وفاء زهرة

بوح القلم

(تأملات في النفس والكون والواقع والحياة)

من وحي الذكريات

(وفاء زهرة)

المشهد الأول:

في قرية ريفية لا توجَد فيها أي مقومات الحياة، خرج حسن من بيت والده طلبًا للقمة العيش؛ حيث كانت هذه هي عادة شباب القرية، حينما تضيق الحالة على أهل البيت يخرج الشاب للبحث عن عمل؛ ليخفف على والديه تكاليفَ توفير الأكل والمعيشة، وليجد ما يسد جوعته ويقيم صُلبه.

بدأ حسنٌ بالتنقل بين البيوت والقرى، يعرض خدماته في زراعة الأرض، أو رعي الماشية، أو جلب الماء من الآبار، أو المساعدة في أعمال المنزل، مقابل السماح له بالأكل والشرب والنوم عند أهل المنزل، إذا لم يكن لديه ما يدفعونه من أجرة العمل.

قطع حسن المسافات الطويلة، وأضناه التعب، وهو يتنقل بين البيوت، حتى ألجأه المساء للدخول على بيت طلبًا للماء، استقبله صاحب المنزل - العم صالح - وأسرته، وأجلسوه معهم، وسقوه وأطعموه وسألوه عن حاجته وطلبه.

فأخبرهم خبره وسببَ خروجه من قريته وحاجته للعمل، ولو على كسرة خبزة أو مذقة لبن.

كان العم صالح بحاجة لمن يساعده في أعمال الزراعة والحرث والرعي، خاصة أن ذريته من البنات اللاتي يشق عليهنَّ الكثير من الأعمال.

فرِح حسن باستقبال أهل المنزل له، وقبولهم طلبه بالعمل والسكن معهم.

المشهد الثاني:

بدأ حسن بعمله الجديد بكل جدٍّ واجتهاد، يخرج من الفجر للرعي، ويساعد في الحرث والحصاد، ويجلب الماء العذب في الجرار، ويعلِف الدواب، وكانت الأجرة وجبات الإفطار في الصباح الباكر، والغداء بعد الظهر، والعشاء بعد المغرب، ثم يأوي إلى فراش من الحصير بعد العشاء مباشرة؛ ليغط في نوم عميق بعد تعب يومٍ كامل وجهدٍ، ثم يستيقظ مع أذان الفجر ليستقبل يومًا جديدًا وعملًا شاقًّا.

استمر حسن في عمله عدة أشهر، وفكَّر حينها كيف ومتى سيجمع المال ويتزوج ويستقر وهو على هذه الحال.

طلب من العم صالح أن يعطيه أجرة عمله قروشًا أو دراهم؛ ليجمعها لزواجه وتأهله، اعتذر العم صالح بأنه لا يملك من المال إلا ما يقوم به على أهل بيته، وأذن له في البحث عن عمل آخر.

خرج حسن بعد عدة أشهر للبحث عن عمل بمقابل مالي، تنقل بين القرى والهجر حتى وجد عملًا في الزراعة والحرث والحصاد عند أحد المزارعين، استمر في عمله قرابة العام، جمع فيه مبلغًا يستطيع به الوقوف على قدميه ومقارعة كدح الحياة، وكبد العيش.

رجع حسن إلى أهله وقريته، فاستقبله والداه بكل حفاوة وسعادة.

بدأ حسن رحلة الاعتماد على النفس، فاشترى بماله ضأنًا وماعزًا ليستفيد منها أهل البيت في اللبن والسمن، واللحم والتوالد، والبيع والشراء.

بدأ حسن بالعزم الجاد على الزواج والتأهل والاستقرار، فعرض على والديه الفكرة فرحَّبا بها، وعرَضَا عليه أسماء فتيات الأقارب والجيران اللاتي يعرفهنَّ ويشاهدنَّ يوميًّا في قريته، ولكن كان في خاطره فتاة أخرى أعجب بخلقها وجمالها، وحسبها وأهلها.

أخبر والداه بضرورة التهيؤ والاستعداد لخطبة فتاة في قرية بعيدة عن قريته، ومن عائلة غربية عن أهله وأقاربه، استجاب الوالدان لرغبة حسن واختياره ووجهته الزوجية والحياتية الجديدة.

المشهد الثالث:

وصل حسن ووالداه إلى منزل العم صالح - وكان حسن قد أخبرهم بجميل الرجل معه ومساعدته له، وحسن تربيته لأهله وأسرته - استضاف العم صالح الشاب حسن ووالديه، وأكرمهم، وبعد الغداء تقدم والد حسن للعم صالح بطلب يد ابنته (زهرة) زوجة لابنه (حسن).

رحب العم صالح بالطلب، وأبدى موافقته المبدئية، مثنيًا على خُلق حسن وتعامله، وتفانيه واجتهاده، طلب العم صالح من ابنته الحضور، وعرض عليها رغبة حسن بالزواج منها، فأبدت موافقتها بحيائها وسكوتها وخروجها من المجلس.

اتَّفق الطرفان على موعد الزواج بعد شهر حتى يتهيَّأ الزوجان للتجهز والاستعداد.

تم الزواج وانتقلت (زهرة) من بيت أهلها وقريتها إلى حياتها الجديدة التي كانت عامرة بالقناعة والرضا والمعاشرة بالمعروف، والصبر على مصاعب الحياة ولأْوَائِها.

بعد وفاة العم صالح جاء أعمام زهرة لأخذها من زوجها بحجة أن الزواج غير متكافئ، وأن حسن ليس من قبيلتهم وعائلتهم، وألزموه بطلاقها وهددوه بأذيَّتهما.

وافق حسن على طلبهم بشرط أن يكون في مجلس صلح عند شيخ القبيلة.

حضر حسن وزهرة والأعمام لمجلس الصلح، وأبدى كل طرف بوجهة نظره، وسأل الشيخ زهرة: من تختارين: زوجك أم أعمامك وأهلك؟ فردت غير مترددة: بل زوجي.

غضب الأعمام من جواب زهرة، وحلفوا في المجلس بالبراءة منها ومقاطعتها العمر كله، فلا تدخل قريتها، ولا تزور أهلها ولا يزورها أحدٌ.

عاشت زهرة بقية عمرها بعيدة عن أهلها وعشيرتها وقريتها، فعوَّضها مولاها بأربعة أبناء وابنة، ملؤوا عليها البيت سعادة وفرحًا ولعبًا ولهوًا.

ولكن سَرعان ما كبر الأولاد وشبُّوا وسافروا جميعًا إلى مناطق متفرقة؛ لطلب العيش وكسب المال الشحيح في قريتهم ومدينتهم.

اشتغل الأبناء في الوظائف الحكومية، وحصَّلوا المال الوفير لزواجهم وتكوين أُسرهم والقيام على عوائلهم، ومساعدة والديهم والتخفيف من معاناتهم.

بقي حسن وزهرة في بيتهم المتواضع بصحبة المواشي، وبمؤانسة البنت الوحيدة والجيران الذين يزورنهم من حين لآخرَ.

كَبِرَ حسن وضعُفت قواه، وأصبحت زهرة هي التي تقوم عليه وتساعده في سيره وحركته وقيامه وقعوده، حتى أصابتها عاهة في جسمها من شدة مجاهدة، ومساعدة الزوج الكبير الجسيم، زرتها أول مرة في بيتها الصغير، وهي في تلك الحالة ليس عندها أنيس ولا قريب ولا معين، فرأيتها زوجة صابرة محتسبة وفية للعشرة والصحبة.

توفِّي العم حسن عن عمر يجاوز الثمانين عامًا، تاركًا زهرة وحيدة فريدة، فانتقلت للعيش مع أبنائها، تتنقل كل شهر من بيت لبيت ومن عائلة لأخرى، وزرتها بعد سنوات من انتقالها، فوجدتها أكثر راحة وطمأنينة من حياة الشقاء والتعب في بداية حياتها، قبَّلت رأسها ويدها وودَّعتها، فكان هذا هو اللقاء الأخير لها، ففي شهر ذي الحجة من عام (١٤٤٢هـ) وبعد عيد الأضحى، فارقت رُوحها الطاهرة جسدها النحيل الضعيف الطيب، متأثرة بفيروس كورونا، وسُجيت في قبرها بعد رحلة عامرة بالحب والوفاء والتضحية والعناء.

رحِمها الله رحمة واسعة ورفَع درجتها في المهديين، وجمعنا بها في جنات النعيم.