• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

مصابيح النهار

مصابيح النهار
محمد فطومي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 23/1/2012 ميلادي - 28/2/1433 هجري

الزيارات: 9877

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مصابيح النهار

(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

 

نهار جديد..

 

إنَّه النَّهار..

 

إنَّ أجمل مخلوق في الدُّنيا هو نهار النَّاس!

 

عبر شقوق النَّافذة تكسَّرَ شعاعٌ نُحاسيّ، وخُيِّل إليَّ وأنا أُميط الغطاء عنِّي بأنِّي أغطس في الماء؛ لشدَّة برودة البيت.

 

بتُّ مرَّةً دون غطاءٍ في الشِّتاء حين كنت طالبًا، وبإمكاني القول بأنَّها لم تكن تجربة سيِّئة للغاية؛ لا لأنِّي لم أجد نفسي مضطرًّا إلى الخروج من فراشٍ دافئ كما الآن، أو لأنِّي لم أتكبَّدْ عناء ارتداء مَلابسي، بل لأنِّي تخلَّيت بعدها نهائيًّا عن طَور فكريٍّ غريب، وربَّما خطير أيضًا، وأقرَرْت بأنِّي كنتُ مشعوِذًا على نحوٍ ما؛ كنت دائمًا أعتقد بأنَّ هناك رعايةً تحفُّني، وتجعل من المآزق التي تصادفني مجرَّدَ دعابات، تزول من تلقاء نفسها قبل أن تُصبح ورطة بمعنى الكلمة، وأنَّ كلَّ ما عليَّ فعله في المقابل - كي لا تغادرني - هو أن أنتَحِل بصدقٍ دورَ من يتلقَّى التَّوبيخ الذي يسبق الصَّفح، وأن لا أُبدي بشأن المأزق ما يوحي باستخفافٍ أو سُخرية، أو ثقةٍ كبيرة في الخلاص.

 

كانت رياضةً فرديَّة، وكنت إذْ ذاك طالبًا بأحداقٍ ملتهِبة، رتَّبت أثاثي القليل في البيت الذي أجَّرتُه، وخرجت أتجوَّل في المدينة، كنت أَعرف أنِّي لا أملك أغطية، مع ذلك تخاذلتُ في تدبير الأمر، كنت منهَكًا جدًّا، والحيُّ سابحٌ بعدُ في البكم، طرقتُ باب السيِّدة صاحبة البيت، كانت غايةً في اللُّطف معي، طلبتُ منها بحياءٍ أن تُعيرني غطاءً أُعيده لها في الغد، فسكتَتْ قليلاً وقالت: لا يمكنني، قدَّمت لها اعتذاري فورًا، دون أن أتعجَّب، وقلت: "أفهم.. تصبحين على خير".

 

كانت على قدرٍ كبير من الوقار والجاذبيَّة، حتَّى إنِّي تصرَّفتُ لحظتها بلباقة مُبالَغة، كأنَّ قضاء ليلة دون غطاء أمرٌ هيِّن، كنتُ على يقين تامٍّ بأنِّي تسبَّبتُ لها في مأزقٍ أكبر من الذي ينتظرني.

 

في اليوم التَّالي استوقفَني شابٌّ عرَّف نفسه على أنَّه ابنُها، كان مُحرَجًا، وقال بأنَّ أمَّه طيِّبة وكريمة، لكنَّها لا تُعطي شيئًا إذا طُلب منها، وقال: "هذا مبدَؤُها في الحياة، أرجو ألاَّ تغضب.. في النِّهاية لكلٍّ منَّا مبدأٌ في حياته".

 

نمتُ ليلتَها بشكلٍ متعثِّر، وحين استيقظتُ بدا لي كأنِّي عائدٌ للتوِّ من قاعة انتظارٍ مكتظَّة بالنَّاس، وفسيحةٍ كسوق، ولأنِّي فهمتُ أنْ لا أمل لي في قضاء شأني؛ أجَّلتُه.

 

كانت ليلة الصَّقيع ليلتي الأولى خارج المبيت الجامعيِّ، لم يكن يحقُّ لغير الدستوريِّين من الطَّلبة وقتَها أن يحصلوا على غرفةٍ خلال العامَيْن الأخيرَين، كانوا في نظَري مخلِصين للنِّظام بالفطرة، بل ذهبتُ أكثر من ذلك، واعتبرتُهم أجسامًا كاريكاتيريَّة مثلَّثةَ الأبعاد، لا علاقة لها بالبشر!

 

كان يُسمح لهم بدخول مطعم الأساتذة، وكانوا يعلِّقون طيلة أيَّام الأسبوع ورقةً مختلفة، في كلِّ مرَّة يُكتب عليها عنوانٌ لشريطِ حربٍ مشهور جدًّا، بخطٍّ رديء يُشبِه إلى حدٍّ محيِّر ذاك الذي تُكتب به في كلِّ ناحيةٍ من البلاد عبارةُ "للكراء"، أو الذي يُكتب به على جدران (الورشات): "كهرباء السيَّارات"، وما تبعها.. مساء الأربعاء كانوا يَعرضون شريطًا إباحيًّا، وأحيانًا كانوا بالفعل يعرضون العنوان المدوَّن في الورقة، وتعلَّمت بعد مدَّة أنَّ الدَّائرة الصَّغيرة المشطوبة المرسومة أسفل الورقة، هي التي تَصنع الفرق.

 

كنت آنذاك شابًّا حيًّا مفعمًا بهواجس الفنِّ والجمال، والحرارة والإنسان، وكان لي مع الناس نهار، كنت قلبًا.

 

واليوم حوَّلني عملي إلى ثعلب، يجرُّ فخَّه أينما ذهَب، وخلسةً عن حواسِّي رحتُ أساعدهم على تصبيري مقطّعًا؛ أملاً في واقعٍ أكثر أُلفة، واقعٍ فيه الألفة.

 

الخوف من فقدان المورد وانعدامِ البدائل أيضًا سرقَ زمنًا طويلاً من عمري، كنت دائمًا أتطلَّع بصمتٍ إلى ما أريد، أو بالأحْرى لما خلَّفت ورائي وأنا أبذِّر كلَّ النُّور في بنايةٍ معزولة بأرض مهجورةٍ ونائية، خارج العمارة والتَّقويم، ولا أفعل شيئًا في الأخير.

 

كان مَنبت المشاتل وأشجار الغابات وسط المدينة؛ حيث أُقيم مع أهلي، وإدارة المنبت خارجَها.. استأجرتُ شقَّة منذ فترة قصيرة؛ لأرتِّب للزَّواج، وظيفتي تتلخَّص في فوترة المبيعات، والحرص على ألاَّ يتجاوز المبلغ المدوَّن بالخانة السَّادسة من الصَّفحة الثَّانية ما هو مدوَّن بالمستطيل الأخير من الصَّفحة الرَّابعة، كما أنَّ عليَّ تذكيرَ المدير بِمُعرِّفنا الجِبائيِّ كلَّ ثلاثة هواتف يتلقَّاها، والخروج من مكتبي برهةً؛ حتَّى ينقشع الصَّمت الثَّقيل الذي يلي الكذبة التي يقولها لزوجته بصوتٍ مرتفع يسمعه الجميع، وأنْ أُقابل متعته في تكديس الوصولات على طاولتي بمتعةٍ أكبر، وأنا أستلمها.

 

كان همُّه الوحيد أن نعمل كالبِغال من غير تمرُّد، أو كلَل، كان يقبض راتبه الشَّهريَّ مقابل أن يُربِّينا على تلميع صورته أمام رؤسائه، من أجل ذلك؛ اشتغل باجتهادٍ ووقاحةٍ على أن يَزرع في عقولنا جملةً من الثَّوابت التي من شأنها أن تجعلنا نسعى بأنفسنا إلى تخمين ما قد ينجرُّ عن مخالفتها، ولا تكلِّفه - في الآنِ نفْسِه - مشقَّةَ متابعةِ كلِّ التَّفاصيل.

 

الطَّريقة بسيطة: مرَّة كلَّ شهر يتَّخذ أمرًا تافهًا جدًّا، ويحقِّق معنا فيه بإسهابٍ شديد، ويثير حوله ضجَّة كبرى، ولا ينفكُّ يستفسِر ويُدقِّق، حتَّى يَشعر بأنَّنا بدأنا نقول في أنفسنا: "ماذا لو كان الأمر ذا بالٍ إذًا؟"، ثمَّ إنَّه - وهذا أهمُّ - لم يكن يفوِّت فرصةً يجدها ملائمةً لِيُظهر لنا عنادًا خرافيًّا في مسألة بديهيَّة ورجَّحتُ أنَّه يدرِّبنا على الإطالة في الشَّرح كلَّما اقتضَت الحاجةُ النِّقاش.. في العمل طبعًا؛ لأنَّ كلَّ شيء خارج العمل كان يسمِّيه "كلام كتب".

 

فيما يتعلَّق بمهنتي؛ لم أكن ألتقي أحدًا من الحُرَفاء، أو أتخيَّل شكل الشُّجيرات التي أُخالِط أسماءها يوميًّا على الورق.

 

واليوم هو الاثنين، وقرَّرت عدم الذَّهاب..

 

لم يكن لديَّ ما يملأ كأسَ حليب؛ لذا زِدتُه القليل من الماء، وصنعت قهوة، لمَّا أضفتُ البُنَّ صعدَتْ إليَّ الرَّائحة الصَّباحيَّة لمطبخِ جدَّتي، عندما كانت تجتمع عندها عائلتُنا وعائلة خالي أيَّام العطل المدرسيَّة، كنت دائمًا أتساءل: لِمَ تنبعث من قهوتها رائحةٌ لا أشَمُّها في بيتنا؟

 

ثمَّ خرجتُ باتِّجاه المحطَّة، في العادةِ أستقلُّ سيَّارةً غير بعيد عن شقَّتي، عليها خطٌّ أصفر عريض؛ للدَّلالة على أنَّها مخوَّلة لِتُقلَّ الرُّكَّاب إلى أيِّ مكان مقفِر.

 

اليوم هو الاثنين، ولقد خطر لي أن أتجوَّل في كلِّ مكان.

 

كنت بالفعل أنوي قطْعَ الطَّريق، وكانت هناك شاحنةٌ عملاقة رابضة على الجانب الأيسر، كنت أَسير باتِّجاهها دون أن أنتبِه إلى وجودها؛ فقد تعلَّق بصَري برسمٍ متداخِل، يَطْغى عليه لونٌ أزرق مائع، لم أعهده - من سنين خَلتْ - على جدار المحطَّة في الجانب الآخر، ولمَّا انطلقت حالَمَا حِدتُ عليها، وصار بإمكاني أن أرى عجلاتها الضَّخمة تدور قربي ببطء، عرفتُ أنَّ سائقها كان ينتظرُ استفاقتي من شرودي البريء، أو من انبهاري المفضوح بالفتاة التي مرَّت مصادفةً عند مستوى الرَّسم آنذاك، ذاك شأنه، ولستُ أدري كيف فسَّر الرَّجل غيابي، وتملَّكني للحظةٍ شعورٌ بالخجل، وفكَّرت بأنَّه إمَّا أن يكون قد نعتني بالمريض، أو أن يكون قد ضمَّني بصمتٍ إلى قائمة عراقيل المرور.

 

يجب أن أربِّي نفسي منذ هذه اللَّحظة على قناعةٍ جديدة؛ وهي أنِّي - خلافًا لما كنت أعتقد في السَّابق - لست مصروفًا على إيذاء النَّاس، ولو بغير قصد، سأُخطئ بالضَّرورة، في كلِّ الأحوال لا بدَّ أنِّي أزعجتُه على نحوٍ ما، كان بإمكانه أن يوقظني بصوت المنبِّه على الأقلِّ؛ كي لا أَصطدم بمقدِّمة الشَّاحنة، لكنَّه لم يفعل، ربَّما لو فعل لأتاح لي فرصةَ الاعتذار بابتسامةٍ خفيفة، وحركةٍ أنيقة ومدنيَّة من يدي؛ كتلك الإشارات المعدنيَّة التي يتبادَلُها سكَّان الشَّوارع المزدحمة، وسمَّيتهم سكَّان الحياة المنسابة، كما ينبغي لنا جميعًا أن نعيشها، ربَّما بدا الاسم طويلاً، لكنَّه يناسبني، ولا أجد مبرِّرًا واحدًا يجعلني أسعى لتزويقه، ثمَّ إنِّي لم أبتكِرْه للمناداة، وحكايتي فوق كلِّ ذلك تافهة، ولن يكترث لها غيري.

 

كم كنتُ سأُتقِن تلك الإشارات التي يُلوِّحون بها كنوعٍ من الشَّكوى غير المعلَنة من جرَّاء ضغط المشاغل وجنونها! في النِّهاية نحن نقول لبعضنا بأنَّنا أصِحَّاء عقليًّا، وأنَّ الأشياء طبيعيَّة ومُرضيةٌ للغاية، ورافَقني الحدثُ حتَّى اتَّخذت مكانًا بالحافلة، لو أنِّي استسلمتُ للتَّحليل الذي بدأ فعلاً يتسلَّسل في ذهني لاعتبرتُه فشلاً في أوَّل اختبار حقيقيٍّ لي كفردٍ جدير بضوء النَّهار؛ مثله مثل أيِّ مخبول شبعان بالنُّور والأنس، أو أيِّ قطٍّ باستطاعته أن يتمسَّح - بحرِّيَّة ودون شرطٍ - بجدران الأزِقَّة، وطاولات الحانات، أو أيِّ كائن من هؤلاء الذين بإمكانهم أن يَقتطعوا بعض الوقت؛ ليمشوا قليلاً تحت ظلِّ بنايةٍ، أو يتَّفقوا مع بنَّائيهم في عجالةٍ على أمر ما، أو يجدهم أبناؤُهم بانتظارهم خارجَ مَدارسهم، أو يحتسوا قهوةً لدقائق داخل مقهًى فيه دفءُ الأنفاس والحكايات، أو يشتروا بعض الأغراض الهامَّة، أو يستجيبوا على مضضٍ - وإن يكن - لإلحاحِ صديق، همُّه الوحيد أن يُخبر النَّاس بآخر اكتشافاته، أو أن يستلموا معاطفهم من الغسيل، ثمَّ ما يضرُّ لو مرُّوا ببيوتهم بسرعة؛ لِيَروا ما إذا كانت زوجاتُهم قد سدَّت شقوق الأبواب بالخرق؛ كي لا يَسيح ماء المطر إلى الدَّاخل؟! أو كأولئك الذين لن يخرب العالم لو أنَّهم تركوا أعمالهم برهةً؛ لِيُلقوا نظرةً على أحد الأقارب بالمستشفى، ويَملؤوا بالمرَّة رئاتِهم برائحة الياسمين المتدلِّي من أسوار المنازل، ثمَّ إنَّ باستطاعة الموظَّفين (الشَّاطرين) أن يتفقَّدوا دكاكينهم متَى شاؤوا.

 

حين تشتدُّ بي حالة الشُّعور بالإقصاء، أحدِّث نفسي بأنَّ حظوظهم اصطناعيَّة، ويجهلون أنَّهم في نعيمٍ شامل وأنَّهم أيضًا مُعرَّضون للخيبة والغربة، وقد تَطْرأ على تفاصيلهم بعضُ المنغِّصات، عكسَ ما أرادوا، تمامًا كما حصل معي منذ قليل..

 

ونسيتُ الأمر، ورحتُ أراقب بارتيابٍ سلوكَ المرأة الجالسةِ أمامي، كانت طوال الوقت تَنظر إلى الخارج عبر نافذة الصفِّ الآخَر، حيث الكراسي شاغرةٌ تقريبًا؛ لأنَّها ستكون مُواجِهةً للشَّمس عند استدارة الحافلة، وفهمتُ بأنَّها تكتفي بوضعي داخل حيِّزها البصَريِّ؛ كي لا تحدق بي مباشرة، ولأنَّ صورتي لم تتَشكَّل لديها فقد استلزم منها الأمرُ أن تُكثِر من الالتفات!

 

ثمَّ توقَّفنا في منطقةٍ قاحلة، وصعد شرطيٌّ، واقتادها بهدوءٍ إلى الخارج مكتفيًا بحركةٍ من رأسه، لم تُقاوِم، ولم تتفوَّه بكلمة، انحازت إلى اليمين وهي جالسة، ثمَّ وقفَتْ، وساعدتُها في تخليص ثوبها الذي علق بذراع الكرسيِّ المتدلِّي، ولم تنتبَّه إلى أنَّه كان عالقًا، وندمت، وفكَّرت بأنِّي سهَّلتُ بقسطٍ عمليَّة القبض عليها، كانت امرأةً ولا شيء فوق ذلك؛ أيْ: إنَّها لم تكن تَملك من الملامح سوى ما يجعل النَّاس لا يَشكُّون بأنَّها رجل! حين نَزَلَتْ أمكنَني أن أراها جيِّدًا.

 

حادثة كهذه لا معنى لها في عيون سُكَّان الحياة؛ أعني الحياة المُنسابة كما ينبغي للإنسان أن يَعيشها، لكنَّها تعني لي الكثير؛ بوصفي غائبًا عنها كلِّيًّا وبصورةٍ دائمة.

 

وصَلْنا.. أكمام معطفي طويلة، وتكاد تغطِّي راحة يديَّ، ليس هناك ما يمكن فعلُه لليد التي أمسك بها المحفظة، أمَّا الأخرى فقد خبَّأتُها في جيبِي، وسائلُ النَّقل تجعلني أزدرد المشاهد بسرعة، فلا يَعْلق منها في مخيَّلتي الجائعة سوى وميض الألوان؛ لذا قرَّرت أن أترجَّل.

 

أغلب الباعة على الرَّصيف مُلْتحون، وقفتُ أمام بائعِ كتب مستعمَلة، تناولتُ كتابًا، وقرأتُه من الخلف، قال: "أحسنتَ الاختيار.. قصَّة ممتازة"، تصفَّحتُه من الدَّاخل وعرفتُ بأنَّه قال ذلك؛ لأنَّ كثيرًا من المقاطع سُطِّرت بقلم الرَّصاص، وضعتُه جانبًا، وهممتُ بالانصراف، لكنَّ كُمَّ المعطف جرَّ معه بعض الكتب، فعدَّلتها أفضل ممَّا كانت.

 

ثمَّ خطر لي أن أتناول فطيرة، دخلتُ إلى محلٍّ قرب محطَّة القطارات، كانت أمامي امرأة تلبس زيَّ منظِّفات الشَّوارع، وكانت تمسك بمكنسة بسر، أشارت لصاحب المحلِّ بثلاث أصابع، فقال: "ثلاث فطائر؟"، أومأَتْ برأسها، ثمَّ أصدرت صوتًا كالعواء دون إشارةٍ من يدها، فقالتْ: "بالبيض".

 

إنَّها العاشرة صباحًا، من المفترض الآن أن أكون في المكتب بين الأوراق، ومن المفترض أيضًا أن أكون قد استخدمتُ آلة شدِّ الأوراق خمسين مرَّة على الأقلِّ، جلستُ في حديقةٍ عامَّة، كم هو بشع أن ترى تجهيزات النَّافورة مكشوفة دون ماء!

 

مرَّ من أمامي بائعُ ذُرَة، يدفع عربة، كان بإمكاني أن أسمع صوتَ فرقعتها داخل الصُّندوق الزُّجاجيِّ المغلق، رغم الضَّوضاء التي كان يُحْدِثها شُبَّان بحقائب وأزياء رياضيَّة، واشتريتُ منه كيسًا، وخطر لي أن أُرافقه بعض الوقت، وشقَّ عليَّ الاقتراح، خشيتُ أن يرتاب من أمري، فجأةً قال بهدوء: "يقولون بأنَّها قد سحرَتْه، أتدري لماذا؟" لم أفهم قصده، لكنِّي أحسست أنَّها فرصة مناسبة لأتعلَّل بأهمِّيَّة الموضوع؛ حتَّى يأتي ما يفرِّقنا، وواصل دون أن يسمع إجابة:

 

"حسن؛ لأنِّي لا أعرف بالضَّبط قصَّة حياته، أو ماذا أخذَ معه، وماذا ترك؟ ولا ماذا ينوي أن يفعل.. هل فهمت؟".

 

قلت: "صحيح".

 

قال: "حبوب لعينة، أنا دائمًا هكذا، يوميًّا أرمي في جوفي حبَّتين؛ كي لا يتعب رأسي".

 

وباستطاعتي القول بأنِّي نجحتُ في ترويضه؛ ليسمح لي بمرافقته أينما اتَّجه، خبَّأت محفظتي في درجٍ أسفل العربة، وسِرْنا.. في الأثناء تعلَّمت متى يُطفأ الموقد الصَّغير، ومتى يوقد، ومقادير الذُّرة والزَّيت والملح التي عليه إضافتُها في كلِّ مرَّة، ومرَّت جنازةٌ في الشَّارع الآخر، فلحقنا بها، وتداولنا على المشي خطوات خلفها، لم أكن لأفعل؛ حرصُه جعلَني أُبدي حرصًا أكبر؛ لذا فقد سبَقَني، وأثناء غيابه بعتُ كيسين لطفلين صغيرين بمآزِرَ زرقاء، كانا يَحملان على ظهرَيْهما حقائبَ عليها آثارُ الجير، ودفعتُ الثَّمن عنهما، كنت مأخوذًا بنشوة النَّهار، لم أندم حتَّى تلك اللَّحظة على شيء.

 

لي صديقٌ هاجر من سنين إلى المجر، وانقطعَتْ أخباره عنِّي، كان يقول: "إنَّ أكبر وأرقَّ كلمة حبٍّ يمكن أن يقولها رجلٌ لامرأة تأتي بعد الزَّواج حين يقول لها: (أنتِ كما توقَّعتُ)، وما عدا ذلك هراء"، لم أندم، كان النَّهار آسِرًا ولذيذًا كما توقَّعت.

 

ثمَّ عاد رفيق النَّهار، وأخبرني بأنَّ علينا أن نُسرع قليلاً؛ كي لا نتخلَّف عن موعد خروج طلاَّب المعاهد، ورنَّ هاتفه النقَّال، ولم يكترث، كانت الرنَّة تشبه الموسيقا التي ترافق الجياد الدوَّارة في مدينة الملاهي.

 

عند الواحدة رَكنَّا العربة أمام مطعم صغير، وتناوَلْنا الغداء، حين بدأ عمَّال المصانع يفدون، صرتُ أسمع أكثر كلمة: "بدون" تَعْقب الطَّلبات: أرزٌّ بدون - مرق بدون...

 

بعد قليل توقَّفتْ درَّاجة، وهبط منها رجل ضخم، دخل مرتديًا الخوذة، حين وصل إلى فتحة المطبخ سأل:

• شوشو، هل حقًّا شتمت سيدي حامدًا؟

 

سمعت صوتًا من الدَّاخل يقول: "لا".

 

واستدار الرَّجل، ورحل.

 

وحين خرجنا، لبس رفيقي معطفي؛ كي لا تحترق الأكمام، وسُقت العربة، وقمت بما يلزم بمفردي، مع قليلٍ من التَّوجيه الضَّروريِّ، طُفْنا لساعتين، ورَويت له عن ليلة الصَّقيع، وعن أشياء أخرى، وعن أبي البستانيِّ القديم، وكيف تخلَّى الأسبوع الماضي عن عادة ريِّ نباته حوضًا بعد آخر، بعدما قام بأوَّل تجربة لإغراقها بالماء جميعًا دفعة واحدة.

 

ولمَّا وقفنا في المنعطف المؤدِّي إلى شارع المستشفيات، عرفتُ أنَّنا ننصب كمينًا للأطفال المرضى، وحدَّثني عن كلبهم الضحَّاك، قال: إنَّه دائمًا يضحك، إذا أكل يضحك، وإذا جاع يضحك، يضحك لنا وللغرباء وللسَّارق على حدٍّ سواء، يضحك إذا مرَّت جنازةٌ ويَضحك إذا مرَّ به موكبُ عرس، تحت المطر يضحك، وتحت الشَّمس الحارقة يضحك، قبل أن تدهسه عربة يجرُّها حصان ويموت، كان يضحك، لم نَرْمِه كما تُرمى الكلاب، ذاك الكلب بالذَّات حفَرْنا له، ودفنَّاه.

 

ثمَّ أخذتُ محفظتي، وارتديت معطفي، وافترقنا، قال قبل أن أتخطَّى مجال صوته العاديِّ: أين أجِدُك غدًا؟ وخزَتْني العبارة قليلاً، وقلتُ: في نفس المكان.

 

كان عليَّ أن أستخرج دفترَ علاجٍ جديدًا، عندما حصلتُ عليه صرتُ أحمل محفظة فارغة، في طريقي إلى محطَّة الحافلات، لاحظتُ أنَّ مصابيح الإنارة مُضاءة أينما وجَّهتُ بصري، دون تردُّدٍ قصدتُ شركة الكهرباء، ربَّما أردتُ أن أثبت لنفسي ولعالم الإشارات أنِّي أَصلُح لأكثر ممَّا أظنُّ، وسطَّر لي، كانت الرابعة مساء، بقيَتْ ساعةٌ على موعد انتهاء الدَّوام، وبإمكانك أن تلحظ كيف بدأ السُّرور يتسلَّل إلى أعوان الشَّبابيك من خلال مُسامراتهم فيما بينهم.

 

طلبتُ مقابلة مسؤول الصِّيانة، كان عليَّ الاستظهارُ بالهويَّة، وملء استمارة، قلت له بأنَّ مصابيح الإنارة مضاءةٌ في كامل المدينة، قال: "في كلِّ الأحوال لم يَبق الكثير لتضيء آليًّا"، ثمَّ وقف لِيَخرج من المكتب، وأحسستُ أنَّه يصرفني بصورة مهذَّبة، وانتابني ضيقٌ لأنِّي قمتُ بعمل سخيف.

 

توجَّهت إلى المحطَّة عبر طريقٍ آخر، في محيط المَحكمة كان النَّاس مضطَرِبين ومشوَّشين، وكانوا يتحرَّكون كثيرًا وبغرابةٍ كالمجاذيب، كانوا أشبه بقطيع سمك جفَّ به الوادي، وكانت هناك حلقةٌ من النَّاس حول بائع الشَّاي تحت حائط ظليل قبالة المحكمة، جلست بينهم مقرفصًا، شربت فنجان شاي على مهل، قال أحدهم يستأنف حديثه مع بائع الشَّاي، إثر صمتٍ قصير، عرف بعده أنَّ بإمكانه أن يأمن جانبي:

 

أين وصَلْنا؟ أشهد أن لا.. آه..

 

قال: إمَّا الأرض، وإمَّا أن أبني فوقك.

 

قال آخر: أين المشكلة؟ ابْنِ قبَّة، واسكنها، وامسح له شفتيه بقشرة صبَّار.

 

لم يعلِّق صاحب الشَّكوى، وأحسست أنَّه استحسن الفكرة، وددتُ الانصراف، لكنِّي فضَّلت المكوث قليلاً حتَّى يتغيَّر الموضوع.

 

ثمَّ بعد ذلك غادرت المدينة.

 

سمعت هسيسًا ضعيفًا وأنا أدخل الشقَّة، أضأتُها بالكامل، لم يأكل الفأر شيئًا من الخبز وقِطَع الطَّماطم المسمومة، كنتُ قد جلبتُ معي عشائي، تناولتُه ببطءٍ وبلا شهيَّة، أخرجت لصق الفئران، ومسحت به ورقة كرتون بازدراء، كأنَّ فأرًا بين يديَّ! ثمَّ وضعتُها بجانب قارورة الغاز هذه المرَّة، وبالغتُ في غَسل يديَّ، وعدَّلت المنبِّه على السَّاعة السَّادسة، ودخلت تحت الغطاء، كان آخر شيء فكَّرت فيه قبل أن أنام: كيف يُصادف أن تَتطابق دقَّات الثَّواني للمنبِّه مع ساعة الجدار، ثمَّ يزيغ كلاهما عن الآخر؟!

 

في اليوم التَّالي، ردَّ المدير على تحيَّتي بفتور، وسألني بلحنٍ قبيح: "هل كلُّ شيء على ما يرام؟".

 

قلت: "نعم، شكرًا".

 

وقرأتُ أمام اسمي على ورقة الحضور الخاصَّة بيوم الأمس: "غياب غير مُبَرَّر".

 

وكانت إذْ ذاك رائحة زيت الذُّرة لا تزال تنبعث من محفظتي.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • آخر مصابيح الكون ( قصيدة )
  • مصابيح قرطبية (1) حول القرطبي وقرطبة والكتاب

مختارات من الشبكة

  • مصابيح الدجي: إضاءات دعوية من قصص أولي العزم من الرسل ويوسف عليهم السلام (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • حول كتاب مصابيح السنة للبغوي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الشاهد النحوي في كتاب: مصابيح المغاني في حروف المعاني لابن نور الدين المَوزعي (825 هـ)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة مصابيح السنة (النسخة 10)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة شرح مصابيح السنة (النسخة 4)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة مصابيح السنة (النسخة 9)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة مصابيح السنة (ج2)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة مصابيح السنة (ج1)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة شرح مصابيح السنة (النسخة 3)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة شرح مصابيح السنة (النسخة 4)(مخطوط - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 15/11/1446هـ - الساعة: 15:5
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب