• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

الكثيب والعنب (قصة قصيرة)

الكثيب والعنب
محمد محمود جادالله

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 24/9/2011 ميلادي - 25/10/1432 هجري

الزيارات: 10201

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الكثيب والعنب

(مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة الثانية)

 

أبي، أبي، أريد عنبًا.

 

ويسكُت الصوت الطفولي قليلاً ثم يستطرد: أبي، أبي، أريد عنبًا، ويستمرُّ الرجل الطيب (أبو خليل) في نكث الأرض بعودٍ وهو يحمل فوق كتفيه همَّ الدنيا، وشفته العليا تهتزُّ تأثُّرًا؛ فيهتز معها شاربه الذي وخَطه الشيب، وفي تتابع رتيب يطلُب الطفل من أبيه عنبًا، فتنصب كلماته إبرًا تخزه، وينهَض الرجل فجأةً كأنما آلَمه وخز الإبر حقيقةً لا مجازًا، وينظر نحوَ أطفاله بوجوههم البريئة، وينظر مرةً أخرى نحو زوجِه الواجمة ويوجِّه كلامه للطفل الذي يلحُّ في طلب العنب قائلاً:

- سآتيك بالعنب - إنْ شاء الله - يا إبراهيم.

 

كان المساءُ قد أقبل ليثقلَ القلوب بالهموم من جديد، وران على شاطئ غزَّة ومخيَّم اللاجئين الذي بجواره صمتٌ حزين، حتى الأطفال لم يخرجوا للعبِ في الرِّمال كعادتهم، وقمَر كبير أخَذ يصعد نحو الأعالي في الشَّرق، وكأنَّ الصمت المطبق على الأرض قد رابَه، فأخَذَ يستطلع خبرَ هؤلاء القوم متمهلاً.

 

ويجهِّز أبو خليل حمارَه لرحلةٍ طويلة، فقد كان لا يَزال يحتفظ بذلك الحمار، ويعتقد أنَّه لن يجِد له مثيلاً عندما يعود اللاجئون إلى دِيارهم بعدَ أيام، إنَّه يعتزُّ به ويرعاه كأحد أطفاله هؤلاء، وشدَّ على جانبي الحمار صندوقين فارغين وحدَّق في أطفاله وزوجته كأنَّه يراهم لأوَّل مرة، وبحركةٍ سريعة ساق (أبو خليل) حمارَه، واتَّجه نحو الشمال لا يلوي على شيء، وعلى أبواب الخيام ومِن حولها وجد رجالاً ونساءً، ورأى أطفالاً يجلسون في حلقاتٍ صغيرة ولكن لا يُثيرون صخبًا كأنَّ صمتَ المساءِ ووحشتَه قد أثَّر في نفوسهم!

 

كانوا يجعلون الرَّمل أكوامًا صغيرة يدعونها بطيخًا، فيقول أحدهم لرفيقه: هذه بطيختي فيردُّ عليه الآخر قائلاً بحِدَّة: لا هذه لي أنا، فيقول (أبو خليل) في نفسه: يا سلام يا أولاد، هل أصبح البطيخ عزيزًا إلى هذا الحدّ؟!

 

وهنا صار وحيدًا خارجَ الخيام ونظَر إلى الدنيا مِن حوله فلم يرَ شيئًا غريبًا، الأصوات المألوفة في ليالي الصَّيف، طير فزع تأخَّر عن سِربه فأخذ يطمئِن نفسه بالصياح، أو كلب وحيد لم يجِد مَن ينبحه فأخَذ يسلِّي نفسه بالنباح في وجه القمَر.

 

وقال (أبو خليل) في نفسه متسائلاً: يا أبا خليل، هل في هذه الدنيا شيءٌ يستحق أن يموتَ الإنسان من أجله؟ لِمَ تلقي بنفسك هكذا في الخطَر، واليهود أمامك يتربَّصون بك وبأمثالك الدوائر؛ ليسلبوهم نعمةَ الحياة؟! هل عملك هذا مِن الجهاد الذي تحدَّث عنه الشيخ يومَ الجمعة؟

 

وعندما وصَل إلى هذا الحدِّ مِن تفكيره تمرَّد على لحظاتِ التردُّد ووخَز الحِمار وخزةً خفيفةً يستحثُّه على الإسراع، وينطق بصوت واضح مسموع: نعمْ! هناك ما يستحقُّ أن يموت الإنسان مِن أجله! ألم يقلِ الشيخ: إنَّ مَن قُتل دون ماله فهو شهيد؟! وأخذ يكرِّر هذه الجملة في نفسه مؤكِّدًا: نعمْ، مَن قُتل دون ماله فهو شهيد! وينظر أمامه فتبدو الدنيا في عينيه واسعةً رحيبةً، وقمم الأشجار سامقة ممعنة في الصمت ككلِّ شيء مِن حولها، وأطلق لخياله العِنان.

 

حفنات الدقيق أخذتْ تتلاشَى بسرعة من الكيس المرقَّع الباهت، إنها سرعةٌ مخيفة! ومع تلاشيها تزداد الغضونُ وسمات الألَم في وجهك يا أبا خليل! ودورة التموين الجديدة بقِي على ميعادها خمسة أيام، وأنت قد تركت أولادَك في مسيس الحاجة لمعونتك، ولكن كيف تستطيع إعانتهم؟ هل مِن عمِل تحسنه؟! إنَّك لا تحسن سوى زِراعة العنب والتِّين، تختار لها الأرض الطيِّبة المناسِبة، وتضمن ثمارها بعدَ عامين مِن زراعتها بمشيئة الله! ولكن أين أنت مِن كرم العنب؟ ويردُّ على نفسه مذعورًا: أين أنا؟ إنني ذاهبٌ إليه، نعمْ إنني ذاهب إليه!

 

يا للفرحة؛ إنَّني عائد إلى كرمي! مساكين، لقد حسِبوا أنني عائد من أجلِ أن أملأ هذين الصندوقين بالعنبِ ولهم الحق في ذلك، فمَن على سطح الأرض يعلم أنَّني ذاهب لأنقذ غرسةَ العنب التي في سفح الكثيب مِن طغيان الرمال! مَن يصدقني لو قلت ذلك؟ سيقولون عني: مجنون - ولا شك - هذه الغرسة تعهدتُها خمسة أعوام متتالية حتى نمَت وترعرعت وأطعمت، كانت حبَّتها طويلةً كالأصبع ومِن غير بذور! انظر إلى العجب في خِلقة الله، عنبٌ من غير بذور!

 

وفجأة أخَذ الكثيب ينحدر نحوَها بشكلٍ مخيف، فوضعتِ العيدان الطويلة وعرَّشتها عليها، ولكن الكثيب ما زال يزحَف، ولا بدَّ أنها توارت في طِيَّات رماله البيضاء الناعِمة بعد عامين طويلين مِن الإهمال.

 

كانتِ الرمال عندما تغطِّي العناقيد البيضاء نخرجها من تحتها، وهي بيضاء في لونِ القطن ولكنَّها حلوةُ المذاق كالشَّهد، نعمْ، كنت أذود الرمال عن الغراس الخضر، كنت أقوى مِن الكثيب، ولكن فجأةً أصبحت الدوالي وحيدةً تصارع الرِّمال، يا أبا خليل، إنَّ هذه أفكار مسلية حقًّا.

 

القمر يزداد في سطوعِه، وكأنه يحاول أن يُسرِّي عن القلوب التي أُثقلت بالهموم، إنَّ نوره رائعٌ في الصيف، إنَّ ضوءه يذكِّرك بأمِّ خليل عندما أخذتْ ذُبالة السراج تخفق ليلة أمس ونورها لا يكاد يصِل إلى أطراف الخيمة الصغيرة، فأمسكتها بيدها لتنطفِئ، كان وقود السراج قد نفِد هو الآخر كما نفِد الدقيق من قبل.

 

وتوقَّف الحمار فجأةً، ورفع أذنيه عاليًا كأنهما عصوان، والحمير تفعل ذلك كلَّما أحسَّت بخطر، فنظر أبو خليل حولَه وأمامه؛ فرأى على مسافة ثعلبًا يسترق الخُطا مجتازًا الطريق، وكأنَّ الحمار قد رآه أيضًا فسار في طريقه مطمئنًّا، وعاد أبو خليل إلى هواجسه يهوم في المستقبل، فلا يجِد إلاَّ ظلامًا فيعود إلى الماضي فينعشه: الرِّجال في الكرم يَعملون معك، وأنت تستحثُّهم على العمل بِوُدٍّ وأُخُوَّة:

- هيه يا أولاد، وأنا أخوكم.

 

فتُجيبك الأصوات راضية قوية:

- أبشِر يا أبا خليل.

 

وتتهاوى الفؤوس على الأرض المِعطاء في نهاية الشِّتاء لتكسوَها الخضرة إذا ما أقبل الرَّبيع بأيامه الدافئة، والدالية ستُزيل الرِّمال عنها وستربط أغصانَها إلى أعوادِ الخشب، فإذا عادتِ الحياة إليها فإنَّ الدنيا ستُصبح جميلةً هي الأخرى وكل ما عَداها يهون، لقد ربيتُها كما ربيتُ عبدَالله وأحمد وفاطمة وإبراهيم، إبراهيم يطلب عنبًا، مخيَّم اللاجئين في شاطئ غزَّة واجِم، الأولاد يرقدون تحتَ البطانية، أم خليل تسأل:

- ماذا سمعتَ عن دورة التموين الجديدة يا أبا خليل؟

 

فيُجيبها بلا اكتراث:

- يقولون: إنَّ فيها دقيقًا وبصلاً وفولاً، ويرتفع صوتُ إبراهيم مِن تحت البطانية: وعنب؛ أليس كذلك يا أبي؟!

 

الكلماتُ تجرَح كما تجرح السيوف، وتخز كما تخز الإبر؛ أليس كذلك يا أبا خليل؟! الأحلام المسكينة تداعِب قلب إبراهيم، وتهدهِد طفولتَه، الإبر تخز قلبَك يا أبا خليل، لـم يعدْ في الدنيا شيءٌ جميل، ولكن ما هذه الأفكار يا أبا خليل؟ دعْها الآن، إنَّك مقدِم على مخاطرة، مخاطرة؟ ولكن أي مخاطرة في أن يعودَ غائب إلى بيته وكرمه؟! ستمرُّ على البيت وستقفل الأبواب إن كانت مفتحةً بفِعل الرياح، نعمْ، حتى لا يدخُل المطر منها إلى البيوت، وقد يكون كثيرًا فيؤثِّر في أساس الجدران، إنَّ البيت شيءٌ عزيز، لقد بَنيْته بالجهد والعرق، وأم خليل تعِبت معك هي الأخرى، وارتسمتِ ابتسامة حزينة على وجه أبي خليل، في وسط الدار شجرةُ توت كبيرة، إنَّ للتوت رائحةً خاصةً في أوائل الصيف، والنحل يحبُّ ثمار التوت كثيرًا؛ هل التوت أكثرُ حلاوةً من العنب؟ ليس تمامًا، إنَّ عسل النحل فيه شيءٌ من طعم التوت.

 

وابتلَع أبو خليل ريقَه رغمًا عنه، أنت لستَ جائعًا يا أبا خليل! أنتَ مغرَم بتربية النحل فقط، لقد جمعت النحل مِن الأحراج المجاورة: قليل مِن السكر والليمون في وعاء، وينهال النحل فتأخُذه إلى البيت في جرَّة، وتأخذ منه بعدَ حين عسلاً شهيًّا فيه شفاء للناس.

 

ياه! هكذا قطعت نصفَ المسافة بهذه السرعة يا أبا خليل؟! ويقترب مِن رقبة الحمار ويمسح عليها بيده، أنا لم أتعبْ! وأنت هل تعِبتَ أيها الحمار؟ لا بأس بأن تتعبَ معي قليلاً، ترَى هل يعرِف الحمار حلاوةَ العنب؟! الصيف جميلٌ هذا العام ولكن الشتاء جاء قاسيًا هو الآخَر، لقدْ تكوَّنت طبقة سميكة مِن الثلج على الخيمة في إحدى الليالي، الثلج أبيض، ورمْل الكثيب أبيض، وعناقيد العنب تكون أحيانًا بيضاء، كانت ليلة الثلج باردةً جدًّا، لم يكُن هناك سِوى العباءة، وكانتِ البطانية لا تكاد تَكفي للأولاد وأمَّهم، وقطع الحمار على أبي خليل حبلَ أفكاره فنهق فجأةً، وانتفض أبو خليل فزعًا، وانقضَّ على فم الحمار بكلتا يديه ليغلَّه، ويقول كأنه يخاطب الحمار متوسلاً إليه:

- اسكت، اسكت، يا للفضيحة! اليهود مِن حولنا.

 

ولكن الحمار لا يسكُت حتى يستنفدَ طاقته، ويُشبِع رغبتَه في النهيق، ومِن بعيد ترامى صوت ثعلب أو اثنين؛ فدخلتِ الرهبة قلبَ أبي خليل، إنَّ صوت الثعالب مألوف، لن أنسى ذلك الثعلبَ الكبير الذي هرَب بالفخِّ ذات يوم كان كبيرًا يشبه الكلب، لم يمسكه الفخ بإحكامٍ هذه المرة فسحَبه مسافةً طويلة حتى أعياه التعَب، فأقْعى في مكانه ينتظر مصيرَه، كانت جراحه قد نزفت طوالَ الطريق، فتَركت في الرِّمال البيضاء أثرًا!

 

الثعالب أفضل مِن اليهود على أيَّة حال؛ الثعلب يأكل عنقودًا أو اثنين ثم يعود إلى جُحره حتى يجوع، ولكن اليهود أخَذوا كلَّ شيء، لقد أخذوا الأرضَ والشجر والثمر، نعم أخذوا كلَّ شيء!

 

إنَّ ذكريات الحرب لذيذة، كم هو لذيذٌ وممتع أن يرَى الإنسان نفسَه وسْطَ الخطر يتربَّص بعدوِّه، ويتربَّص به عدوُّه، وهو حريصٌ مع هذا على أن ينالَ شرف الشهادة!

 

في معركة (نيتساليم) كانتِ الذخيرة التي معك قد نفِدت، والمناضلون يزحفون بإصرار على المستعمرة القابِعة خلف معسكر الإنجليز، فماذا تفعَل يا أبا خليل؟ إنِ انسحبت فسوف يراك رفاقُك المناضلون، وذلك هو العار العظيم!! ليس أمامَك إلا أن تتقدَّم والأعمار بيدِ الله، وتئزّ من فوق رأسك رصاصات لا تَدري كم هي، وتُصيب إحداها شحمة أذنك اليُسرى فتسحُّ دمًا إلى كتفك، كان دمًا حارًّا، لم يكن هناك ألَم، الشوكة تُشاكها بعيدًا عن المعركة قد تُؤلِمك، أمَّا الرصاصة هنا فلا! كم هو لذيذ أن يموت الإنسان شهيدًا!

 

هكذا يا أبا خليل، بلا حساب ولا عِقاب تدخُل الجنة! يا سلام! أحد رِفاقك يرى جرحَك فيرغمك على العودة فرجعت، لا بأسَ أن يقاتل المرء بالعصا ما دامَ لا يملك غيرها، فقط يلزمه الإيمان!

 

يا أبا خليل، ها أنت على مشارفِ القرية، إنَّك تحس بالجوع، هناك جرَّة العسل في رُكن البيت قد تكون في مكانها باقية، كل شيءٍ في القرية يبدو على حالِه من بعيد، والقمر أصبح مائلاً في الأفق الغربي، ظلال الأشياء طويلة، ظلال الأشياء في ضوءِ القمر تبعث على الرهبة عندما يلفُّ الصمتُ كلَّ شيء، نَقيق ضفدع يأتي من بعيد، ترى أَيبكي الضفدع في هذه اللحظة أم يُغني؟ ليتني أدْري! ربما نفِد عنه الماء الذي يؤويه!

 

الدقيق نفِد من الكيس المرقَّع الباهت، سوف أذهَب إلى الدَّار أولاً؛ لأطمئنَّ عليها وبعدَها أذهب للكروم، طبيعي أن يمشيَ الإنسان في القرية الآهلة بعدَ منتصف الليل، ولكن أن يمشيَ الإنسان في قرية هجَرَها أهلها، فذلك شيءٌ فظيع.

 

في القرية الآهلة تَعلم أنَّ خلف كل باب أناسًا أحياء، وقد يقابلك كلبٌ ضال فينبحك ليقنعك أنَّه غير خائف منك، ولكن القرية في هذه الليلة ميِّتة، إنَّه موت حقيقي الأبواب، كلها مفتحة، أو إنَّ ما بقي منها في مكانه كان مفتوحًا، ومِن خلف الأبواب تزحف ظلالُ الجدران على الأرْض، رائحة التوت تدغدغ الأنْف، لقدْ مضى وقته، إنها رائحة ورَق التوت فقط.

 

مِن بعيد تلوح شواهِد القبور في مقبرة القرية، وتلمَع عليها بقايا أشعة باهِتة يرسلها قمر باهت، لا كلاب، لا دُيوك؛ لتعلنَ عن مولد اليوم الجديد، الأموات هم الذين بقُوا تحت هذه الشواهد، يا أبا خليل، لا تدخُلِ الدار؛ ليس لك قلب ليرَى الدمار فلا ينفطر! ها أنت متَّجه الآن صوبَ الكروم، مجتازًا شوارعَ القرية التي تبدو أمامَ ناظريك فسيحةً فسيحة، لا أحدَ يزاحمك من المارَّة.

 

أنت الآن خارجَ القرية، الطريق معشب، الأعشاب نديَّة لذيذة، الحمار يتمهَّل ليقضمَ قضمة مِن هنا وأخرى مِن هناك، الصباح يقترب، الجوع شيءٌ فظيع، ترى ماذا حل بغرسةِ الكثيب؟! العناقيد في الأشجار مدلاَّة، إنها رائعة الحُسن، إنها تبدو شقراءَ في أشعة الشمس عندما تكون بادية مِن بين الأغصان الخُضر، أعواد العريش ثابتة تتحدَّى الكثيب كأنها ملكةٌ متوَّجة، أشجار العنب مِن حولها يرمقْنها بإعجاب، الواقِع يبدو رائعًا عندما يختلط بالخيال! الخيال نِعمة كبرى، الحمار لا يتخيَّل، هو لا يستطيع أن يهربَ مِن واقعه.

 

أنتَ تستطيع أن تفعلَ ذلك يا أبا خليل، الأغصان استطالتْ بوحشية نادِرة محببة، خِلقة الله جميلة في كلِّ حال، إنَّ غرسة الكثيب تبدو أكثرَ جمالاً مِن أي مرَّة تراها فيها، إنَّها تتحداك!

 

يا أبا خليل، إنها كعروس فرَّ منها عريسُهاليلة زفافها، ولكن أنت يا أبا خليل لم تفرَّ منها، أنت مُت عنها! وليس لك في أن تموتَ أو أن تعيش حيلة! فلِمَ كلُّ هذا الجمال يا غَرْستي الحبيبة؟

 

لا عبدالله هنا، ولا أحمد ولا إبراهيم ولا فاطمة، لا أحدَ هنا منهم؛ ليقطفَ منك عنقودًا، الثعالب فقط هي التي هنا، لو أنَّ الثعالب تكثر وتكثر، أريدها أن تصبح ألوفًا حتى لا تُبقي على عنقود واحد.

 

ومدَّ يدَه ليأكل حبةً، ولكن دموعه سبقت يدَه إليها، إنَّ إبراهيم يريد عنبًا فهل آكُل أنا قَبله؟ لا، إنَّ هذا لن يكون، ورقد تحتَ شجرة وحاول أن يغفوَ قليلاً، وأخَذ يصارع أفكاره حتى غفَا، النوم يريح الجسم، النوم لا يقترب كثيرًا من الجائع، لقد غفوت الآن يا أبا خليل، كل الأماني تتحقَّق في المنام، كم أنت رائع يا سلطانَ النوم! الأولاد مِن حولك يلعبون، وجيرانك في الكروم ينادونك؛ لتذهب إليهم لبيع العنب في يافا أو في الرملة، ومحصول هذا العام وفيرٌ والدنيا بخير.

 

أم خليل تنتظر عودتَك بلهفة، أتيت للأولاد بهديةٍ من الحلوى، واليهود يَركبون المراكب مِن بعيد مِن حيث لا تَعلم؛ حيث ترْسو بهم على شاطئ، اليهود عيونهم ضيِّقة، اليهود عيونهم زُرق، اليهود أخذوا كلَّ شيء، وتسقط ورقةُ عنب على وجهِه فينهض واقفًا.

 

الظهر فات وقتُه، صلِّ الظهر أولاً يا أبا خليل، ثم املأِ الصندوقين بأشهى العناقيد، العناقيد تلمع في عين الشمس، قمم الكثبان تلمع أيضًا، وغطَّى الصندوقين بالأوراق الخضراء، وعندما مالتِ الشمس واحتجبت وراء الكثيب نظَر حوله ونظَر إلى مكـان بعينه تقوم فيه غرسةُ العنب الرائعة، ودمعتْ عيناه من جديد، لِمَ هذه الغرسة بالذات يا أبا خليل؟ أشجار العنب تملأ المكان حولك، إنك لا تعرف لذلك سببًا!

 

إنَّ الإنسان مخلوق عجيب: قد يحب بيتًا بالذات أو بلدًا بالذات، وقد يحب أيَّ شيء دونما سبب ودونما غاية، فماذا عليك يا أبا خليل أن تُعلِّق قلبك بهذه الغرسة الحبيبة، أنت الآن في طريقِك عائدًا مِن حيث أتيت، الحمار أمامَك بحِمله الغالي، قلبُك يفور بالحقد، ولكن لا بأسَ يا أبا خليل، إنْ لم تتمتع أنت بالكرم فسوف يتمتَّع به إبراهيم وعبدُالله وأحمد وفاطمة، والطريق أمامك بعيد، الجوع يَفري الأحشاء ستأكُل عندما تصِل إلى أولادك، ستأكل معهم مِن العناقيد اللذيذة، ستأكل كثيرًا - إنْ شاء الله.

 

والآن هيَّا عُدْ إلى تهويمك، الواقع مُر، الخيال منعِش، الطريق قارَب على النهاية، أنت الآن تقترب مِن الحدود الوهميَّة التي خلَّفتْها الحرب، الحمار يسبقك يا أبا خليل بمسافة ليست قصيرة، الألم في المعِدة، الألم في الساقين، اجتمع الجوعُ والتعب، لقد كبِرْت عشرين عامًا دفعةً واحدة يا أبا خليل، ولكن هذا لا يَهُم، لقد طلب إبراهيم عنبًا!

 

وبلمسةٍ خفيفة من القدَم طار أبو خليل في الهواء، هب بب، لغم أرضي ينفجر، اليد ذهبتْ بعيدًا، الدُّنيا ظلام، رائِحة البارود شيءٌ كريه، أبا خليل، إنه ليس حُلمًا، الدم بلون التوت الأحمر، الدم يتخثَّر بسرعةٍ على الأرض، الرأس ثقيل، العينان أُغمضتَا، النوم لذيذ، الألَم يختفي رُويدًا رويدًا، كل شيء أصبح سلامًا.

 

وفي الصباحِ خرَج أولاد أبي خليل مِن خيمتهم، وعلى بابـها وقـف حمارُهم وحِمله على ظهره لا يزال، ورأوا خطَّين مِن مادة سائِلة يمتدانِ مِن عينيه إلى طاقتي أنفِه.

 

لقد كانت دموعًا!!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • حديث: من حبس العنب أيام القطاف

مختارات من الشبكة

  • تجريد أسماء شيوخ العلامة السيوطي وشيخاته في فهرس مروياته الكبير: أنشاب الكثب في أنساب الكتب(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • نظرة عن كثب على حال المسلمين في ألمانيا(مقالة - المترجمات)
  • أيكة العنب في ذكر الشارب والشنب - من ترسل المحدثين عبر موقع (Facebook)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • حديث: نهى عن بيع العنب حتى يسود(مقالة - موقع الشيخ عبد القادر شيبة الحمد)
  • حديث: أيها الناس، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل(مقالة - موقع الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك)
  • تفسير: (فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان)(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
2- سلمت يداك ووفقك الله
فاطمة هانم يعقوب - مصر 09-10-2011 05:07 PM

تحياتي إلى المبدع صاحب القصة لقد استمتعت بها جدا وأسرني أسلوبه الرائع وتتابع أحداث القصة وعمق فكرتها معاني كلماتها وفقك الله يا أخي.

1- قصة مؤثرة
greenfresh - arads 25-09-2011 12:58 AM

أولاً أشكر الكاتب الكريم على هذا الأسلوب الراقي و الحبكة المميزة :
و كأن حال بطل القصة يعبر عن حال و واقع أمتنا فالكثير منا يرى الحاضر و المستقبل مظلماً فيحن إلى الماضي الجميل المريح - إلى عناقيد العنب -

الحبكة رائعة
و التشابيه متقنة
و الخاتمة مؤثرة

و لعل كاتبنا يتحفنا بقصةٍ تتحدث عن الأمل في المستقبل القريب بإذن الله لانتصار قضيتنا

سلمت أناملكم و جزاكم الله خيراً

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب