• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

دراسة للخطب في الجاهلية (1)

د. إبراهيم عوض

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 11/10/2017 ميلادي - 20/1/1439 هجري

الزيارات: 18612

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

دراسة للخطب في الجاهلية (1)


يتناول الجاحظ في كتابه: "البيان والتبيين"، ضمن ما يتناول، الخطابة عند العرب في العصر الجاهلي، مبينًا أنهم كانوا بارعين في هذا الميدان براعة منقطعة النظير، حتى إنهم لم يكونوا عادة بحاجة إلى الاستعداد المسبق لمواجهة الجموع التي يتطلبها هذا الفن، بل كان الكلام في مثل تلك المواقف ينثال عليهم انثيالًا؛ إذ كانت قرائحهم خصبة ممتازة، وتفوُّقهم في ميدان الأحاديث العامة معروفًا لا يحتاج إلى برهان، وبخاصة أنهم كانوا يدربون أبناءهم عليها منذ وقت مبكر، بيد أن من الباحثين العرب المُحدَثين من يرى أنهم كانوا يعدون خطبهم ويهيئون أنفسهم لإلقائها مسبقًا؛ فهذه طبيعة الإبداع الأدبي كما يقول؛ (د. إحسان النص/ الخطابة العربية في عصرها الذهبي/ دار المعارف/ 1963م/ 16 - 17)، وهو ما تميل النفس إليه، وبخاصة أن من خطبهم التي تبعث على الثقة بصحتها ما كان يحليه السجع، مما يصعب تصور انثياله على لسان الخطيب ارتجالًا، وهو من الأسباب التي دفعتني للشك في بعض الخطب الجاهلية المثقلة بالتسجيع والمحسنات البديعية كما سيأتي لاحقًا، كما كانت لهم تقاليد مشهورة في إلقاء الخطب يحرصون عليها أشد الحرص، منها لُبس العمائم واتخاذ المخصرة؛ أي العصا، وفي كتاب الجاحظ المذكور آنفًا نماذج من الخُطب التي تركها لنا الجاهليون، ومعها أسماء عدد ممن اشتهروا بالتفوق في ذلك الباب، وهذا كله يبرهن أقوى برهان على أن العرب في ذلك العصر كانت لهم خطبهم وأحاديثهم، وأن هذه الخطب والأحاديث لم تَضِعْ، رغم أنهم كانوا أمة أمية في غالب أمرها؛ إذ كانت حافظتهم لاقطة شديدة الحساسية، كما أن اعتزازهم بكلامهم وتقاليدهم قد ضاعف من اهتمامهم بحفظ نصوص خطبهم المشهورة.

 

وبالمِثل يؤكد جرجي زيدان أن العرب في ذلك العصر كانوا خطباء مصاقِعَ بتأثير طبيعتهم النفسية وأوضاع حياتهم السياسية والاجتماعية؛ إذ كانوا ذوي نفوس حساسة أبيَّة تعشق الاستقلال وتبغَض العبودية أشد البغض، كما كثر فيهم الفرسان آنذاك، والخطابة، حسبما يقول، تناسب عصور الفروسية، حيث تغلِب الحماسة على النفوس، وتكون للكلمة البليغة المتلهبة مكانة عظيمة عالية، فضلًا عن أنهم كثيرًا ما كانوا يتنافرون ويتفاخرون بالأحساب والأنساب مواجهةً عن طريق المناظرات والخطب، إلى جانب كثرة وفودهم في المناسبات المختلفة، وبخاصة عند الملوك، مما كان يستلزم قيام الخطباء للحديث في تلك الظروف، وهم في العادة شيوخ القبائل ورؤساء الناس، كما ذكر أيضًا أنهم كانوا يدربون فتيانهم على إتقان هذا الفن منذ حداثتهم، وأنهم كانوا يحفظون خطبهم ويتوارثونها جيلًا بعد جيل، ومن هنا كانت عنايتهم الشديدة بها وبصياغتها؛ (جرجي زيدان/ تاريخ آداب اللغة العربية/ مراجعة وتعليق د. شوقي ضيف/ 1/ 167 - 169)، و"كان مفروضًا في الخطيب الجاهلي أن يعرف القبائل والأنساب والوقائع والتاريخ حتى تجتمع له من ذلك مادة الخُطبة حين ينافر أو يفاخر أو يهادن أو يحرض قومه على قتال أو يدافع عن أحساب قومه"؛ (محمد عبدالغني حسن/ الخطب والمواعظ/ دار المعارف/ 1955م/ 21).

 

هذا ما يقوله ثلاثة من كبار مؤرخي الأدب العربي قديمًا وحديثًا، بَيْدَ أن للدكتور طه حسين رأيًا مختلفًا تمامًا عما سمعناه منهم؛ إذ يؤكد أن العرب لم يتركوا لنا أية آثار أدبية نثرية البتة، لا خُطبًا ولا غير خُطب: فالنثر من جهة يحتاج إلى بيئة ثقافية متقدمة لم تكن متوفرة في جزيرة العرب قبل الإسلام، ومن جهة أخرى لم يصل إلينا عنهم شيء من ذلك مكتوب، فكيف نطمئن إذًا إلى ما يقال: إن العرب قد خلفوه لنا من خطب وحكم ووصايا وأسجاع كهنوتية؟ لكننا نراه، بعد أن أكد هذا في أسلوب حاسم قاطع، يرجع على عقبيه القهقرى مستثنيًا مِن شكه هذا بعضًا من النثر، وهو الأمثال، التي يعود فيقول: إنها أقرب إلى الأدب الشعبي منها إلى النثر الفني الذي يقصده، أما الخطابة فإنها تستلزم حياة خصبة جياشة، وحياة العرب قبل الإسلام لم تكن فيها سياسة قوية ولا نشاط ديني عملي، بل كانت قائمة على التجارة، وهي لا تحتاج إلى خطابة ولا تعين عليها، أو على الحروب والغزوات، وهذه إنما تحتاج إلى الحوار والجدل لا إلى الخطب؛ (طه حسين/ في الأدب الجاهلي/ دار المعارف/ 1964م/ 329 - 332)، ولعله لهذا السبب نبحث عبثًا، في كتاب "التوجيه الأدبي" الذي ألفه طه حسين مع أحمد أمين وعبدالوهاب عزام ومحمد عوض محمد، عن أي حديث يتعرض للخطابة في العصر الجاهلي؛ إذ كلما ورد ذكر الخطابة عند العرب وجدنا كاتب الفصل، وأغلب الظن أنه طه حسين نفسه، يقفز مباشرة إلى الحديث عنها بدءًا من العصر الإسلامي فهابطًا إلى العصر الحديث متجاهلًا تمام التجاهل أي كلام عنها فيما قبل الإسلام! (التوجيه الأدبي/ مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر/ 1359هـ - 1940م/ 41 وما بعدها، وكذلك 73 وما بعدها)، رغم تأكيد الكاتب أيضًا أن "تاريخ الخطابة يكاد يكون مقارنًا للتاريخ الإنساني: نشأ بنشأته، وارتقى برقيه"، وأنه "لهذا رُويت لنا الخطب منذ عُرف التاريخ"، وأنه متى توفر عاملَا الحرية وشعور الأمة بسوء حالتها وتطلعها إلى حالة أفضل انتعش هذا الفن انتعاشًا كبيرًا؛ (المرجع السابق/ 38 - 40)، وهو ما تحقق للعرب في ذلك العصر حسبما هو معلوم؛ إذ لم يكن لهم دولة تمارس سلطانها عليهم، وينزلون لها عن حظ مِن حريتهم واستقلالهم، كما أن السخط على الأوضاع كان منتشرًا بين كثير منهم آنذاك، هذا السخط الذي كان إحدى عُدَد الإسلام في مواجهة الجاهلية وأوضاعها الباطلة التي جاء ليغيِّرها إلى ما هو أفضل، ثم إنه من غير المنطقي أن يخترع العرب في عصور التدوين كل تلك الخطب وكل أولئك الخطباء من العدم ودون أن يقوم من بينهم من يفضح هذا التزييف، وكأن الأمة قد صارت كلها أمة من الكذابين أو من الكذابين والسذج المغفلين الذين يجوز عليهم مثل هذا الخداع دون أن يثير فيهم إنكارًا أو حتى دهشة واستغرابًا!

 

على كل حال، فطه حسين إنما يسير في إنكاره للنثر الجاهلي على ذات الدرب المتخبِّط الأهوج الذي سار عليه في نفيه للشعر الجاهلي كله تقريبًا مشايعًا المحترق مرجليوث في خُرقه وضلاله وعمى منطقه وبصيرته! وفوق ذلك فمن الصعب على العرب، كما يلاحظ بحق عبدالله عبدالجبار ود. محمد عبدالمنعم خفاجي، أن يرتقوا فجأة في ميدان الخطابة هذا الارتقاء الذي يقر هو به بعد الإسلام لو كانوا لا يعرفون الخطابة في الجاهلية، أو كانت خطابتهم على الأقل من التفاهة وعدم الغَناء بالموضع الذي يزعم طه حسين؛ (انظر كتابهما: "قصة الأدب في الحجاز في العصر الجاهلي"/ مكتبة الكليات الأزهرية/ 1400هـ - 1980م/ 202 - 203)، كذلك قد قفشه د. محمد عبدالعزيز الموافي قفشة بارعة بحق حين لفت الانتباه إلى أن طه حسين عندما أنكر وجود الخطابة الجاهلية إنما كان اعتماده في ذلك الإنكار على خلوِّ العصر الجاهلي من الحضارة والحياة المدنية الراقية، مع أنه سبق أن أقام إنكاره لصحة الشعر الجاهلي على القول بأن ذلك الشعر لا يمثل الحياة العقلية الراقية لدى الجاهليين؛ (د. محمد عبدالعزيز الموافي/ قراءة في الأدب الجاهلي/ ط7/ دار الثقافة العربية/ 1424هـ - 2003م/ 286 - 287)، ونضيف نحن أنه، رغم نفيه هنا أن يكون للجاهليين أي نشاط ديني عملي، كان قد أقام إنكاره للشعر الجاهلي على عدة أسس، من بينها: أن هذا الشعر لا يعكس حياتهم الدينية، فأي حياة دينية يعكسها إذا لم تكن لهم حياة دينية عملية أصلًا كما يقول هو بعظمة لسانه؟ أي إنه يقول بالشيء ونقيضه لتقرير ما يريد تقريره دون مبالاة باعتبارات المنطق أو حقائق التاريخ، مع الاستعانة بالسفسطة السخيفة التي لا تُحق حقًّا ولا تُبطِل باطلًا! ولقد فات د. طه أن هناك نصوصًا شِعرية جاهلية تذكر الخطابة والخطباء في ذلك العصر، وهو دليل آخر على وجود الخطابة والخطباء أوانئذ، ومن هذه الأشعار قول ربيعة بين مقروم الضبي:

ومتى تقُمْ عند اجتماعِ عشيرةٍ ♦♦♦ خطباؤُنا بين العشيرة يُفصَلِ

 

وقول أبي زبيد الطائي:

وخطيبٍ إذا تمعرت الأو ♦♦♦ جه يومًا في مأقط مشهود

 

وقول النجاشي الحارثي:

وخطيب إذا تمعرت الأو ♦♦♦ جه يشجى به الألدُّ الخصيم

 

وقول بلعاء بن قيس الكناني:

ألا أبلِغْ سراقةَ يا بن مال ♦♦♦ فبئس مقالةُ الرجلِ الخطيب

 

وقول ملاطم الفزاري:

ذكَرْت برؤيتي حَمَل بن بدر ♦♦♦ وصاحبَه الألدَّ على الخطيب

 

وقول أوس بن حجر:

أمْ مَنْ يكون خطيبَ القومِ إذ حفلوا ♦♦♦ لدى الملوكِ ذوي أَيْدٍ وأفضالِ؟

 

وقول عامر بن فضالة:

وهم يَدْعمون القولَ في كلِّ محفَلٍ ♦♦♦ بكلِّ خطيبٍ يترُكُ القومَ كُظَّمَا

 

وقول عامر المحاربي:

يقومُ فلا يَعْيَا الكلامَ خطيبُنا ♦♦♦ إذا الكربُ أنسى الجِبْسَ أن يتكلَّفا

 

وقول عمرو بن الإطنابة:

والقائلين فلا يُعابُ خطيبُهم ♦♦♦ يومَ المقالةِ بالكلامِ الفاصل

 

وقول عمرو بن كلثوم:

وأبي الذي حمَل المِئين وناطقُ الـ ♦♦♦ معروف إذ عيَّ الخطيبُ المِفصَلا

 

وقول أميمة بنت أمية:

وكم مِن ناطقٍ فيهم ♦♦♦ خطيبٍ مِصْقَعٍ مُعرِبِ

 

وقول زبان بن سيار الفزاري:

كلُّ خطيبٍ منهمُ مَؤُوفُ

 

ومعروف أن كل وفد من الوفود القَبلية التي قدمت على النبي عليه السلام في المدينة في العام التاسع للهجرة كان يضم بين أفراده خطباء يتكلمون باسم الوفد ويتبادلون الخطابة مع الرسول عليه السلام ومَن حوله من الصحابة، وهذا أيضًا من الأدلة التي لا يمكن نقضها مهما سفسط الدكتور طه، وقد تعرض لذلك د. جواد علي في المجلد الرابع من كتابه: "المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام"؛ (في الفصل الخاص بـ"النثر"، تحت عنوان "الخطابة")؛ إذ قال: "والخطابة عند الجاهليِّين حقيقة لا يستطيع أحد أن يجادل في وجودها، ودليل ذلك خطب الوفود التي وفدت على الرسول، وهي لا تختلف في أسلوب صياغتها وطريقة إلقائها عن أسلوب الجاهليين في الصياغة وفي طرق الإلقاء، ثم إن خطب الرسول عليه السلام في الوفود وفي الناس وأجوبته للخطباء هي دليل أيضًا على وجود الخطابة بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة عند الجاهليين"، وإن كان من رأيه أن هناك خطبًا جاهلية منحولة، وأن نصوص الخطب الصحيحة لم تصل إلينا كما قيلت، بل دخلها التغيير بفعل الزمن وضعف الذاكرة البشرية، وبخاصة أن الخُطب ليست كالشعر؛ أي: ليس فيها وزن وقافية يساعدان على حِفظها.

 

وعلى عكس ما يهرف به طه حسين هنا على النحو الذي كان معروفًا عنه عند عودته من أوربا متصورًا أنه قد حاز العلم كله وأن القول ما قال المستشرقون، الذين كان يردد كلام من يشككون منهم في تاريخ العرب وأمجادهم بعُجره وبُجره دون أن يتريث لحظة واحدة للتثبت مما يقوله هذا الصنف الموتور منهم، على عكس ذلك يؤكد أحمد حسن الزيات أن العرب، بنفوسهم الحساسة ونزوعهم إلى الحرية والاستقلال وميلهم إلى الفَخَار وما كانوا يتسمون به من غَيرة ومسارعة للنجدة وبلاغة في القول وذلاقة في اللسان وما عرفوه من الوفود والسفارات، كانوا مهيئين للتفوق في ميدان الخطابة، مبينًا أن خطبهم كانت تتسم بالقِصر والسجع حتى تعلق بالذهن عُلوقًا سهلًا؛ (أحمد حسن الزيات/ تاريخ الأدب العربي/ 19)، وبالمثل يقرر د. علي الجندي بحق أنه قد "ثبت أن (العرب) كانوا يخطبون في مناسبات شتى: فبالخطابة كانوا يحرضون على القتال استثارة للهمم وشحذًا للعزائم، وبها كانوا يحثون على شن الغارات حبًّا للغنيمة أو بثًّا للحمية رغبة في الأخذ بالثأر، وبالخطابة كانوا يدعون للسلم حقنًا للدماء ومحافظة على أواصر القربى أو المودة والصلة، ويحببون في الخير والتصافي والتآخي، ويُبغِّضون في الشر والتباغض والتنابذ، وبالخطابة كانوا يقومون بواجب الصلح بين المتنافرين أو المتنازعين، ويؤدون مهام السفارات جلبًا لمنفعة أو درءًا لبلاء أو تهنئة بنعمة أو تعزية أو مواساة في مصيبة، فوق ما كانت الخطابة تؤديه في المصاهرات، فتلقى الخطب ربطًا لأواصر الصلة بين العشائر وتحبيب المتصاهرين بعضهم في بعض"؛ (د. علي الجندي/ في تاريخ الأدب الجاهلي/ 264 - 265)، وعلى هذا الرأي أيضًا نجد د. أحمد الحوفي، الذي يسارع مع هذا إلى الاستدراك بأن العرب، بخلاف ما كان الحال عليه لدى الرومان واليونان، لم يكونوا يعُدُّون خطبهم قبل إلقائها، بل كانوا يعتمدون على الارتجال والبديهة، ومن هنا جاءت خطبهم لمعًا بارقة دون تفصيل أو تخطيط؛ (أحمد محمد الحوفي/ فن الخطابة/ مكتبة نهضة مصر/ 150 - 151)، أما السباعي بيومي فيرى أن خطباء العرب كانوا يحفلون بخطبهم أيما حُفُول، "فيتخيرون لها من المعاني أشرفها، ومن الألفاظ أفصحها، لتكون أشد وقعًا على النفوس، وأبعد تأثيرًا في القلوب، وأيقظ للهمم، وأحث على العمل"؛ (تاريخ الأدب العربي - ج 1 في العصر الجاهلي/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 97)، ومن قبل سرد ابن وهب الموضوعات التي كانت تدور عليها الخطب آنذاك قائلًا: إن "الخطب تستعمل في إصلاح ذات البين وإطفاء نائرة الحرب (أي نارها وشرها)، وحمالة الدماء والتسديد للملك، والتأكيد للعهد، وفي عقد الإملاك (أي الزواج)، وفي الدعاء إلى الله عز وجل، وفي الإشادة بالمناقب (الأعمال الجليلة)، ولكل ما أُريد ذكره ونشره وشهرته بين الناس"؛ (ابن وهب/ البركان في وجوه البيان/ تحقيق حفني شرف/ مطبعة الرسالة/ 1969م/ 150)، ومن العجيب أن طه حسين قد عاد بعد ذلك فأقر بوجود خطب في الجاهلية، إلا أنها لم يبقَ منها شيء؛ (انظر كتابه: "خصام ونقد"/ ط9/ دار العلم للملايين/ 1979م/ 212).

 

أما د. شوقي ضيف فيسلك سبيلًا مخالفة للفريقين جميعًا؛ إذ بينما نراه يؤكد وجود الخطابة والخطباء في الجاهلية وتوفر العوامل السياسية والدينية والاجتماعية التي تكفل لها الازدهار؛ إذ به يشك في كل ما وصلنا تقريبًا عن ذلك العصر من خُطب، والسبب في هذا الشك لديه هو بُعد الشُّقَّة الزمنية بين العصر الجاهلي وعصر التدوين أيام العباسيين، ومع ذلك نجده يقول: إن مَن زيفوا نصوص الخطب الجاهلية كانوا بلا شك يعتمدون على نصوص جاهلية صحيحة وضعوها أمامهم واحتذوها، وعلى هذا فإذا وجدنا أن كثيرًا من الخطب والمفاخرات والمنافرات التي تنسب إليهم مجودة مسجوعة مثلًا، فمعنى هذا أنهم في الجاهلية كانوا يجودون ويسجعون في خطبهم ومفاخراتهم ومنافراتهم فعلًا؛ (د. شوقي ضيف/ العصر الجاهلي/ 410 - 419، والفن ومذاهبه في النثر العربي/ ط7/ دار المعارف/ 1974م/ 33 - 38).

 

إلا أننا مع احترامنا للأستاذ الدكتور وتقديرنا للفصلين اللذين كسرهما لهذا الموضوع في كتابيه المشار إليهما وما فيهما من علم وتحليل، لا نستطيع أن نسلم بما يقول على علَّاته؛ إذ لا معنى لكلامه هذا إلا أنه قد وصلت فعلًا إلى مخترعي الخطب الجاهلية نصوص صحيحة منها قاسوا عليها ما صنعوه ونسبوه إلى الجاهليين، فلماذا رموها خلف ظهورهم واكتفوا بما اخترعوه رغم تَيْح الأصل لهم؟ وإذا كانوا لأمر ما غير مفهوم قد أقدموا على هذا الصنيع الأخرق فكيف لم يُتَحْ لهذه النصوص الصحيحة مَن يعرف لها قدرها ويحفظها من الضياع؟ وقبل ذلك من قال: إن بُعد الزمن ما بين الجاهلية وعهد التدوين كفيل بإنساء العربي تراث آبائه وأجداده؟ لقد عُرف العربي بذاكرته القوية وحرصه على تاريخه وأدبه واعتزازه بالكلمة الفنية التي ينتجها نثرًا كانت أو شعرًا، وقيام حياته الثقافية على الحفظ والرواية والتمثل المستمر بنتاج قرائح الشعراء والمتكلمين بحيث كان من الصعب أشد الصعوبة انتساخ تراثه القولي، فإذا أضفنا أن كثيرًا من خطبهم في الجاهلية كان مسجعًا مجنسًا مراعى فيه الموازنة وقِصر الجُمل، فضلًا عن قِصر الخُطب نفسها تبين لنا أن حفظ مثل هذا النتاج الأدبي لم يكن بالمهمة الشديدة الصعوبة، بله المستحيلة، كما يتخيل البعض منا قياسًا على ما يخبرونه من الذاكرة العربية الحالية، وهي ذاكرة لا تتمتع بما كانت تتمتع به سليفتها الجاهلية من حدة ودقة، مثلما لا يتمتع أصحابها بما كان يتمتع به نظراؤهم أوانذاك من اهتمام فائق بالكلمة المشعورة والمنثورة رغم تصورنا العكس اعتمادًا على ظواهر الحال المضللة، ولا ننسَ أيضًا أن العقل الجاهلي لم يكن ينوء بما ننوء به الآن من مشاغل ومتاعب تصرفنا صرفًا عن الحفظ والاهتمام برواية الأشعار والخطب على النحو الذي كان عليه الوضع في العصر الجاهلي، وفوق هذا فإن الأمية التي كانت تسم مجتمعهم بوجه عام قد دفعتهم دفعًا إلى الاستعمال المكثف والمستمر للذاكرة بما يجعلها ناشطة نشاطًا لا نعرفه الآن، وعلى كل حال فقد قال الأستاذ الدكتور أيضًا - كما رأينا -: إن الذين اخترعوا الخطب ونسبوها للجاهليين قد قاسُوها على ما وصلهم من خطب جاهلية حقيقية؛ أي إن بُعد الزمن لم يكن له ذلك التأثير الذي عزاه إليه وعلل به شكه في صحة خطب الجاهلية التي بلغتنا، "الواقع أن آخر كلامه ينقض أوله بكل أسف! بيد أن قولنا بقدرة الذاكرة العربية على تأدية المحفوظ من نصوص الخطابة الجاهلية شيء، والزعم بأنها قد أدته على وجهه لم تخرم منه شيئًا، فلم تضف إليه ما ليس منه ولم تنقص منه ما كان فيه، ولم تبدل بعض ألفاظه وعباراته أو معانيه ومضامينه، هو شيء آخر مختلف؛ فالذاكرة البشرية، ككل شيء في عالم البشر، عُرضة للسهو والكلال والالتباس، ودعنا من النصوص التي زيفت تزييفًا واخترعت اختراعًا مما سنتناوله بشيء من التفصيل فيما يلي حينما نقف عند طائفة من النصوص الخطابية التي ليست قمينة في نظرنا بالقبول والاطمئنان.

 

ومن هذه الخُطب المنسوبة للجاهلية التي يصعب علينا القول بجاهليتها: تلك الخطب التي يُفترض أن أصحابها يتنبؤون فيها بمجيء "محمد" عليه الصلاة والسلام؛ إذ السؤال هو: من أين لأصحابها هذا العلم بالغيب؟ إن الغيب هو من شأن الله سبحانه وتعالى وحده، لا يعلمه أحد سواه، يقول بهذا القرآن والحديث وينطق به العقل والمنطق، ولو أن الذين قالوا هذا كانوا يهودًا أو نصارى لقلنا: ربما قرؤوه في كتبهم، لكنهم لم يكونوا هودًا ولا نصارى، فأنى لهم ذلك؟ وحتى لو كانوا من أهل الكتاب فإن الذي في القرآن أن عيسى قد بشَّر برسول يأتي من بعده اسمه "أحمد"؛ (الصف/6)، على حين أن اسم النبي في هذه الخُطب هو "محمد"! ليس ذلك فحسب، بل هناك أسئلة أخرى لا نستطيع الإجابة عليها لو قبلنا صحة هذه الخطب، وهي: لو أن ما جاء في تلك الأحاديث صحيح تاريخيًّا، فكيف لم يحاجِجِ النبي به قومه فيقول لهم مثلًا: لقد سبق أن سمعتم بأن هناك نبيًّا من قريش سوف يظهر، اسمه محمد، فكيف تكفرون بي بعد أن قال كهَّانكم أنفسهم ذلك قبل ولادتي؟ لكننا ننظر في كلامه صلى الله عليه وسلم وفي القرآن الكريم فلا نجد أثرًا لمثل هذه الحجة التي كان من شأنها أن تعضد موقفه عليه السلام أيما تعضيد! كذلك فبعض هذه الخطب قد نسب لكعب بن لؤي جد النبي البعيد، ولو كان هذا صحيحًا فكيف لم يُذكِّر عليه السلام أهل بيته الذين كفروا به؛ كعمه أبي لهب مثلًا أو عمه أبي طالب بما قاله جدهم، ونحن نعرف أن الجاهليين كانوا يتمسكون أشد التمسك بما كان عليه الآباء والأجداد، كما تبدى في رد الأخير فيما يروون عنه عند موته؛ إذ اعتذر عن الدخول في دعوة محمد على أساس أنه لا يحب المخالفة عن دين آبائه؟ وعلى هذا فإننا نقف مرتابين أشد الريبة إزاء الخطبة التالية التي ينسبونها لجد النبي ذاك، والتي يقول فيها: "اسمعوا وعوا، وتعلَّموا تعلَموا، وتفهَّموا تفهموا، ليل ساج، ونهار صاج، والأرض مهاد، والجبال أوتاد، والأولون كالآخرين، كل ذلك إلى بلاء، فصِلُوا أرحامكم، وأصلحوا أحوالكم، فهل رأيتم من هلك رجع، أو ميتًا نُشر؟ الدار أمامكم، والظن خلاف ما تقولون، زيِّنوا حرَمكم وعظموه، وتمسكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم.

نهارٌ وليلٌ واختلافُ حوادثٍ
سواء علينا حلوُها ومريرُها
يؤوبان بالأحداث حتى تأوَّبا
وبالنعَم الضافي علينا ستورُها
يؤوبان بالأحداث حتى تأوَّبا
لها عُقَدٌ ما يستحيل مريرُها
على غفلةٍ يأتي النبي محمد
فيُخبرُ أخبارًا صَدُوقًا خبيرُها
• • •
يا ليتَني شاهدٌ فحواءَ دعوتِه
حين العشيرةُ تَبْغي الحقَّ خِذلانَا"

 

وهذه الخُطبة، فوق ذلك، تحتوي على أشياء أخرى تدفعنا إلى مزيد من التشكك فيها، منها أن العبارة التي يتمنى فيها كعب أن يكون حيًّا عند ظهور محمد تذكرنا بما قاله في نفس المعنى ورقة بن نوفل، الذي كان هناك سببٌ وجيه لكلامه هذا، ألا وهو أنه كان يخاطب النبي عليه السلام، فمن الطبيعي أن يتمنى مثل هذه الأمنية؛ إذ ها هو ذا النبي الموعود واقفًا أمامه يجاذبه أطراف الحديث حول ما رآه في الغار عند ظهور جبريل له، فيجد من واجبه الإنساني على الأقل أن يبصره بما ينتظره من متاعب عند بدء الدعوة الفعلية، ويُظهر له تعضيده ويرفع من روحه المعنوية، أما كعب فكانت بينه وبين النبي الذي يتحدث عنه من الزمن ما لا معنى معه لما قال، وفضلًا عن ذلك فمِيسَم القرآن الكريم واضح وضوحًا كبيرًا في خطبته أسلوبًا ومعنى؛ كما في قوله: "والأرض مهاد، والجبال أوتاد، والأولون كالآخرين... فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبي كريم"، وهو ما يذكرنا بقوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ [النبأ: 7]، ﴿ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الواقعة: 49، 50]، ﴿ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ ﴾ [ص: 67]، ﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ ﴾ [الدخان: 17]، ولو كان كعب قال ذلك فعلًا لكان حجة للمشركين يشهرونها بكل بساطة وشماتة في وجهه صلى الله عليه وسلم قائلين له: ما بالك تأخذ كلام جدك وتدعي أنه من وحي السماء؟ ثم ما معنى نصحه إياهم أن يتمسكوا بالبيت الحرام ولا يفارقوه؟ هل سمع أحد أن قريشًا فكرت يومًا في شيء من هذا القبيل، وهي التي لم يكن لها شرف في العرب إلا شرف القيام على أمر البيت الحرام؟ وبالمناسبة لماذا لم يعرج كعبٌ على الأوثان التي كانت في بيت الله فيزجر قومه من عبادتها وتقديسها ما دام يتحدث بهذا السرور والإيمان عن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم؟ والطريف أن أحدًا من سامعيه لم يخطر له أن يستفسر منه عمن يكون محمد هذا، أو يستغرب ظهور نبي من العرب أصلًا، بل إنه لمن الواضح أن كعبًا، حسب الخطبة التي طالعناها لتونا، لم يكن يدور في باله أن محمدًا هذا لن يكون أحدًا آخر غير حفيد من أحفاده سيولد بعد عدة أجيال!

 

وعلى نفس الشاكلة تجري الأحاديث التالية المنسوبة إلى خنافر بن التوءَم الحِميري وشافع بن كليب الصدفي وسطيح الذئبي وشق أنمار وعفيراء الكاهنة على التوالي:

1- حديث خُنافر بن التوءَم الحِميري مع رئيه شصار: "كان خنافر بن التوءم الحميري كاهنًا، وكان قد أوتي بسطة في الجسم وسعة في المال، وكان عاتيًا، فلما وفدت وفود اليمن على النبي وظهر الإسلام أغار على إبل لمراد فاكتسحها، وخرج بأهله وماله ولحق بالشحر، فخالف جودان بن يحيى الفرضمي، وكان سيدًا منيعًا، ونزل بواد من أودية الشحر مخصب كثير الشجر من الأيك والعرين، قال خنافر: وكان رئيي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عني، فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة، وساءني ذلك، فبينا أنا ليلة بذلك الوادي نائمًا إذ هوى (انحدر في الجو) هوي العقاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسمع أقل، قلت: قُل أسمع، فقال: عِهْ تغنَمْ، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية، قلت: أجل، فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتُسخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير (أي صديق) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنست بأرض الشأم نفرًا من آل العُذام (يقصد قبيلة من الجن)، حكامًا على الحكام، يذبرون (يقرؤون) ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزُجرت، فعاودت فظُلفت (أي منعت)، فقلت: بمَ تُهَيْنِمون؟ وإلام تعتزون؟ قالوا: خطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنجُ من أوار النار، فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مُضر، من أهل المدر، ابتعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجًا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومَعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مُضر؟ قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشَّبر (أي الخير)، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفِراق، لا عن تلاق، قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإحرين، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين، قلت: أوضح، قال: الحق بيثرب ذات النخل، والحرة ذات النعل، فهناك أهل الطول والفضل، والمواساة والبذل، ثم امَّلَس عني، فبت مذعورًا أراعي الصباح، فلما برق لي النور امتطيت راحلتي وآذنت أعبُدي واحتملت بأهلي حتى وردت الجوف، فرددت الإبل على أربابها، بحولها وسقابها (أي بجمالها ونوقها، جمع: "حائل" و"سقب")، وأقبلت أريد صنعاء، فأصبت بها معاذ بن جبل أميرًا لرسول الله، فبايعته على الإسلام، وعلمني سورًا من القرآن، فمنَّ الله علي بالهدى بعد الضلالة، والعلم بعد الجهالة".

 

2- شافع بن كليب الصدفي يتكهن بظهور النبي: "قدم على تُبَّع الآخر ملك اليمن قبل خروجه لقتال المدينة شافع بن كليب الصدفي، وكان كاهنًا، فقال له تُبَّع: هل تجد لقومٍ ملكًا يوازي ملكي؟ قال: لا، إلا ملك غسان، قال: فهل تجد ملكًا يزيد عليه؟ قال: أجده لبارٍّ مبرور، ورائد بالقهور، ووصف في الزبور، فضلت أمته في السفور، يفرج الظلم بالنور، أحمد النبي، طوبى لأمته حين يجي، أحد بني لؤي، ثم أحد بني قُصي، فنظر تبع في الزبور، فإذا هو يجد صفة النبي".

 

3- سطيح الذئبي يعبر رؤيا ربيعة بن نصر اللخمي: "رأى ربيعة بن نصر اللخمي ملك اليمن، وقد ملك بعد تبع الآخر، رؤيا هالته، فلم يدَعْ كاهنًا ولا ساحرًا ولا عائفًا ولا منجمًا من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبروني بها وبتأويلها، قالوا له: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إني إن أخبرتكم بها لم أطمئن إلى خبركم عن تأويلها؛ فإنه لا يعرف تأويلها إلا من عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سطيح وشق؛ فإنه ليس أحد أعلم منهما فيها، يخبرانه بما سأل عنه، فبعث إليهما فقدم عليه سطيح قبل شق، فقال له: إني قد رأيت رؤيا هالتني وفظعت بها فأخبرني بها، فإنك إن أصبتها أصبت تأويلها، قال: أفعل، رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بأرض تهمة، فأكلت منها كل ذات جمجمة، فقال له الملك: ما أخطأت منها شيئًا يا سطيح، فما عندك في تأويلها؟ فقال: أحلف بما بين الحرتين من حنش، ليهبطن أرضكم الحبش، فليملكن ما بين أبين إلى جرش، فقال له الملك: وأبيك يا سطيح إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني هذا أم بعده؟ قال: لا، بل بعده بحين، أكثر من ستين أو سبعين يمضين من السنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: لا، بل ينقطع لبضع وسبعين من السنين ثم يقتلون بها أجمعين، ويخرجون منها هاربين، قال: ومن يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قال: يليه إرم ذي يزن، يخرج عليهم من عدن، فلا يترك أحدًا منهم باليمن، قال: أفيدوم ذلك من سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع، قال: ومن يقطعه؟ قال: نبي زكي، يأتيه الوحي من قبل العلي، قال: وممن هذا النبي؟ قال: رجل من ولد غالب بن فهر بن مالك بن النضر، يكون الملك في قومه إلى آخر الدهر، قال: وهل للدهر من آخر؟ قال: نعم، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، يسعد فيه المحسنون، ويشقى فيه المسيئون"، قال: أحق ما تخبرنا يا سطيح؟ قال: نعم، والشفق والغسق، والفلق إذا انشق، إن ما أنبأتك به لحق".

 

4- شِق أنمار يعبر رؤيا ربيعة بن نصر أيضًا: "ثم قدم عليه شقٌّ فقال له كقوله لسطيح، وكتمه ما قال سطيح لينظر أيتفقان أم يختلفان، قال: نعم، رأيت حممة، خرجت من ظلمة، فوقعت بين روضة وأكمة، فأكلت منها كل ذات نسمة، فلما سمع الملك ذلك قال: ما أخطأت يا شق منها شيئًا، فما عندك في تأويلها؟ قال: أحلف بما بين الحرتين من إنسان، لينزلن أرضكم السودان، فليغلبن على كل طفلة البنان، وليملكن ما بين أبين إلى نجران، فقال له الملك: وأبيك يا شق إن هذا لنا لغائظ موجع، فمتى هو كائن؟ أفي زماني أم بعده؟ قال: لا، بعده بزمان، ثم يستنقذكم منهم عظيم ذو شان، ويذيقهم أشد الهوان، قال: ومن هذا العظيم الشان؟ قال: غلام ليس بدني ولا مُدن، يخرج عليهم من بيت ذي يزن، قال: أفيدوم سلطانه أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع برسول مرسل، يأتي بالحق والعدل، بين أهل الدين والفضل، يكون الملك في قومه إلى يوم الفصل، قال: وما يوم الفصل؟ قال: يوم تجزى فيه الولاة، يدعى فيه من السماء بدعوات، يسمع منها الأحياء والأموات، ويُجمع فيه بين الناس للميقات، يكون فيه لمن اتقى الفوز والخيرات، قال: أحق ما تقول؟ قال: إي ورب السماء والأرض، وما بينهما من رفع وخفض، إن ما أنبأتك به لحق ما فيه أمض، فوقع في نفس ربيعة بن نصر ما قالا، فجهز بنيه وأهل بيته إلى العراق بما يصلحهم، وكتب لهم إلى ملك من ملوك فارس يقال له: سابور، فأسكنهم بالحيرة، فمن بقية ولده النعمان بن المنذر ملك الحيرة، وهو النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي بن ربيعة بن نصر".

 

5- وفود عبدالمسيح بن بُقيلة على سطيح: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "لما كان ليلة وُلد النبي ارتج إيوان كسرى فسقطت منه أربع عشرة شرفة، فعظم ذلك على أهل مملكته، فما كان أوشك أن كتب إليه صاحب اليمن يخبره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة، وكتب إليه صاحب السماوة يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة، وكتب إليه صاحب طبرية أن الماء لم يجرِ تلك الليلة في بحيرة طبرية، وكتب إليه صاحب فارس يخبره أن بيوت النيران خمدت تلك الليلة، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة، فلما تواترت الكتب أبرز سريره (أي عرشه) وظهر لأهل مملكته فأخبرهم الخبر، فقال الموبذان: أيها الملك، إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني، قال له: وما رأيت؟ قال: رأيت إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، قد اقتحمت دجلة وانتشرت في بلادنا، قال: رأيت عظيمًا، فما عندك في تأويلها؟ قال: ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء، ولكن أرسل إلى عاملك بالحيرة يوجه إليك رجلًا من علمائهم؛ فإنهم أصحاب علم بالحدثان، فبعث إليه عبدالمسيح بن بُقيلة الغساني، فلما قدم عليه أخبره كسرى الخبر، فقال له: أيها الملك، والله ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء، ولكن جهزني إلى خال لي بالشام يقال له: سطيح، قال: جهزوه، فلما قدم إلى سطيح وجده قد احتُضر، فناداه فلم يجبه، وكلمه فلم يرد عليه، فقال عبدالمسيح:

أصمُّ ألم يسمع غِطْريف اليمن؟
يا فاضل الخطة أعيَتْ مَن ومن؟
أتاك شيخ الحي من آل سَنَنْ
أبيض فضفاض الرداء والبدَنْ
رسول قَيْل العجْم يهوي للوثن
لا يرهب الرعدَ ولا ريبَ الزمَنْ

فرفع إليه رأسه وقال: عبدالمسيح، على جمل مُشيح (أي سريع)، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح، بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان، رأى إبلًا صعابًا، تقود خيلًا عرابًا، قد اقتحمت في الواد، وانتشرت في البلاد، يا عبدالمسيح، إذا كثرت التلاوة، وظهر صاحب الهراوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقامًا، ولا الشام لسطيح شامًا، يملك منهم ملوك وملكات، عدد سقوط الشرفات، وكل ما هو آتٍ آت، ثم قال:

إن كان ملكُ بني ساسان أفرَطهم
فإن ذا الدهرَ أطوارًا دهاريرُ
منهم بنو الصرح بهرامٌ وإخوتُه
والهرمزان وسابورٌ وسابور
فربما أصبحوا يومًا بمنزلةٍ
تهاب صولَهم الأُسْدُ المهاصير
حَثُّوا المطيَّ وجدُّوا في رحالهمو
فما يقوم لهم سَرْج ولا كُور
والناس أولادُ علَّات، فمن علِموا
أن قد أقلَّ فمحقورٌ ومهجور
والخير والشرُّ مقرونانِ في قرَن
فالخير متَّبَعٌ، والشر محذور

ثم أتى كسرى فأخبره بما قاله سطيح، فغمه ذلك، ثم تعزى فقال: إلى أن يملك منا أربعة عشر ملكًا يدور الزمان، فهلكوا كلهم في أربعين سنة، وكان آخر من هلك منهم في أول خلافة عثمان رضي الله عنه".

 

6- عُفيراء الكاهنة تعبر رؤيا مرثد بن عبدكلال: "روي أن مرثد بن عبدكلال قفل من غزاةٍ غزاها بغنائم عظيمة، فوفد عليه زعماء العرب وشعراؤها وخطباؤها يهنئونه، فرفع الحجاب عن الوافدين وأوسَعَهم عطاءً واشتد سروره بهم، فبينما هو كذلك إذ نام يومًا فرأى رؤيا في المنام أخافته وأذعرته وهالته في حال منامه، فلما انتبه أنسيها حتى لم يذكر منها شيئًا وثبت ارتياعه في نفسه بها، فانقلب سروره حزنًا، واحتجب عن الوفود حتى أساؤوا به الظن، ثم إنه حشر الكهان فجعل يخلو بكاهن كاهن، ثم يقول له: أخبرني عما أريد أن أسألك عنه، فيجيبه الكاهن بأنْ لا علم عندي، حتى لم يدع كاهنًا علمه إلا كان إليه منه ذلك، فتضاعف قلقه، وطال أرقه، وكانت أمه قد تكهنت، فقالت له: أبيت اللعن أيها الملك! إن الكواهن أهدى إلى ما تسأل عنه؛ لأن أتباع الكواهن من الجان، ألطفُ وأظرف من أتباع الكهان، فأمر بحشر الكواهن إليه وسألهن كما سأل الكهان، فلم يجد عند واحدة منهن علمًا مما أراد علمه، ولما يئس من طلبته سلا عنها، ثم إنه بعد ذلك ذهب يتصيد فأوغل في طلب الصيد وانفرد عن أصحابه فرفعت له أبيات من ذرا جبل (أي في ظل جبل)، وكان قد لفحه الهجير فعدل إلى الأبيات وقصد بيتًا منها كان منفردًا عنها، فبرزت إليه منه عجوز فقالت له: انزل بالرحب والسعة، والأمن والدعة، والجفنة المدعدعة (الممتلئة عن آخرها)، والعُلبة المترعة، فنزل عن جواده ودخل البيت، فلما احتجب عن الشمس وخفقت عليه الأرواح (أي النسائم) نام فلم يستيقظ حتى تصرَّم الهجير، فجلس يمسح عينيه، فإذا هو بين يديه فتاة لم يرَ مثلها قوامًا ولا جمالًا، فقالت: أبيت اللعن أيها الملك الهمام، هل لك في الطعام؟ فاشتد إشفاقه وخاف على نفسه لما رأى أنها عرَفته، وتصامَّ عن كلمتها، فقالت له: لا حذر، فداك البشر، فجدُّك (حظك) الأكبر، وحظنا بك الأوفر، ثم قربت إليه ثريدًا وقديدًا وحيسًا، وقامت تذب عنه حتى انتهى أكله، ثم سقته لبنًا صريفًا وضريبًا، فشرب ما شاء، وجعل يتأملها مقبلة ومدبرة، فملأت عينيه حُسنًا، وقلبه هوًى، فقال لها: ما اسمك يا جارية؟ قالت: اسمي عُفيراء، فقال لها: يا عفيراء، من الذي دعوته بالملك الهمام؟ قالت: مرثد العظيم الشان، حاشر الكواهن والكهان، لمعضلة بعد عنها الجان، فقال: يا عفيراء، أتعلمين تلك المعضلة؟ قالت: أجل أيها الملك، إنها رؤيا منام، ليست بأضغاث أحلام، قال الملك: أصبت يا عفيراء، فما تلك الرؤيا؟ قالت: رأيت أعاصير زوابع، بعضها لبعض تابع، فيها لهب لامع، ولها دخان ساطع، يقفوها نهر متدافع، وسمعت فيما أنت سامع، دعاء ذي جرس صادع: هلموا إلى المشارع، فرَوِيَ جارع، وغرق كارع، فقال الملك: أجل، هذه رؤياي، فما تأويلها يا عفيراء؟ قالت: الأعاصير الزوابع ملوك تبابع، والنهر علمٌ واسع، والداعي نبيٌّ شافع، والجارع ولي تابع، والكارع عدو منازع، فقال الملك: يا عفيراء، أسلمٌ هذا النبي أم حرب؟ فقالت: أقسم برافع السماء، ومنزل الماء، من العماء، إنه لمُطل الدماء، ومُنَطِّق العقائل نُطُق الإماء، فقال الملك: إلامَ يدعو يا عفيراء؟ قالت: إلى صلاة وصيام، وصلة أرحام، وكسر أصنام، وتعطيل أزلام، واجتناب آثام، فقال الملك: يا عفيراء، إذا ذبح قومه فمن أعضاده؟ قالت: أعضاده غطاريف يمانون، طائرهم به ميمون، يغزيهم فيغزون، ويدمث بهم الحزون، وإلى نصره يعتزون، فأطرق الملك يؤامر نفسه في خِطْبتها، فقالت: أبيت اللعن أيها الملك! إن تابعي غيور، ولأمري صبور، وناكحي مثبور، والكلف بي ثبور، فنهض الملك وجال في صهوة جواده، وانطلق فبعث إليها بمائة ناقة كوماء".

 

ونبدأ بحديث خُنافر، وفي هذا الحديث نلاحظ ما يلي: أن رئي خنافر قد تركه في عَمايته فلم يعلمه بأن نبيًّا جديدًا ظهر بدعوته في بلاد العرب، إلى أن أصبح الناس في تلك البلاد كلهم يعلمون ذلك، اللهم إلا خنافرًا، فعندئذ، وعندئذ فقط، تذكر شصار صاحبه الكاهن المسكين النائم على أذنه لا يدري خبر الإسلام رغم أن نوره كان قد دخل اليمن وأضحى لدولته فيها رسول من لدن النبي الكريم هو معاذ بن جبل رضي الله عنه، ترى ما دور شصار إذًا إذا لم يكن ما أنبأ به خنافرًا إلا خبرًا يعرفه القاصي والداني؟ إن معنى هذا أن شيطان خنافر قد هجره هجرًا غير جميل طوال ما يقرب من عشرين سنة؛ أي: منذ بدء النبوة إلى وقت دخول الإسلام اليمن في أواخر حياته صلى الله عليه وسلم، فكيف كان خنافر يمارس كهانته إذًا دون رئي من الجن؟ أم تراه توقف عن ممارستها كل تلك الفترة؟ لكن هل يمكن أن يكون ذلك؟ وهل يمكن أن يستعيض كاهن عن كهانته بالسرقة والإغارة على إبل الآخرين، وبخاصة أن خنافرًا لم يكن، كما هو بيِّن من القصة، ذا عزوة تمنعه من طلب القبائل المعتدى عليها وعملها على الثأر منه؟ كذلك ليس هناك سبب مفهوم لهجر شصار لصاحبه كل تلك المدة، وهذه ثغرة في القصة تحتاج إلى ما يملؤها، كما أن تهديده له بأنه إذا لم يعتنق الإسلام مثله فلن يراه مرة أخرى هو تهديد لا معنى له؛ لأن معنى هذا التهديد أن شصار لن يساعد خنافرًا في كهانته، مع أننا نعرف جيدًا أن الإسلام يكفِّر الكهان ويحاربهم دون هوادة، وهو ما يعني بكل وضوح أن اللقاء بينهما من الآن فصاعدًا سيكون لقاءً مجرَّمًا ومحرَّمًا أشد التجريم والتحريم، وهذا إن قبل الجني أن يقوم بدوره القديم المناقض لعقيدته الجديدة التي يدعو إليها خنافرًا! فكما ترى هذه ثغرة أخرى في القصة يصعب بل يستحيل سدها، ثم أليست القصة تريد أن تقول: إن شصار قد أتاه بخبر الغيب، فأي غيب هذا الذي كان يعرفه الجميع في أرجاء الجزيرة الأربعة؟ بل لماذا لم يعرف شصار بدوره بنبأ الإسلام إلا من إخوان له من الجن كانوا قد آمنوا قبله؟ ولماذا يا ترى كانوا يزجرونه عن سماع القرآن الذي كانوا يتلونه؟ ألم يأتِ القرآن لهداية الجن والإنس؟ فهل ما يتناسب مع هذه الغاية أن يزجر عنه من يريد سماعه؟ فكيف يعرف إذًا ما جاء فيه من هدى ونور؟ إن سورة "الجن" والآيات 29 - 32 من سورة "الأحقاف" تحدثاننا عن سماع نفر من الجن للقرآن من الرسول عليه السلام دون أن يزجرهم زاجر، فلماذا جرى الأمر في قصتنا هذه على خلاف ذلك؟ ولماذا كان هؤلاء النفر من الجن من أهل الشام لا من أهل اليمن؟ أترى القصة تريد أن تقول: إن "الشيخ البعيد سره باتع"؟ أم تريد أن تجري على سُنة المثل القائل: "من أين أذنك يا جحا؟" كذلك ألم ينصح شصار لخنافر بأن يأتي النبي في المدينة؟ فلماذا اكتفى خنافرنا بلقاء معاذ بن جبل بعد كل هذا الكلام المشوق لرؤية النبي الكريم؟ يا له من كاهن كسول! بل لماذا أراد صنعاء من الأصل، ولم يأتِ لها ذكر في الحوار بينه وبين رئيه؟!

 

ثم إذا كان الأمر على ما ترويه القصة، فهل كان خبر خنافر ليغيب عن كُتُب الحديث؟ كذلك لو كان ما قرأناه هنا صحيحًا لقد كان خبر ذلك الكاهن اليمني سلاحًا بتارًا في الدعاية لهذا الدين، فلماذا لم يستغله المسلمون؟ صحيح أنه إنما أسلم، كما رأينا، بأخرة، لكن لا شك أن خبره كان يمكن أن يكون ذا نفع جزيل في معركة الدعاية، بحيث يسهل إنجاز المهمة الباقية، وهي القضاء على فلول الوثنية في بلاد العرب، تلك الوثنية التي لم تكن قد خمدت تمامًا حتى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وانفجرت متخذة شكل ردة مستطيرة، ثم مصطلح "السجع المتكلف"، هذا المصطلح البلاغي الذي لم يعرفه العرب قبل عصر الازدهار الثقافي في العصر العباسي، من أين يا ترى للعرب الجاهليين بمعرفته؟ بل إن في الخطبة سجعًا متكلفًا لا قِبل للجاهليين به، كما هو واضح في المثال التالي: "خطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنجُ من أُوار النار"، علاوة على هذه البهلوانية البلاغية الفنية الجميلة المتمثلة في هاتين الجملتين اللتين تبادلهما الكاهن والجني: "قال: اسمع أقل، قلت: قل أسمع"، والتي يصعب عليَّ أن أتصورها من شيم الأدب الجاهلي، ليس ذلك فحسب، فهذا الكلام المنسوب للجن، هل يمكن أن نصدقه؟ إن الجن عالم خفي لا نعرف نحن البشر عنه شيئًا سوى ما جاء في الوحي، كما هو الحال فيما أنبأ به رب العزة من كلامهم عندما استمعت طائفة منهم إلى القرآن الكريم لأول مرة، أما ما عدا هذا فأنا لا أستطيع أن أهضم شيئًا منه، كما هو الحال هنا، وبخاصة أنه كلام عربي، فهل الجن يتحدثون العربية، ويصطنعون السجع والجناس وسائر المحسِّنات البديعية أيضًا؟ وبطبيعة الحال لا يمكن القول بأنهم في سورتي "الأحقاف" و"الجن" قد استخدموا كذلك لسان بني يعرب؛ إذ الواقع أن ما نقرؤه هناك من كلامهم إنما هو ترجمة لما قالوه بلغتهم التي لا ندري نحن البشر عنها شيئًا.

 

على أن القضية لما تنتهِ عند هذا الحد؛ إذ نقرأ قوله: "كان رئيي في الجاهلية لا يكاد يتغيب عني، فلما شاع الإسلام فقدته مدة طويلة، وساءني ذلك، فبينا أنا ليلة بذلك الوادي نائمًا إذ هوى هويَّ العُقاب، فقال: خنافر؟ فقلت: شصار؟ فقال: اسمع أقل، قلت: قل أسمع، فقال: عِهْ تغنم، لكل مدة نهاية، وكل ذي أمد إلى غاية، قلت: أجل، فقال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، انتُسخت النِّحَل، ورجعت إلى حقائقها الملل، إنك سجير (أي صديق) موصول، والنصح لك مبذول، وإني آنست بأرض الشأم نفرًا من آل العُذام (يقصد أنه قابل قبيلة من الجن)، حُكامًا على الحكام، يذبرون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف، ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزُجرت، فعاودت فظُلفت (أي منعت)، فقلت: بمَ تُهَيْنِمون؟ وإلام تعتزون؟ قالوا: خطاب كبار، جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، عن أصدق الأخبار، واسلك أوضح الآثار، تنجُ من أوار النار، فقلت: وما هذا الكلام؟ فقالوا: فرقان بين الكفر والإيمان، رسول من مُضر، من أهل المدر، ابتُعث فظهر، فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجًا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر، ومَعاذ لمن ازدجر، ألف بالآي الكبر، قلت: ومن هذا المبعوث من مُضر؟ قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشبر (أي الخير)، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر، وأقبلت إليك أبادر، فجانب كل كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق، لا عن تلاق، قلت: من أين أبغي هذا الدين؟ قال: من ذات الإحرين (أي الحجارة السود)، والنفر اليمانين، أهل الماء والطين"، ومعنى هذا الكلام أن خنافرًا، كما هو واضح من مفتتح حديثه، كان يعرف بمجيء الإسلام منذ البداية، لكننا نفاجأ، من خلال أسئلته عن الدين الجديد والرسول الذي جاء به والكتاب الذي نزل عليه، بأنه لم يكن يعرف شيئًا من ذلك بالمرة، فكيف يسوغ في العقل هذا؟

ولقد تصادف بعد كتابة هذه الملاحظات بأيام، أن كنت أقرأ ما كتبه الدكتور جواد علي عن سجع الكهان في كتابه: "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، فوجدته يقول عن هذه القصة: إنها "خبر يرجع سنده إلى ابن الكلبي، وقد ذكر في "الأخبار المنثورة" لابن دريد أنه (أي خنافرًا) أسلم على يد معاذ بن جبل باليمن، لا أدري كيف حفظه ابن الكلبي ورواه عن والده، الذي صنعه ووضعه، إلا أن يكون والده قد حضر المحاورة فكان يسجلها، وهو ما يُعد من المستحيلات"؛ أي إن في العلماء العرب من لا يطمئنون مثلي إلى هذه القصة، وإن كان من السهل الجواب على هذا السؤال في حد ذاته بالقول بأن والد ابن الكلبي، وإن لم يحضر واقعة إسلام خنافر والحوار الذي دار بينه وبين شصار قبلها، قد سمعها مع هذا ممن سمعها بدوره من فم ذلك الكاهن، وعلى هذا فالأفضل هنا اللصوق بالأدلة التي اعتمدت أنا عليها بدلًا من الالتجاء إلى التشكيك في ذمة الرواة.

 

أما فيما يخص حديث شافع الصدفي فغريب أن يقول ذلك الكاهن: إن مُلك بني غسان أعظم من ملك التبابعة، على الرغم من أن الغساسنة لم يكونوا سوى مملكة صغيرة على حدود الروم لا قيمة لها حقيقية، على حين أن التبابعة كانوا يحكمون دولة كبيرة كاليمن ذات اتساع وتاريخ وحضارة معروفة لم يكن لدويلة غسان منها شيء! ثم غريب أيضًا أن تترك القصة التوراة والإنجيل وتذهب إلى الزبور لتقول: إنه قد وردت فيه البشارة بنبينا الكريم، مع أنه لم يأتِ في القرآن ولا في الحديث أن بشارة مثل هذه موجودة في الزبور! وبالنسبة لسطيح ونبوءته لربيعة اللخمي هل يجوز في العقول أن يجرؤ كاهن كسطيح على أن يجبه الملك ويُدخل الغم عليه بقول الحقيقة له كاملة ودون توشية، مع أنه كان في مندوحة عن هذا؛ إذ لم تكن النبوءة المزعجة لتقع قبل بضعة وسبعين عامًا يكون هو نفسه خلالها أو الملك قد مات، وكان الله يحب المحسنين؟ وهذا إن جاز لنا أن نصدق أن سطيحًا يمكن أن يعرف شيئًا من أمور الغيب المحجوب عن البشر والجن والملائكة جميعًا؟ ثم أليس غريبًا ألا يجد كسرى من بين كهانه في مملكته الطويلة العريضة من يستطيع أن يعبر له رؤياه حتى يرسل فيها لكاهن من كهان العرب؟ كذلك من غير المعقول أن يجرؤ كاهن على أن يجبه رسول كسرى بهذا التفسير المزعج للرؤيا، ثم يجبه هذا به عاهله دون محاولة من جانبه لتلطيف وقع الأمر، ودعنا الآن من التحوير في تعبير الرؤيا، كما قلنا من قبل عن رؤيا عاهل اليمن، تلك الرؤيا التي قام سطيح هو أيضًا بتفسيرها! ومن الغريب في الأمر أن أيًّا من كبار رجال فارس، حين بدأ الفتح الإسلامي لبلادهم، لم يتذكر رؤيا عاهلهم هذه، مع أنها ليست من الأشياء التي يمكن أن تنسى بسهولة؛ نظرًا لخطورة موضوعها والظروف التي رُئيت وفسرت فيها كما لاحظنا، وإلا فكيف وصلتنا هذه الرؤيا وتفسيرها إذا كانت قد امَّحَت من الذاكرة الفارسية؟ ثم لا ينبغي أن يفوت انتباهنا ما جاء في تعبير شق أنمار للرؤيا من عبارات وعقائد قرآنية كقوله: ﴿ يَوْمُ الْفَصْلِ ﴾ (الذي ورد في سورة "المرسلات"، وقوله أيضًا: "ورب السماء والأرض... إن ما أنبأتك به لحق؟"؛ (المأخوذ من سورة "الذاريات"، وقوله: "يوم الميقات"، (وهو مقلوب العبارة القرآنية: "ميقات يوم معلوم الموجودة في سورة "الواقعة)، بالإضافة إلى دعاء الأموات للقيام من رقدهم للحشر والحساب!

 

كذلك هل يُعقل أن ترفض عفيراء خِطبة الملك لها؟ إن ما قالته في تعليل هذا الرفض لا يدخل العقل طبعًا بحال! ثم متى ذبح النبي قومه؟ وهل الأنصار وحدهم هم الذين نصروه؟ فأين ذهب الصِّدِّيق إذًا والفاروق وذو النورين وأبو الحسنين والحمزة وجعفر وزيد بن حارثة وأسامة بن زيد وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي وعبدالله بن سلام وخالد وعمرو وأبو سفيان والمغيرة وأبو دجانة والنابغة الجعدي وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة وخنافر وعمرو بن معد يكرب وآلاف بعد آلاف مثلهم من غير الأنصار، من قريش ومن خارج قريش، من العرب ومن وراء العرب رضي الله عنهم جميعًا؟ أما ارتجاج الديوان الكِسْروي وانطفاء النيران في معابد زرادشت وجفاف بحيرة ساوة وما إلى ذلك فنعدي عنها؛ لأنها لا حقيقة لها في واقع التاريخ؛ ولذلك لم تتعرض لها كتب المسلمين الأوائل بشيء، وهو ما يذكرنا بأسطورة انشقاق الهيكل عند وقوع الصَّلب طبقًا لرواية مؤلِّفي (أو بالأحرى: ملفِّقي) الأناجيل! ثم لا ينبغي أن نتجاهل الوتيرة الواحدة التي تجري عليها كل هذه الأحاديث؛ إذ يقوم كل منها على السؤال من جانب تُبَّع، والجواب من جانب الكاهن أو الكاهنة بلا أي تغيير، حذوك النعل بالنعل!

(... يتبع)





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • من شعر الحرب في الجاهلية
  • من خصائص الخطابة في الجاهلية والإسلام
  • جوانب من حياة العرب في الجاهلية
  • الأحلاف في الجاهلية
  • دراسة للخطب في الجاهلية (2)

مختارات من الشبكة

  • أنواع الجاهلية _ تبرج الجاهلية(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • مسائل الجاهلية التي خالف فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الجاهلية(كتاب ناطق - المكتبة الناطقة)
  • الكلام على تعليق ابن تيمية على قوله صلى الله عليه وسلم: (سنة الجاهلية)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (7)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • السيرة ووجوب معرفة أحوال الجاهلية (6)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • صفحات مضيئة من حياة الفاروق رضي الله عنه: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام (1)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الجاهلية القديمة والحديثة (س/ج)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من أعمال الجاهلية (خطبة)(مقالة - موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل)
  • تطور النقد الأدبي العربي من الجاهلية حتى الأندلس(مقالة - حضارة الكلمة)
  • المرأة عند العرب في الجاهلية(مقالة - ملفات خاصة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 14/11/1446هـ - الساعة: 17:59
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب