قراءة في كتاب عبدالسلام هارون: قطوف أدبية (6)

هارون وتحقيق النصوص، ومعالجة قضاياه

قراءة في كتابه: قطوف أدبية - دراسات نقدية في التراث (6)

الخاتمة

لقد تملَّكَني العَجَبُ جدًّا من كلِّ جوانب العظَمَة التي وقَفتُ عليها في إبداعات هارون؛ خاصَّة وأنا أُدقِّق النَّظَر في هذا السِّفر القيِّم لهذا العلاَّمة الفَذِّ الهُمَام.

فهل أتعجَّب من تحقيقاته التي ندر نظيرُها، أو كادت أن تنمحي؟!

أم أتعجَّب من تَصانِيفه وتملُّكه للغة الضاد، فهو يَجمَع منها الدرر لينظِمَها نظمًا فائقًا باهرًا، حتى تقول: سبحان مَن علَّم الإنسان البيان، فسَحَرَ الأنفس، واستَهوَى القلوب؟!

أم أتعجَّب من إبداعه هذا العِلم الذي لم يُسبَق إليه، والذي سجَّلَه ببراءة اختراع في كتابه الماتع المانع: "تحقيق النصوص ونشرها"؟!

أم مِن مُساجَلاته ومُناقَشاته، وردِّه على جميع مَن انتَقَده، وقرعه الحجَّة بالحجَّة، والبيان بالبيان؛ فحقًّا لقد أُوتي جدلاً، هذا مع حبِّه للحقِّ وإيثاره له، وإنصافه من نفسه، وتقديره لأهل العلم والفضل، واعترافه بالجميل لكلِّ مَن أسدَى إليه نصحًا، أو أرشَدَه إلى خطأٍ وقَع فيه بطبيعة البشر؟!

أم أتعجب وأذهل من هذا الكمِّ الهائل لأعماله - رحمه الله - والتي ندر مَن أتى بمثلها، والتي لو قسمناها على سني عمره المبارك (79) عامًا، بعد خصم (16) سنة الأولى، والتي قد بدأ نشاطه العلمي عند بلوغه إيَّاها؛ فيكون نصيب كل عام كتابين تقريبًا يُخرِجهما هارون للمكتبة العربيَّة والإسلاميَّة، هذا فضلاً عن بحوثه ومقالاته، ومُشارَكاته في المؤتمرات والندوات، وتدريسه في الجامعة، وتولِّيه العديد من المناصب والمهامِّ العلميَّة الكبيرة الجليلة؛ كأمانة مجمع اللغة العربيَّة.

رحمه الله رحمةً واسعة، وأخلَفَ في الأمَّة أمثاله.

خلاصة البحث:

من خلال دراسة هذا الكتاب نخلص إلى الآتي:

من الأمور التي تُعِين على إقامة النص وتُجَنِّب المحقق مَزالق سوء الأداء:

1- التمرُّس بقراءة المخطوط.

2- التمرُّس بأسلوب المؤلف، ومعرفة لوازم ذلك الأسلوب، والوقوف على ما يُؤثِره من العِبارات والألفاظ.

3- الإلمام بالموضوع والقضايا التي يُعالِجها المخطوط، حتى يُمكِن أنْ يفهم النص فهمًا سليمًا.

4- المراجع العلميَّة ذات العلاقة المباشرة بالمخطوط، والتي يُمكِن تصنيفُها على الوجه التالي:

أ- كتب المؤلف نفسه مخطوطها ومطبوعها.

ب- الكتب التي لها علاقة نسبٍ بالكتاب؛ كالشروح والمختصرات والتهذيبات.

ج- وهناك ضربٌ آخر من المراجع التي لها علاقة حميمة بالكتاب، وهي الكتب التي اعتَمدَتْ في تأليفها اعتِمادًا كبيرًا على الكتاب، وهذه كثيرًا ما تحتَفِظ بالنص الأصلي للكتاب الأوَّل.

5- ومن المراجع المُعِينة على إقامة النص، وتُجَنِّب المحقق مزالق سوء الأداء، عكس المراجع السابقة، وهي المراجع التي استَقَى منها المؤلف.

6- الرجوع إلى الكتب المعاصرة للمؤلف التي تُعالِج نفس موضوعه، أو تُعالِج موضوعًا قريبًا منه.

7- المراجع اللغويَّة.

8- الترجيح بين الرِّوايات.

9- تصحيح الأخطاء والتحريفات.

10- ضبط النص المحقَّق.

11- التعليق عليه بلا إفراطٍ ولا تفريطٍ.

12- عمل كشَّافات تُفصِح عمَّا في الكتاب، وتُجلِّي ما فيه من كنوز.

13- التوسُّط في استعمال علامات الترقيم.

14- عمل دراسة تُقدِّم للنص، بشرط ألاَّ تكون مُخِلَّة ولا مُمِلَّة.

15- المُكمِّلات الحديثة التي ينبَغِي أنْ يظهر بها الكتاب.

وغير ذلك كثيرٌ.

هذه الأمور العامَّة التي تُعِين على إقامة أيِّ نصٍّ، وتُجنِّب المحقِّق مَزالق سوء الأداء؛ لكن كل كتاب أثناء تحقيقه يَحتاج لرسم منهج معيَّن حسب مادَّة المخطوط، ويفرض على المحقِّق خطوات خاصة به.

الأسس التي ينبغي أنْ تتحقَّق للعامل في هذا المجال:

1- إيمان مَن يتصدَّى لتحقيق التراث إيمانًا كاملاً به، مع احترامه له وتقديره.

2- أنْ يكون على صلة وثيقة به في جميع فروعه.

3- أمرٌ خلقي يتمثَّل في أمرين: الأمانة والصبر.

أهم المشكلات التي تعتَرِض مَسِيرة تحقيق النصوص التراثيَّة ونشرها:

1- فقدان التنظيم الجماعي.

2- صعوبة الحصول على مُصوَّرات المخطوطات.

3- ندرة المشتَغِلين بإحياء التراث ممَّن هم في الطبقة العلميَّة والخلقيَّة الجديرة بأنْ يُعتَمَد عليها في نشر التراث.

4- المطبعة: فإنَّ دُورَ النشر المعاصرة تجعَل همَّها الأوَّل والأخير هو الحصول السريع والمُضاعَف على العائد المادي الذي ينجم عن إخراج الكتاب.

أهميَّة النقد:

تعظم فائدة النقد وتشتدُّ الحاجة إليه للناشر والقارئ على السواء، على أنْ يكون خدمةً للعلم، ووصولاً إلى المبتغى، خاليًا من حبِّ الظهور، وحسد الأقران.

جهود المستشرقين في إحياء نصوص التراث:

لا يستَطِيع منصفٌ جَحْدَ جهود المستشرقين في نَفْضِ الغُبار عن كثيرٍ من تراثنا النادر الثمين، ولا إنكار ما أصَّلوه وأدخَلُوه في فنِّ تحقيق النصوص.

لذلك رصَد هارون بكلِّ إنصاف وحَصافة جُهودَهم في العناية بالتراث، وحلَّلَها، وقارَن بينها وبين جهود أجدادنا؛ فيبيِّن أنَّ تحقيق النصوص وتوثيقها فَنٌّ عربيٌّ أصيل، يَتجلَّى في مُعالَجة أسلافنا الأقدَمِين لرواية كتب الحديث، واللغة، والشعر، والأدب، والتاريخ، في دقَّة وأمانة ونِظام بارع.

ولكنَّ المستشرقين تبنَّوْا إحياءَ هذا الفن في هذه العصور القريبة، والجهد العلمي الذي بذَلُوه لا يُستَطاع إنكارُه؛ إذ كانوا أساتذةَ الجيل الحاضر في الطريقة العلميَّة التي جَرَوا عليها.

عرَفُوا منَّا كلَّ شيء، ثم عُدنا نحن إليهم؛ لنَعرِف ونتعلَّم ما عرَّفناهم من قبلُ، والفضلُ لا يُنكَر؛ ﴿ مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا ﴾ [يوسف: 65].

النتائج:

• رأينا كيف كان للبيت دورٌ كبيرٌ في توجيه هارون هذه الوجهة؛ وعليه: فلا بُدَّ من إصلاح المحضن الأوَّل، وغرس حبِّ العلم في جميع أفراد الأسرة، ونشر الثقافة بين جميع أفراد البيت؛ ليخرج لنا أمثال هذا النموذج العظيم.

• ورأينا كيف أثَّر التعليم المبنيُّ على أسس مَتِينة في تأسيس هارون، وكذلك جميع مُعاصِريه ورِفاقِه، فلم يكن من بينهم مَن لا يحفظ للحريري أكثر من مقامة، وهذا يُنبِّهنا إلى محاولة إعادة هذه المناهج الراسخة، والعمل على إصلاح التعليم.

• الاهتمامُ باللغة، وخروج أجيالٍ مُحبِّين لها، ومُتقِنيها، ومُتَفانِين في نُصرَتها ونشرها وخدمتها، كما كان جيل هارون.

• التشجيع، وهو ضروريٌّ جدًّا، خاصَّة في هذا الزمن المادي؛ فلقد حفظ هارون المعلقات السبع مع شيءٍ من شروحها؛ ليحصل على ساعة جيب من أخيه محمد جائزة تشجيعيَّة قيِّمة.

• المجلاَّت العلميَّة التي تتجاذَب أقلام الأُدَباء والنقَّاد لعمل نهضة علميَّة، وتَصحِيحٍ للمنشور من نصوص التراث.

• الصحف الذائعة التي وصَفَها هارون بأنها كانت من مَفاخِر عصرهم، والعمل على أنْ تنشر كلَّ جيِّد مُفِيد؛ لنشر الثقافة العامَّة والرُّقي بأذواقهم.

• اغتِنام طاقات الشبيبة، واكتِشاف النُّبهاء منهم، ذوي الجَلَد والأمانة؛ لتَوجِيههم لخدمة نصوص التراث.

• دعم تحقيق نصوص التُّراث، وكفالة القائمين على إخراجه، وتذليل العقبات والصُّعوبات أمامهم.

• نشر ثقافة حبِّ نصوص التُّراث، وبَيان أهميَّة كتبه، ونبذ ما يُشاع بأنَّ كتبَه ذات أوراق صفراء بالية، لا تُسمِن ولا تُغنِي.

• رفع قدر روَّاده المحقِّقين، وعمل تَراجِم جيِّدة لهم، وعقد ندوات ومؤتمرات لتعريف الشبيبة بهم وبجهودهم؛ ليرتَبِطوا بهم، وينهجوا نهجهم.

• عقد المؤتمرات والنَّدوات وإجراء المسابقات من أجل تحقيق أكبر قدرٍ من نُصُوص تراثنا على المنهج العلمي القَوِيم، ورصد جَوائِز تشجيعيَّة قيِّمة للمحقِّقين المبرَّزِين.

• الدعوة إلى عودة النَّقد والمُساجَلات الأدبيَّة، وتخصيص بعض الصفحات في المجلاَّت التي تهتمُّ بالنَّواحي الأدبيَّة والتراثيَّة.

• نشر ثقافة قبول النقد والإنصاف، والمجادَلة بالتي هي أحسن؛ للوصول إلى الحقِّ من أقرب طريقٍ وأسلمه.

هذا، والله وَلِيُّ التوفيق، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمد.