّ أن يحتفل بِمُناسبة اجتماع الإخوة الثلاثة، والشقيقة السمينة ذات النَّظارات السَّميكة في الغرفة رقم سبعة في مستشفى الشِّفاء؛ فالأمُّ الكبيرة دخلَتْ وحدها غرفةَ العمليَّات لاستئصال الكُتلة اللِّيفية، هذا ما قالَتْه الطَّبيبة، فالعمليَّة بسيطةٌ، وسيتِمُّ استئصال الكتلة بسهولةٍ خلال ساعة، وبعد أن تفيق المريضةُ مِن المُخدِّر، وترتاح قليلاً ستَخْرج إلى البيت، وقد خلَّفَتْ وراءَها آلامها وأحزانَها.

 

هكذا كانت الصُّورة، وكان اجتماعُ الإخوة حدَثًا مهمًّا في هذا الزَّمان العسير الذي لَم يَعُد يلتقي فيه الإخوة والأصحاب إلاَّ في المناسبات الحَرِجة والصَّعبة والمرض والعزاء والفَرح.

 

هذا ما دَعا الشَّقيق أن يَحْتفي بِهذه المناسبة، فيغيب قليلاً، ثُم يعود مُحمَّلاً بأكياس النَّايلون السَّوداء، ويُفرِدها أمام إخوته، ويدعوهم إلى تناول الطَّعام.

 

لَم أستطِعْ أن أجلس، أو أهدأ منذ أن دخَلَتْ والدتي غرفة العمليَّات محمولةً على المحفَّة، ومحاطة بجمعٍ من الأطبَّاء والممرِّضات، ولَم تَغِب ابتسامتُها الباهتة عن ذهني الَّتي لَم أفهم منها معنًى سوى الحزن، والقلق والخوف، مَمْزوجة بفرحةٍ وأمَل بأنَّها باتت على مَشارف الخلاص من آلامها قريبًا.

 

وقفتُ مستندًا إلى جدار الغرفة رقم سبعة، وقد وضعت كفَّيَّ خلفي، واستغرقتُ في تأمُّل عميق، وصمْتٍ يلتهب بالهواجس المَجْهولة والخوف من نتائج غير متوقَّعة.

 

كان المستشفى مؤلَّفًا من طابقين، وفي الساعة الثامنة صباحًا عندما دخَلْنا كانت غرفة الاستعلامات خاليةً، فلم يستقبِلْنا أحد، أصدرتُ بعض الأصوات؛ لألفت انتباهَ أحدٍ ما، دون جدوى، حتَّى الغرف كانت مفتوحة الأبواب، خاليةً مِمَّا يُشير إلى عدَمِ وجود أيِّ نُزلاء فيها، والنَّوافذ مغلقة مُسدَلة السَّتائر، فتُخيِّم العتمة والسُّكون عليها، وتُعطي انطباعًا كأنَّها مَضارِبُ مهجورة حديثًا.

 

في الطَّابق الثاني استأنَسْنا بِحَركةِ فتاةٍ قصيرة مربوعة القامة، لا تُوحي هيئتُها أنَّها من عاملات المشفى اعترضتها، وسألتُها مستغرِبًا:

• هل المشفى مُغلَق أو مَهْجور؟ ما القصَّة؟

 

ابتسمَتْ بارتباكٍ وأجابت:

• لا، لا.. تفضَّلوا انتَظِروا في الصَّالة ستحضر الطَّبيبة قريبًا.

 

مع ذلك كان الهدوءُ المخيِّم لذيذَ الطَّعم، مميزًا يبعث على الرَّاحة والاطمِئْنان، ورغم أنَّ الانتظار مِن أصعب الأمور وأثقَلِها على النَّفْس لكن وقتها كان مقبولاً خفيفًا ومُحبَّبًا، بل كان وقتًا مكتسَبًا يتمنَّى المرءُ أن يَطُول قبل دخول المريض إلى غرفة العمليَّات.

 

اخترقَتْ جدارَ الصَّمت إحدى الممرِّضات النَّحيلات، دخلَتْ بكلِّ نزقٍ وعصبيَّة، وبدأَتْ تُجادل زميلتَها، وتُعبِّر عن احتجاجها لقطع استراحتها واستِدْعائها؛ بسبب سفر زميلتها، دون إنذارٍ مسبق.

 

كانت الممرِّضة الحسناء واقفةً بجانب الطَّاولة، وقد اشتعلَتْ مَلامِحُها بانفعالاتٍ غاضبة ثائرة، زادَها جَمالاً وتألُّقًا تشير بكِلْتا يدَيْها، بينما جلسَتْ زميلتاها، وقد رفَعَتا رأسيهما نحو الأعلى؛ لِيُتابعا عصبيَّة وتوتُّرَ زميلتِهما ويردَّان عليها ببعض الكلمات بِبُرودة أعصاب وهدوء؛ لتخفيف حدَّة توتُّرِها وثورتها دون جدوى.

 

أثار النِّقاشُ انتِباهي، وفكَّرتُ قليلاً إن كان من المُناسِب أن أُقحِم نَفْسي في هذا الجدل أم لا، وهل سيُفسِّرونه فضولاً لا مُبرِّر له، أم سيُرحِّبون به؟ لكنِّي حسَمْتُ تأمُّلاتِي وتساؤلاتي، وخطَوْت إلى قُربِهنَّ قليلاً في الوقت الذي رفعَتْ فيها المُمرِّضةُ الحَسْناء كأسَ المتة إلى شفتيها، وبدأت تمصُّ منه بشغفٍ ثم أنزلَتْه، وأرادت أن تتلفَّظ بكلمات، فقطعتُ عليها الطريق قائلاً:

 

• سيدتي اعذريني لتدخُّلي بينكم، يبدو أنك ممرضة جميلة، وتعملين في المشفى، لكن عصبيتك أقامت الدُّنيا ولَم تُقعِدها في المشفى، فأرجو أن تَهْدئي قليلاً، خاصَّة بعد أن شربت المتة التي هي في الأصل تُهدِّئ الأعصاب.

 

نظَرْن جميعهنَّ بدهشةٍ واستِغْراب، بينما اتَّسعَت حدقَتا عينَيِ الحسناء، وهي تُمْعِن النَّظر فِيَّ، وما لبثت أن ابتسمت مرغمة، فاختفَتْ علامات التوتُّر عن شفتيها، وقالت بلهجةٍ رقيقة:

 

• وهل كان يبدو عليَّ العصبيَّة والتوتُّر؟ إنِّي أُحاول أن أبدو هادئةً قدر الإمكان، رغم أنَّ الموضوع يثير الجنون، و(المتة) مهدِّئة، أليس كذلك؟ وأنا أشرب (المتة) الآن، انظر..

 

(ورفعَتْ مصاصة (المتة) إلى شفتَيْها، ومصَّت الماء بقوَّةٍ أفرغَتْ الكأسَ منها)..

 

انظر لقد هدأت، أليس كذلك؟

 

• جميلٌ أن تسكن ثورتُك، وتَتلاشى عصبيَّتُك، وتَخْتفي مَلامِحُ التوتُّر عن وجهك لتحلَّ مَحلَّها ملامِحُ جميلة رقيقة، وخاصَّة أنَّك ستُشاركين في إجراء عمليَّة والدتي بعد قليلٍ؛ فليس من المَعْقول أن تدخلي غرفة العمليَّات بهذا التوتُّر والتشنُّج، أليس كذلك؟

 

ساد بعضُ الصَّمت، ودارَت المُمرِّضة ارتباكَها، وبقايا عصبيَّتِها وراء شربة (المتة)، وحاولَتْ جهدَها أن تُظهر ابتسامتَها الجميلة.

 

انتهزت الفُرصة، فانسحبَتْ بكلِّ ثقة لأواجه أمامي أنظارَ إخوتي تُحْدق بي مُستغرِبين مدهوشين، بينما الأختُ ذات النظَّارات السَّميكة كانت تُقَرقِع بضحكةٍ خبيثة، وتقول:

 

• (نعم شفتك... عمَّا تعاكس الممرضة؟ بكرة لعند أم..)..

 

لَم يمرَّ وقت طويل حتَّى كانت والدتي تدخل غرفة العمليَّات، فأوقفت الممرضة الحسناء، وهَمستُ لها متسائلاً:

• إن كانت ما زالت عصبيَّة المزاج أم لا؟

 

ضحكت بابتسامةٍ عريضة، وأجابت:

• بعدما رأيت أمَّك ذهبَ عنِّي كلُّ الهم والغم، لا تخَفْ.

 

كانت قد ابتعدَتْ عنِّي عندما أجبتُها بابتسامة حميميَّة، نبعَتْ من الأعماق حملتها إياها إلى غرفة العمليات.

 

قام أحَدُهم بوضع طاولةٍ في الوسط، بينما أخذَ آخَرُ بفتح الأكياس، وإخراج ما فيها، والثَّالث كان جائعًا، فاستعجل الأكل وهو يضَعُه على الطَّاولة، بينما كنتُ جامدًا أحدِّثُ نفسي إن كنت سآكل أم لا، وأُتَمتِم مع نفسي: أليس مِن المستحسَن لو انتظروا قليلاً حتَّى تنتهي العمليَّة ونطمئِنَّ، بينما الأختُ ذات النظَّارات السَّميكة كانت تَضْحك، وتُتَمتِم وهي تمدُّ يدَها إلى الطَّعام:

 

• الله يرزقك يا أخي، صار لنا زمان لَم نذق فيه اللَّحم المشوي.

 

لَم تكمل كلامها حتَّى دخل الطَّبيبان بتقريرِهِما الغامض الذي لا ينبئ بخير، لكنَّه لَم يكن شَرًّا، ولا يفصل بين الفرح والعزاء سوى لحظاتِ تحوُّل، وهذه اللَّحظات قد تكون مائعةً لا تستطيع أن تعرف حقيقة مشاعرك في أيِّ جهة تقف.

 

خيَّم الوجومُ المُطْبِق، وسقطَتْ لقم الطَّعام من الأيدي، وسيطَرَت الحيرة والارتباك على الجميع، ومِن نافذة الصَّمت المريع تسلَّلتُ منسحبًا بخطوات متعثِّرة ثقيلة، والتجَأْت إلى شرفةٍ مطلَّة على باحةٍ داخليَّة، وشعرت بنسماتٍ باردة تلفح حرارةَ وجهي، فغطَّيته بِكَفّي، وواريتُ دموعي التي انْهمرَتْ غزيرةً في نَوبةِ بكاء مكبوت التي ضايقَتْني أكثر؛ لأنَّنيلَم أستَطِع أن أُطْلِق لها العنان، وعندما شعرتُ بالانفراج كفَفْتُه، ومسحتُ دموعي، وأعدت ترتيب هندامي وشعري قليلاً، ورسَمتُ ابتسامة مصطنعةً على شفَتي، وصعدت إلى الغرفة رقم سبعة.

 

كان مجرَّد أخذ الخذعة، وطلب تحليلها يعني لي الكثيرَ، أثار قشعريرة باردة سرَتْ كموجةٍ عنيفة في أوصالي من مقدِّمة رأسي، وحتَّى أخمص قدمي، ومع بقايا منَ الأمل والترقُّب الذي يَحْتاج إلى طاقة هائلة على الصبر والثبات لتطويره ونُموِّه.

 

لَملم الأخُ أشْلاء احتفائه المتسرِّع، وغادَرْنا إلى المختبَر، بينما لَمْلمنا أحزاننا، وجمَعْنا حوائجنا، وخرَجْنا في موكبٍ جنائزي مع بعض المُحاولات لاصطناع المرح والتَّفاؤل في أدنى حالاته.

 

قبل الموعد بنصف السَّاعة، كنتُ في طريقي إلى المخبر، أسيرُ بين الناس دون أن أشعر بأحدٍ رغم الازدحام في الشَّارع، كأنني متَّجِه وحدي إلى عالَم مجهول أحمل هُمومه على عاتقي، وتَعْتَلِج في أعماق نفسي كلُّ المشاعر والانفعالات المتنوِّعة التي كانت تغلي وتفور، ولَم أستطع أن أمنع قطرات دمعي تسيل حارَّة على خدي، فاضْطُرِرت مرَّات عديدةً أن أتنحَّى جانبًا، ريثَما تجفُّ، وكم شعرتُ بالندم؛ لأنني تنطَّحت لمهمَّة إحضار التَّحليل بنفسي، ولَم أترك هذه المهمَّة لأخي.

 

كنتُ أشعر أنَّني الأخ الأكبر وصاحب القلب الحديديِّ الذي يتحمَّل أقسى المصائب، وأصعب المواقف دون أن تَخْتلج في أعماقي مشاعر الرِّقة والليونة بعد أن جبلتها الأيام ونوائب الدَّهر، فاعتدَتْ عليها وكأنَّها أصبحت جزءًا من حياتي، لكنِّي اكتشفتُ في تلك اللحظات كم كنت ضعيفًا رقيقًا تَعْصِفني النَّوائب بسهولة.

 

كان عليَّ أن أتلقَّى الصدمة الأولى، ثُم أتحمَّلها وأمتصُّها وأبتَلِع الحزن، ثم أجلس هادئًا، وأفكِّر بعمقٍ وعقلانيَّة؛ لأتَّخذ قرارًا ما وحدي، وأترك والدي وإخوتي بعيدين عن الصُّورة المُحزنة وحالة الرُّعب التي ستُعشِّش في رأسي وتفرخ، ورُبَّما تَموت دون أن يدري بِها أحَد، ثُمَّ أنقل لهم بدلاً منها صورةً ضبابيَّة قاتِمة تَحْمل بعض ملامح الواقع والحقيقة والوهم.

 

رغم أنَّني كنتُ على معرفة تامَّة بالحقيقة إلاَّ أنَّ نتيجة التَّحليل كانت تحمل مَعالِم الفارق بين المعرفة والعلم، وبين الدَّليل القطعيِّ والدليل الظنِّي، وهو فارقٌ رغم دقَّتِه ونحافته يبقى مليئًا بالأمل والرَّجاء والتضرُّع.

 

طلب الطبيبُ المُحلِّل أن أعود بعد نصف الساعة، وبالكاد كنتُ أضبط دموعي أمامه، فالتجأت إلى جامع الدالاتي القريب؛ لأمضي فيه اللَّحظات الأخيرة قبل أن تنكشف الحقيقة، ولَم تتوَقَّف دموعي وأنا أُناجي ربِّي، وأدعو من قلبي؛ فأنا مؤمنٌ بقضاء الله وقدَرِه، وأسلم له الأمر، ولكنَّ الأمر قاسٍ وصعبٌ وشديد الوطأة، حتَّى التحمُّل يحتاج إلى معونةٍ إلهيَّة، فلم أتمكَّن من المضيِّ في الصَّلاة بعد أن غلبَنِي البكاء، فركنتُ جانبًا، أحاول أن أستمِدَّ بعض القوَّة والهدوء، وأنا أقرأ في كتاب الله تعالى الذي لجم نفسي وأوصالي عن الارتعاش والقلق، وأخيرًا تحامَلتُ على نفسي، وعُدت إلى المُحلِّل بابتسامة مصطَنَعة، متسلِّحًا ببعض الهدوء والقوَّة، ففاجأنِي بكلِّ هدوء وابتسامة طبيعيَّة يبدو أنَّه تعوَّدَها:

 

• أنت طبعًا تعرف حقيقة الأمر، أليس كذلك؟

 

أجبتُه بسرعة: نعَم طبيب، هات ما عندك، ولا تخفي عنِّي شيئًا أيضًا.

 

• الحقيقة الوضع سيِّئ جدًّا، والحالة متقدِّمة، ويبدو أنَّها لَم يَعُد ينفع معها الجِراحة، على أيَّة حال يجب أن تراجع الجراح، وتقف على رأيه.

 

كان الطَّريق طويلاً لَم يصل معي إلى نهايته، وكنت أتفادى النَّاس، وأمرُّ في الشوارع الجانبيَّة حتَّى لا ألتَقِيَ بأحدٍ أعرفُه ويعرفني، ويلحظ عينَيَّ المُغرَورقتَيْن.

 

كان من الضروريِّ أن أكتم الحقيقة الكاملة مبدئيًّا عن الجميع، وهذه من أصعب الأمور وأثقلها على النَّفس؛ أن تتحمَّل كلَّ الحزن والأَسى وحدك، ولا تَجِد لديك نصيرًا ومعينًا ومشاركًا لك في آلامك وأحزانك.

 

كلُّ الطرقات وكل الدُّروب كانت تؤدِّي إلى البيت، لكنِّي لَم أكن في ذلك الوقت وتلك اللحظات صاحبَ قرارٍ في أيِّ شيء، ولا باختيار الطَّريق، بل كنتُ متيقِّنًا بأنَّ الأقدار هي التي رسَمَت لي الطَّريق، وما عليَّ سوى أن أستَسْلِم لها وأُحرِّك قدميَّ، وهي التي تمشي وتُحرِّكني وتقرِّبني من أهداف وغايات ونهايات أيضًا لَم يكن لي خيارٌ في تَحْديدها.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • درس في الصرامة والإنصاف (قصة قصيرة)

مختارات من الشبكة

  • أغلق نافذة الخريف وافتح نافذة الربيع؛ فإنه قادم(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • النوافذ الاقتصادية (ستون نافذة اقتصادية على العالم المعاصر) (WORD)(كتاب - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • النوافذ الاقتصادية: "ستون نافذة اقتصادية على العالم المعاصر" (WORD)(كتاب - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • النوافذ الاقتصادية "ستون نافذة اقتصادية على العالم المعاصر" (PDF)(كتاب - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • نوافذ أم شرفات؟ ( قصص قصيرة جدا )(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الحزن والضيق، وعلاجه في ديوان (جولة في عربات الحزن) للدكتور عبد الرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • التلبينة طعام مذهب للحزن(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • النافذة وثلاث عيون (قصة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • النافذة (قصة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • حياة خلف النافذة ( قصة )(مقالة - حضارة الكلمة)

 


تعليقات الزوار
2- نافدة الحزن وطاقة الالم
عصام الحسكة - سوريا 13-02-2012 11:58 PM

علينا التحلي بالأمل والتفاؤل والصبر رغم الألم فينا ؟ وأتمنى لك المزيد من الكتابة لأننا بحاجة إلى كتاباتك وشكرا

1- نافذة الحزن وطاقة الالم
moyasser - الجزائر 12-02-2012 03:08 AM

اتمنى لك النجاح يا أستاذ مصطفى لأن قصصك دائما رائعة

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب