• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

دواء الكروب (قصة)

دواء الكروب (قصة)
د. محمد زكي عيادة

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 24/8/2023 ميلادي - 7/2/1445 هجري

الزيارات: 2884

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

دواءُ الكُروب


خلْفَ ذلكَ البابِ الكبيرِ يَسكنُ الدِّفءُ، وتُرسَمُ قُبلاتُ البِرِّ على يدهِ طلبًا للرِّضا، شيخٌ سبعينيٌّ وضيءُ الوجهِ، وقورُ الهيئةِ، عالي الهمَّةِ، صاغتْه السُّنونَ، وصَقلتْه التجاربُ، يبدأ يومَهُ فجرًا من المسجدِ، ويُنهيهِ بأذكارٍ مسائيَّةٍ شذيَّةٍ تستمطرُ السَّكينةَ والرَّحمات، وما بينَ ذلكَ تجدهُ مع القرآنِ في شُرفتهِ، أو مع النخلةِ في حديقتهِ، أو مع الصِّغارِ يسقي طفولَتهم العذبةَ بألعابٍ بديعةٍ من الماضي الجميلِ بعيدًا عن هوى الشَّاشاتِ المؤذية.

 

في ذلك البيتِ كلُّ شيءٍ له مذاقٌ مُختلفٌ؛ الأعيادُ، والجُمَعُ، والأفراحُ... حتى الكلامُ والأحزان!

 

يتحلَّقُ الجميعُ حولَه في كلِّ جُمعةٍ ومناسبةٍ؛ فيمتلئُ المكانُ بهجةً وتراحمًا، لقد اعتادَ أنْ ينْتَقي من سِجلِّ ذاكرتهِ حكايةً أسبوعيَّةً يرويها لحفدَتهِ بحضورِ الكبارِ، فتأنس العائلةُ بأنفاسهِ، وتنْعَم ببركاتهِ، ليعودوا بعدها إلى بيوتهم إلَّا ولدَه الأصغرَ إبراهيم ومعه زوجتهُ وولدَيه خالدًا وسارة، إنَّه بيتُ العائلةِ الكبيرِ بقدْرهِ، لا ينبغي له أنْ يفرغَ أو ينقطعَ عنه الأُنسُ والنُّورُ، يبقى ملاذًا آمنًا يسَعُ أرواحَهم، وحِضنًا دافئًا يُلملمُ شتاتَهم.

 

ها قد حانَ وقتُ الحكايةِ، وشوقُ الإصغاءِ يلُفُّ المكانَ، يتأمَّلُ الجَدُّ قسَمَاتِ وجوهِهمْ؛ لينطلقَ بهم في رحلةٍ جديدةٍ بين صفحاتِ ذاكرته:

أحبَّائي، في زمنِ الأوَّلينَ منذُ سنينَ مضتْ لم يكن يُرى في بلدنا هذا ما تشاهدونه الآنَ من الأضواءِ الزاهيةِ، والأبراجِ الشاهقةِ، والأسواقِ الـمُغلَقةِ، والجسورِ الـمُعلَّقةِ، لقد كان زمنًا صعبًا في معيشتهِ، شحيحًا في مصادرِ رزقه، لكنه غنيٌّ بِقيَمهِ وأخلاقهِ وعلاقاتهِ المغموسةِ بالحُبِّ والتراحُمِ، لقد كان زمنًا جميلًا سمَّاه العارفونَ بـزمنِ الطَّيّبين.

 

حينها كان البحرُ ملاذًا للنَّاسِ ومصدرَ رزقهم، نخوضُ مياهَه صيفًا في موسمِ الغوصِ قُرابةَ أربعةِ أشهُرٍ، نُفتِّشُ الأعماقَ عن اللؤلؤِ، رحلاتٌ تسكُنها الأحلامُ والآمالُ، وتحفُّها الأهوالُ والمخاطرُ، فكم من سفينةٍ عادتْ إلى الشاطئِ تاركةً وراءَها أُناسًا غاصوا في البحرِ ولم يخرجوا، ورغم ذلك لم تخلُ هذهِ الرحلاتُ من روحِ المرحِ وليالي السَّمر.

 

وفي رحلةٍ لا تُنسى أبحرتِ السَّفينةُ بأمرٍ من (النَّوخَذة)[1]، وبعدَ أنْ صِرنا في قلبِ البحرِ وقد حانَ وقتُ نزولِ الغواصِّينَ، كانَ من بينهم شابٌّ شجاعٌ اسمهُ صالح، أَحكمَ ربطَ خاصِرتِه، وتفقَّدَ سِكِّينه، ثمَّ ألقى بنفسهِ في البحرِ تاركًا وراءَهُ كُومةَ حبلٍ تلحقهُ تباعًا، ويدايَ تحتضنانِ بحرصٍ مرورَ الحبلِ وهو يغيبُ في الماءِ.

 

كنتُ حينها (السِّيب)، المسؤول عن سحبِ الغوَّاصِ من البحرِ، وما هي إلَّا دقيقةٌ واحدةٌ حتى تلقيتُ إشارةً لسَحْبهِ من الأعماقِ، وأيُّ تأخُّرٍ منِّي سيوُدي بحياتهِ، بدأتُ أجرُّ الحبلَ بكُلِّ قواي، والفضولُ يأخذُني إلى ما سيأتِي بهِ الغوَّاصُ من القاعِ، أيُعقَلُ أنْ يحصلَ على دَانةٍ[2] هذه المرَّة؟ وبينما أتخيَّلُ أعدادَ اللؤلؤِ وأحجامَهُ التي ستخرجُ من كيسهِ حين خروجه، فجأةً، أصبحَ الحبلُ حُرًّا خفيفًا في يدي! اجتاحني الذُّهولُ والخوفُ، حَرَّكتُه يمنةً ويسرةً، يا إلهي! هل انقطعَ الحبلُ؟ هل انفلتَ من خاصرته؟ ربَّما هاجمه قِرشٌ وأودى به، ماذا عليَّ أنْ أفعل؟

 

هممتُ أنْ أصرخَ بكلِّ قواي طالبًا النجدةَ، لم أستطعْ، فرفعتُ لهم الحبلَ، سادَ الذُّعرُ أرجاءَ السفينةِ، ومن رحمةِ اللهِ أنَّ (المجدميَّ) وهو المسؤولُ عن البحَّارةِ كان مستعدًّا كعادتهِ، ألقى نفسَهُ في البحرِ دونَ تردُّدٍ، باتت الأنظارُ موجهةً صوبَ الماءِ والسَّماءِ، ولوعةُ الانتظارِ تطفو على وجوهِ الجميعِ، أقولُ في نفسي: سينجحُ في إنقاذهِ بإذنِ اللهِ، إلهي، أستغفركَ وأتوبُ إليك، احفظْهما برحمتكَ كما حفظتَ يونُسَ في بطنِ الحوتِ، وأعدْهما إلينا سالـمَينِ.

 

مرَّت اللحظاتُ قاسيةً بطيئةً، وكادَ اليأسُ يعصفُ بنا لولا ظهورُ (المجدميِّ)، لقد أنقذهُ الشَّهمُ الشُّجاعُ من براثنِ الغرقِ؛ فحلَّ الهدوءُ أرجاءَ السَّفينةِ بعد عاصفةِ الذُّعرِ والفوضى، تكادُ تسمعُ نبضَ القلوبِ وهي تحمدُ اللهَ على لُطفهِ.

 

بقي صالحٌ ملقًى على أرضِ السفينةِ بعضَ الوقتِ، يستعيدُ وعيهُ، ويتفقَّدُ جسدَه، وفي غَمرةِ احتفائي بعودةِ أنفاسهِ، وجدتهُ يُردِّدُ كلماتٍ بالكادِ أسمعها: "اللَّهُمَّ اجمَعنا على خيرٍ، اللَّهُمَّ اجمَعنا على خيرٍ"!

 

كانتْ رحلتُنا تلك في أيَّامها الأخيرةِ، وقد آنَ الأوانُ لنعودَ أدراجَنا مُحمَّلينَ بأشواقٍ جمَّةٍ، ورزقٍ يكفي لأشهرٍ قادمةٍ.

 

بدأ الجميعُ بحزمِ الأمتعةِ متلهِّفينَ لعناقِ الشاطئِ ومَن عليهِ من الأهلِ والأحبابِ، دنوتُ من صالحٍ أطمئنُّ عليهِ، وأسألهُ عن سِرِّ تلكَ الكلماتِ: "اللَّهُمَّ اجمعْنا على خيرٍ"، للوهلةِ الأولى تفاجأ بسؤالي، وما إنْ لمسَ اهتمامي بشأنهِ حتى تنفَّسَ بعمقٍ، ثمَّ قال:

"كُنَّا ثلاثةَ أصدقاءَ (أنا وسعد وجابر) نعيشُ في قريةٍ صغيرةٍ، نقضي معظمَ الأوقاتِ معًا؛ ندرسُ في الكُتَّابِ، ونقرأُ القرآنَ في المسجدِ، ونلعبُ، ونصطادُ... وما إنْ كبرنا وصِرنا شبابًا حتى ابتُليَتْ ديارُنا بقحطٍ شديدٍ، فماتَ النَّخلُ، وجفَّ الضَّرعُ، وأصبحَ الناسُ في شِدَّةٍ وضِيقٍ، فبدأتْ كلُّ أُسرةٍ تبحثُ عن وِجهةٍ لها، لن أنسى ما حييتُ ذاكَ اللقاءَ الأخيرَ الذي جمعني بسعدٍ وجابرٍ، حينَ غمرَ الحُزنُ والصمتُ لحظاتِ الفراقِ، وبينما يُفتِّشُ كلُّ واحدٍ مِنَّا عن كلماتٍ تصلحُ للوداعِ، فاجَأَنا سعدٌ باقتراحهِ بأنْ نُحدِّدَ يومًا في العامِ نجتمعُ فيه، فيطمئنَّ بعضنا على بعض، ونجدِّد عهدَ صداقَتِنا.

 

بدَّدتْ كلماتُه الوحشةَ والصمتَ، واتَّفقنا على أنْ نلتقيَ قُربَ الشاطئ بعدَ عامٍ، ثمَّ افترقنا بقلوبٍ منكسرةٍ.

 

مضتِ الأيامُ، وانقطعتْ أخبارُ سعدٍ وجابرٍ، وكلُّ ما علمتُه أنَّ سعدًا قصدَ أخوالَهُ شرقًا، وجابرًا قصدَ الساحلَ الغربيَّ حيثُ موطنُ جَدِّه وأقربائه، أمَّا أنا فقصدتُ هذا الشاطئ، حيثُ تنشطُ رحلاتُ الغوصِ التي تُذكِّرني بوالدي رحمه الله، الذي قضى حياته في البحر.

 

وها قد مضى العامُ، وغدًا يومُ اللقاءِ الموعودِ، كم اشتقتُ إليهما، ادعُ لي يا أخي، أنْ يجمَعني اللهُ بهما على خيرٍ.

 

وبينما أدعو له، التفتَ إليَّ قائلًا: لقد أخبرتكَ عن قصَّةِ كلماتي، فهلَّا أخبرتني أنتَ عن كلماتٍ كُنتَ تُردِّدها طوالَ الوقتِ.

 

• أيَّ كلماتٍ تقصدُ يا صالحُ؟

• كُنتَ تردِّدُ باستمرارٍ "أستغفرُ الله"، أفكُنتَ تُحمِّلُ نفسَكَ ذنبَ ما حصل؟

 

• لا يا صالح، صحيحٌ أنِّي خفتُ عليكَ كثيرًا، ودعوتُ لكَ بالنجاةِ، ولكنِّي أُدركُ تمامًا أنَّ ما حدثَ قضاءٌ وقدرٌ، ولكنَّ الاستغفارَ هو وِرْدِيَ الدائمُ وملاذيَ الآمنُ، فحينَ تشتدُّ عليَّ الكُروبُ ألتجئُ إليهِ؛ ليفتحَ اللهُ بهِ أبوابَ الفرجِ والرَّحمةِ، فالاستغفارُ لم يُشرعْ لطلبِ المغفرةِ فحسب.

 

بدا صالحٌ مستغربًا متردِّدًا في تصديقِ ما يسمعُ، ولم يكنْ في الوقتِ متّسعٌ لمواصلةِ الحديثِ، فقد شارفْنا على الوصولِ حيثُ الموعدُ المحدَّدُ لنا مع سُفنٍ أخرى عائدةٍ من رحلةِ الغوصِ.

 

على طولِ الشاطئِ احتشدتِ الجموعُ، تنتظرُ (القَفَّال)[3]؛ أي عودةَ السُّفنِ؛ حيثُ امتزجتْ أفراحُ المستقبلينَ بدموعِ المكلومينَ ممَّن فقدوا عزيزًا لهم لم يعُدْ مع العائدين، فقد أَلِفَ النَّاسُ غدرَ البحرِ مثلما أَلِفوا كرمَه.

 

شرَعنا نغادرُ الزِّحامَ الـمُنهِكَ، والشَّوقُ للغدِ يملأُ عينَي صالحٍ بأملٍ يحدوهُ للقاءِ صديقَيهِ، وفي غَمرةِ سروري بلقاءِ الأهلِ، يسرحُ بي الفضولُ بعيدًا: هل سيجتمعُ الأصدقاءُ غدًا؟ متى سألتقي صالحًا لأعلَمَ ما جرى؟

 

أيامٌ مضتْ وأنا أراقبُ الشَّاطئ، وذاتَ يومٍ وبينما أشاهدُ صفقةً لبيعِ اللؤلؤِ، إذْ بأحدهم يهتفُ باسمي، التفتُّ إليهِ فإذا بهِ صالحٌ، عانقتهُ والبِشْرُ يعلو وجهَه، ورغبةُ التحدُّثِ تفترشُ مُحيَّاه، وكأنَّه ينتظرُ سؤالي عمَّا جرى يومَ اللقاءِ الموعودِ، فشرعَ يقول:

"حضرَ الجميعُ، ولم يتأخَّرْ أحدٌ، بل إنِّي وصلتُ المكانَ في الوقتِ المحدَّدِ، ووجدتُهما قد سبقاني إليه، لقد كانَ لقاءً رائعًا، تزاحمتْ فيه الأشواقُ والذِّكرياتُ والهمومُ والأمنياتُ، لقد تغيَّرتْ ملامحُنا قليلًا وأحلامُنا كثيرًا.

 

بدا سعدٌ أكثرنا هَمًّا، فقد حضرَ إلى الموعدِ وعيناهُ معلَّقتانِ بالسَّماءِ، وكأنَّ القحطَ الذي فرَّ منه لحِقَ به، فبعدَ أنْ صرَفَ كلَّ ما يملكُ في استئجارِ أرضٍ وزراعتِها حُبِسَ المطرُ، وشارفَ الزَّرعُ والنَّخلُ على الهلاكِ، أمَّا جابرٌ فقد تُوفِّيَ والدُه فورَ رحيله، تاركًا له أُسرةً كبيرةً وأُمًّا مريضةً بلا مالٍ ولا عملٍ، أمَّا أنا فأعيشُ وزوجتي بكفافٍ وسَترٍ، ولكنْ ما عكَّر صفوَنا، وجلبَ لنا الهمَّ والغَمَّ هو شوقُنا لمولودٍ طالَ انتظاره".

 

سادَ الصَّمتُ للحظاتٍ، وهو يُحرِّكُ الرِّمالَ، ويذروها برفقٍ، وكأنَّه يُفتِّشُ بينَ حَبَّاتِها عن دواءٍ لتلكَ الكروبِ.

 

شعرتُ باليأسِ يملأُ قلبَه بعد أنِ اجتمعتْ فوقَ همِّهِ همومُ صديقَيه، حينها استحضرتُ آياتٍ عظيمةً من القرآنِ الكريمِ، فقلتُ برِفقٍ:

• أخي صالحُ، لديَّ وصفةٌ ناجعةٌ لكم، سهلةٌ ومباركةٌ، فهلَّا قبِلتَها منِّي، وأهديتَها لصديقَيكَ؟

 

• وصفةٌ ناجعةٌ، وسهلةٌ ومباركةٌ؟ ما دامتْ كذلك، فبكلِّ سرورٍ يا أخي.

 

• دَاوِموا على الاستغفارِ.

 

• الاستغفار؟! الاستغفارُ ثانيةً؟!

 

• نعم يا أخي، ألَمْ يقلِ اللهُ تعالى في كتابهِ العزيز: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12]؟ ألا تثِقُ بوعدِ رَبِّ العالمين؟!

 

تغيَّرتْ ملامحُ صالحٍ وكأنَّه يستمعُ الآياتِ لأوَّلِ مرَّةٍ، فردَّ مستغربًا:

أينفعُ الاستغفارُ لكلِّ هذا؟

• بالتأكيدِ يا صالح، بلْ أكثرَ من ذلك؛ فقد قالَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن لَزِمَ الاستِغفارَ، جعَلَ اللهُ له مِن كلِّ ضِيقٍ مَخرَجًا، ومِن كلِّ هَمٍّ فَرَجًا، ورَزَقَه مِن حيثُ لا يَحتَسِبُ))[4].

 

وغيرها الكثير من الآياتِ والأحاديثِ، أتَرى هذا البحرَ الواسعَ؟ لو نطقَتْ أمواجُه لأخبرتْكَ عن الاستغفارِ وقدرتهِ العجيبةِ في تغييرِ الموازينِ والأقدارِ بأمرٍ من العزيزِ الجبَّارِ، فكم أخرجَ من الأرزاق، وأنجى من المخاطرِ، وجبرَ من الخواطرِ!

 

أرسلَ صالحٌ عينيهِ في الأفقِ، ثمَّ مضى مودِّعًا، وقد تشرَّبتْ روحُه تلكم الكلماتِ.

 

مضتِ الأيامُ، وشاءَ اللهُ أنْ ألتقي بهِ بعدَ ثلاثةِ أعوامٍ عندَ الشاطئ، يرافقُ جماعةً من الطواويش، كانَ لقاءً مفاجئًا وحميمًا، وما إنْ سألتُه عن حالهِ حتى تهلَّل وجهُه، يُبشِّرني بأنَّ اللهَ رزقَه طفلًا أنارَ حياتَهم، وأنَّه انتقلَ للعملِ مع الطواويشِ في تجارةِ اللؤلؤِ، ثمَّ استرسلَ في الحديثِ عن صديقَيهِ قائلًا: "ما زلنا على العهدِ نحرصُ على حضورِ لقاءِ الصَّداقةِ كلَّ عامٍ، أمَّا سعدٌ فقد أغاثه اللهُ تعالى بالمطرِ في سنَتهِ تلكَ والسنينَ التَّاليةِ، وأغدَقَ اللهُ عليه بالمواسمِ الوفيرةِ، وأمَّا جابرٌ فقد رزقَه اللهُ بعملٍ مناسبٍ مع الصَّاغةِ في سوقِ الذَّهبِ حتى أتقنَ الصَّنعةَ، وبدأتْ أحلامُه تتحقَّقُ تِباعًا، ولا أُخفيكَ يا أخي، أنَّني وصديقَيَّ سعدًا وجابرًا نُوقِنُ أنَّ كلَّ هذا التوفيقِ إنَّما هو من بركاتِ الاستغفارِ، وكلَّما اجتمَعنا في يومِ الصداقةِ شكَرْنا اللهَ، وجدَّدْنا العهدَ بمداومةِ الاستغفارِ والدُّعاءِ لكَ في ظهرِ الغيبِ".

 

هُنا توقَّفَ الشيخُ لحظاتٍ عن سردِ القصَّةِ، وعَبراتُه تتدافعُ كأمواجِ بحرٍ هائجٍ، حاولَ التَّبسُّمَ؛ ليُطمئِنَّ الأعينَ الشَّاخصةَ نحوَه، فجأةً قطعَ خالدٌ الصمتَ بسؤالهِ: وماذا حدثَ بعدها يا جَدِّي؟ أكملْ أرجوك.

 

استجمعَ الشيخُ بقايا صوتهِ المُتعبِ قائلًا: ودَّعتُ صالحًا بسعادةٍ لا توصفُ، وأنا أستشعرُ النعمةَ العظيمةَ في أنْ جعلَني اللهُ تعالى سببًا لزوالِ همومهم وتنفيسِ كروبهم، وكلَّما تذكَّرتُ أنَّ هناكَ من يدعو لي في ظهرِ الغيبِ، شعرتُ وكأنَّني أمتلكُ كنوزَ الأرضِ ونجومَ السماءِ، وامتلأ قلبي رضًا وبُشرى بأنَّ اللهَ سيرحمني ويجمعني بكم في الجَنَّة.

 

قالها الشيخُ، ثمَّ تناولَ كوبَ الماءِ؛ ليروي به عطشَ الأشواقِ لتلك الأيامِ، وكأنَّه عائدٌ من رحلةٍ طويلةٍ أنهكتْ روحَه وجسدَه.

 

• أما زالَ الأصدقاءُ يجتمعونَ يا جَدِّي؟ قالتها سارة، والفضولُ يشغلُ الجميع.

 

• ليتني أعلمُ يا بُنيَّتي، فأخبارُهم غابتْ عنِّي بغيابِ صالحٍ، ولكنَّني مُتيقِّنٌ أنَّهم ما زالوا على العهدِ، فالصداقةُ الحقيقيةُ لا يُنهيها طولُ المسافاتِ، ولا تباعدُ الزمانِ.

 

حِوارٌ ملائكيٌّ دارَ في تلكَ الأثناءِ، والجَدُّ يُجيبُ عن أسئلتِهم الكثيرةِ حولَ القصَّةِ، منتقيًا عباراتِه من أرقى المعاني وأسهلِ الألفاظِ، يُرسلُها بابتسامتهِ الدافئةِ ورعشةِ صوتهِ الحانيةِ، حتى تنزلَ بردًا وسلامًا على قلوبهم، فيغرسَ فيهم ما يريدُ من القِيمِ والفضائل.

 

ختمَ الشيخُ الجلسةَ قائلًا: "انتهتْ حكايةُ اليومِ يا أحبَّائي، وصِيَّتي لكم: استكثروا من الاستغفارِ؛ تحُفَّكم ملائكةُ الرَّحمةِ من كلِّ جانبٍ، فكم من أُناسٍ يجوبونَ الأرضَ بحثًا عمَّا يُزيلُ كُروبَهم، والفرجُ قريبٌ مُعلَّقٌ بشفاهِهم".

 

نهضَ الجميعُ يُقبِّلون رأسَه، وبركةُ الدُّعاءِ تُبهجُ مسامعَهم، بقيَ الشيخُ بضعَ لحظاتٍ دونَ حَراكٍ، يستجمعُ قِواه ليعودَ من تلكَ الأماكنِ القاصيةِ من ذاكرتهِ التي غاصَ فيها، شيءٌ ما ينبضُ بين جوانحِه، يكادُ يعصفُ به، ويمنعهُ من العودةِ، إنَّه الحنينُ لتلكَ الأيامِ الخاليةِ، والشوقُ لأرواحٍ قضَتْ في زمنِ الطَّيِّبينَ، تذكَّرَ والدَيهِ، وزوجَتهُ، وأصدقاءَه، حاولَ أنْ يُوقِفَ نبشَ ذاكرتهِ، ويطوي شريطَ الأحداثِ في مخيِّلتهِ، استجمعَ قِواهُ وهو يُثبِّتُ عكَّازَه الصَّدفيَّ على الأرضِ بكلتا يديهِ، يريدُ النهوضَ والعودةَ إلى الواقعِ، بدأ لسانُه يلهجُ؛ فامتلأ المكانُ بعَبَقِ الذِّكرِ.

 

وفي صبيحةِ اليومِ التَّالي حيثُ لا تزالُ أجواءُ الجُمعةِ تُعطِّرُ أرجاءَ المنزلِ، تفاجأ الجَدُّ والوالدان بما صنعَهُ خالدٌ وسارةُ؛ ورقةٌ مُلوَّنةٌ أُلصِقَتْ على كلِّ بابٍ من أبوابِ المنزلِ كُتِبَ عليها "أستغفرُ الله".



[1] النوخذة: لفظةٌ غير عربية، فارسية أصلها ناخوذاه وهو الرّبان المسؤولِ عن كلِّ شيءٍ في السفينة، وبيده الحلُّ والعقْدُ، والجميعُ يمتثلون لأوامرهِ، وكذلك هو المسؤولُ عن عقدِ الصفقاتِ مع (الطواويش) تجارِ اللؤلؤِ الذين ينتظرون السُّفنَ على الشاطئ.

[2] الدانة: حَبَّة اللؤلؤة الكبيرة.

[3] القَفَّال: من قَفَلَ من السفرِ أي رَجَعَ، وكان يُطلقُ هذا الاسمُ فقط على عودةِ السُّفنِ مجتمعةً من موسمِ الغوصِ بعدَ رحلةٍ طويلةٍ استمرتْ قُرابةَ أربعةِ أشهرٍ في أوائلِ شهرِ أكتوبر حصرًا.

[4] سنن أبي داوود (1518).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الرِّبِّي (قصة قصيرة)
  • قم ( قصة قصيرة )
  • كابتسامة فانديتا (قصة)
  • تلاويح الخبال ( قصة قصيرة )
  • ذئب يبيت وحده في غرفة عمي ( قصة )
  • فاطمة والمبشر ( قصة )
  • وقع السلسلة ( قصة )
  • الصلعاء (قصة)

مختارات من الشبكة

  • قصة يوسف: دروس وعبر (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تعريف القصة لغة واصطلاحا(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • لطائف من كتاب الداء والدواء (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تنظيم الغريزة الجنسية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • أخطاء شائعة في المداواة (أو التداوي): (من الممارسة اليومية) (4)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الابتلاء بالعطاء في ظلال سورة الكهف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • قصص فيها عبرة وعظة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ملخص لخصائص القصة الشعرية إلى عصر الدول المتتابعة(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • افحص أدويتك مع صيدلاني الأسرة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • خصائص القصة الشعرية في النصف الأول من القرن التاسع عشر(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)

 


تعليقات الزوار
3- دعاء
عبد السلام حسن 11-09-2023 09:59 AM

سلمت أناملكم دكتور على ما كتبتم وأحسنتم ووصفتم ...
جعل الله ما كتبتم في ميزان حسناتكم
حفظكم الله.

2- سُقيا خير
مهاجر 26-08-2023 11:22 AM

كم جميل أن تفوز مثل هذه القيم في المسابقات، وأن يُسلّط عليها الضوء، وتحتويها مناهج التربية والتعليم، فنشفى قليلًا من حمى التوافه والسفاسف، التي ملأت علينا الحياة، وسدّت منافذ البصر والبصيرة؛ فأشغتلنا عمّا خُلقنا لأجله بما خُلق لأجلنا، وأفقدتنا كل شيء...
بوركتَ أخي الكريم عمّا أبليته باقتدار من جودة السبك واصطفاء الكلمات وفيض المشاعر ورقي المعاني... لكم كل الاحترام والتقدير وجزاكم الله خيرا

1- فوائد الاستغفار
أم برهو - سوريا 25-08-2023 04:25 PM

العجب لمن يهلك ومعُه النجاة، قيل وما هي؟
قال الاستغفار !
- عمر بن الخطاب رضي الله عنه

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 13/11/1446هـ - الساعة: 23:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب