• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

رجل يرقب النمل في استلقائه!

أ. محمود توفيق حسين

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/4/2012 ميلادي - 17/5/1433 هجري

الزيارات: 5530

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ذات مساءٍ اتصل بي زميلٌ عابرٌ قد انقطعت أخباره منذ ثلاث سنواتٍ، بعد أن عاقبوه في العمل بإنذارٍ أخيرٍ، أُضيف إلى ملفه المثقَل، لقد مضى يومَها وكتفه يحتكُّ بجدار ممرِّ الشركة الطويل بخطواتٍ متثاقلة، كدابَّةٍ عجوز تنسحب إلى الموت، لم أُطِل النظر إلى هذه الخطواتِ المتداعية، تواريتُ؛ أنا لا أتحمَّلها، خاصةً وقد نُقِلتُ لأحلَّ محلَّه، شعَرتُ لحظتها وأنا أنظر إليه وهو يرحل أنَّه ذكرياتي الأليمة التي أعطتْني ظهرَها ومضت، شعرتُ أني أنا بذاتي تلك الحسرة منه على المكان، تباطأتُ وتركته، وتشبثتُ بمقعده بالشركة، أو لعلي فرصتُه الأخيرة التي أُعطِيتْ له بِناءً على الوعد الذي قطعه أمام المحققين، متوسِّلاً بأن يبدأ من جديد، هذا رغم أننا لم نكن متقاربين على الإطلاق.


حصل على رقمي بطريقةٍ لا أعرفها، طفحتُ على سطح ذاكرته فجأةً، فأعاد اكتشافي، وخطر في ذهني أن هذا الإنسانَ المنطوي المَمْرور اختصَّني بهذا الاتصالِ الغريب؛ لكوني قد حللتُ محلَّه في الوظيفة، وعلى تفاهة السبب، إلا أنه ممكن؛ فمن الناس من لا يشعر بأي ضغينةٍ تجاه الأعداء الكبار، حتى ولو حطَّموه وداسوا عليه، لا تطفح منه هذه المشاعرُ إلا ضد من هم في حجمه؛ الكبار اعتباريُّون، والصغار حقيقيُّون؛ لذا التفتَ إلى هذا الزحامِ خلفه الذي مرَّ عليه ثلاثةُ أعوامٍ؛ من الوكلاء والإداريين، والتحقيقات والإنذارات والقرارات، وثبَّت عينيه الضيقتين كخرزتين من تحت النظارة الطبية على من حلَّ محلَّه فقط.


لم تعطني المباغتةُ فرصةً لأشرح له أنني لم أفكِّر في إزاحته مطلقًا، كل ما في الأمر أنهم اختاروا فيَّ موظَّفًا على عِلمٍ بطبيعة عمله ومهامِّه، ولن يبدأ من الصفر، ولم تعطني المباغتة فرصةً لأبيِّن له أني أسِفت كثيرًا للإنذار الأخير، وتمنَّيت لو لم يتمَّ اعتصاره من قِبَل اللجنة بهذه الطريقةِ التي أخرجتْه مترنِّحًا، وأني تحرَّجتُ من الاتصال به بعد ذَهابه؛ لأني عُيِّنتُ مكانه، والأهم من ذلك أنني تركت هذا العملَ منذ عامين، ونسيت الكبار والصغار، ولم أذهب ولو مرةً واحدةً على سبيل الزيارة.


لم أستطع أن أوضح أي شيء؛ لأنه نطق بكلمات قليلة تائهة مبعثَرةٍ في فضاء التشتُّت والاكتئاب، بها شيءٌ من المؤاخذة، بصوتٍ داكنٍ متشائم، وأنا قرأت هذا الصوتَ الداكن جيدًا، صوته حطَّ في فِناء الوَحشة المعتم في نفسي كما يحطُّ الغبار؛ وأنا شممت تلك الرائحةَ المكتومة لحشرجة الاضطرار، تلك الرائحة أعرفها، فاحت ليالِيَ وشهورًا من صوتي لَمَّا كنت في ضائقةٍ وحدي، عندما أدمنتُ ملح دمعي، وكنت أمرِّر يدي الواهنةَ على الجلد المقزز اللَّزِج لزواحف الهمِّ التي تمرُّ من تحت إِبْطي، وتلتفُّ حول عنقي، وأشعر من سماع صوته كأني أسمع صوتي، إنه صوتي المحزون ينبعث من جُبِّ السنين الخالية.


كل ما طلبه مني بصوتٍ قديمٍ له صدًى هو أن أمرَّ عليه لضرورة، ولم يزدْ على ذلك شيئًا، وارتبكتُ من هذا الطلب؛ فصوت المضطرين موجعٌ ومهيب ومعذِّب، ولا أنكر أنني شعَرت بخوفٍ غير مبرَّر، لا مبرِّر لخوفي، وأنا لم أكن بطلاً من أبطالِ قصَّتِه؛ فلا أنا تسببت في إنذاره، ولا كنت من الشاهدين له الذين حاولوا أن يلتمسوا له عند الإدارة، كنت في خلفية المشهد الواجم عندما حمَل أوراقه ومضى، وعرضتُ عليه بصوتٍ مرتبكٍ أن ألقاه مساء الغد، فقال بنبرةٍ فيها يأسٌ شديد الابتزاز: ألا يصلح اليوم؟ فتعذرت منه، فأعاد: حاوِلْ أن تجعلها اليوم، حاول! وهكذا؛ انجذب من يحب الاتهام إلى رجلٍ لا يتَّهم إلا نفسه، وألقى عليه شبكةً من صدَى صوته.


حاولت أن أفرِّغ الوقت له، لكني لم أستطِعْ، تكالبت الأشياء عليَّ، لم تعطني الفرصة، قطعتْ عليَّ كلَّ الطُّرق التي حاولتُ أن أراوغ وأنسرب فيها كي ألقاه، وكنت أشعرُ بخليطٍ من الأسَف والسرور بهذا الانسداد، وبخليطٍ من تأنيب الضمير والتذمُّر، كنت متذمِّرًا؛ لأنَّ شخصًا ما - صوتُه ينزُّ لوعةً - قرَّر الاستعانة العاجلة بي بشكلٍ مباغتٍ من دون الناس، وقد كان لديه فرصةٌ قبل أن يتدهور حاله لهذه الدرجةِ التي يشفُّ عنها صوتُه وكلماته أن يقصدني، احتججت على هذه العدوانية؛ عدوانية طلب المساعدة في اللحظة الأخيرةِ قبيل الانهيار، كأنه يُدينني بالتقصير، ويؤلمني بمشاهدة نهايته.


وفي مساء اليوم التالي، كنت هناك عند البيت، والمنجِّد يندف القطن أمام البيت الذي يقطُن أعلاه، وامرأةٌ كثيرة الحليِّ زاعقة الصوت تحييه: "الله ينوَّر يا أسطى!"، ونظرتْ إليَّ مبتسمة ووشوشتْ ولدَها كأنها تشبِّه عليَّ، استحييت ونظرتُ للأرض مبتسمًا، صعِدتُ للسطح، وجدتُني أدقُّ على بابه بيدٍ مثقَلة، وفتح الباب بعينين حمراوَيْن بهما عتابٌ أصابني بالضِّيق، ووقف برهةً بعُوده الذي هزُل بدرجةٍ مخيفة، وحكَّ رقبتَه وهو يتفحصني، ويُميل رأسه يمينًا ويسارًا، ثم احتضنني على سبيل المجاملة، وتأسَّف على إزعاجي، وقد تألَّمتُ من حاله وأنا أربت على ظهره من بروز عظامه، ومن رائحة ملابسه الزُّهمة.


ودخلتُ شقَّته الصغيرة الكئيبة، التي لا تصلح إلا لسكنى الأفاعي والزواحف، وجلسنا على مرتبته القديمة في الصالة، التي ما أن مددنا أرجلنا بها، حتى كادت تلامس الحائط المواجه، أنظر إلى ظلَّنا المتوتِّر مع لهب مصباح "الجاز" الذي أشعل فتيله منذ أسبوعٍ بعد أن احترق مصباح السقف، وأحدِّق في بيوت النمل عند الحواف، والتراب الذي ألقى به النمل من مخلَّفات حَفْرِه في سعيه الدؤوب للاستيطان، وهذا المسحوق الأبيض الذي يحمله إلى الجحور، فيما كان مضيفي يطحن الكلماتِ بأسنانه، وهو يعبِّر عن سخطه على النمل الذي تجرَّأ على المسحوق الأبيض، واستخفَّ به وجعله وجبتَه المفضَّلة، راغبًا في إغاظته وتدمير أعصابه، وعزا ذلك لكون هذا النمل - بالتأكيد - من نوعٍ ملعونٍ رهيب المناعة، وأخذ يطحن الكلمات أيضًا وهو يعبِّر عن ضيقه من هجوم النمل المتواصل المثابر، الذي يبدو به وكأنه يتصرف بحريةٍ في مكانٍ مهجور؛ النمل يعمل بجدٍّ بغير أن يلحظَه، حتى شكَّ في أنه ربما يكون قد تُوفِّي منذ مدَّة، خاصةً وأنه لم تعُدْ تأتيه أي اتصالات في الآونة الأخيرة؛ انقبضتُ من هذا التعبير وتهرَّبت منه، وأشغلت نفسي بالنظر إلى بعض اللفافات من ورق الجرائد، بها بقايا طعامٍ بدأت تفوح منها رائحةُ عفونةٍ خفيفة، وبالتفكير فيما يمكن أن يسترسل فيه، بهذا الصوت الذي يشبه الوسوسة.


وبدأ يتكلَّم ويبوح منطلقًا على بساط الحزن والليل والضوء الشاحب لمصباح الجاز، أخذ يتكلَّم عن العمل القديم، ويتذكَّر كلَّ كلمة إشادةٍ ولو بسيطة، وكل توبيخٍ ولو بزفرة، ورئيس مجلس الإدارة لَمَّا قابله في المِصعد وسأله عن الصحة، وعن خيوطٍ متقاطعةٍ من المؤامرات والفِخاخ المِهنيَّة الوضيعة، ومَن كان معه، ومَن كان ضده، وفلان لا وفَّقه الله، وروابط عميقةٍ بين زملاء لم ألحظْها، و عداواتٍ لم أتبيَّنها، كلُّ ما كان يحكي عنه لم يكن له أهميةٌ عندي على الإطلاق، بُهِتَ بهذه الحقيقةِ التي صارحتُه بها وشعَر بالحرج، فأكملت لأخفِّف عنه الحرج، بأنَّ عدم أهميته راجعٌ لكوني تركت العمل منذ عامين، فسعِد بذلك، وأخذ يتكلَّم كأنه يخفِّف عني ويواسيني، وهؤلاء المناكيد ليس لهم في الطيِّب مثلي ومثله، حتى قاطعتُه مرةً أخرى وأفهمته أني تركت العمل بمحض إرادتي، فكفَّ عن الوسوسة قليلاً، وتغابيت عن ملاحظة غَيْرته أو حسرته على نفسه؛ من كونه غادر العمل بعد توبيخِه وإنذاره، ولم يتركْه بمحض إرادته مثلي.


ولأنَّ الحديث عن الشركة التي كنا نعمل بها وذكرياتها السعيدة والمؤلمة - لا يُهمني على الإطلاق كرجُلٍ ضعيف الذاكرة؛ إذ كان يضطر لتحديد علاماتٍ كثيرةٍ ليذكِّرني بشخصٍ ما أو موقفٍ ما، مثل "سعيد" الذي عمل بشكلٍ عرَضيٍّ، ولمدة أسبوعٍ بدلاً من زوج عمته كعامل "بوفيه"، ولم يكن يغسل الأكواب جيِّدًا، وهيهات أن أتذكَّر "سعيدًا"، ولكن تذكَّرت زوج عمته بصعوبة؛ لهذا اتَّجه للحديث عن آخر عملٍ له قَبْل البَطالة، كان حديثه غريبًا عن عمله الأخير الذي يتأوَّه لفَقده، عمِل لدى صحيفةٍ مغمورةٍ لا يشتريها أحدٌ، لها مقرٌّ في بنايةٍ قديمة، ونافذتان على الشارع علَتْهما خيوطُ العنكبوت، ولافتةٌ خشبيةٌ قد غطَّاها الغبار، ولم تُمسَح منذ عهدٍ بعيد، بجوارها لافتةٌ أخرى لمشروبٍ غازيٍّ توقَّف إنتاجه منذ نصف قرنٍ، ولم يهتمَّ أحدٌ برفعها، وكان قد استطاع أن يفوز للصحيفة الأسبوعية بعقدٍ إعلانيٍّ واحدٍ فقط، ولكنه جيدٌ وممتد، تكلَّم بفخرٍ عن العقد الإعلاني الذي ظفِر به مع تاجرٍ يرتبط به بقرابةٍ بعيدةٍ من جهة الأمِّ، افتتح مصنعًا جديدًا، يصنِّع خلطةً بيئيةً لقتل الحشرات والزواحف، خلطةٌ عجيبةٌ يمكن للإنسان أن يسفَّ مسحوقها ذا الرائحة العطرية الجميلة بغير أي ضررٍّ؛ لأنها من خلاصاتٍ نباتيةٍ وزيوتٍ عطرية، وكان عليه في كل عددٍ أن يكتب مقالةً ما عن أيِّ شيء، ويأتي على ذكر المسحوق العجيب لقتل الحشرات، قال: إنه استمرَّ على ذلك المنوال لمدة سنةٍ وثلاثة أشهرٍ وأسبوعٍ واحد، وتأسَّف لأنه كان يشعر أنه ما زال قادرًا على المزيد من العطاء، كان في رأسه المزيد من المقالات والقصص التي يعرِّج فيها على ذكر المبيد الحشري العجيب في معرِض حديثه عن السعادة الزوجية، أو الطُّرق العمليَّة للعناية بشقة المصيف، أو وسائل تنمية ذكاء الأطفال، لكن المصنع أغلق أبوابَه بعد أن مُنِيَ صاحبُه بخسائر كبيرةٍ، وتفرَّغ لتجارته الأخرى، وانهمك فيها ونسي الأمر.


تعجبَّت في أعماقي من قدرته على الاستمرار طيلة هذه المدة في أداء عملٍ كهذا واندماجه فيه، ومن حزنِه على تلك الغمَّة التي انزاحت، وما زال يتأوَّه لفقده هذا العملَ الذي أدَّاه باقتدار، ولم يكتفِ بذلك، بل جاء بكلِّ أعداد الجريدة التي تحتوي مقالاته ورماها بجانبي بما عليها من غبار، وألحَّ عليَّ في أن آخذ فكرةً عن مقالاته، وحمل مصباح "الجاز" وقرَّبه من وجهي، وأخذ يتابعني بشغَفٍ ونشوة، وأنا أمثِّل الإعجاب مراعاةً لمشاعره، وكلما أبديتُ رغبةً في تغيير مجرى الحديث، وضع في حجري عددًا آخر وألح عليَّ في قراءة مقالته بهذا العدد باهتمام؛ لأن بها "تكَّة" لن يلحظها إلا لبيبٌ مثلي، فأخذت أقرأ وأنا أهزُّ رأسي مبديًا الاهتمام والإعجاب. والأمر في داخلي كان مختلفًا، تمنيَّت لو تخليتُ عن لطفي وصارحتُه بحقيقةٍ في منتهى الوضوح: الْتهامُ النمل للمسحوق أمامنا يُسفِّه أيَّ مقالة، استمرَّ هذا لوقتٍ طويل، حتى ثقُل رأسي، بفعل المقالات الرَّمادية الحشرية، والضوء الشاحب، والظلال، وسعي النمل اللانهائي، ورائحة الصنَّة التي تأتي من عند الحمام، وما زفره في جو الجلسة من أنفاس الاكتئاب وأوجاع الذاكرة الملتهبة، حتى ما عدت أعرف إن كنت قد نمت أم لا، فتخيَّلته ممددًا تمامًا، وبدأت أتخيل النمل وقد خرج من كل الشقوق، جماعاتٍ جماعاتٍ بالملايين، ومضى قُدمًا إليه، تجمَّع عليه وحمله في نومه، وأخذ يتحرَّك به حركةً بطيئةً لا تكاد تُلحَظ باتجاه باب الشقة، وآلافٌ منه صعِدتْ على أطراف أصابعه التي نُحِلت بفعل الاكتئاب وأخذت تلعقها، وفي ذات الوقت استمعتُ للحديث الرَّائق القادم من ناحية الشُّرفة لجارتين عن "دُخْلة" بنت "ثريا" في الخميس القادم، وخمَّنتُ أنها صاحبة التنجيد أسفل البناية، وفي وسط هذه الحالة من النوم المتكدِّر، انتبهتُ على صوت تلفازه القديم على الأرض أمامنا، فتح تلفازه فجأة، كان مشوَّش الصورة والصوت بطريقةٍ تسبِّب الاضطراب، وترسخ شعورًا غامضًا بالحزن البليد الذي يبعثُه النَّدبُ على رأس جنازةٍ بعيدة، رجوتُه أن يغلقه فلم يستجب، فتحرَّكتُ أحاول ضبط الصورة والصوت من خلال الأزرار المتداعية، إلا أني فشِلتُ فأطفأتُه، وعدتُ أجلس بجانبه، فأخذ ينظر إليَّ كأنه تعجَّب من أنه طلبني للمجيء بعد أن باعدتْ بيننا الدنيا ثلاثةَ أعوام، كأنَّ عينيه تسألني عمن أتى بي إلى هنا، وكنت أقاسمه هذا الشعور بالتعجُّب.


ونظر إلى موقد "السبرتو" النُّحاسيِّ لإعداد الشاي في الزاوية، وإلى المرطبان الزجاجيِّ الذي به قليلٌ من السكر الملتصق بقعره، واشتكى حتى من أنه لم يعُدْ لديه شايٌ ليضيفني به؛ قال ذلك بشفتين مضطربتين من إشفاقه على نفسه، ربتُّ على كتفِه الواهن العظم، وسألته عن طعامه، فقال: إن هذه اللفافات الملقاة تحوي بقايا ما اشتراه من طعام، وكان آخرها منذ أسبوع، فأوجعني قلبي وخبطت على صدري متعجبًا من كون آخر طعامه كان منذ أسبوع، فابتسم ابتسامة شبح، وقال: إنه في الأيام الماضية يسفُّ من العبوة الأخيرة لديه من مسحوق الحشرات العجيب، وبكى بطريقةٍ وحشيةٍ مخيفة، بكى بكاءً مشؤومًا على لهب المصباح، وأخذتُ أتطلَّع بذعرٍ إلى ظلِّه مفتوح الفم بعذابٍ أبديٍّ قديم، وقد شوَّش الدمع رؤيتي، مكثت أتطلَّع لظلِّه، حتى صعَقتني نصف الحقيقة، وهو أن هناك ظلاًّ واحدًا على الحائط، ظلٌ واحدٌ فقط، فتوقَّف تفكيري تمامًا وأخذت أبلع ريقي، وأنا بانتظار نصف الحقيقة الثاني، بقلبٍ يكاد يقفز من صدري، سأعرف حاضري من ماضيَّ، رجلٌ واحدٌ هنا قد الْتقى ماضيَه، إما أني قد زرت فترةً من الماضي الكئيب، أو زارتني فترةٌ من الماضي السعيد، رجلٌ واحدٌ هنا، إما سيذهب صوب الباب ويخرج ليتنفس الصعداء، أو يظلُّ يرقب النمل في استلقائه.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أشرف انتحار (قصة قصيرة)
  • خط العنقز (قصة قصيرة)
  • أرض اللواء
  • صالة وصول

مختارات من الشبكة

  • {حتى إذا أتوا على وادي النمل} سياحة في مملكة النمل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم...)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من الكتب المؤلفة عن سورة النمل(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من أنواع النمل: النملة الطائرة والنمل الأبيض(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • طرائف النمل في الزراعة ومعلومات أخرى(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • التضحية بين أفراد النمل(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • عائلة النمل(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • درب النمل(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من أنواع النمل: النملة الخياطة (Tailor ants)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • دفاع النمل عن مستعمرته(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 


تعليقات الزوار
2- شكرا !
محمود توفيق حسين - السعودية 22-05-2012 01:44 PM

شكرا لك أختي الكريمة ، تعليقك شهادة أعتز بها

خالص احترامي وتقديري

1- ابداع ..
قارئة - السعودية 15-04-2012 09:57 AM

قلة من الرواة لهم القدرة على أن ينقلوك إلى زاوية أخرى من العالم بعيدة عن مكانك
تشعر عند وصولك لنقطة النهاية في آخر السطر بأنك للتو هبطت عائداً من رحلة طويلة فتبدأ بالالتفات حولك متسائلا هل كنت في الدقائق الماضية هنا!!

شكرا لك سمحت لنا بهذه الرحلة

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب