سيف جليات (قصة قصيرة)

في أَحد فنادق الـ"خمسة نجوم" في مدينةِ مالٍ وأعمالٍ عربيةٍ، وبقاعةِ اجتماعاتٍ مجهّزةٍ، انغلق البابُ عليهم، بعد أن تمّ التنبيهُ على عدمِ تحويل مكالماتٍ للقاعة، وعدمِ السماحِ بدخولِ أيّ شخصٍ، تحت أيّ ظرفٍ.

شخصَ الثلاثة إلى (البروفيسور) الذي ظهر أمامهم على الشاشة، في الاجتماع المنعقد عَبْرَ (الفيديو كونفرانس)، بعد أنْ فرغَ مديرُ الجلسة من كلمته عن (الجنرال تبغ)، وترك الكلمة للرّجل الملقَّب بهذا اللّقَب العلميّ.

تبادلوا الابتسامات معه، وقد بدا على وجوههم تحفّزٌ لطيفٌ، كأنّ المحاورة مع رجلٍ مثله تمثِّل تحدياً مهنيًّا حقيقيًّا. وبدأ الرجل في الكلام في هدوءٍ شديدٍ، تتوهّمُ معه بعد كلِّ كلمةٍ أنه توقفَ عن الكلام. وكان في لحيته الصغيرةِ المدبَّبة وعَنْفَقتِهِ الطويلة وبِذْلَتهِ الكلاسيكية، وقبّعته القديمة الطرازِ على الطاولة أمامَه، يبدو كسيّدٍ من أواخر القرن التاسع عشَر.

.. وبعدَ حديثٍ عامٍّ عن التحديات التي تواجهُ صناعةَ التبغ، قال:

إن القرن الخامس عشر قرنٌ مَفْصِليٌّ في تاريخ البشرية؛ فيه اختُرعت الطباعة، واكتُشِف العالم الجديد، وتعاظمتْ بسبب اكتشافِ العالم الجديد تجارةُ الرِّقّ، وفيه عَرف الجنس البشريُّ نبتةَ التَّبغ التي كان يعرفها الهنودُ الحمر، فظهرتْ إثرَ ذلك أكثرُ المنتجات قرباً لقلوب المستهلكين، وأكثرُها إثارةً للجدل..

ونحن الآن في العَقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وباستقراءٍ لظروفٍ عالميةٍ معقدةٍ لا تخفى عليكم، مصدرُها العالمُ الغربيُّ الذي تبنّى الصناعةَ ثم بدأ يتنكَّر لها، أجدُني أسأل: هل سنبقى كما بقيَتِ الطباعةُ أم سنرحلُ خلْفَ الرِّق؟

فنظر الثلاثةُ إلى بعضهِمُ البعض، ثم قال أحدُهم: باستقراءِ الأوضاع في الشرق الأوسط وشمالِ إفريقيا، نقول: كما بقيَتِ الطباعةُ سنبقى.

فأجاب الرجل بجدّيةٍ وهو يمسحُ عويناتهِ القديمةِ الطراز: نتعشّمُ ذلك.

وعاد لتفصيلاتٍ عن المشاكلِ الّتي تجابه الصناعةَ لفترةٍ من الوقت.

ثم وجَّه الكلامَ لأحد الشباب الثلاثة، وقال:

- أنت يا سيّد، وصلَتْنِي رسالتُكَ التي تُبدي فيها انزعاجَكَ مِن تنامي نغمةِ الضغط على شركاتِ التَّبغ في الشرق الأوسط، والدعوةِ لمطالبتها بتعويضاتٍ عن الأضرار الصحية.. وأنت تتخوَّف من تبنّي وزارات الصحة العربية لهذا الاتجاهِ المتشدد وشروعها في تنفيذه، أليس كذلك؟

- نعم سيدي.. وأنا أرسلتُ لك بعض التصريحات الناريّة لبعض المسؤولين.

- نعم نعم، إذاً، دعني أسألكَ، وزميلَيكَ أيضا: هل لديكم - أيّها الشبابُ - إحصائياتٌ عنِ الأخطاء الطبّية في المنطقة العربية؟

نظر الثلاثةُ إلى بعضِهم كأنّهم تعجَّبوا مِن السؤال، ولم يردّوا، بل هزَّ الشابُّ صاحبُ الرسالة رأسَه بالنفي.

فاستتلى الرجُل:

في الولايات المتحدة يموت سنويًّا 98000 أمريكي بسبب أخطاءٍ طبّيةٍ، وهو كما ترون رقمٌ مَهولٌ جدًّا بجميع المقاييس، إذا ما أخذنا في الاعتبار المستوَى المتميزَ للخدمات الصحية في أمريكا نسبةً إلى مثيلاتها في المنطقة العربية، فإنه يمكن توقُّع أنْ تكون نسبةُ ضحايا الطِّب بين العرب إلى عدد السكّانِ هي أكثرُ من نسبتها في أمريكا، ولعلها الضعف..

ولَو قُلنا أنّ النسبة العالمية هي ضِعفُ النسبة في أمريكا، أو تزِيْدُ قليلاً، فإنه سيموت مِن سكان العالم سنويًّا خمسةُ ملايين نتيجةَ الأخطاء الطبّية، وهو ذاتُ الرقمِ الذي تُتهم به صناعة التَّبغ مِن قِبَل أكثر التوقعات تعصباً.. نعم، هناك من يَتّهمُ الصناعةَ بقتل خمسة ملايين سنويًّا.. فإذا ما قُلنا لمسؤولي الصحةِ عندكم، أو في أي مكان نُجابَه فيه بتهديداتٍ عصبيةٍ بخصوص تعويض مواطنيهم، وقد تأبَّطنا بعض الملفات: إنكم تتهمونا بقتل نفس الذي العدد الذي تقتلونَهُ سنويًّا في غُرفِ العمليات، فإننا سنَبهتُهم وقتَها، ونضعُهم في حرَجٍ بالغٍ، وبخاصة إذا ما كانت المِلَفّاتُ الّتي في حَوزتِنا هي محصّلةٌ لعملٍ دؤوبٍ وصبورٍ ومنهجيٍّ في تكوين قاعدة بياناتٍ دقيقةٍ نستندُ عليها بشأنِ ضحايا الأخطاءِ الطبيّة.
هذا مع العلم بأنّ تدقيق أعدادِ قتلى الأخطاء الطبيّة أسهلُ من تدقيق أعدادِ قتلى التدخين.

.. نظرَ الثلاثةُ إلى بعضهم، وهزُّوا رؤوسَهم معبّرين عن إعجابهم بلَوذعيةِ الرجُل.

واستتلى بهدوئه الشديد - وهو غيرُ آبهٍ بإعجاب الشباب -:

إذاً سنلتقطُ (سَيفَ جليات)[1]... إذا أرادوا ذبْحَنا بسيف التقاضي سلبناهم إيّاه وذبَحناهم به، وكوَّنّا تكتلاتٍ قانونيةً وطبّيةً وإحصائيةً مرعبةً تتولّى رفعَ القضايا عن أهالي ضحايا الأخطاء الطبيّة.. أو هكذا يجب أن تبدوَ الأمورُ للمعنيّين في لحظةٍ عصبيةٍ... لكن لو شِئنا الواقعية، فيمكن توقُّع أنّ مجرّدَ التقاط هذا السيفِ والتلويحِ به سيُعيدُ الجهاتِ المسؤولة عن الصحة إلى رُشدها، ويُخفض سقفَ طُموحها، ويمكن توقُّعُ أنّ استكتابَ بعضِ رجالنا هنا وهناك عن الأخطاءِ الطبيةِ قد يَلطِمُ البعضَ على أفواهِهم فيصمتون.

هم لا يقدرون ولا يرغبون في دفع تعويضاتٍ عن قتلِهمُ المرضى، المرضى الذين لا يتحمّلون أيَّ نصيبٍ من المسؤولية عمّا جرى عليهم، ونحن لا نقدِرُ ولا نرغبُ في دفع تعويضاتٍ عن موتِ بعض المدخّنين بسبب التدخين، الموتُ الذي يتحملُ ضحايا التدخين نصيباً كبيراً من المسؤولية عنه، نحن لمْ نضربْ أحداً على يده كي يدخّن.

سأُرسل لكم مخططاً للكياناتِ الخاصة بمتابعة الأخطاء الطّبية، علِّقوا عليه بآرائكم مِن وحي الإقليم الذي تعملونَ فيه.. أراكم على خيرٍ.

أترككم مع السيد (.....).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] سيف جليات: طبقاً لِما ورد بالتوراة في وصف تقدُّم النبي داود -عليه السلام- لِمُلاقاة جبار الفلسطينيين جليات (جالوت):

"مدّ داود يدَه إلى الكنف (الجراب) وأخذ منه حجراً ورماه بالمقلاع وضرب جليات في جبهته، فارتز (غاص) الحجر في جبهته، وسقط على وجهه إلى الأرض. فركض داود وأخذ سيفَ جليات وقطعَ به رأسه".

ومُراده هو أن التعويض الذي يهدّدوننا به سنحرّكُه ضدّهم لصالح ضحايا الأخطاء الطبّية.

أضف تعليقك:	إعلام عبر البريد الإلكتروني عند نشر تعليق جديد
الاسم
البريد الإلكتروني	(لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق	رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي