• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

ثورة الجمل (قصة)

شريف عبدالمجيد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 27/4/2009 ميلادي - 2/5/1430 هجري

الزيارات: 14734

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ثورة الجمل
 (مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة)



تسلَّل الفجر بين ستائر اللَّيل المحتضَر، وكعادته - كلَّ يوم - استيقظ مع نداء الحقِّ الأوَّل؛ فنهض إلى عين الماءِ يَتوضَّأ، ثم انتحى رُكنًا اتَّخذه مُصلًّى.

فإذا فرغ من صلاته جلسَ على حصيرٍ مُخْلَولِقٍ بالٍ، يقتبس الدِّفءَ من جمرات الموقد، ويترنَّم ببعض الأذكار، ويسأل الله عافيتَه وسِترَه، ولم يَبْدُ أنَّ رَغباتِه كانت تزيد على ذلك في شيء.

كان يشبه "العابد الناعس" (لمايكل أنجلو)، إذا رآه الإنسان أحسَّ بطيبةٍ ممزوجةٍ بشيءٍ من الاستسلام.

ولا يصحو تمامَ الصَّحو، ولا تتفتح عيناه، ولا يشعر بالنَّشاط يدبُّ في أعضائه إلاَّ بعد أن يتناولَ (فنجانًا) من القهوة.

أمَّا زوجُه فقد عوَّدتْهُ أنَّه بمجرَّد ما يلقي السَّلام، تكون هي بجانبه؛ لتقدِّم له قهوته السَّاخنة الكثيفة الثَّقيلة.

وتنفذ أشعةٌ بيضاءُ شاحبة من خلال بلور كُوَّة مرتفعة، فتُلقي على ذَينك الوجهين نورًا ضئيلاً بلون الفِضَّة.

عندها يترشَّفُ قهوته جرعةً بعد جرعة، في تأنٍّ وتلذُّذ، فإذا أوشك على الانتهاء رشف آخِرَ حسوةٍ جرعةً واحدة، ثم نظر إلى زوجه نظرةً مقتضبة، هي نظرة الرِّضا والوصية في آنٍ واحد، وخرج إلى الفِناء، صافقًا البابَ خلفَه في الممرِّ الطَّويل المظلم، المفضي إلى الخارج.

كان العمُّ رابحٌ رجلاً رَبْعةً في الخمسين، تكسو ذقنَه لحيةٌ وخَطَها الشَّيبُ في كلِّ مكان؛ ولكنَّه مع تقدُّم سِنِّه، كان لا يعرف المرض، ولا يلين كتفه لعناء، حسبُه أن يلبس مِعطفًا متقادمًا بلون الرَّماد، ثم يتَّخذ طريقَه المعتاد إلى الميناء.

كان يمشي بتمهُّل على حافة الجدار، لم يكن يرفع عينيه إلى حيِّز السَّماء، ولا إلى البيوتات العالية، حتَّى إنَّه ما كان يتطلَّّع أمامَه، كان يتطلَّع إلى الحجارة كأنَّما يعدُّها.

كان يعبر طريقه بالغريزة؛ ينحني إلى اليمين عبرَ زُقاق صغير قذر، وعندما ينتهي إلى مُفترقِ الطُّرق الثلاثة يتنكَّبُ "ري ديزلي"، ويحتضنه شارع "طنجة" الموازي تلك الأَزقَّة السوداء، ذلك البؤس، الدهانات ذات الأطياف.

كان بالحدس يشعر أنَّه في الشَّارع العُلوي يوجد عالَم آخَرُ؛ لكنَّه كان يخشى أن يواجهه، وقبلَ أن يستقبلَه الميناء كان البحر ينشر رائحته في الجوِّ، مُعلِنًا عن وجوده الدَّائم، فيتلقى هواءَه الرَّطب ذا الرائحة المنعشة النفَّاذة.

يشهد الميناء أنَّ البواخرَ تأتي تحت جنح الظلام خفافًا، فإذا قاربت السَّاعة السَّابعة، كان جوُّ الميناء غائمًا بغلالة كثيفة من دُخَان البواخر، تُنيره مصابيحُ صغيرة.

وما هي إلاَّ دقائق حتَّى يقفَ العمُّ رابحٌ بجانب الحمَّالين يرتاد رِزقًا شريفًا، رزق اليدين والرِّجلين، رزق العُمَّال، رزق الكادحين!

يحمل هو وأصحابُه صناديق البرتقال في خطٍّ هو أشبه بخطِّ النَّمْل، فإذا بلغ السفينةَ الراسية، خلَّص كاهله من ذلك الحمل الذي أنقضَ ظهرَه، ومسح حبَّاتِ العرق عن جبهته العريضة بكُمِّ قميصه الخَشِن في شيءٍ من الآلية واللاشعور، ثم استأنف شوطًا جديدًا في السَّعي بين الشاحنة والسفينة.

وعلى بعد خُطوات كان يقف مراقبُ الميناء، رجلٌ بَدِينٌ قصير، رهيبُ الطلعة، أحمرُ، ذو شاربين معقوفين إلى أعلى، كأنَّهما سَيْفانِ مسلَّطان على رأس مُجرِم.

و دونَ أن يَضطره إلى الإسراع غمزٌ أو لمزٌ يدرج العم رابح - أُسوةً للآخرين - شِغِّيلاً، نشيطًا، جديرًا بالاحترام.

فإذا انقضت ساعة أو تزيد تمكَّثَ في مكانه واعتدل، كان العرق يقطر من جبينه، فيغشي الطَّريق أمام عينيه؛ ولكن لا بأسَ، فقلبه من طينة طيِّبة، ولم تبقَ إلاَّ صناديقُ قليلة.

أخيرًا انتصف النهار، ودقَّت ساعة الاستراحة، وعندها أُتيح للحمَّالين أن يكتشفوا شغِّيلاً جديدًا بينهم؛ فتى في عنفوان شبابه، أسمر، وسيم المُحيَّا، وصدر كالصُّندوق على فخذين كجذعي نخلة، وهامة تثبت للعلماء أنَّه كان على وجه الأرض عمالقة؛ في مِشيته شيءٌ من الخُيلاء يمكِن تسميتها غطرسة، كأنَّ خُطواتِه موقَّعةٌ أو مقسَّمة بالمسطرة، مشي السَّحابة، لا رَيث ولا عجل؛ ولكن ليس إلى بيت جاراته، بل إلى مجلس العمِّ رابح الذي تحلَّقَ حوله الحمَّالون، يتناولون ما يُقيم أَوَدَهم، وإذْ سأله هذا عن اسمه، ابتسم الفتى عن طيب طويَّة، وأجاب:
- خالد.
وسأله العمُّ رابحٌ:
- يظهر أنّك غريبٌ عن المدينة؟
- نعم؛ فأنا جئتُ من قرية (القلب الكبير)، هل تعرفها؟
- يظهر أنَّها قريةٌ بعيدة.
- نعم، فهي قريةٌ صغيرة في أرض (التيطري).
وهزَّ العم رابح رأسَه سائلاً: أرى أنَّك شابٌّ متحمسٌّ للعمل.

فأجاب هذا ببساطة:
- نشأتُ أنا في العمل، في طفولتي كنتُ راعيًا، وكنت أعمل في حقول الكروم  .
مكث العمُّ رابحٌ بعضَ الوقت صامتًا، ثم قال ببطءٍ:
- وهل لك أهلٌ؟

أجاب خالد:     
- لي أمٌّ، هي بُؤبؤُ العين، وأختٌ صغيرة كالقمر.
ولَمَّا كان من الواجب على الإنسان أن يُتمَّ كلامه إذا بدأه، فقد تنهَّد، وقال:
- أمَّا أبي، فقد توفِّي منذ سنوات.

وران الصَّمت مجدَّدًا، وبعد برهة شقَّ العمُّ رابح جدارَ الصَّمت:
- اسمع يا خالد - وكمَن يلخص حديثه - قال:
- أنت شابٌّ طيِّب وشجاع، ولن تعدم الخيرَ ما دمتَ تكسب رِزقَك من عرق جبينك.
عندما يأتي المساء يتاح لعُمَّال الميناء أن يروا سفينتَهم، وهي تتَّخذ سبيلها الهادئ، ثقيلة محملة إلى بلاد الآخرين.

وعندما يصل العمُّ رابحٌ إلى بيته، تستقبله خديجةٌ، زوجة ودود، تعوَّدت أن تَضحكَ له كلَّما عاد من عمله؛ ولكن ليس بصوتٍ عالٍ، بل بصمت بالعينين أكثر مما هو بالفم، وتحاول أن تبدوَ منطلقةً خدومة بعد نهارٍ تقضيه مع ضَجَّة أطفالها وإزعاجهم.

وإذ يلمس هو كلَّ ذلك، يشعر بشيءٍ من الغِبطة والراحة، ورُويدًا رُويدًا ينسى متاعب يومه، وتنقشع الغيوم عن صدره المتعب.

درج خالد بجوار العمِّ رابحٍ مثرثرًا كأنما مع صديق قديمٍ، وإذ علم أنَّ الحمَّال في الميناء لا يتقاضى أجرًا كبيرًا، حتَّى ولو كان عنده خمسةُ أطفال، والدَّراهم التي يقبضها من شبَّاك الدَّفع لا تدفع له عن طِيب خاطر، ولكن بتنهَّدة   تنقذف أمامَه، قال:
- كنت أعتقد أنَّني سأُسعِد أمَّي بهذا العمل، وأُخرجها من درك الفقر.
- كثيرون غيرك، ظنُّوا مثلك.

حينها قال خالد:
- سأبحث عن عملٍ أفضلَ.

و سأله العمُّ رابح:
- وأين تجد هذا العمل؟!

أجاب:
- في أرض الله الواسعة.

و قال العم رابح:
- اسمع يا بني، سوق العمل شحيحةٌ، ودراهمها قليلة، وفي كلِّ مكانٍ لن يعطوك إلاَّ الأعمال التي يأنفون منها.

وتمتم خالد خافضًا صوتَه:
- بل قلِ الأعمال التي تعجز عنها البغال!

ليل الشِّتاء يتصرَّمُ متناقصًا، والهواء في الصباح يصير أدفأَ، وفي السَّماء الصَّافية، المتألِّقةِ زُرقة، طارتِ العصافير جذلانة مزقزقة، إنَّه الرَّبيع يعود من جديد.

دمٌ جديد يتدفَّق في العروق، يدفع العمَّال إلى المزيد من النَّشاط في غُدوِّهم ورَواحهم.

وفي غمرة الحماس جرَّب العمُّ رابحٌ أن يرفع الكيس بنترةٍ واحدة.

رفعه، لكنَّه أحسَّ بشيءٍ حادٍّ كأنَّه غرزةُ سِكِّين! 

تألَّم العمُّ رابح، غير أنَّه تحامل على نفسه، وواصل عمله بمشقَّةٍ.

وفي المساء حكى لزوجته ما جرى له، فانتظرت رُقاد الأطفال، وكشفت عليه، و"دعكت" له ظهره وبطنه؛ لكن "نبورة" ظلَّت بارزة فيه شيءٌ ما كحبَّة الزَّيتون، كان هناك تحت الجلد المنتفخ، لم ينفعْ فيها التدليك، ولا الماء الساخن.

بل راحت تُؤلمه كلَّما سُعل، وأخذت تَكْبر يومًا بعدَ يوم، وهو يتفحَّصها كلَّما بال، أو قضى حاجته.

لم يذهب العمُّ رابح إلى الطَّبيب، فحسْبُه أن يقصد الحاج (عثمان)؛ فهو طبيب الحي الخبير بمثل هذه الأمور:
- إنَّه فتقٌ يا رابح.
- أأنتَ متأكِّد يا عمِّ عثمان؟
- ألا تراه؟! ألا تلمسه؟! ألا يؤلمك عندما تسعل؟! عندما يَحتقن البول؟!

قال أسيفًا:
- بلى، يوجعني، يوجعني كما تقول تمامًا، وهو يكبر، فماذا أفعل؟
- وماذا فعل غيرُك؟! ماذا فعل جيرانُك؟!

هذه حارة الفقراء، ونصف رجالها - على الأقلِّ - عندهم فتق، وهم صابرون، يعملون بقدر طاقتهم، يتحمَّلون، يتعذَّبون على نارٍ هادئة، وأخيرًا يأتي الموت، وتأتى الراحة!
أطلق العمُّ رابح نهدةً حرَّى، وقال بإعياء:
- أمَا مِن دواء؟

وقال الحاج (عثمان):
- اصبر كما يصبر غيرُك، وجرِّب ألاَّ تحمل حملاً ثقيلاً، هذا ما أُفيدك به.  
والسَّلام ختام، فهمت؟
تلقَّى العمُّ رابح هذا الكلامَ بقلبه القوي، ونهض منصرفًا، فالحياة تستمِرُّ رغمَ كلِّ شيء!

و من بعيد أتاه صوت الحاج عثمان:
- إذا شئتَ، اتِّخذْ حزامًا تشدُّ به على بطنك.
ما أشدَّ حرَّ هذا اليوم! الشَّمس تدنو من الأَوْج، والهواء يتلظَّى، كلُّ الأحياء لجأت إلى الظِّلِّ، فقط عمَّال الميناء يتلقَّون صهد الشمس.
فجأة تهادت نغمات أغنية شعبيَّة قديمة خارقة هدأة الهواء الساخن، بصوت صاف رنَّان:
 

قلبي  تفكّر   الأوطان   والهالة        راني مهول،  مانيش  في  حالي
قلبي   تخبّل   بالوحش    تخبالة        و علاش يا مرو غريب تلغالي؟
 

انتعش الجميع، واستحسنوا الأغنية، وأثنوا على صوت خالد، وانطربَ العمُّ رابح، حتَّى إنَّهُ "زرَّ" عينيه من اللذَّة.
غيرَ أنَّ المراقب كان له رأيٌ مخالف، فضرب بكل قوَّتِه على ظهر خالد، وهو يزمجر:
- ندفع لك أجرًا لتعمل لا لتغنِّي، أيُّها القذر!

فانتفض هذا، ونهض، وانشدَّتْ قبضتاه، وأمسك بقميص المراقب؛ ولكنَّه تماسك في اللَّحظة المناسبة، وكانت عينَا الأحمر تقدحان شررًا أخضر، وتوتَّرت رقبتُه منتفخة، وازمهرَّ وجهه، وأسرع العمَّال، ودنا العمُّ رابح متوسِّطًا: 
- من فضلك، سامحْه، الشَّاب لا يعرف النِّظام، اعذروه!

والتفت إلى خالد: 
- اطلب الصَّفْح يا ولدي.

فثار هذا غاضبًا:
- وماذا ارتكبت؟! حمار الرَّحى، وثور السَّاقية لا يعاملان هكذا!

ورفع المراقب عقيرتَه:
- يا للكلب الجحود! أنت مطرودٌ من العمل.

وقال خالد:
- لا تطردوني، أنا ذاهبٌ من نفسي.

وقال المراقب:
- أين تذهب؟! تظنُّ أن (الشغل) ينتظرك؟!
- لقد صبرتُ طويلاً، والآن يكفي، فقد فاض بي الكيل.
- من الذي علَّمك هذا الكلام؟
- قسوتُكم، ظلمُكم هو الذي علَّمني!
- قسوتنا! هكذا إذن؟!
- نعم، نَشقى، ونتعب، ونحمل، ونقوم بالأشغال الشَّاقة، وفي آخر الشَّهر تلقون إلينا بالفتات.

وقال المراقب:
- هكذا إذن أيُّها الجاحد!؟ سنجعلك عِبرةً لغيرك.

وتدخَّل العمُّ رابح:
- اهدأ يا خالد، أستحلفك بالله أن تهدأ.

واستدار إلى المراقب:
- أرجوك! إنَّها مسألةٌ بسيطة  !

وكان خالد في حالة تمرُّد، نظراتُه ثابتةٌ؛ لكنَّها عاصفة متوحِّشة، وأخذ المراقب (يرغي ويزبد)، ويتهدَّد ويتوعَّد، وأقبلتِ الشُّرطة تضع الأغلال في يدي خالد، وتسوقه إلى السِّجن، حتَّى يكون عِبرةً لغيره.

لم ينم العمُّ رابح ليلتَها، فقد استولى عليه حزنٌ مرير، وتمثَّلت أمام ناظريه أطيافٌ وصور، تمرُّ متباطئة، وتَنْسَحِبُ أمامَ عينيه، فتثير في نفسه حنينًا دافئًا يملأ ما بين جنبيه، وشجَنًا يهزُّ مشاعرَه، ودفئًا، ولوعة إلى أشياءَ عزيزةٍ افتقدها.

وارتدت به الذِّكريات إلى أبعد من ذلك، انتشى حين أعطتَه بعضًا من عمرها المفقود؛ ما بين شرخ الشباب بقوته وعنفوانه، وبين واقعٍ فقَد ربيعَه الذي كان يتيه بوروده وأزهاره.

وتثاءبت في داخله رغبةٌ ميِّتة جاءت من تهويمات سرابيَّةٍ بعد أن احتلَّ الشَّيب جوانبَ رأسه، والعمر يزحف شتاؤُه برغائبه الفاترة التي ترسَّبت في أعماقه، يغلِّفها صديدُ الحياة النازف بين الضُّلوع.

وأخيرًا حاول أن يُقنع نفسَه كما كان يفعل دائمًا:
- الحياة تستمرُّ رغمَ كلِّ شيءٍ  !
تصرَّمت أيَّام الصَّيف، وعاد الخريف مجدّدًا، واستيقظ العمُّ رابح ذاتَ صباح، وحاول أن ينهض، ولكنَّه اندهش من شدَّة الضَّعف الذي داهمه مرّةً واحدة، فأسندتْه خديجة، وأحضرتْ له كوبًا من الحليب.

كانت له نفسٌ تأبى التَّشكِّي، ولكنَّه الآن أحس بحاجةٍ ماسَّة للإفصاح عما يُثقل قلبَه، وقال لها: إنَّه لم يحسَّ بهذا التَّعب من قبلُ؛ ولكن عاجلاً سيزول!

ومرَّ يومٌ ويوم، وفي صبيحة اليوم الثالث أحضرت له الحليب، فإذا انتصف النَّهار أحضرت له الطعام؛ وحملت له في المساء القهوة، وفجأةً بدأت تبكي.

لم تكن تريد أن تبكي، ولكن الدُّموع انهمرتْ هكذا من عينيها؛ أوَّلاً سبَحت على مآقيها، واعتقدتْ أنَّها ستهدأ توًّا، وأنَّه لن يلاحظَ شيئًا، ولكن الدُّموع لم تقبل أن تنبجس، وانهمرتْ على وجهها.

وحاولت أن تقول: عفوًا، الأفضلُ ألاَّ تلتفت إلى دموعي، فأنا هكذا سريعةُ الدموع، بل الحقيقة، أنَّني لم أكن أعلم أنَّني ما زلتُ أستطيع البكاء!

أُرتج عليه للحظة، لكنَّه سرعان ما لملم أحاسيسَه، وقال مظهرًا الغضب:   
- ما هذا؟! تبكين على ميِّت؟!
نظرتْ إليه معتذرةً، وكفكفت دموعها، وبلهجة منكسرة تمتمت:
- لم أقصدْ أن أكدِّرَك.
و اختلطت داخلَها مشاعرُ الشَّفقة بالحبِّ الموجع، فقالت:
- كلُّ ما أردتُ قوله؛ لو أنَّك ذهبت إلى الطَّبيب.

لم يُجب، وتـنهَّد فأصدر صوتًا كالحفيف، وتسلَّل ضوء القمر محدقًا إلى مصيبة الغير، وصبغ الأشياء بلونه، فبدتْ شاحبةً وكأنَّها أشباح.

نام الجميع، أمَّا هو فساهرٌ، تقلَّب ذاتَ اليمين وذات الشِّمال، وأخيرًا استدبر زوجَه، وامتدَّت يدُه إلى شعيرات لحيته، فخالها أشواك أعشاب تيبَّستْ.

ونظر إلى نفسه، فبدت له أشبهَ بأطلال دائرة؛ فالجسم ذاب، والشَّباب ولَّى، والمرض ينخر.

تأوّه، وتكونت طيَّةٌ كئيبة بين حاجبيه، وهو يتسمَّع رنينَ كلمات المراقب الأخيرة، وفي ذات نفسه قال:
- إذا سقط الثَّور كثرتْ سكاكينه!  
وفي غمرة هذه الحيرة عاودتْه فكرة طالما حاول اعتبارَها وهمًا عابرًا، وطالما حاربها بكلِّ سلاح.

فكرة مزمنةٌ قاتلة، تعاوده بين حين وآخرَ، وتجعله يعيش تحت عذابها المرير.

تحامل العمُّ رابح على نفسه مِن فجر الغد، واتّخذ سبيلَه المألوف إلى الميناء، وقصد مراقب الميناء.

كان هناك جالسًا، لم يكن يَضيره شيء، لا شيء!  

دنا العمُّ رابح، وقال:
- أريد أن أتحدَّث معك.

- هذا أنت؟! ماذا تريد؟
- من شهور يا سيدي، سبعة تقريبًا، كنتُ أحمل، وفجأة (طق) شيءٌ كالسِّيخ المحميِّ غرز في الحالب، ونبق الجلد، وظلَّ النبق يكبر، وأنا أُخفي عنكم الحقيقة كي لا أُزعجَكم.

- ماذا تُخفي يا رابح؟! فنحن نعرف كلَّ شيء!

- تعرفون؟!
- نعم، نعلم أنَّك لم تَعُدْ كما كنت، وأنَّك مريض.
- مادمتم تعرفون، فسأختصر الحديث.
- حسنًا تفعل، فالعمل ينتظر.   
- أريد أن تتكفَّلوا بعلاجي.

- نعالجك؟!   
- نعم، ففي العمل أصِبْتُ.
- اسمع يا رابحُ، الطَّمع ضر وما نفع.   
- أنا لا أطمع، أنا مَن أفنى حياتَه في هذا الميناء، صرتُ أستحقُّ عطفَكم.   
- اسمع يا رابح، تعلم أنَّ الميناء مكان للعمل، وليس للعجزة القاعدين.
- لم أفهمْ ماذا تقصد.
- لقد صدر أمس قرارُ فصلك عن العمل.
لم يصدق العمُّ رابح: قرار فَصْلِي!

وانتفض - فجأة - كمن لدغته حيَّة:
- فَصْلِي أنا!
أنا الذي أفنيتُ زهرةَ شبابي أحملُ خيرات هذه الأرض الطَّيِّبة، حتَّى تأكلَها أنت وأمثالك!

فوجئ المراقب بكلام العمِّ رابح:
- هل أضعت رُشدك؟! أم ماذا؟!
- لقد انفتحت عيني.
وألقى إليه نظرةً غاضبةً، وواصل:
- أولاد الكلب!

ارتعد المراقب لهذه الثَّورة العارمة، وتملَّكهُ الخوف والتوتُّر، وأدرك أنَّ الإنسان حين يصل إلى هذا الحدِّ من الانفعال لا يتورَّع من أيِّ شيء؛ فقال:
- اهدأ يا رابح، إنَّها مسألة بسيطة، امسكْ أعصابَك، سنصلح كلَّ شيء!

كان العمُّ رابح في حالة هياج، وحين دنا من المراقب زَمجر بصوتٍ رهيبٍ، وغريب:
- الظاهر أنَّك تعتبرني حمارًا هرمًا يا ابن الكلب! هاك خذ!

ومن كلِّ عزمه أغمد سكِّينَه في صدر الأحمر، وزمجر ثانية:   
- لقد سمَّمت لي قلبي، وأنا أُمزِّقه لك.
وانغمد النَّصل في صدر المراقب مرَّة أخرى، وهمد بلا حراك.
ثم بتأنٍّ وببرودة أعصاب مريعة، سحب الجثَّة من القدمين إلى البحر، وهناك رماها.

أطلق بعدها زفرةً عميقة، وسار في الميناء دونَ درب محدَّد، وكان يهجس ويهمس:   
- ماذا فعلت؟ هل هذه جريمة، أمْ قصاص عادل؟

لقد شابت لحيتي، ومع ذلك لطخت يدي بالدَّم، لقد رَكبوا على ظهري ما طاب لهم، أمَّا الآن فكفى، كفى!

وكأنَّما لأوَّل مرَّة يرفع رأسَه إلى السَّماء، فبدتْ صافيةً زرقاء، والشَّمس ساطعة مشرقة، وعَبَر فوقه سِربٌ أبيضُ من طيور البحر، بينما ضجيج الحشود المهرولة يبلغه، كأنَّما من خلال جدارٍ أصمَّ.

النهاية





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • واجب السبت
  • خواطر عن الحجاب
  • إنها زوجتي!!
  • انحسار
  • الرائد لا يكذب أهله
  • فقه منازعة الفقر بالإبداع
  • الغزو الإيديولوجي، والتطبيع الثقافي
  • حكمتي إليكِ
  • ثورة الشك
  • الوقف: شِرْعة ومفخرة
  • الكبائر وحكم مرتكبها
  • ديمقراطية أبناء الصحراء
  • عام تحت الحصار
  • ضيف على الرصيف، ولا من مُضيف! (قصة قصيرة)
  • هكذا أدبتني شريعة الحياة
  • أنجح الزوجات أفضلهن تدبيرًا لمملكتها
  • الصداقة.. ما لها وما عليها
  • جزيرة الحب
  • لا أعرف
  • الحوار الحضاري
  • حكاية قدوة (أنا والفجر)
  • أدب الحوار
  • ابدئي في التغيير الآن
  • نحو عرب مسلمين جدد
  • لغة "الضاد" على مائدة "شامبليون"
  • الإرجاف
  • الآثار المترتبة على تخلي المرأة عن موقعها
  • العبادة وأثرها في إصلاح الفرد والمجتمع
  • إدارة المشكلات والخلافات وآليات الحل
  • قصة شعب
  • تحرير البناء الفكري للشخصية من سلطان الطباع
  • أفرأيتم الماء الذي تشربون؟!
  • ترتيب أولوياتك أعظم أسباب نجاحك
  • تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار (قصة)
  • نظرة حول الحكايات الساخرة
  • نخلة في بلاد بعيدة (قصيدة)
  • فنجان قهوة (قصة)
  • دعوتي وبريدي
  • الوظيفة الكونية والحضارية للعقل في الإسلام
  • الأسرة في التصور الإنساني
  • كنز الكتب (قصة)
  • عرض كتاب: (الفساد والاقتصاد العالمي)
  • خواطر نفس
  • بين الاستثناء والوصف والبدلية
  • اتجاهات الأدب الفرنكوفوني في المغرب العربي
  • يوم عرسي (قصة قصيرة)
  • حرب الحجاب.. والقابضات على الجمر
  • التعليم وتحديات عصر جديد
  • أيهما نورث أولادنا
  • رهين الضنى والسهاد (قصة)
  • النية روح العبادة
  • إبحار في قلب المؤمن
  • العقيدة أساس الإيمان ولبه
  • المعلوم من الدين بالضرورة
  • ركن الجوار: الفن التعبيري في خدمة التنمية
  • الكلاب اللاعقة
  • الإرجاف
  • المجلة الزيتونية، مجلة أقدم الجامعات الإسلامية
  • الطريق إلى حسن التبعل وسعادة الزوجين
  • ليل الحقيقة (قصيدة)
  • الأديب
  • ملاك بكف الموت (قصيدة)
  • إخضاع العلوم الإنسانية للشريعة الإسلامية فريضة شرعية
  • فتيلنا المنتهك حرمته
  • حوار النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الصغار
  • منظومة "تحفة الخطباء"
  • فضل المعلِّم (قصيدة)
  • طفل وحجر (قصيدة)
  • ضحولة مفرطة لآمال مغرقة
  • إلى بابا الفاتيكان "بندكت 16" (قصيدة)
  • الجميلة .. وحش ( قصة )
  • استنوق الجمل
  • من أصداء ثورة المليون

مختارات من الشبكة

  • منظومة دالية في الجمل التي لها محل من الإعراب والجمل التي لا محل لها منه(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الجمل والجمال (قصة قصيرة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • ما لا محل له من الإعراب من الجمل(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الجملة في القرآن الكريم: الجمل المرتبطة بما قبلها(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الجمل أبو علة (قصة قصيرة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • شرح أنواع الجمل (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • من فضائل النبي: حنين الجمل واشتياقه له صلى الله عليه وسلم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أسرار الشهادتين في التفسير المأثور لحسين إسماعيل الجمل(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مواقع الجمل في ديوان أبي الأسود الدؤلي(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • نظرات في عطف الجمل ومحلها الإعرابي (PDF)(كتاب - موقع الدكتور بهاء الدين عبدالرحمن)

 


تعليقات الزوار
12- نهاية غير متوقعة
أحمد - السعودية 16-06-2011 04:51 AM

تحطمت عندما قرأت النهاية لماذا تكون هكذا سوداوية لقد ابدعت في البداية ولكن النهاية كانت محبطة جدا ثم ما مصير خالد لم تقل لنا, افضل النهايات التي تحل كل المشاكل ولا تخلقها ثم حتى هذه النهاية غير جيدة للعم نفسه فلم يعالج ولن يعمل الان ولم يأخذ حقه ولم ولم

جزاك الله خير على القصة ولكن النهاية هي كل شيء

والسلام عليكم

11- صياغة
اللحو - السودان 01-12-2009 12:05 PM
ولم يَبْدُ أنَّ رَغباتِه كانت تزيد على ذلك في شيء.
أحسب أن هذه الجملة تحتاج إلى إعادة صياغة، فلو كانت: (ويبدو أن رغابته لم تكن تزيد على ذلك في شيء) لكانت أصح، والله أعلم.
10- كلمة شكر
محمد خالد عبد الله - السعودية 07-05-2009 03:21 PM

نخلة في بلاد بعيدة ، ليل الحقيقة ، ثورة الجمل ؛
شريف عبد المجيد قلم واعد يكتب بثقة و اقتدار يشكر عليهما .

9- شكرا لكم
شريف عبد المجيد - الجزائر 05-05-2009 05:13 PM
أمل قادم ، قلم حر ، أبو أميرة ، رمضاني عبد القادر ، عثمان محمد لكم خصوص الشكر ؛ وعموم الشكر لكل من قرأ و استحسن " ثورة الجمل " .
8- مميزة جداً
أمل قادم - السعودية 03-05-2009 01:22 AM

قصة رائعة ولغة قوية وتسلسل مشوق ـ ما شاء الله لاقوة إلا بالله ـ

تعجبني القصص الرمزية خاصة إذا كانت كهذه متقنة لغة ودلالة

لا أخفيك أني قرأتها وفهمت المراد منها دون الحاجة لقراءة توضيحك في التعليق الأول
فهمتها تماما كما أردتها ـ من خلال توضيحك ـ

وهذا ما يدل ـ بنظري ـ على نجاح القصة الرمزية أن يستطيع القارئ فك رموزها دون الحاجة لقراءة توضيح من أحد سواء الكاتب أو النقاد

شريف عبد المجيد قلم قادم بقوة
زادك الله من فضله
وجعلك من الفائزين برضاه دنيا وأخرى .

7- وفقكم الله
قلم حُـرٌّ 30-04-2009 05:09 PM
الكاتب الكريم
شكر الله لكم سعة صدركم، ونقاشكم الأديب، وبارك لكم في مدادكم.

[ولعل العذر لصاحب القلم الحر ،يرجع إلى كونه لم يوضع في سياق القصة التاريخي في أثنائها، بالاضافة إلى كون التوضيح السابق قد تزامن تاريخا وتوقيتا مع تعليقه بحيث لم يطلع عليه]

نصيحتي: أن يتم توضيح ذلك في سياق القصَّـة، أو أن يضاف تمهيد في بدايتها لتعريف القارئ بزمن الأحداث، ومن يكونون شخوصها، ولا نكتفي بكنايات قد لا تكون مفهومة للقارئ؛ كذلك الشرر الأخضر الذي جاء كناية عن لون العين التي تميز الفرنسيين ـ والغرب عموماـ عنا نحن العرب ..!
جزاكم الله خيرًا
6- قصة بلغة الشعر
رمضاني عبد القادر - الجزائر 30-04-2009 02:36 PM

قصة جميلة ؛وأجمل مافيها توصيف الشخصيات التي نكاد أحيانا أن نشاهدها ونلمسها :
بدءا من العمُّ رابحٌ الذي" كان رجلاً رَبْعةً في الخمسين، تكسو ذقنَه لحيةٌ وخَطَها الشَّيبُ في كلِّ مكان؛ ولكنَّه مع تقدُّم سِنِّه، كان لا يعرف المرض، .ولا يلين كتفه لعناء، حسبُه أن يلبس مِعطفًا متقادمًا بلون الرَّماد، ثم يتَّخذ طريقَه المعتاد إلى الميناء.
وهو الى ذلك؛ كان يشبه "العابد الناعس" (لمايكل أنجلو)، إذا رآه الإنسان أحسَّ بطيبةٍ ممزوجةٍ بشيءٍ من الاستسلام.
وزوجة لا تختلف عنه كثيرا على حد تعبير المثل العربي " وافق شن طبقة " ؛فهي -في البكور - "قد عوَّدتْهُ أنَّه بمجرَّد ما يلقي السَّلام، تكون هي بجانبه؛ لتقدِّم له قهوته السَّاخنة الكثيفة الثَّقيلة".
وعندما يعود -في المساء-" تستقبله خديجةٌ، زوجة ودود، تعوَّدت أن تَضحكَ له كلَّما عاد من عمله؛ ولكن ليس بصوتٍ عالٍ، بل بصمت ،بالعينين أكثر هو بالفم، وتحاول أن تبدوَ منطلقةً خدومة بعد نهارٍ تقضيه مع ضَجَّة أطفالها وإزعاجهم."
وشاب -خالد- جاء قرية القلب الكبير - بما ترمز اليه من دلالة - ليعمل في الميناء
" وعندها أُتيح للحمَّالين أن يكتشفوا شغِّيلاً جديدًا بينهم؛ فتى في عنفوان شبابه، أسمر، وسيم المُحيَّا، وصدر كالصُّندوق على فخذين كجذعي نخلة، وهامة تثبت للعلماء أنَّه كان على وجه الأرض عمالقة؛ في مِشيته شيءٌ من الخُيلاء يمكِن تسميتها غطرسة، كأنَّ خُطواتِه موقَّعةٌ أو مقسَّمة بالمسطرة، مشي السَّحابة، لا رَيث ولا عجل؛ ولكن ليس إلى بيت جاراته، بل إلى مجلس العمِّ رابح الذي تحلَّقَ حوله الحمَّالون".
ومراقب الميناء " رجلٌ بَدِينٌ قصير، رهيبُ الطلعة، أحمرُ، ذو شاربين معقوفين إلى أعلى، كأنَّهما سَيْفانِ مسلَّطان على رأس مُجرِم."
واخيرا الحاج عثمان -طبيب الحارة - الذي لايجد من دواء لفتق العم رابح سوى ان يواسيه بالكلام :
هذه حارة الفقراء، ونصف رجالها - على الأقلِّ - عندهم فتق، وهم صابرون، يعملون بقدر طاقتهم، يتحمَّلون، يتعذَّبون على نارٍ هادئة، وأخيرًا يأتي الموت، وتأتى الراحة!
أطلق العمُّ رابح نهدةً حرَّى، وقال بإعياء:
- أمَا مِن دواء؟
وقال الحاج (عثمان):
- اصبر كما يصبر غيرُك، وجرِّب ألاَّ تحمل حملاً ثقيلاً، هذا ما أُفيدك به.
والسَّلام ختام .

5- شكرا لكم جميعا
أبو أميرة - مصر 28-04-2009 07:32 PM
الشكر المضاعف للألوكة :
* أولا : لأنها وفرت الحافز للابداع ، فكانت جامعة لكل المبدعين العرب على اتساع اقطارهم .
*وثانيا :لأنها اتاحت لقرائها أن يطلعوا على شيء من الأدب الراقي -شعرا كان أو قصة - الذي يتصدى لمحاربة القيم المادية ، ويبشر بالقيم الروحية ، كما يعبر عن الآلام الموجعة و يرسم الآمال الباسمة ، ويحدو الامة -كما كان دائما - الى المستقبل المزدهر الواعد .
وفي قصة -ثورة الجمل- الجديرة بالقراءة والاستمتاع نقف أمام قاص متمكن من لغته وافكاره التي يشتغل عليها حتى يقدم عملا ادبيا راقيا ؛ لا يسعني إلا ان اشكره واثني عليه .
4- رسالة الأدب
عثمان محمد - الجزائر 28-04-2009 02:37 PM

في القصة كما في الشعر ؛ لغة راقية جزلة آسرة ، و معان محبوكة تختار بعناية ودقة ،وحواش تزيد في وضوح المعنى ، وأفكار تمضي متتابعة سلسة مرنة حتى تصل إلى غايتها ،دون أن يحس القارئ بالملل أو الكلل ...
فثورة الجمل عنوان منتقى بعناية ،تحيل على ثورة ما أو من لايثور ؛ دليلا على أن " للصبر حدود "
وشخصيات القصة : العم رابح ، زوجته خديجة ، الشاب خالد ؛ مراقب الميناء... ، كلها تأخذ من حجم القصة بحسب دورها : توصيفا، وحركة ، وموضوعا ومشاركة ...
وحوادث صغيرة تتابع وتتوالى ، وتحيل على بعضها ، حتى تصل بالقصة الى عقدتها ونحن نشهد تلك الحوار الساخن المفاجئ من العم رابح الهادئ المسالم وقد تغير عن سابق عهده ، حتى انفجر في وجه غاصبيه ،وعندها -ولعلها أول مرة- يرفع يرفع رأسه الى السماء الزرقاء، والى الشمس المشرقة ،والى سرب الطيور الحرة ...
أهنئك على هذه القصة الجميلة .

3- عود على بدء
شريف عبد المجيد - الجزائر 28-04-2009 01:28 PM

إلى صاحب القلم الحر :
تحية طيبة ،وشكر بالغ على الكلمات الحلوة ...
وكم كنت أود لو أقف مع تعليقك عند هذا الحد ،غير أنني أجدني مضطرا إلى هذا التوضيح :
-فالقصة كما أشرت بين يدي القصة حدثت على أيام الاحتلال الفرنسي ،بما كل مايرمز له الاحتلال من تقتيل وتعذيب وسطو بما يجعل ثورة الجمل هي القصاص العادل والخاتمة المناسبة لهذه القصة ،وماسؤاله :ماذا فعلت ؟ هل هذه جريمة ؟ إلا بقية من تلك النفس المسالمة التي كان من صفات صاحبها أنه " لم يكن يرفع عينيه إلى حيّز السماء ولا إلى البيوتات العالية ، حتى انه ما كان يتطلّع أمامه، كان يتطلّع إلى الحجارة كأنما يعدُّها ...
كان يعبر طريقه بالغريزة ؛ ينحني إلى اليمين عبر زقاق صغير قذر، و عندما ينتهي إلى مفترق الطرق الثلاثة يتنكَّبُ (ري ديزلي) و يحتضنه شارع (طنجة) الموازي … تلك الأزقّة السوداء، ذلك البؤس، الدهانات ذات الأطياف … "
ولعل العذر لصاحب القلم الحر ،يرجع إلى كونه لم يوضع في سياق القصة التاريخي في أثنائها، بالاضافة إلى كون التوضيح السابق قد تزامن تاريخا وتوقيتا مع تعليقه بحيث لم يطلع عليه .
- أما التوضيح الثاني الذي أترك للقراء حرية النظر إليه بعين النقد أو عين الاستحسان،فقد كان القصد إلى لون العين التي تميز الفرنسيين -والغرب عموما- عنا نحن العرب .
وختاما : لك الشكر -مجددا -على أنك صبرت على طول القصة ، واستحسنت سبكها ولغتها ...

1 2 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب