• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    التأويل بالحال السببي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

تأثر الأندلسيين بالمشارقة

محمد حمادة إمام

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 7/10/2017 ميلادي - 16/1/1439 هجري

الزيارات: 49255

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تأثر الأندلسيين بالمشارقة


هاجر عبدُ الرحمن الداخلُ إلى الأندلس، فرارًا من تعقُّب العباسيِّين لهم، ولما وصل إلى هناك، لم يجد الطريق مفروشًا بالورود والرياحين، بل أخَذ يُكابد في صعود سلَّم المجد، مُواجِهًا الثورات والمناوشات هنا وهناك، ليُوطِّدَ حُكمَه، ويمكِّن لِمُلكِه في تلك الديار.

 

لم تنلْ تلك الثوراتُ من نفسِه الأبيَّة، التي لا تَرضَخ لغير الله، وتأبى إلا مضيَّ الأسد الهصُور الجسُور، كاشفًا عن ساعِد الجدِّ والدهاء والمجد، متسلِّحًا ببيانِه ولسانِه، وقوَّة جَنانِه. ومع هذه الشجاعة، وتلك الجرأة والقوة، نرى فيوضًا من الحنين والرقة، تنساب في عبارات، تصوِّر مدى أنينه وعشقه وشوقه إلى بلدٍ حُرم ظلَّه ورفْده - فيقول - مصوِّرًا ما يَعتلِج بصدره، وخاطره ولبِّه - أبياتًا إلى أختِه بالشام[1]: [من الخفيف]

أيُّها الراكبُ المُيمِّمُ أرضي
أَقْرِ مِنِّي بَعْضَ السَّلامِ لِبَعْضي
إنَّ جِسْمي كما تراه بأرضٍ
وفُؤَادي ومالكِيه بأرضِ
قَدَّرَ البَيْنُ بيننا فافْترقْنَا
وطَوَى البَيْنُ عن جُفُونيَ غمْضِي
قَد قَضَى الدَّهْرُ بالفراق علينا
فعَسَى باجْتِماعنا سَوْف يَقْضِي

 

آهاتٌ "تُصَوِّر ظمأه إلى مجده التليد، الضائع في المشرق، وإحساسَه بالغربة والنأي، ومُصارعة الأهواء المتناحرة، إذ كانت الأهوال العاصفة مِن حوْله تُذْكي بقلبه لَوَاعِج هذا الحنين المتَّقِد..."[2]، وتُرِينا كذلك مَدى حنِينِه، وصَبابَته، وعشقه لمعهد نشأته، وتُربة شبيبته وأحبَّته، وفوق ذلك، لا نعثُر فيها على بَصيص بُغض لوطنِه الجديد - الأندلس.

 

ولِوَفْرة وشائج الصِّلة بين الأندلسيِّين والمشارقة في الدم، والروح واللسان، نلاحظ تأثُّرًا للأندلسيِّين - خاصة شعراء العهدِ الأُمَوي، وملوك الطوائف - بالمشارقة في تناوُل بعضِ المعاني في هذا الفنِّ بالذات، وغيرِه من الفنون، ومعارضتها، ومحاكاتها، ولعلَّ هذا بسبب قُرب عهدِهم بالمشرق، ونظرتهم إليه باحترامٍ وإكْبارٍ نظرةَ التلميذِ لأستاذِه، وهذا هو شِعار الحُبِّ والودِّ لوطنٍ، أرغِموا على هَجْره، وفيه إعلانٌ عن الوحدة الإسلامية والعربية.

 

يقول الدكتور محمد رجب البيومي: "كان المشرقُ أستاذَ الأندلس؛ تتطلَّع إليه في إخلاص ورغبة، ولا تُحاول قبْل عصرِ الناصر أن تَقيسَ نفسَها به، بل كُبرى مُناها أنْ تُحْرز نفائسَ مؤلَّفاتِه وروائعَ آثارِه، وأنْ يغذَّ أبناؤها الرحيلَ إلى الارتشافِ مِن حِياضه، والريِّ من مَوارده، فإذا وَفدَ عليهم وافدٌ من أعلام المشرق تطلَّعَت إليه العيونُ في إكْبار، واقتعد مقعدَ الأستاذ عن فخرٍ واعتداد..."، واستمرَّ الحالُ كذلك، إلى أنْ "جاء عهدُ الناصر وولدِه الحَكَم، فكانا بالأندلُس بمكان الرشيد وولدِه المأمونِ بالمشرق..، فإنهما قد رسما الطريقَ للناصر وولدِه الحكَم بالأندلس، أن يَقْفُوَا أثرَيْهما في هذا المجال المديد[3]!"

 

ولا يَدُلُّ التأثر، أو المحاكاة والمعارضة - على التحجُّر والجمود، ولا يُنافِيان الابتكار والاختراع والإبداعَ، فدَوَرَان المعاني، أو الصوَر أمام الأعيُن وعلى الألسنة فاشٍ، وقديمٌ قِدَمَ الزمان.

ومما يدل - حتى في معارضاتهم - على أصالة أشعارهم، وإبداعِهم الفنِّي وابتكارهم، وُرُودُ صوَر لهم، قَلَّما نَعْثُر على مثل حيويَّتها، وحُسنها وجمالها.

يقول الدكتور/ سعد إسماعيل شلبي: "إنَّ تَشابُه الفكرة بين شاعر وشاعر لا يُنافي أصالةَ كلٍّ منهما دائمًا، فقد يَرجع السببُ في ذلك إلى تَشابُه الموضوع، أو تَوَارُد الخواطر، فضلًا عن أن اللغة بأفكارها، ومجازاتها لا إقطاعَ فيها، فهي مِلْكٌ للناطقين بها على السواء.

 

وكثيرٌ مِن شعراء الأندلس، بحُكْم انتمائهم إلى العربية، وانتسابهم إلى آبائهم، وأجدادهم مِن المشارقة، واتِّكائهم معهم على لغة وتراثٍ واحد، يَتشابهون مع أقرانهم مِن شعراء المشرق، فهم يُصَوِّرون طَبْعَهم الأصيل، في صدق وأمانة، ولو فعلوا غيرَ ذلك لجاء أدبُهم ممسوخًا، دُونَ صدق وأصالة[4]".

 

وهذا ابن شهيد - الأديب الناقد - يرى: أنَّ المعارَضة غيرُ مَعِيبة، بل هي أساسُ التفوُّق، ولهذا ظهر "ناقمًا على النُّقَّاد، الذين كانوا يتولَّون ديوان الشعراء؛ لأنهم أخَّروا عبدَ الرحمن بن أبي الفهد، وقدَّموا عليه عبادة بن ماء السماء؛ مع أن عبد الرحمن" غزيرُ المادَّة، واسِع الصدر، حتى إنه لم يَكَدْ يُبقي شعرًا جاهليًّا، ولا إسلاميًّا إلا عارَضه وناقَضه، وفي كل ذلك تراه مثْل الجَواد إذا استوْلى على الأمد لا يَنِي ولا يقصِّر، وكانت[5] مَرْتَبَتُه في الشعراء أيام بني أبي عامر، دُونَ مرتبة عبادة في الزمام فأعجَب[6]".

 

وفي ركْب الدكتور شفيق... أبو سعدة، تتَّضح الرؤية والصورة أكثر وأكثر، يقول: "ونَخْلُص إلى أنَّ المعارَضات فنٌّ شعري عُرف مِن قديمٍ، واستمرَّ على عصور الأدب العربي، بدافع ذاتي؛ إذْ يعجَب الشاعرُ بقصيدةٍ فيُعارضها، ويَنسجِ على مِنْوالها، محاولًا التفوُّق على قائلها.

 

وتختلف المعارَضات الأندلسيةُ، عن المعارَضات المشرقيةِ اختلافًا بَيِّنًا، في باعِثِها واتجاهِها وكيفيَّتها؛ إذْ فَرَضَ الانتماءُ على الشاعر الأندلسي لونًا مِن المعارَضات القاصِدة إلى محاكاة الشعر المشرقي، إعجابًا به، وإثباتًا للقدرة...[7]".

وعلى سبيل المثال - في الشعر الجاهلي - يقول امرؤ القيس يصِف فرسًا[8]: [من الطويل ]

ويخطو على صُمٍّ صِلابٍ كَأنَّها ♦♦♦ حِجارةُ غيْلٍ وارساتٌ بِطُحْلُبِ

 

أخذه النابغةُ الجعدي. فقال[9]: [من المتقارب]

كَأَنَّ حَوَامِيَهُ مُدْبِرًا
خُضِبْنَ وإنْ كانَ لم يُخْضَبِ
حجارةُ غَيْل برضْراضَةٍ
كُسِينَ طِلَاءً مِن الطُّحْلُبِ

 

ويقول امرؤ القيس أيضًا واصفًا فرسًا[10]: [من الطويل]

سليم الشظا عاري الشوي شنج النَّسا  ♦♦♦ له حَجَباتٌ مُشْرفاتٌ على الفالِ

 

فأخَذَه كعبُ بن زهير فقال: [من الطويل]

سليمَ الشَّظا عاري الشوي شَنْجَ النَّسا ♦♦♦ أقبَّ الحَشَا مستذرع النَّدَفانِ

إذًا التأثُّر، أو المعارَضة والمحاكاة شاهِدُ الأصالة، وأمَارة الفِطنة، يقول الدكتور محمد غنيمي هلال: "وعلاقةُ المتأثِّر أو المحاكي - في هذه الحالة - ليست علاقةَ التابعِ بالمتبوع، ولا علاقة الخاضعِ المَسُود بسيِّدِه، بل علاقةُ المهتدي بنماذجَ فنية أو فكرية، يطبعها بطابعه، ويُضْفي عليها صبغة قوميَّتِه.

 

وهذه هي الأصالة الحقُّ، فالأصالة ليست هي بقاءَ المرء في حدودِ ذاته، وليست هي إباءُ التجاوُبِ مع العالم الخارجيِّ، لكي يبقى المرء كما هو، دون تغيير أو تحوير، ولكن الأصالة الحق هي القدرةُ على الإفادة، مِن مَظَانِّ الإفادة الخارجية عن نطاق الذات؛ حتى يتسنَّى الارتقاءُ بالذات عن طريق تنمية إمكانيَّاتها، ولا يستطيع امرؤ أن يَصْقل نفسَه، ولا أن يَبْلغ أقصَى ما تيسَّر له مِن كمال، إلا بجلاء ذهنِه بأفكار الآخرين، وبالأخْذ المفيد مِن آرائهم ودعواتهم[11]".

 

ومما وَصَل إلينا مِن شعره الأندلسي الغزير - خاصة في مجال المعارَضة، وبالذات في هذه الصورة - "الغزال "، فمِن هذا قوله[12]: [من الطويل]

وكم ظاعِن قد ظَنَّ أَنْ لَيْس آيَبَا ♦♦♦ فآبَ وأَوْدَى حَاِضرُون كثيرُ

 

إلى أن يقول:

وكيف أُبَالي والزَّمانُ قَدِ انْقَضى
وعَظْمِي مَهِيضٌ والمكانُ شَطيرُ
وإني وإنْ أَظْهَرْتُ مِنِّي تَجَلُّدا
لَذُو كَبِدٍ حَرَّى عليكِ حَسِيرُ

فالغزال في هذه الأبيات - وهي في مجال التحسُّر على شبابه، وعدمِ اليأس مِن عودته إلى ديار أحبابه، والجزَع مِن ضعف المشيب، وشكوى آلامِه - يُبَيِّن - بأسلوب منطقيٍّ - كثْرة مَن ظَعَن، ثم عاد إلى إلْفِه ووطنه، وقد ظن عدَم العودة، وهلَك كثيرٌ مِن المقيمين، وهو أيضًا "يَذْكر فيها شكوى زوجتِه مِن كثرة أسفاره، ويُحاول تهدئتَها وطمْأنَتَها، ويرجو أن يعُود مِن سفَره غانمًا سالمًا موفورَ الحظ...[13]".

 

يَعِزُّ على الشاعر هَجْرُ زوجتِه مؤقَّتًا، وانكسارُه أمامها، على إثْر انكسارِه وانهدامِ بُنيانه على يَدِ المشيب، وإنْ أظهَر التصبُّر والتجلُّد.

 

والغزال في تلك القصيدة "يَجري على نهْج قصيدةٍ مشهورة لأبي نواس؛ أوَّلها[14]: [من الطويل]

أجارةَ بَيْتَيْنَا أَبُوك غَيُورُ ♦♦♦ وَميْسُورُ ما يُرْجَى لديكِ عَسيرُ

ويُلاحَظ أن الغزال، أبان عن سبب سفَره، وهو طلَب الرزقِ، وعن سُوء صنيع الحاجَة معه، وتردِّي حالِه، بعدما بان عنه شبابُه، فزوْجتُه تُريد منه البقاء، أما أبو نواس، فيشكُو ترفُّع محبوبتِه عليه، وإباءها عنه... وعزَّة جانِبِها.

 

ولم يكُن الغزال وحده في ميدان المعارضة عامَّة، وقصيدة أبي نواس خاصَّة، بل شاركَه ابنُ دراج القسطلي، واصفًا فراق زوجِه ووليدِه، وما ألمَّ به مِن شدة الوجد، وألمِ الهجْر. فيقول أبياتًا منها[15]: [من الطويل]

ولَمَّا تَدَانتْ لِلْوَدَاعِ وَقَدْ هَفَا
بِصَبْري مِنْه أَنَّةٌ وزَفيرُ
تُنَاشِدُني عَهْدَ المودَّة ِ والهَوَى
وفي المَهْدِ مبغومُ النِّداءِ صغيرُ

أعظَم وأشدُّ موقفٍ على الإنسان موقفُ توديعِه للأحباب؛ إذْ تُراودُه أفكار، وتنتابُه مشاعرُ وأحاسيس، تكاد تعصِف بكيانه وجَنانه، على رأسِها: أَيُقدَّرُ له العَوْد إلى ما يحبُّ ويَهْوَى أم لا؟ عندئذ تكُون المناشدة بذكْرَى ما مضى، وعدم التفريطِ فيما بَقِيَ.

 

فكأن هذه المعارَضات إثباتٌ مِن الأندلسيين - لِقُدْرتهم على الإبداع، وسهامٌ في أعيُن الانتِقاصِ والازدراءِ لِمَا عدا أهل الشرق. ولذلك يقول ابن حزم[16]: [من الطويل]

أنا الشمسُ في جوِّ العُلومِ مُنيرةٌ
ولكنَّ عَيْبِي أنَّ مطْلعيَ الغربُ
ولو أَنَّني مِن جانبِ الشَّرق طالعٌ
لجدَّ على ما ضاعَ مِن ذِكْرِيَ النَّهْبُ

 

ويَرى الحصري القيرواني، أن قول البحتري[17]: [من الوافر]

سَتَفْنَى مِثْلَ مَا تَفْنى وَتْبلَى ♦♦♦ كما تبلى فَيُدْرَكُ مِنْكَ ثَارُ

 

أخذه أبو القاسم بن هانئ، فقال: [من الكامل]

تفنَى النجوُمُ الزُّهْرُ طالعةً ♦♦♦ والنَّيِّرانِ الشمسُ والقَمَرُ

.... إلخ الأبيات، التي تبيِّن فناءه، وتؤكِّد على نسيان مَن حوله ذكرياتِه، والدليل على ذلك الشمس والقمر والنجوم، التي تفنَى، وتصير كأنْ لم يكُن لها قبْل وجودٌ، ربما يكُون مقصودهُ بالنجوم الشعرات البِيض التي تتخلَّل سوادَ الرأس.

وصُورته هذه عِظَة لمَن تكبَّر، وتجبَّر شبابًّا، ولم يعُد إلى صوابه ورشدِه أشْيَبَ، غيرَ منزجِر عن غيِّه، أو مطلَقِ جبروتِه وبطشِه، فإنْ لم يتجرَّأ عليه البشَر، ستنهال عليه نكبات الدَّهْر، وحوادثُ الزمان، ومَن تدبَّر في المصير، خاصَّة بعد المشيب، أيقَن بضعفه، وفاقتِه إلى بارئه سبحانه وتعالى، فابتعَد عن السعي وراء المظالم، والاستكثارِ من المعايب.

 

ويُلاحَظ أن البحتري أخذ معنى قوله، من محمود الوراق إذ يقول[18]: [من الطويل]

يُحِبُّ الفتى طُولَ البَقَاءِ كَأنَّه
على ثقةٍ أن البَقَاء بَقَاءُ
إذا ما طَوَى يومًا طَوَى اليومُ بَعْضَه
وَيطوِيهِ إنْ جَنَّ المساءُ مساءُ

..... إلخ

فهو – أي: البحتري - إذًا متأثِّر ومؤثِّر، والعبرة بالجديد، فنلمح أن المتأثرين ألبَسوا اللفظَ حُلَّة بهيَّةً، والمعنَى ثوبًا قشيبًا، وهو ما يُحسَب لهم، مع بقاء الفضل لمن سبَقَهم.

 

ولعل ابن هانئ متأثر أكثر بمعنى قوله تعالى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾[19]، وقوله تعالى: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ﴾[20]، وقوله تعالى: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ ﴾[21]، وكأنه مثل كثير مِن الأندلسيِّين، يُريد الإعلانَ عن ثقافتِه الدينية، والوقوفَ على مُشارِكٍ له في المحنة، وشبيهٍ في جُرح قلبِه، وأسَاهُ مِن جرَّاء المشيبِ ونَوَازِلِه.

ومعنى البحتري، يدُور حول كيان "الدنيا يومانِ: يوم لك، ويوم عليك"، فكما يُدين الإنسان يُدان، ثم يكُون في حيِّز النسيان.

 

وأصْدق شاهدٍ وأعْدله على إجادة الأندلسيِّين، وقدرَتهم على توليد المعنى الحسَن البكْر مِن اللفظ العقيم المستهلك - بتدويره، وتحوير معناه، والزيادة عليه بما يَرُوق ويُعْجب ويُتْحف - قصة[22] الأمير عبد الله مع أبي الأصبغ (ت 320هـ = 932م).

 

وهذا أبو العلاء صاعد[23] (ت 417هـ) يُجيب أبا حفص بن برد بأبيات منها[24]: [من البسيط]

لَبَّيْك أَلْفًا أبا حَفْصٍ، إِجابةَ مْن
يُدْلِي إِلَيْك بِوُدٍّ غيرِ مأشوبِ
أَبَعْدَ خَمْسٍ وسَبْعين اْلتَحفْت بها
حتىَّ قَرَعْتُ لهذا الدَّهْرِ ظُنْبُوبي
رَمَيْنَنِي بسهامٍ غير طائشةٍ
حُورٌ زرين عَلَى صُمِّ الأنابيبِ
يا مَنْ يُرقِّع بالآمالِ ما خَرَقَتْ
يَدَا الليالي قبيحٌ صَبْوةُ الشيبِ!
نادَيْتَني لِخيالٍ عَزَّ طائفُهُ
ألا ليومٍ عصيبٍ إذْ تُنَادِي بي!
حتّى أَقِيكَ شَدَا الأيامِ عن عَضُد ٍ
مُلَدَّدٍ وحُسَامٍ غَيْرِ مَخْشُوبِ
إيَّاك والموعدَ الخَوَّانَ تَقْبلُهُ
فلا أمانَةَ لِلُّعْسِ المخَاضِيبِ

 

إلى أن يقول:

فلا تَسُومَنَّ شيخًا طَارَ طَاِئرُهُ
سَوْمَ الشَّبيبةِ في لَهْوِ الخَراعِيبِ
وأنتَ مُنْفَردُ المِضْمَاِر مَنْصِلُهُ
غَمْرُ البَدِيهةِ رَوَّاضُ المَصاعِيبِ

 

فالبيب الأول - خاصة - من قول الشاعر[25]: [من الطويل]

قَرَعْتُ ظَنابيبَ الهوى، يومَ عاقل ♦♦♦ ويومَ الِّلوى حتَّى قَشَرْتُ الهوى قَشْرا

أي: "أَذْلَلْتهُ كما تقرع ظنبوبَ بعيرك، لِيتَنَوَّخَ لكَ فَتَرْكبَهُ".

فأبو العلاء صاعد يكشِف عن حُبِّه وتقديره لِصِنْوِهِ أبي حفص، ومع هذا فهو يتحسَّر على شبابه، ويجزَع مِن مَشِيبه، الذي حال بينه وبين أمانيِّ وآمال الماضي، وأتى على ملذَّاته، وأعظَم رُزْيَاه تنفيره الحِسَانَ اللائي صِدْنَه، وبالهجْر قَتَلْنَه، ثم يُبيِّن قُبْح، بل جُرْمَ الأشيَبِ الذي لم يتَّعِظ بشيبِه، ولم يُقْلع عن صَبْوَته وغيِّه، ويرى ابن بسام في الذخيرة أن قوله في الأبيات نفسِها:

إيَّاكَ والموعدَ الخوَّانَ تَقْبلُه ♦♦♦ فلا أمانة للعْسِ المخاضيبِ

مِن قول كثير[26]: [من الطويل]

وإِنْ حَلَفَتْ لا يَنقُضُ النأيُ عَهْدَها ♦♦♦ فليس لمخضوبِ البَنَانِ يمينُ

يُلاحَظ أن المعنى، أو الصورة متبايِنة، فأبو العلاء يحذِّر مِن مواعيد الحِسان، البارعات في الحسْن والدَّلال، فلا أمانة لهن، ولا وَعْد يُحتَرم مِن جانبِهن، ويبدو أنه عظيمُ اللدغ مِن سمومهن، ولذا فإنه قائمٌ على حربهن، وإظهارِ ما انطوَتْ عليه القلوب مِن أحقاد وأضغان، فأراد مِن بَنِي وُدِّه، وجنْسِه عدمَ الانخداع، والجريِ خلف التملُّق والزيف.

 

أما كثير، فإنه يُثْني على محبوبه بالتمسُّك بالعهد، وصدْق الوعْد، حتى بَعْد طولِ النأيِ والهجر، ولا ينسحب هذا على مَن سِوَاها مِن بَنِي جنسِها، إذ عادتهن الحنثُ في اليمين، وعدمُ الإخلاص لكبير أو صغير.

 

وكما تأثروا بمعاني بعضِهم البعض، تأثروا بمعاني القرآنِ الكريم، والسُّنَّة النبوية الشريفة[27]. هذا، ومِن تأثُّر الملوك ببعضهم البعض، تأثُّر سليمان الظافر بن الحكَم المستعين (354 - 407هـ) بالرشيد، في تصوير الحال مع الغواني، وبداية أبيات سليمان هي[28]: [من الكامل]

عجبًا يَهَابُ الليثُ حَدَّ سِناني ♦♦♦ وأهابُ لَحْظَ فَواترِ الأجفانِ

ومطلع أبيات الرشيد هو: [من الكامل]

مَلكَ الثَّلاثُ الآنساتُ عِناني ♦♦♦ وَحلَلْنَ مِنْ قَلْبي بِكُلِّ مَكَاني

يتعجَّب سليمان الظافر مِن نفسه، فيهابه البواسل الشجعان، ويقَع هو صريعَ لحْظ الحِسان، يُقارعُ بلا وَجَلٍ الخطوبَ والأهوال، ويَخْشى إعراضَ الغواني، وهجْر ذواتِ الدلال، ثم يأخذ في وصف مَن سَلَبْنَ لُبَّه، وأسَرْنَه، وأصَبْن قلبه، وترفَّعْن عليه.

 

وكأنه لِيمَ في الحُبِّ، وشِدَّةِ العِشق، وهو الملِك المرهوبُ الجانبِ، القويُّ الجولة، العظيم الصولة، فأبان عن أن هذا دَيْدَنُ بَني مروان، وشِعَار أهلِ الهوى، محبِّي الجَمال، وفي هذا نماء للعشق، وحفاظ على الحب.

 

أما الرشيد، فإنه يبيِّن أنهن استولَيْن على لبِّه، وحَلَلْن بكلِّ جزء مِن قلبه، فلم توجد منه ناحية إلا وفيها لهن حب، وَوَلَهٌ وعشْق، فهو المطاع من الخلائق، المطيع لهن، وهن مالكات لأوفى وأعزِّ سلطان، سلطان الهوى المتحكِّم في الجَنان.

كشف سلمان عن طبْع أهل مروان - وهو الحب - وميلهم نحو الحِسان، وعشقهم الجمال.

لقد اتَّسَم الأندلسيُّون بجودة الخاطرة، واتِّقاد الذِّهن، وصفائه، ورقة القلب، وحُسْن الصَّبِّ في القالب، فلم يجمُدوا عند المعنى، وأجادوا صياغته، مما يضاف لهم، ويُحْسَب.



[1] انظر: نفح الطيب حـ 3 / 38، 54.

[2] انظر: على مرافئ الأدب الأندلسي صـ 20، 21.

[3] انظر: الأدب الأندلسي بين التأثر والتأثير د / محمد رجب البيومي صـ 28، 29.

[4] انظر: دراسات في الأدب الأندلسي د / سعد... شلبي صـ 62، 63.

[5] في الجذوة صـ 277 كذلك، وفي تاريخ النقد الأدبي عند العرب د/ إحسان عباس صـ 477، دار الثقافة – بيروت. د. ت: " كان".

[6] انظر: الجذوة صـ 277، تاريخ النقد الأدبي د/ إحسان عباس صـ 477.

[7] انظر: في أدواح الأدب الأندلسي صـ 221 ـ 222.

[8] لم أقِف عليه في ديوانه، انظر الشعر والشعراء " لابن قتيبة "ت 276هـ = 899م" تحقيق وضبط د/ مفيد قميحة، مراجعة وضبط أ / نعيم زرزور صـ 64: 77 ط 2 دار الكتب العلمية. بيروت 1405هـ = 1985م.

[9] انظر: النابغة الجعدي وشعره صـ 34 د/ إبراهيم عوض، دار النهضة العربية 1414هـ - 1993م.

[10] انظر ديوانه: صـ 127. ضبط وتصحيح أ/ مصطفى عبد الشافي ط دار الكتب العلمية . بيروت د.ت. الشعر والشعراء صـ 65.

[11] انظر: الأدب المقارن د/ محمد غنيمي هلال صـ 106، 107 ط 3. مكتبة الأنجلو المصرية المطبعة العالمية. القاهرة سنة 1963م.

[12] انظر: ديوان الغزال تحقيق د/ الداية صـ 52، 53.

[13] انظر: المرجع السابق وصفحتيه.

[14] انظر: ديوان أبي نواس (145 – 199هـ) صـ 327، دار صادر. بيروت. د. ت. وديوان الغزال تحقيق د/ الداية صـ 52، 53.

[15] انظر ديوانه: صـ 298، 299 الذخيرة ق1ح1 صـ 65، في الأدب الأندلسي د/ محمد زكريا عناني صـ 84، 85.

[16] انظر ديوانه: صـ 77، جذوة المقتبس صـ 310، المغرب حـ 1 / 356، المعجب صـ 52.

[17] انظر: زهر الآداب حـ 1 صـ 224، 225، وأبيات ابن هانئ في ديوانه صـ 160 ط1 دار الأرقم بيروت شرح وضبط د/ عمر الطباع سنة 1418هـ = 1998م، وقول البحتري في ديوانه حـ 1 صـ 330 ط دار صادر. د. ت.

[18] انظر: ديوان محمود الوراق صـ 67. جمع ودراسة وتحقيق د/ وليد قصاب. مؤسسة الفنون 1412هـ = 1991م، وفيه: "وإنه..... على ثقة أن البقاء فناء"، زهر الآداب ج1 /224.

[19] سورة الرحمن: آية 26، 27.

[20] سورة التكوير: آية 1، 2.

[21] سورة الانفطار آية 1 / 2.

[22] انظر: الحُلة السيراء حـ 1 / 232: 236، تاريخ الأدب العربي د/ عمر فروخ حـ 4 / 162، 163، قضايا أندلسيَّة د/ بدير متولي حميد صـ 249، وهي في البحث في صورة المشيب والمنيَّة.

[23] يقول فيه ابن بسام: "كان أبو حفص في ذلك الأوان واسطة السلْك، وقطْب رحَى الملْك، استهل ببهائه وجلاله، ورفل في بُكره وآصاله، وبرز على نظرائه وأشكاله... توفي سنة 418هـ، انظر: الذخيرة ق1 ح 2 صـ 84، معجم الشعراء الأندلسيِّين صـ 61.

[24] انظر: الذخيرة. ق1 ح 1 / 109، 110.

[25] انظر: لسان العرب حـ 7 / 322.

[26] انظر: ديوان كثير عزة صـ، 363، 364، شرح قدري مايو. دار الجيل. بيروت ط 1 / 1416هـ = 1995م.

[27] انظر: الذخيرة ق1 ح 1 صـ 60، 61، فقد تأثر القسطلي بقصة موسى وابنتي شعيب – عليهم السلام؛ انظر: سورة القصص: آية 24 – والإشارة إلى تأثرهم بالقرآن والسُّنَّة منثورة في ثنايا البحث.

[28] انظر: جذوة المقتبس صـ 21، 22، بغية الملتمس صـ 25، 26، نفح الطيب حـ 1 / 430، 431.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • محنة الأندلسيين لصيام رمضان
  • حج الأندلسيين بعد سقوط الأندلس
  • السجن والسجون في الأندلس لمحمد علي دبور
  • مأساة الأندلس وموقف العثمانيين
  • أعلام في خدمة التراث الأندلسي: الأستاذ محمد مفتاح العمراني نموذجا
  • الأندلس

مختارات من الشبكة

  • المسلمون بين التأثير والتأثر في المجتمع الأمريكي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • المسلمون الغربيون من مجالات التأثر والتأثير بين الثقافات المثاقفة بين شرق وغرب(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • الوجود الإسلامي من مجالات التأثر والتأثير بين الثقافات المثاقفة بين شرق وغرب(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • البعثات التعليمية من مجالات التأثر والتأثير بين الثقافات المثاقفة بين شرق وغرب(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • العربية بين الأصالة والتأثر (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • نشأة الأشاعرة وتأثرها بالفرق الأخرى: معلومات ووقفات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المستشرقون وعلوم المسلمين.. (تأثر التلاميذ)(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • المستشرقون وعلوم المسلمين.. (التأثر العكسي)(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • التأثر والتأثير(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • تأثر الأبناء بوفاة الأم(استشارة - الاستشارات)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 22/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب