• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

في وداع أمي رحمها الله

في وداع أمي رحمها الله
ساير بن هليل المسباح

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 13/11/2023 ميلادي - 29/4/1445 هجري

الزيارات: 3863

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

في وداع أمي رحمها الله


أُصيبت أمي بمرض السرطان، ومن ساعة اكتشاف المرض حتى وفاتها كانت المدة تسعة أشهر، وخرجتُ من هذه الأزمة بعدة دروس:

1- الموت شيء قهر الله سبحانه وتعالى به عباده جميعًا، فلا أحد يبقى إلا الله عز وجل، لا يبقى نبي مرسل، ولا مَلَكٌ مقرَّب، وما أشد خطاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]! بهذه الصراحة، وهذا الوضوح، لم يستخدم عبارة تكون أخف وطأة؛ لأجل أن يعلم الناس حقيقة الموت، وأنه لا استثناء فيه لأحد، وهذا مما يخفف على النفس وَقْعَ الموت، حين تعلم أن خِيارَ الناس يموتون.

 

2- ومما يخفف على الناس وقع الموت، ويُسلِّي النفس أن الإنسان لا يذهب إلى شيء مجهولٍ لم يذهب إليه أحد قبله، فقد سلك هذا الطريق كل الأمم ممن قبلنا، ويذهب الإنسان إلى دار تعُجُّ بالموجودين فيها، وتستقبل كل يوم الآلاف من الناس الذين يغادرون الدنيا إلى الآخرة، فليس هناك فترات ينقطع فيها الموت عن الأرض، وربما قد يكون من شطحات الفكر أن يتساءل الإنسان عن شعور الإنسان الأول الذي ذاق الموت قبل الآخرين في هذه الحياة، إن جاز لنا أن نسميه الميت الأول، كيف رأى نفسه وهو في حال جديدة لم يسبقه إليها أحد، في أسفل الأرض، بعد أن كان في أعلاها، هل سأل نفسه: ما الذي جاء به إلى هنا؟ ماذا صنعت لأكون في حفرة مظلمة، لماذا لا أستطيع العودة إلى ما كنت عليه؟ كيف قضى الأوقات الأولى من الحياة الجديدة في عالم البرزخ الجديد؟ وكم ظل مصدومًا من حاله حتى استوعب فكرة الموت، ويئس من فكرة العودة إلى الحياة السابقة؟ وكم بقِيَ على هذه الحال حتى التحق به الميت الثاني؟

 

3- أصعب ما في الموت ليس الموت نفسه، بل الصعوبة والخطورة في الموت أنه لا يوجد فيه تجربة، كل شيء قابل للتجربة؛ المرض، الزواج، الطلاق، السفر، العمل، المغامرات المجنونة، وغيرها وغيرها، إلا الموت فلا مجال فيه للتجارب، فالموت يأتي مرة واحدة، بشعور واحد، وشعور لا يمكن وصفه لأحد، ولا نقله لأحد، فجأة يجد الإنسان نفسه في عالم جديد، دون أن يستأذنه أحد، أو يعرض عليه فكرة المغادرة فيقبل أو يرفض، وهذا سر آخر من أسرار الموت، فهو أمر لا خيار فيه.

 

4- يرسم الإنسان نهاية مريحة لوالديه كما يتمنى هو، بعيدة عن الأمراض المضنية، فهو يتوقع لهم نهاية طبيعية، تطول بهم الأعمار، وتشيخ بهم الأزمان، ثم يموتون على فُرُشِهم دون معاناة أو صعوبات، ولا يأتي في البال أن للنهايات صورًا مختلفة وسيناريوهاتٍ لا تتفق مع ما في أنفسنا من خيالات وأمنيات، فإن في الكون أساليبَ شتَّى للموت، لا تستثني أحدًا، فالمرض الشديد العُضال الجميع مُعرَّض له، وعلى الإنسان أن يكون مستعدًّا لكل الحالات، وبالنسبة لهذا المرض نسأل الله السلامة منه، ففي كل يوم تكتشف حالة جديدة، وينضم فرد جديد لقائمته، أسأل الله تعالى أن يمُنَّ على عباده باكتشاف يكون سببًا لشفاء الناس منه، وما ذلك على الله بعزيز.

 

5- بعدما رأيت معاناة والدتي في هذا المرض والآلام التي كانت تعانيها، وما شاهدته أثناء ذلك من معاناة الناس الآخرين المصابين به، الذين رأيتهم في جنبات المستشفى، وهم يأمُلون النجاة، ويتمنَّون البقاء، ويخشَون المغادرة والوفاة، قد بُهِتَتِ الوجوه، وتغيرت الألوان، وتضاءلت الدنيا في أعينهم، بسبب أنواع الأدوية التي يأخذونها بمختلف مسمياتها وأنواعها، وقد سمعت كلمة عابرة من أمي لا أنساها وهي تتحدث لإحداهن في الجوال: (ما نبي إلا الحياة)، آليتُ على نفسي ألَّا أدعو بهذا المرض على من ظلمني أيًّا كان هذا الظلم، وأيًّا كان هذا الظالم، وقد كنت سابقًا إن ظلمني ظالم كما أظنُّ، سارعتُ إلى رفع يدي بالدعاء عليه، لا أتورع عنه بأشد الدعوات، ولا أستثني منها هذا المرض الشديد، ولا غيره من الأمراض والبلايا، لكن بعدما رأيتُ صِرْتُ لا أدعو على أحد لا بمرض ولا غيره، بل عجبت مما زاد عليَّ في ذلك، ممن يدعو لظالميه بالصلاح وهداية القلب، وانشراح الصدر.

 

هي آلام لا يمكن لأحد احتمالها، وهناك عائلات تتعلق أمورها بشخص واحد، فلماذا نكون سببًا في آلام أناس أبرياء لا علاقة لهم بتصرف أحمق من أبيهم أو أخيهم؟ بل نؤجل الأمر إلى اليوم المشهود الذي لا تضيع فيه الحقوق، ولْنَتْرُكِ الآباء لأبنائهم، والأبناء لآبائهم، والأزواج لأزواجهم، والأخ لأخته، والأخت لأخيها، وإن كانت هناك مظلمة، فعند الله تجتمع الخصوم.

 

6- هناك أمراض تنقُلك إلى القبر، وأمراض تنقلها معك إلى القبر، هذه عبارة رُويت عن الدكتور أحمد البراء الأميري لما أصيب بسرطان البروستاتا، والغريب في الأمر أنه توفي قبل والدتي بيوم واحد، وهي عبارة بليغة لو تأملها الإنسان، فالأمراض بعضها أهون من بعض، وكذلك الموت بعضه أهون من بعض، فمن يُصاب بمرض مثل هذا، فإنه في الغالب قد علِم أن رحلة النهاية قد بدأت، فيستعد هو لآخرته، ويتهيأ أهله للحظة المغادرة، وإن تقدمت به الحال، فهو يودعهم كل يوم، وإن مات مات بين أيديهم وأمام أعينهم، بعد أن يفقدوا الأمل منه، وهو على هذه الحال قد يكون ألطف ممن مات تحت سقف سقط عليه، أو حفرة انهارت به، أو قذائف حرب حلت عليه، فذهب فجأة بلا مقدمات ولا استعدادات.

 

7- ومن بلغ من العمر عتيًّا، فهو أحسن حالًا ممن مات في بداية حياته قبل العشرين أو بعدها بقليل، ومن جاوز الستين، فليحمد الله أن بلَّغه الله هذا العمر، ولم يمُت وهو في السابعة عشرة أو في الثلاثين، ومن مات وقد تزوج أولاده وبناته فليحمد الله على ذلك، فهو لم يتركهم صغارًا يحترق قلبه عليهم كل يوم، ومن مات وقد حقق أهدافه العلمية من التأليف والكتابة، فليحمد الله أن لم يتركها ناقصة، فيهملها الآخرون أو يعبَث بها العابثون.

 

8- وقد تأملت كثيرًا في السن التي تُوفِّيَ فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الثالثة والستين من عمره، لماذا لم يعِشِ النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من هذا؟ فالستون لا زالت مبكرة عليه، فأظن أن من حكمة الله تعالى في موت نبيه بهذه السن ألَّا يطمع الناس من أمته كثيرًا في البقاء في دنياهم، فنبيهم وخيرهم مات في هذه السن المبكرة، والأمر الثاني أن الأمة التي لم تَرَ النبي صلى الله عليه وسلم لو أرادت أن تتخيل وجهه الشريف وبنيان جسده الطاهر، لرأته في صورة الرجل الفتي القوي، الكامل في الصفات، فهو يمشي على قدميه، ويسابق نساءه، ويجاهد في سبيل الله، ويحج إلى بيت الله، ويقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويتزوج النساء ويعاشرهن وينجب منهن، وهو بعدُ ما زالت لحيته سوداء، لا يحتاج إلى صبغها أو تغيير لونها، فهذا خير من أن تراه ابن سبعين سنة أو ثمانين، وقد ابيضت لحيته، ووهن جسده، وضعُفت خطوته، وصار يعتمد على غيره في تنقلاته وفي بقية شؤونه، فهو يظل في مخيلة الأمة النبي الشاب القوي الصحيح الذي مات في صحته وعُنفوانه، بعد أن أكمل مهمته وأتم الغاية التي بعث من أجلها.

 

9- في الأشهر الثلاثة الأخيرة كانت الأمور تتجه إلى النهاية، فالورم بدأ بالتوسع، والتضخم زاد أكثر من ذي قبل، وانقطع عنها التنفس والكلام، والطعام والشراب، ومع تقدُّم السن صارت العلاجات المعتادة شبه مستبعدة لضعف الجسم عن تحملها، وفي الشهر الأخير أصبح المشهد الأخير متوقعًا في أي لحظة؛ لأنها دخلت في شبه غيبوبة، ومع ذلك كان مجرد النظر إليها ولمس يديها، والهمس في أذنيها، كان أرحم مما سيأتي بعدها، فهي ما زالت حية، وفيها علامات الحياة، وحين جاءت اللحظة المخيفة كأن تلك الإنذارات السابقة لم تقع، وكأنها لم تقل لنا شيئًا، لحظة سماع الخبر معناه غياب الوالدة عن العيون التي تنظر لها كل يوم، وتمني النفس بمعجزة تقع، كان بقاؤها على حالها بالنسبة لنا خيرًا من رحيلها، وإن كان ما عند الله خير لها من الدنيا.

 

لما جاء الخبر تذكرت قول أمين معلوف في دروز بلغراد لما بلغه خبر وفاة أبيه في بيروت: (جاء الخبر الذي يخشى كلُّ ابنٍ بعيدٍ عن أبيه أن يسمعه)، لما كنت مغتربًا عن أهلي لظروف دَعَتْ إلى ذلك، كنت أتوجَّس من كل اتصال يأتي في وقت غير مناسب أن يكون حاملًا للخبر المكروه عن الأب أو الأم، كانت لديَّ فوبيا من تلك الاتصالات، والحمد لله منَّ الله عليَّ بالقرب منها، وكنت معها في كل المراحل، وهذا أمر يسلي الإنسان ولو بعد حين، أن شهِدها من اللحظات الأولى حتى اللحظات الأخيرة.

 

10- إذا كنتَ كبيرَ إخوتك فالمسؤولية تكون عليك أكبر، فهم سينظرون لك عوضًا عن أبيهم وعن أمهم أيضًا، تجد نفسك في موضع لم تحسِب له يومًا حسابًا، ومن ثَمَّ فالموقع الجديد يفرض عليك أمورًا لم تكن لترضى بها قبل ذلك لو كانت شخصيتك مختلفة، فلا بد أن تكون متسامحًا مع إخوتك، وإن كنت قبل ذلك غير متسامح، ولا بد أن تكون متنازلًا عن حقوقك، وإن كنت قبل ذلك متصلبًا فيها، سائلًا عنهم وإن كنت قبل ذلك غير سائل، تتفقد أحوالهم وأحوال أبنائهم وإن كنت قبل ذلك غير مهتم، ولا آبِهٍ بأحد منهم، لن تكون ذلك الأخ الأكبر الآمر الناهي، المطاع الأوامر، المهيب الجناب، فهذا حالٌ قد مضى، وإن كان ثمة إخوة صغار، فالمسؤولية أعظم، ستكون شئتَ أم أبيتَ كبيرَ القوم الذي لا يحمل الحقدَ.

 

وإن لم تكن كذلك، فلا خير فيك، ولا بِرَّ يُرتجى منك.

 

11- هذا من جهة المسؤولية، أما من الجهة الأخرى، فأنت محظوظ لأنك ستكون المقدَّم في حمل والدتك، والنزول معها في قبرها، ووضعها في لحدها، وتكون آخر من يلمسها ويودعها، ومن يغطي لحدها، وآخر من يخرج من قبرها، وقد حظيتَ سابقًا بمرافقتها في مرضها من اليوم الأول، وحتى اليوم الأخير، الصحبةُ في اللحظات الصعبة ليست كالصحبة في اللحظات السهلة، فبعض اللحظات الصعبة لا يتقدم لها أي أحد، بل شهِدت بعيني في حوادث سابقة، كيف يتراجع بعض كبار الرجال عن النزول في قبور والديهم، من شدة وهول الموقف، ومرارة تلك اللحظة، فهم ينهارون لمجرد رؤيتهم في الأكفان، ووضعهم تحت التراب، فكيف له أن ينزل بثبات إلى ذلك المكان المظلم المخيف، المرعب الموحِش الضيق، تُودع حبيبك أو حبيبتك في حفرة تحت الأرض، وتوسِّده التراب، وقد كان لا يجلس إلا في ألطف مكان، وأرفع مقام، وأطيب فراش؟ ولن أنسى يومًا وقد حضرت جنازة لوالدة أحد الأصدقاء، كيف تحول المشهد إلى تراجيديا حزينة، وأحداث غير متوقعة، حين لم يتحمل الأبناء لحظة الدفن والغياب الأخير لوالدتهم، أما بعضهم فقد هرب من المكان وصراخه يملأ المكان، وتبِعه من تبِعه من الناس حتى يردوه عن وجهه الذي هرب إليه، وأما الآخر فكان الصورة التي لا تُنسى، والمشهد الذي لا يُمحى، لقد ألقى بنفسه على قبر والدته يحتضنه، كما لو كان يحتضنها هي بنفسها.

 

كان أصعب ما في الأمر ليس لحظة وضعها في اللحد، وإنما لحظة الخروج من القبر بعد إتمام اللحد ووضع اللَّبِن عليه، لحظة الصعود إلى الأرض، لثوانٍ سابقة كنت قريبًا منها، أما الآن فصارت أبعد مما تتصور، وصار الأمر كما قال أبو الحسن التهامي حين رثى ولده:

والشرق نحو الغرب أقربُ شقةً
من بُعد تلك الخمسة الأشبارِ

كل شيء فيك يرتجف، ولولا الصبر الذي ينزله الله في تلك اللحظات، ولولا الحياء من الناس، لصرخ الإنسان بكل صوته...

 

12- حين بدأ التراب ينهال على القبر، في تلك اللحظة بالذات، استشعرتُ قول فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم لأنس بن مالك رضي الله عنه بعدما عاد الصحابة من دفن النبي صلى الله عليه وسلم: "أطَابَتْ أنفسُكم يا أنس أن تحثُوا على رسول الله التراب"، فبكت وبكى أنس معها، وبكى معها كل مؤمن، على تتابع الأزمان، وكذلك نقول كيف تطيب القلوب أن يُهال التراب على الأحباب والأصحاب؟

 

13- العزاء لا يقدِّم شيئًا ولا يؤخره، لكنه من حق المؤمن على المؤمن، ووقوف الناس إلى جانبك، وحضورهم لمنزلك، وتقديمهم لخدمات لم تكن تتوقعها، يخفف كثيرًا من وقع المصيبة، والكلمات التي تُقال، والقُبُلات على الرأس والجبين، والعناق المؤثر، والدموع المواسية، وسفر الناس من مدن شتى، والمكالمات التي لا تتوقف، والرسائل التي تُكتب ولو بعبارة قصيرة، أو كانت من رقم مجهول، ستنظر إليها بامتنان شديد، وبقاء الناس وقد عطَّلوا مصالحهم وأعمالهم من أجلك والتخفيف عنك، وقد وقف أقوام والله الذي لا إله إلا هو حتى كتابة هذه الأسطر لا أعرف أسماءهم ولا ألقابهم، خاصة أنني حديثُ عهدٍ بنقل لمكان عمل جديد، مثل هذا الأمر يجعلك تنظر كم من المحاسن توجد في عامة الناس ما لا توجد في خاصتهم، من البر والإحسان، وتآزر المؤمنين، ما يمثل صورة حسنة عن العامة، والتغاضي عن كثير من هفواتهم أو تجاوزاتهم.

 

14- أن المؤمن ينبغي ألَّا يغفُلَ عن آخرته، ويعمل لها باستمرار، ولا يغره الشيطان، ولا تغره الدنيا بمفاتنها ولهوِها، فإن المرء لا يدري ما يقع له، وقد يشله عن الحياة، أو يجعله كالحاضر الغائب، ففي أقسام العناية المركزة من هم في أعمار الشباب، وهم أشبه بالأموات، بعد أن كانوا يملؤون دنياهم بالحركة والصخب والتنقل من مكان إلى مكان، ففي تلك الغرف الصامتة قد تأجَّلت الحياة، وتعطَّلت الأحلام.

 

15- في الآخرة حقيقة مختلفة عن مشاعرنا التي تأتي بعد موت أحبابنا، وترافقنا بقية أعمارنا، نظن أن أول ما تنشق القبور عن الناس في يوم القيامة، نُهرع باحثين عن آبائنا وأمهاتنا، نراهم بعد الموت، ونبث لهم أشواقنا، ونشكي لهم أحوالنا، وتصدُّع قلوبنا، لكن الأمر في الآخرة مختلف تمامًا؛ كما قال الله تعالى عن الآخرة: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37]، وهذا سر من أسرار اليوم الآخر، فإن لكل أبٍ أبًا قبله، ولكل أم أمًّا قبلها، ولو تتبع الناس آباءهم وأمهاتهم لصِرْنا في سلسلة لا تتوقف، بل تُؤجَّل كل تلك المشاعر إلى مكان أوسعَ وأجمل وأشرح في الجنة بإذن الله، تبدأ الحكايات التي لا تنتهي، والأحاديث التي لا تُمَلُّ، وتُذكر تفاصيل التفاصيل مما وقع في هذه الدنيا.

 

16- الدرس المهم: أن المؤمن إنما يتعلق بالله وحده، فمهما بلغت محبتنا لأحدٍ من الناس فإما هو راحل عنا، وإما نحن الراحلون عنه، ولا يبقى لنا وله إلا الله عز وجل، فهو الواحد الباقي، وهو سبحانه من ينبغي أن نحسن علاقتنا معه، ونسعى في مرضاته، فهو من يخفف عنا الآلام، وهو من يرحمنا ويرفع البلاء عنا لو أراد، وأن البشر لا يملكون شيئًا أكثر من التعاطف والمواساة، وإذا خسرنا علاقتنا بالله تعالى فقد خسرنا كل شيء، ولو تصورنا أننا كسبنا علاقاتنا مع الآخرين.

 

17- أيها الناس: استمتعوا بوالديكم الذين بين أيديكم، ولا تألَفوا البعد عنهم، ولا تكتفوا منهم باتصال سريع أو زيارة خفيفة، كونوا معهم كما كانوا معكم في طفولتكم ونشأتكم، فإن الحياة بعدهم ليست كالحياة معهم، ستنطفئ أنوار في قلبك لن تضيء أبدًا، وستشتعل أحزان في نفسك لن تُخمَد إلا بلُقياهم، وإنما يتصبر المؤمن كما أمره الله تعالى، مستسلمًا لقضائه وأمره.

 

18- في صباح الأربعاء 5/ 3/ 1445 وعند الساعة 6:40، توقف قلبٌ وتوقفت معه قلوب، وانطفأت شمسٌ فأظلمت بعدها حياة، وغاب قمرٌ فغابت معه أفراح، انصدعت بعدها الأركان، وتثاقلت الخطوات، وصارت تتحاشى كل أماكن الذكريات، وعليها من الآن أن تواجه الحياة وحدها، وأن تتعايش مع ذلك، وتقتنع بأنها أصبحت بلا أم تأوي إليها، تلقي إليها بالأخبار، وتستمع منها الحكايات، ستترك كل الأشياء التي كانت تشاركها، وتفعلها من أجلها هي فقط، لن تشاهد بعدها مسلسلًا بدويًّا، ولن تتلذذ بالخروج إلى البريات كما كانت تفعل، وستبقى دهرًا طويلًا بين مصدِّق ومكذِّب أنها ماتت، فعلًا ماتت، ولن تراها العين بعد الآن إلا في يوم بعيد وقته، طويل أمده، وحتى ذلك الحين عليها أن تتقبل الأمر، وتتعامل معه كما يتعامل المؤمنون في مثل هذه الحالات، بالصبر واليقين، والتسليم لله رب العالمين.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الاتحاد مع القيادة الأمينة قوة وأمن وأمان وسكينة
  • بشريات للمشتاقين إلى البلد الأمين (خطبة)
  • بطاقات التأمين الصحي
  • التأمين بعد الفاتحة
  • خطبة: أبي وأمي يكفي خلافات
  • في وداع الحبيبة الغالية

مختارات من الشبكة

  • حكم طواف الوداع للمعتمر(مقالة - ملفات خاصة)
  • طواف الوداع للحائض(مقالة - ملفات خاصة)
  • خروج الحاج بلا وداع بنية العودة للوداع(مقالة - ملفات خاصة)
  • من وحي ذكرى الوداع(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وداعا (مقطوعة شعرية)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الأخطاء عند طواف الوداع(مقالة - ملفات خاصة)
  • لا بد أن يكون طواف الوداع بعد أعمال الحج(مقالة - ملفات خاصة)
  • طواف الوداع(مقالة - موقع الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك)
  • من أحكام طواف الوداع(مقالة - موقع الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك)
  • ‏في وداع شيخ البذل والمعروف والإحسان الشيخ صالح السدلان رحمه الله(مقالة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 15/11/1446هـ - الساعة: 15:5
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب