• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    التأويل بالحال السببي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / اللغة .. والقلم / الوعي اللغوي
علامة باركود

الشاهد الشعري في مبحثي الفصاحة والبلاغة (2/3)

د. عيد محمد شبايك

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 23/2/2010 ميلادي - 9/3/1431 هجري

الزيارات: 115337

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

المبحث الأول: الفصاحة


ثانيًا: الفصاحة في التراكيب:
ظهر لنا من خلال هذا العرض أنه كما انصرف الدرس البلاغي إلى العناية باللفظة المفردة، اهتمَّ كذلك بالتركيب؛ إذ إنَّ (الفصاحة) كما تتعلَّق بالمفردات من خلال مواصفات صوتية ودلالية محدَّدة، فإنها تتعلَّق بالتراكيب من خلال ثلاثة شروط سلبية، فلا بُدَّ أن يخلو التركيب من تنافر الكلمات، وضعف التأليف، والتعقيد المعنوي.

1- تنافر الكلمات:
ويمثِّل البلاغيون لتنافر الكلمات بهذا البيت الذي أورده الجاحظ في "بيانه" والذي ردَّدته كتب البلاغة القديمة:
وَقَبْرُ  حَرْبٍ  بِمَكَانٍ  قَفْرٍ        وَلَيْسَ قُرْبَ قَبْرِ حَرْبٍ قَبْرُ[1]
ذكر معظم البلاغيين والنقَّاد أن النصف الأخير من البيت بعض ألفاظه يتبرَّأ من بعض[2].

ولقد نشأ هذا التبرُّؤ أو التعثُّر من ضمِّ هذه الكلمات بعضها إلى بعض ومن تكرُّر حروف القاف والراء والباء وتردُّدها في الكلمات الثلاث على هذا الترتيب مع اختلاف موضعها، مما أدَّى إلى أن يصبح الإنشاد مؤونة على المُنشِد؛ لفقدان تجاوب الأصوات الداخلية في السياق اللغوي، وتعثُّر النطق بالكلام.

ولكن القول بذلك يتنافى مع الانسجام الصوتي للسياق؛ إذ يأتي هذا البعد الصوتي مسجِّلاً وجهًا من الأوجه السياقية التي سبق إليها العقل العربي؛ إذ نرى البعد الصوتي في التناول العربي للكلمة والجملة يصرِف بعض اهتمامه إلى بُعد المناسبة والذوق.

فالدال (قربَ) وقع خبرًا لليس، وكان من حقِّه أن يقول: "وليس قرب قبره قبر"، ولكنه آثَر أن يأتي بالظاهر في موضع المضمر، ليدلَّ على لزوم التوجُّع؛ لأن المقام كما يبدو من مضمون البيت مقام رثاء، وليحفظ على البيت وزنه وقافيته.

إذًا فلو لم يقصد إلى هذا الهدف لقال: "وليس قرب قبره قبر"، وبالتالي يخفُّ التنافر، ولكن هكذا رُتِّبت المعاني في نفس الشاعر فأتت الألفاظ تابعة لها، فلم يشعر هو بذاك التنافر الذي يشعر به مَن يقرأ البيت. 

ولنتأمَّل الشطر الثاني من البيت لنرى كيف نشَأَت هذه الصعوبة التي قال بها النقاد، وتبرَّأ بعض ألفاظه من بعض، وسوف يتَّضح ذلك مما نسوقه من شواهد بلاغية، ومناقشة ما فيها من البُعد الصوتي، وبيان قيمته ودلالته في بلاغة الكلام.

ووجود المظهر وهو مضاف لمضاف قبله زادنا راءً وباءً، ومعلوم أن الراء حرف يتَّسم بالتكرير، والباء حرف انفجاري، ثم تتابع الإضافات كل ذلك كان سببًا في نشوء هذا التنافر الذي قال به البلاغيون والنقَّاد، ولكن على أيَّة حال للشعراء أعذارهم ما دام القصد من وراء الصياغة هدفًا نفسيًّا أو اجتماعيًّا أو بلاغيًّا. 

هذا هو الفرق بين التنافر في الكلمة والتنافر في الكلام، فالتنافر في الكلمة ناشئ عن تنافر حروفها، والتنافر في العبارة ناشئ في تنافر كلماتها.

ومن الشواهد التي مثَّلوا بها في هذا الصدد قولُ أبي تمام:
كَرِيمٌ مَتَى أَمْدَحْهُ أَمْدَحْهُ وَالْوَرَى        مَعِي وَإِذَا مَا  لُمْتُهُ  لُمْتُهُ  وَحْدِي[3]
معظم البلاغيين والنقَّاد القدامَى والمتأخِّرين يرون أن منشأ الصعوبة في تكرار (أمدحه) وليس الأمر كذلك في رؤية بعض النقَّاد المحدَثين حيث يقول: "إن النظرة المتأنِّية تَقِفُنا على أن هذه الصعوبة لم تنشأ من تكرير هذا اللفظ، وإنما نشَأَت بسبب جزم الفعل بالسكون، فالكلمة قبل أن تجزم لا نجد بها صعوبة كبيرة في النطق حتى لو كرَّرناها أكثر من مرَّة، أمَّا الانتقال من الحاء الساكنة إلى الهاء المضمومة هو الذي يجعلنا نقف وقفة قصيرة جدًّا قبل الانتقال من الحاء إلى الهاء، فيحسُّ القارئ ببعض الصعوبة.

ولو أنشدنا البيت مستعينين بوسائل اللغويين من النبر والتنغيم، لساعد ذلك كثيرًا على انتفاء الصعوبة، فلا يُنشَد البيت وفق التقطيع العروضي، وإنما ينبغي أن يُنشَد على الوجه التالي:
كَرِيمٌ، مَتَى أَمْدَحْهُ، أَمْدَحْهُ وَالْوَرَى مَعِي، وَإِذَا مَا لُمْتُهُ، لُمْتُهُ وَحْدِي
على أن يراعى أن يكون النبر على المقطع الأخير من كلمة (أمدحه) الأولى[4]؛ للإشعار بأن هناك جوابًا لهذا الشرط المتمثِّل في الأداة (متى)، ومثل ذلك يُقال في كلمة (لمته) الأولى[5].

"إن النبر يقوم بوظيفة نطقية تتَّصل في المقام الأول بالنظام الصوتي للغة، حيث نجد أداء المتكلِّم يقسِّم الحدث الكلامي المنطوق إلى أقسام ترتبط بأهمية المقاطع التي يؤدِّيها من ناحية، وبإيقاع تنفُّسه الطبيعي من ناحية أخرى"[6]. 

وبناءً على ذلك فالبيت خالٍ من التنافر، ولا سيَّما إذا راعينا "أن التأثيرات الصوتية ينبغي أن تُدرس دائمًا مرتبطة بالمعنى والفكر والتخيل والإيقاع"[7]، ولا يبعد ذلك كله عن مراعاة السياق الموقفي والحالة النفسية للشاعر.

ومما عابَه ابن سنان من التكرير قول أبي الطيب المتنبي:
قَبِيلٌ أَنْتَ أَنْتَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ        وَجَدُّكَ بِشْرٌ  المَلِكُ  الهُمَامُ[8]
يقول: وقد زاده قبحًا وقوعه بغير فصل[9].

وأرى أن التكرير هنا ليس قبيحًا؛ لأن المقام مقام مدحٍ، وتكرير الضمير (أنت) توكيدٌ للضمير الذي قبله، ووثيق الارتباط بالمعنى العام وهو المدح، والتكرار هنا "يضع بين أيدينا مفتاحًا للفكرة المتسلِّطة على للشاعر، وهو بذلك أحد الأضواء اللاشعورية التي يسلِّطها الشعر على أعماق الشاعر فيضيئها بحيث نطلع عليها"[10]، فهو نوعٌ من التأكيد الناشئ عن كثافة الحالة النفسية التي تقترن بها محبَّة الشاعر لممدوحه ومبالغته في مدحه، وهذا مباح للشعراء، ثم العطف بالواو في قوله: (وأنت منهم) ذهبت بكثرة تتابع الضمير.

ومن التكرار الغريب الذي أدهش النقاد القدامَى والمعاصرين وأثار استنكارهم قول الأعشى: 
وَقَدْ غَدَوْتُ إِلَى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي        شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ  شَوِلُ[11]
هذا البيت أدهش النقَّاد القدامَى والمعاصرين وأثار استنكارهم، فقالوا: إن هذه شأشأة تنافي الفصاحة، وعبَث لا يليق بالشاعر، وقيل: إن ألفاظ شطره الثاني كلها بمعنى واحد، فكان أحدهما يغني عن تكرارها وتزاحمها، بل قيل: إنه من وضع الرواة العابثين، كأن الشاعر لا بُدَّ أن يكون جادًّا في جميع أحواله، ولا يحقُّ له أن يعبث أو يلهو أحيانًا.

إن الذي دفع بهؤلاء أن يقولوا في هذا البيت ما قالوه أنهم نظروا إليه منفردًا معزولاً عن جميع سياقاته وعن موضعه من القصيدة، ولم ينتبهوا إلى الظروف والملابسات التي أحاطت بالشاعر وحالته النفسية وغرضه منه في الوقت الذي أنشد فيه هذا الشعر، إن الحكم على الأشياء لا يكون جزافًا، بل يكون بعد تصوُّر المرجعيَّات المتعدِّدة المعِينة على إبراز طبيعة النص وقيمته، كالمناسبة والتجربة، والحالة النفسية والسياق العام والخاص، والسياق الموقفي والسياق السببي، ولا ننسى أن كلَّ تكرار يحمل في ثناياه دلالات شعورية مختلفة تفرضها طبيعة السياق وقرائن الأحوال وطبيعة الألفاظ وجرسها، والمعاني الأكثر اتِّصالاً بخلَجات النفس والشعور... كل ذلك لا بُدَّ أن يُؤخَذ في الاعتبار عند الحكم على النص.

وإليك بعضَ الأبيات أخذناها من القصيدة لنتمثَّل السياق الذي ورد فيه البيت:
وَقَدْ  أَقُودُ   الصَّبَا   يَوْمًا   فَيَتْبَعُنِي        وَقَدْ يُصَاحِبُنِي  ذُو  الشِّرَّةِ  الغَزِلُ
وَقَدْ غَدَوْتُ إِلَى  الحَانُوتِ  يَتْبَعُنِي        شَاوٍ  مِشَلٌّ  شَلُولٌ  شُلْشُلٌ  شَوِلُ
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الْهِنْدِ قَدْ  عَلِمُوا        أَنْ لَيْسَ يَدْفَعُ عَنْ ذِي الحِيلَةِ الحِيَلُ
نَازَعْتُهُمْ  قُضُبَ  الرَّيْحَانِ   مُتَّكِئًا        وَقَهْوَةً   مُزَّةً    رَاوُوقُهَا    خَضِلُ
لاَ  يَسْتَفِيقُونَ  مِنْهَا  وَهْيَ   رَاهِنَةٌ        إِلاَّ  بِهَاتِ  وَإِن  عَلَّوْا  وَإِنْ  نَهِلُوا
يَسْعَى بِهَا ذُو زُجَاجَاتٍ لَهُ  نُطَفٌ        مُقَلَّصٌ  أَسْفَلَ   السِّرْبَالِ   مُعْتَمِلُ
في هذه الأبيات يتحدَّث الأعشى عن أحد مجالس الخمر التي كان يرتادها هو ورفاقه؛ لأنه لم يكن يحتسي الكأس مفردًا، بل مع ثُلَّةٍ يشاركونه ما يجد من لذَّة، وما ينشد من متعةٍ، وقد تهيَّأت لهم ظروف من شأنها أن تُعِين على ذلك (صحةٌ وقوةٌ، خمرٌ معتقةٌ ومُزَّةٌ، ساعٍ خفيفٌ سريعُ الحركةِ، عودٌ يعزف بالموسيقا، وفتاةٌ ترجع في أنغامها، والنساءُ الممتلئات)، فماذا عسى أن تتخيَّل؟

والأبيات تصوِّر الأعشى موفور الصحة، يأمر الصبي فيأتمر، لا يشكو ألمًا ولا يشعر بوهن، يغدو إلى الحانوت مبكرًا، يسير خلفه غلام نشيط ذو خفَّة، يحمل له ما يحتاج من لحم للشواء، ومُزَّة وفاكهة، ويلتقي في المجلس بفتية يمتلئون شبابًا ويفيضون حيوية، وقد أيقنوا أن الحيلة لا تدفع قدرًا ولا تردُّ مكتوبًا، فهم على مذهب واحد.

والأعشى متفوِّق فنيًّا؛ حيث جانَس بين مرتادي المجلس مجانسة الانسجام مع اللذَّة والمتعة، وينازعهم الأعشى قضب الرَّيحان، ويبادرهم إلى الكأس التي لا تجفُّ قاعها (راووقها خضل)؛ لاستمرار غَمْرِهِ مرة بعد مرة، ومهما شرب الرفاق فهم يبتغون المزيد، ولا يريدون الإفاقة إلا بالإلحاح في الرِّي، والإلحاف في الشراب، ومع الخمر والرفاق ولذَّة الشراب، يستدعى المجلس التعبير الجميل الذي يصوغ تلك الأحاسيس، ويعبِّر عن فرحة المشاعر وتراقُص القلوب، فأتى تعبيره مصوِّرًا لحالته وحالة رفاقه بما يغمرهم من نشوة وفرحة وثمل وتمايُل وتراقُص وتنادٍ وتبختر وتثنٍّ... إلخ.

ويقدِّم لنا جويو تحليلاً عضويًّا ونفسيًّا لما يطرأ على الشخص في مثل هذه الحالة من الألم أو السرور، وأثر الإيقاع الحركي والبدني على الشخص فيقول: "إن للإيقاع والوزن فوق خاصة التوقُّع وما تتطلَّبه من إشباع صلة وثيقة بحالة الانفعال التي تسيطر على الشاعر، فمن الوقائع المشاهَدة أن حركاتنا تصبح موزونة موقعة حين نعاني انفعالات قوية؛ إذ إنَّ قانون الانتشار العصبي كما يسمِّيه جويو يجعل التنبُّه أو التأثُّر الذي ينشأ في الدماغ قليلاً أو كثيرًا إلى الأعضاء، كما ينتقل الاضطراب على صفحة الماء الذي كان ساكنًا، وبتأثُّر قانون (الوزن) أو (الإيقاع) الذي يسيطر على جميع الحركات يتحوَّل هذا الاضطراب إلى تموُّج منتظم.

فإذا كنت في حالة قلق بسيط رأيت ساقك تتحرَّك وتهتزُّ، وإذا كنت تعاني ألمًا ماديًّا أو نفسيًّا رأيت الجسم كله يضطرب، فإذا اشتدَّ هذا الألم رأيت الجسم يهتزُّ إلى أمام وإلى وراء، ورأيت اضطرابه يصبح منتظمًا، وإذا كنت أخيرًا في حالة فرح شديد رأيتك تقفز وترقص، وهذه الظاهرات نفسها تلاحَظ كذلك في أعضاء الصوت؛ إذ يكتسب الكلام بتأثير التنبُّه العصبي قوة وإيقاعًا واضحين[12].

وإذا كان الإيقاع إشارة طبيعية إلى عمق الانفعال فإن هذا الإيقاع يميل وفقًا لقانون علمي آخر، هو قانون العدوى العاطفية إلى أن ينقل الانفعال إلى قلب السامع، فمتى تكلَّم المرء شعرًا فكأنه بذلك وحده يقول: إن ألمي أو فرحي من القوة بحيث لا يمكن أن أعبِّر عنهما باللغة العادية، أو كأن إيقاعات كلامه في تلك الحالة "ضربات القلب تسمعها الأذن وتنظم الصوت، فإذا سمعها الآخَرون أخذت قلوبهم تخفق هي الأخرى هذا الإيقاع عينه"[13].

والأعشى يريد أن يحكي ترنُّح السُّكارَى حين تأخذهم النشوة وتذهب الخمر بعقولهم، يمثِّلها بهذه الكلمات الخمس، يتتابع إيقاعها وتتجانَس أصواتها، وكأنها تحكي حديثهم المتلعثِم وكلامهم المتعثِّر، كما تكون طريقة الأداء الصوتية كافية لشحن المفردات بالكثير من المعاني الانفعالية والعاطفية، كأنْ تُنطق وكأنها تمثِّل معناها تمثيلاً حقيقيًّا، ولا يخفى ما للإشارات المصاحِبة للكلام في هذا الصدد من أهميةٍ في إبراز المعاني الانفعالية، وربما كان لظهور حرف الشين وانتشاره في الشطر الثاني خاصَّة ما يبرز حديث السكارى بما له من خصوصية القوَّة والتفشِّي والصفير، ممَّا يجعله واضحًا، فالشاعر هنا حريص على مقابلة الألفاظ بما يُشاكِل أصواتها من الأحداث، وهذا ما أدَّاه التعبير.

ويرى بعض اللغويين المحدَثين أن "العنصر الأساسي الذي يميِّز الصوت عن آخر هو قوَّة استماعه التي تختلف اختلافًا جوهريًّا تبعًا لدرجته وسرعته"[14].

وحرف الشين هنا صوت رخو ذو صفير قليل، له صفة التفشِّي؛ إذ تتَّسع منطقة الهواء في الفم عند النطق به، ولا يقتصر هواء النفس في تسرُّبه إلى الخارج على مخرج الشين، بل يتوزَّع في جنبات الفم، وذلك هو معنى التفشي، لذلك آثَرَه الأعشى في التعبير عن اختلاط مخارج الحروف في نطق السكران، وعن سيحان حركات جسمه بعضها في بعض؛ إذ يفقد السيطرة على النطق والحركة.

يقول ابن جني: "إن مقابلة الألفاظ بما يُشاكِل أصواتها من الأحداث بابٌ عظيمٌ ونهجٌ مُتْلَئِبٌّ عند عارفيه؛ وذلك أنهم كثيرًا ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبَّر بها عنها، فيعدلونها ويحتذونها عليها[15].

إذًا فتكرار صوت الشين في بعض الكلمات يُعَدُّ نوعًا من الإلحاح على شيء معيَّن أرادَه الشاعر واهتمَّ بإبرازه وتقديمه للمتلقِّي، وهو تصوير صوت السكران وحركاته، وذلك يمثِّل لدى المتلقِّي الغرابة والدهشة والتعجُّب.

ناهيك عن التشكيل الموسيقي في مجمله فهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحالة النفسية للشاعر أو الأديب، ومن هنا برزت أهمية الموسيقا التعبيرية في بيت الأعشى، فكانت أقدر على نقل الأحاسيس الداخلية والانفعالات النفسية إلى المتلقِّي وإحداث لون من الدهشة والمفاجأة والمشاركة.

وهكذا تتجلَّى قدرة الشاعر على نقل القِيَم الجمالية للصوت من خلال هذه الموسيقا التعبيرية، ومن خلال هذا التشكيل اللغوي الذي يستثير خيال المتلقِّي، ويستدعِي خبراته الانفعالية، ناهيك عن الإيقاع الداخلي والخارجي في الأبيات، فهو يقوم على أساس وجداني نفسي؛ لأنه يصدر عن النفس ثم يعود إليها ليحرِّك أوتارها حركة لا تقتصر على النسق الصوتي فحسب، وإنما أيضًا تأخذ بين جنباتها المعاني وإيحاءاتها، ليحيا المتلقِّي بحسِّه وعقله في ظلال الإبداع وتناغمه[16]. 

وبعد، فمن خلال هذا التحليل للبيت في سياقاته المتعدِّدة تبينَّا الحال والمقام والمناسبة، والظروف التي أحاطت بالشاعر، والدوافع التي أدَّت إلى هذا القول، ثم رأينا أيضًا كيف كان القول - لفظًا ومعنى - معبرًا أصدق تعبير عن نفسية الشاعر، فكان مطابقًا لمقتضى الحال، ولا غبار على الشاعر في تعبيره؛ فهو على مستوى عالٍ من الفصاحة والبلاغة.

إن تذوُّق البلاغة يحتاج إلى معرفةٍ بأسرار النفس الإنسانية، وإلى قدرة على تتبُّع الحركة الداخلية للطبائع المبدِعة.

وهذا يؤكِّد لنا أن الألفاظ لا تتفاضَل في ذاتها، فليس هناك كلمة شعرية وأخرى غير شعرية، وإنما تكتسب الكلمة قيمتها وشعريتها من خلال السياق، ذلك الإطار الذي يشكِّل معنى اللفظ تشكيلاً جديدًا، ويكتسب منه اللفظ إيحاءه الجديد[17].

وقريبٌ من قول الأعشى السابق قول مسلم بن الوليد (ت208هـ) في الخمر يصفها ويصف فعلها في صاحبها:
سُلَّتْ فَسُلَّتْ ثُمَّ  سُلَّ  سَلِيلُهَا        فَأَتَى  سَلِيلُ  سَلِيلِهَا   مَسْلُولاَ
قُتِلَتْ وَعَاجَلَها المُدِيرُ فَلَمْ تَفِظْ        فَإِذَا   بِهِ   قَدْ   صَيَّرَتْهُ    قَتِيلاَ
الذي عاب عليه النقَّاد أيضًا كثرة التكرار للفعل (سُلَّ) ومشتقاته، وليس من الصواب أن ننظر إلى البيت بعيدًا عن سياقاته (السياق اللغوي، والموقفي، والسببي، والداخلي، والخارجي)، ثم نحكم عليه بعدم الفصاحة والبلاغة، وليس من الصواب أن نتَّهم شاعرًا كمسلم بن الوليد بهذا العيب المتمثِّل في هذا التكرار، الذي قصد الشاعر من ورائه المبالغة في وصف الخمر بالرقَّة والصفاء، فعبَّر بالفعل (سلَّ) ومشتقاته، فجاء هذا التشكيل الموسيقي الذي يعبِّر عن الحالة النفسية للشاعر، فهو يسلِّط الضوء على نقطة حسَّاسة في العبارة، ويكشف عن اهتمامه بها.

وقد ساعد الشاعر على هذا التشكيل الصوتي غزارة مفردات اللغة وعنايتها بالاشتقاق، وحرصها على إبراز الفروق بين الألفاظ، والتكرار لهذا المعنى ذو دلالة نفسية قيِّمة تفيد الناقد الأدبي الذي يدرس الأثر ويحلِّل نفسية كاتبه.

وشبيهٌ بذلك قول أبي الطيب المتنبي الذي عدَّه ابن سنان من أقبح ما يكون وأشنعه[18]:
فَقَلْقَلْتُ بِالْهَمِّ الَّذِي قَلْقَلَ الحَشَا        قَلاَقِلَ   عِيسٍ    كُلُّهُنَّ    قَلاَقِلُ
وممَّن عابَ المتنبي أيضًا في هذا البيت الصاحبُ بن عباد، قال: ما له قلقل الله أحشاءه، وما هذه القافات الباردة؟

لكن الواحدي دافَع عن المتنبي وقال: "ولا يلزمه في هذا عيبٌ، فقد جرت عادة الشعراء بمثله، قال الثعالبي: قال لي أبو نصر بن المَرْزُبَان: ثلاثة من رؤساء الشعراء: شلشل أحدهم، وسلسل الثاني، وقلقل الثالث[19]، ثم قال لي: فبَلْبِلْ أنت أيضًا، فقلت: أخشى أن أكون رابع الشعراء، أعني قول مَن قال:
الشُّعَرَاءُ فَاعْلَمَنَّ أَرْبَعَهْ[20]

قال: ثم قلت بعد حين من الدهر:
وَإِذَا البَلاَبِلُ أَفْصَحَتْ بِلُغَاتِهَا        فَانْفِ البَلاَبِلَ بِاحْتِسَاءِ  بَلاَبِلِ
قال الثعالبي: وفي هذا ما يبطل إنكار ابن عباد على أبي الطيب"[21].

وتستطيع أن ترى الحركة الخفيفة وتسمعها في تلك القافات واللامات وتتابع مقطع القاف واللام، ناهيك عن الجناس الذي يصوِّر هذه الحركة السريعة المتتابعة: "وكأنه جزء من الهندسة العاطفية للأبيات يحاول الشاعر فيه أن ينظم كلماته بحيث يقيم أساسًا عاطفيًّا من نوعٍ ما"[22]. 

ومن وجهة نظر النقد الحديث أن وسائل اللغة وطرقها في التعبير، وما تتَّسم به من مرونة وتطوُّر واتِّساع وعدول عن القاعدة أو انحراف عن الأصل، وغير ذلك من إجراءات أسلوبية لها دورها في تحريك ذهن المتلقِّي وإثارة انتباهه فيحاول من ناحيته البحث عن الأسباب التي أدَّت بالمبدع أن يمارس هذه الإجراءات، وهذا في حدِّ ذاته لونٌ من المشاركة الفعلية والوجدانية من جانب المتلقِّي للوقوف على الغاية التي يتطاوَل إليها الشاعر؛ إذ ليس من المعقول القولُ بأن الشاعر عابِثٌ في ممارسة هذه الإجراءات الصياغية، وغير معقولٍ على مستوى الدرس الأسلوبي؛ لأن كل ما يقدمه المبدع من صياغة مقصود منها الإفادة[23]، وكل أداة مهما صغرت فإنها تؤدِّي في سياقها مهمَّة لا يمكن تهميشها بحالٍ من الأحوال.

"إن الأثر الأدبي إذا كان ممتازًا فإنه يفاجئ القارئ بما يخرج عن مألوفه فتكون الحاجة إلى الجهد في فهمه مُناظِرة لما فيه من أصالة"[24]، بدليل أنْ ظلَّت هذه النصوص حيَّة، ومثار نقاش بين البلاغيين والنقَّاد منذ قيلت إلى وقتنا هذا.

2- ضعف التأليف:
وطبيعة المستوى التركيبي الاتِّصال، وهو ما أطلق عليه القدماء كلمة (التأليف)، ومن هنا كان من شروط فصاحة التركيب (الخلوص من ضعف التأليف)، وقد أشار سيبويه إلي أن: "مدار الكلام علي تأليف العبارة، وما يتعاوَره من استقامة أو إحالة، ومن صدق أو كذب، ومن حسن أو قبح"[25].

والملاحَظ أن: العربية تتميَّز بقواعد ترتيبية لا بُدَّ من توفُّرها في التراكيب، فهناك رُتَبٌ محفوظة وأخرى غير محفوظة، فغالبًا ما تكون مهمَّة البلاغة محصورة في تجاوز هذه الرتب، وتحريك الدوالِّ من أماكنها الأصلية إلى أماكن جديدة ليست لها في الأصل، وهذا ما يسمَّى بالعدول أو الانحراف أو الانزياح أو تجاوز الأصل، وهو وسيلة أداء فنية يلجأ إليها المبدِع لتحقيق أهدافٍ مقصودةٍ؛ منها تحريك ذهن المخاطب ومفاجأته بغير المتوقع، ومنها إحاطة الدلالة بنوعٍ من المعاناة التي تؤسس ناتجًا إضافيًّا لدى القارئ.

وانطلاقًا من دائرة المعنى النحوي المحدود (المعنى في درجة الصفر)، حاوَل بعض البلاغيين الإفادة من الإمكانات التركيبية في اللغة برصد الخواصِّ الشكلية التي تصيب الجملة، ووصفها بدقَّة، ثم الخروج من ذلك بما يصيب الصياغة والدلالة من تغيُّر أو انحراف، ومن تعميم أو تخصيص، ومن وضوح أو تعقيد، وكان ذلك وسيلة فعَّالة للاتِّصال بالأغراض التي تفاد من التراكيب الجزئية والكلية، وأصبحت الخبرة بالخواصِّ الصياغية، هي خبرة بالدلالة على صعيد واحد.

وعملية التأليف ترتبط بأجناس الكلام، ويرى أبو هلال أن ضعف التأليف يؤدِّي إلى رداءة الكلام والتعمية، وإن كان المعنى ساميًا: "وحُسْن الرصف أن تُوضَع الألفاظ في مواضعها، وتمكَّن في أماكنها، ولا يستخدم فيها التقديم والتأخير والحذف والزيادة، إلا بحيث لا يفسد الكلام ولا يعمى المعنى، وبحيث تُضَمُّ كل لفظة إلى شكلها، وتُضاف إلى لِفقها"[26].

ويبدو أن مفهوم التأليف هنا قريبٌ من مفهوم النظم عند عبدالقاهر الجرجاني؛ ذلك أن اللفظة لا تتميَّز بحسن ذاتي، وإنما يتحقَّق لها نشاطها من خلال التركيب، ومن هنا يرفض أن يكون النظم نظم الألفاظ؛ لأنه ليس للفظ من حيث هو لفظ مفرد مزيَّة، وإنما تكون المزيَّة حين تتدخَّل معاني النحو وأحكامه[27]، حيث تتغيَّر دلالة اللفظ بحسب موقعه في الكلام.

فليس الناتج الدلالي في قولنا: (زيد منطلق) كالناتج الدلالي في قولنا: (زيد ينطلق) أو (زيد هو المنطلق)، وليس الناتج الدلالي في قولنا: (إن جاءك زيد فأكرمه) كالناتج الدلالي في قولنا: (إذا جاءك زيد فأكرمه)، ففعل الشرط في الأولى يترجَّح أن يكون أو لا يكون، وفعل الشرط في الثانية فيما عُلِم أنه كائن.

وعندما يقول النابغة:
فَإِنَّكَ كَاللَّّيْلِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي
نجد أن (الكاف) في (كالليل) توجِّه الحركة الدلالية في البيت كله، بل إنها تنقله من إطار دلالي إلى آخَر، تنقله من الهجاء إلى المديح الممزوج بالاستعطاف[28]. 

ويقصد البلاغيون بعدم ضعف التأليف أن يجري الأسلوب على مبادئ اللغة وقواعدها، وأن تُرَتَّبَ الألفاظ ترتيبًا يؤدِّي إلى وضوح المعنى وعدم خفائه، وأن تُراعَى الرتبة في التقديم والتأخير، وأن يُراعَى الحذف والتكرار والإضمار والإظهار؛ لأن المتكلِّم إذا خالَف في هذه الأمور ينشأ ضعف التأليف، ومن ثَمَّ التعقيد والاضطراب الذي يُخرِج الكلام من دائرة الفصاحة.

ويستشهد البلاغيون على ضعف التأليف بقول الشاعر:
جَزَى بَنُوهُ أَبَا الغَيْلاَنِ عَنْ  كِبَرٍ        وَحُسْنِ فِعْلٍ كَمَا يُجْزَى سِنِمَّارُ[29]
لأن الضمير في بنوه يعود على المفعول وهو (أبا الغيلان)، ورتبة المفعول متأخِّرة عن رتبة الفاعل، وقد تأخَّر المفعول أيضًا في اللفظ، وهكذا نرى أن الضمير هنا قد عاد على متأخِّر في اللفظ والرتبة، وهذا غير جائز، أمَّا عود الضمير على متأخِّر في الرتبة ولكنه متقدِّم في اللفظ فهو فصيح مقبول، ومنه قوله - تعالى -: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، فقد عاد الضمير في {رَبُّهُ} وهو الفاعل على {إِبْرَاهِيمَ} وهو المفعول، وقد سَوَّغ ذلك تقدُّم المفعول به في اللفظ كما هو واضح.

وليس ما سبق موضعَ اتفاقٍ بين اللغويين؛ فهناك مَن يجيز عود الضمير على متأخِّر في اللفظ والرتبة، مستدلِّين بالبيت السابق وبأبيات أخرى، والمعنى الذي قصده الشاعر مفهوم رغم تقدُّم الضمير في (بنوه) وعوده على (أبا الغيلان) المتأخِّر في اللفظ والرتبة، الذي عدَّه بعض اللغويين ضعفًا، وما دام المراد مفهومًا ومفصحًا عن مراد الشاعر فلا يصحُّ أن نتَّهمه بعدم الفصاحة؛ يقول الجاحظ: "والعرب تتوسَّع في كلامها، وبأيِّ شيء تَفَاهَم الناس فهو بيانٌ، إلا أن بعضه أحسن من بعض"[30].

وممَّا شاع في كتب البلاغة القديمة والحديثة شاهدًا على ضعف التأليف قولُ الفرزدق المشهور في المدح:
وَمَا مِثْلُهُ فِي النَّاسِ إِلاَّ مُمَلَّكًا        أَبُو  أُمِّهِ  حَيٌّ   أَبُوهُ   يُقَارِبُهْ
يروي ابن رشيق عن الرمَّاني أن أسباب الإشكال في هذا البيت ثلاثة: التغيير عن الأغلب، وسلوك الطريق الأبعد، وإيقاع المشترك، "فالتغيُّر عن الأغلب سوء الترتيب؛ لأن التقدير (ما مثله في الناس حي يقاربه إلا مملَّكًا أبو أمه أبوه)"[31]، وأمَّا سلوك الطريق الأبعد، فقوله: "أبو أمه أبوه" وكان يجزئه أن يقول: (خاله)، وأمَّا المشترك، فقوله: "حي يقاربه"، لأنها لفظة تشترك فيها القبيلة والحي"[32].

وقد ساق عبدالقاهر الجرجاني هذا البيت شاهدًا على سوء النظم؛ إذ إنَّ الفرزدق لم يرتِّب الألفاظ في الذكر على موجب ترتيب المعاني في الفكر، فكدَّ وكدَّر، ومنع السامع أن يفهم الغرض إلا بأن يقدِّم ويؤخِّر، ثم أسرف في إبطال النظام وإبعاد المرام..."[33]، وما كان من الكلام معقَّدًا موضوعًا على التأويلات المتكلَّفة فليس ذلك بكثرة وزيادة في الإعراب، بل هو بأن يكون نقصًا له ونقضًا أولَى؛ لأن الإعراب هو أن يُعرِب المتكلِّم عمَّا في نفسه ويُبَيِّنه ويوضِّح الغرض، ويكشف اللبس، والواضع كلامه على المجازفة في التقديم والتأخير، زائل عن الإعراب، زائغ عن الصواب"[34].

وفي حديث ابن الأثير عن المعاظلة ذكر أن الفرزدق استعمل من التعاظل كثيرًا كأنه كان يقصد ذلك ويتعمَّده؛ لأن مثله لا يجيء إلا متكلفًا مقصودًا... واعلم أن هذا الضرب من الكلام هو ضد الفصاحة؛ لأن الفصاحة هي الظهور والبيان، وهذا عارٍ عن هذا الوصف[35].

وكان على الشاعر حتى يكون واضحًا في الدلالة على المعنى الذاتي الذي يريد نقله، أن يرتِّب ألفاظه حسب ترتبها الذهني فيقول: "وما مثله في الناس حي يقاربه، إلاَّ مملكًا أبو أمه أبوه، وأن المتلقِّي ليشعر أن الشاعر قد تكلَّف التعقيد تكلفًا خالَف به سجيَّة نفسه وطبيعتها في الاسترسال، لم يعرض له شيء من هذا التعقيد"[36].

ويرى البلاغيون أن مخالفة النفس سجيَّتها المتسبِّبة عن مخالفة ترتُّب ألفاظ البيت لترتُّبها المعنوي في الذهن، هي التي أبهمت الكلام وفوَّتت على المبدِع والمتلقِّي معًا الغرض المقصود من التجربة الشعورية، وأكَّدوا على أنَّ المقصود من البيان العربي إنما هو الإيضاح والإبانة وإفهام المعنى، فإذا لم يتحقَّق ذلك لا يتحقَّق غرض الكلام ويفشل في أداء دوره"[37].

ذكر البهاء السبكي أثناء تعليقه على هذا البيت بما نصه: "ذلك الضعف ربما كان في النثر دون الشعر؛ لأن ضرورة الشعر كما تجيز ما ليس بجائز، فقد تقوِّي ما هو ضعيف، فعلى البياني أن يعتبر ذلك، فربما كان الشيء فصيحًا، في الشعر غير فصيح في النثر"[38].

يتَّضح من قول السبكي السابق أن ما يُباح للشاعر من ضرورات في تجاوُز قوانين اللغة لا يُبَاح للناثر، وهذا ما يُنادِي به ويدعو إليه مُعظَم اللغويين القدماء والمحدَثين، ويؤيِّد ذلك نظرة الأسلوبيين.

ولكن التحليل الأسلوبي لبيت الفرزدق، وفيه التقديم والتأخير ووضع الكلام في غير موضعه، يتضمَّن البحث عن العلل النفسية التي نشط عنها التعبير، ولعلَّ من هذه العلل ما يراه بعض البلاغيين المعاصرين أن الفرزدق وهو شاعر فحل يعرف طبائع اللغة وعوائد التراكيب، إنما فعل ذلك تهكُّمًا بالمدح والممدوح، وولاء الفرزدق للعلويين وعداؤه لبنى أمية - والممدوح منهم - يغري بهذا الظن[39]، وهو رأيٌ له وجاهته.

ويرى بعض اللغويين المعاصرين أن الذي ألجأ الفرزدقَ إلى بعض التعقيد في شعره هو حرصُه على موسيقاه في الوزن والقافية حرصًا ينحرف به أحيانًا إلى نظام غير مألوف في النثر، وكذلك رغبته في التحلُّل من كلِّ القيود، ونزوعه إلى الحرية - ككلِّ فنان - نزوعًا يجعله في بعض الأحيان لا يعبأ بنظام الكلمات، ولا سيَّما حين تسيطر عليه العاطفة، ويملك المعنى عليه مشاعره، وهكذا شأن كثيرٍ من الشعراء المجيدين، تراهم يحمِّلون القليلَ من الألفاظ الكثيرَ من المعاني بطريقةٍ قد تُلجئهم إلى الإيجاز والحذف والتقديم والتأخير والتخلُّص من كلِّ فضلات الكلام[40].

ويُغلِّب الظنَّ أحدُ النقاد المحدَثين[41] أن الفرزدق كان يقصد إلى مثل ذلك قصدًا؛ لأنه كان دائم الخلاف مع النحاة، يتحدَّاهم ويخطئونه، فليس ببعيدٍ أن يكون الفرزدق واعيًا بما يصنع، قاصدًا إليه، طلبًا لإثارة الجدل حوله... أو لعلَّه كان يريد أن يثبت للنحاة أنه على علمٍ بمواقع الكلام، قادر على التصرُّف فيه، مزهوًّا بعبارته المشهورة: "علينا أن نقول، وعليكم أن تحتجُّوا"[42]، وأجدني أميل إلى هذا الرأي؛ لكثرة ما ورد من مثل ذلك في شعره.

والدليل على ذلك ما رُوِي أن الفرزدق حين مدح يزيد بن عبدالملك بالشعر الذي منه قوله:
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ تَضْرِبُنَا        بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
عَلَى  عَمَائِمِنَا  يُرْقَى  وَأَرْحُلِنَا        عَلَى زَوَاحِفَ تُزْجِيهَا  مَهَارِيرِ
قال ابن أبي إسحاق: "أسأت، إنما هي (ريرُ)، وكذلك قياس النحو في هذا الموضع"[43]، فيُروَى أنه لمَّا بلغ الفرزدق اعتراض ابن أبي إسحاق عليه، قال: "أمَا وجد هذا... لبيتيَّ مخرجًا في العربية، أمَا إني لو أشاء لقلت:
.......................        عَلَى زَوَاحِفَ نُزْجِيهَا مَحَاسِيرِ
ولكني لا أقوله"[44].

وكلام الفرزدق يشرح أشياء أساسية في طبيعة الظاهرة الشعرية، فإن التعارُض بين التعبير الشعري والنحو لم يكن مرجعه ضعف الشاعر، ولا قصور لغته، بل إن هذا التعارُض أساسه الإرادة الشعرية نفسها، وهذا ظاهر في قول الفرزدق: "لو أشاء لقلت كذا، ولكني لا أقوله".

وتفسير ذلك: أن النحو لا ينهض بالوفاء بالمطالب التي يريد أن يبلغها الشعر، فتمسَّك الفرزدق بشعره، بل نضاله من أجله إنما تتَّصل أسبابه بقضية الشعر باعتباره تعبيرًا عن روح الشاعر، فكأنما يتمسَّك بما يجده أَوْفَقَ به، وأَوْفَى بالتعبير عن مطالبه الروحية... وعلى هذا يمكن القول بأن موقف الفرزدق إنما هو موقف مَن يذود عن اللغة والشعر كائنًا أجنبيًّا يريد أن يمتدَّ إليها بالغزو"[45].

وذلك في الجهاد الفني فوزٌ غير قليل[46].

ومَن يتصفَّح ديوان الفرزدق يجد من أمثال هذه الصياغة كثيرًا، ولعلَّ الفرزدق قصَد إلى ذلك، فكان يتعمَّد نسج شعره على منوال بحر الطويل، فجاء غالب شعره على هذا البحر، والقليل منه على بحر البسيط والوافر والكامل، ومعنى هذا أنه كان يميل إلى البحور الممتدَّة، لتعطي له مساحة أوسع ليفرغ فيها ما جاش في صدره، وأجال في فكره، واعتمل في نفسه، وتنادَت به عواطفه، وربما كان طول البحر عاملاً مساعِدًا على استيعاب تراكيب أطول، أتاحت له التقديم والتأخير والحذف والإضمار، مما أدَّى إلى تعقيد الصياغة أحيانًا، ولكن اعتاد الشاعر أن يتجاوَز الأعراف اللغوية ويكسر القاعدة، ويتعمَّد صياغةً خاصةً تخدم الغرض الذي يسعى إليه ولا لوم عليه في ذلك.

وللدكتور مندور في هذا الصدد قول: "يُباح الخروج على القواعد لكبار الشعراء الذين لا يعدلون عنها إلا عن قصد وبينة؛ وذلك لأن أمثال هؤلاء يُحتَجُّ على اللغة بهم، ولا يُحتَجُّ باللغة عليهم ما دامت اللغة كائنًا حيًّا تتطوَّر وعقلية مَن يتكلمونها"[47].

ويؤيِّد ما ذهب إليه ما تميَّز به بعض كُتَّاب الغرب بما في أسلوبهم من نتوء لا يعدو أن يكون خروجًا على الدارج من الاستعمالات والتراكيب، وهذا النفر تطلق على الطريقة التي يبنون بها عباراتهم (كسر البناء)، وهو ما يعرف بـ(تجاوز القاعدة)، أو (الانحراف عن الأصل)، أو (الانزياح).

ومن النقَّاد وبخاصة في الغرب مَن يرون أن اطِّراد الصحة اللغوية بمعناها الدارج لا يصدر عنه إلا أسلوب مسطَّح لا جدَّة فيه ولا رونق له.

وهم يؤيِّدون رأيهم بالحقيقة الإنسانية المعروفة من أن الكمال المطلق مملٌّ في ذاته، وأنه من الخير أن تأخذ الكُتَّاب من حين إلى حين نزوة من شيطان الأدب تخرج بهم عن التعبير المألوف، كما تصيبهم نفس النزوة أحيانًا في مجال الفكر فلا يأتون بالفكرة التي يوجبها السياق بل يصدمون القارئ بما لم يتوقَّع فتصحو أعصابه[48].

بقيت ظاهرة أخرى يجب أن نشير إليها ونحن في هذا الصدد: وهي ظاهرة طرح العلامة الإعرابية، وهل يُعَدُّ هذا مما يخلُّ بالفصاحة أم لا؟

ويجيبنا السبكي بأن طرح العلامة الإعرابية لا يؤثِّر في فصاحة الكلمة: "لأن الحركة الإعرابية زائدة على وضع الكلمة، تحدث عند التركيب"[49]، والسبكي في هذا يتَّفق مع ما يراه اللغويون المحدَثون من أن حركة الإعراب إحدى القرائن التي تعمل على أَمْنِ اللَّبْسِ، فإذا كانت هناك قرائن أخرى يمكن بها أمن اللبس عند طرح الحركة الإعرابية، فلا حاجة إلى التمسُّك بها، وهذه الظاهرة نجدها في شعر الفحول من أمثال: امرئ القيس، ولبيد، وعنترة، وغيرهم، وقد أجاز ذلك اللغويون القدماء؛ فيقول أبو سعيد السيرافي: "والقول عندي ما قاله سيبويه في جواز تسكين حركة الإعراب للضرورة"[50].

3- التعقيد المعنوي:
ثم يأتي الشرط الأخير من شروط فصاحة المركَّبات، وهو الخاص بالخلوص من (التعقيد المعنوي)، والمقصود بذلك انغلاق المعنى بحيث يصعب على المتلقِّي الوصول إليه، ويكون النظم معقدًا تعقيدًا معنويًّا بعيدًا عن رسوم التلاؤم مع مقتضى الحال إذا غمض معناه، لا بسبب لطفه وخفائه، ولكن بسبب عيب واقع في انتقال الفكر من المعنى الأول (اللغوي) غير المراد إلى المعنى الثاني في بابي (المجاز والكناية) وهو المراد، ومردُّ هذا الغموض إلى اشتمال النظم على لوازم بعيدة عن الفهم في العرف البلاغي، ويأباها الذوق السليم بسبب عدم وجود قرينة تحدِّد المعنى المراد من النظم؛ لذا نبَّه البلاغيون على ملاءمة الألفاظ للمعاني بحيث تكون معبِّرة عن المعنى الذاتي المراد نقله، وعلى البليغ أن تكون "ألفاظه قوالب لمعانيه"[51]، ومن الشواهد التي خالفت ذلك قولُ العباس بن الأحنف:
سَأَطْلُبُ بُعْدَ الدَّارِ عَنْكُمْ لِتَقْرُبُوا        وتَسْكُبُ عَيْناي الدُّمُوعَ لِتَجْمُدَا
يقول عبدالقاهر: "فالتَمَس أن يدلَّ على ما يوجبه دوام التلاقي من السرور بقوله: (لتجمدَا)، وظن أن الجمود يبلغ له في إفادة المسرَّة والسلامة من الحزن ما بلغ سكب الدمع في الدلالة على الكآبة والوقوع في الحزن، ونظَر إلى أن الجمود خلوُّ العين من البكاء، وانتفاء الدموع عنها، وأنه إذا قال: (لتجمدَا)، فكأنه قال: "أحزن اليوم لئلاَّ أحزن غدًا، وتبكي عيناي جُهْدهما لئلاَّ تبكيا أبدًا"، وغلط فيما ظن؛ وذلك أن الجمود هو أن لا تبكي العين مع أن الحال حال بكاء، ومع أن العين يُراد منها أن تبكي، ويُستَراب في ألا تبكي"[52].

فالعباس بن الأحنف، قال: "وتسكب عيناي الدموع"، وجعل هذا التعبير كناية عن حزنه وآلامه الناجمين عن طلبه بُعْدَ الدار عن أحبابه ليقربوا منه في المستقبل، وهذا شيء حسَن لا شيء فيه.

ثم أراد أن يسوق كناية أخرى عن الأفراح والمسرَّات بعد التلاقي فكنَّى عنهما بجمود عينه، وتلك كناية غير مألوفة وخارجة عن العرف؛ حيث لا يكنى عن السرور بجمود العين، وإنما يكنى بجمود العين عن بخلها بالدمع ساعة الحزن لا ساعة السرور. 

وجملة الأمر كما يقول عبدالقاهر: "أنا لا نعلم أحدًا جعل جمود العين دليل سرورٍ، وإمارة غبطة، وكناية عن أن الحال حال فرح"[53].

غير أن هناك من البلاغيين مَن يرى في البيت معنًى آخَر غير المعنى الذي أخذ البلاغيون يعيبون البيت على أساسه، ومن هؤلاء المبرِّد الذي يقول: "هذا رجل فقير يبعد عن أهله ويسافر ليحصل ما يوجب لهم القرب، وتسكب عيناه الدموع في بعده عنهم لتجمد عند وصوله لهم"[54].

وهذا التفسير يبتعد بالبيت عن التعقيد المعنوي، ولعله يتَّفق مع ما يراه بعض النقاد المحدَثين من أن المقصود بالجمود هنا هو استنفاد الشاعر لكلِّ الآلام الممكِنة وهو معنى متميِّز من السرور ولا يختلط به[55].

وأرى أن (تسكب) عطفًا على (أطلب) بدون السين أفضل وأنسب؛ لأن البكاء شعور المحبِّين وسمة العاشقين المُدَلَّهين، فالتسويف فيه لا يُناسِب حالهم، هذا إذا راعينا أن النظرة النقدية الحديثة تعطي جانبًا من الأهمية للحالة النفسية للشاعر، والتي تكون سببًا - غالبًا - في الخروج عن الاستعمال المألوف للغة، وما تقتضيه المعايير المقرَّرة في النظام اللغوي، ولا سيما "أننا هنا أمام فعل ذاتي ينطوي على دفع أفكار، ومصارعة عواطف"[56]؛ مما يجعل للشاعر عذره في هذه المغالبة لمعيارية اللغة؛ "لأن مغالبة القوة التي يصطنعها اطِّراد العادة اللغوية لا يمكن تفسيره إلا بالتسليم بأن قوة مناهضة بعثت على النشاط الجديد الذي به خالَف التعبير ما استقرَّ عليه الاستعمال، إذ اطِّراد الاستعمال اللغوي من شأنه أن يصبح قوة تتسلَّط على كلِّ تعبير ناهض"[57].

يُفهَم من ذلك أنه إذا كان هناك بعض الألفاظ لا تتلاءم مع مقصد الشاعر، ففي مقابل هذا نجد بعض الألفاظ قد تكون أكثر ملاءمة من غيرها وأكثر قدرة للتعبير عن المعنى الذي يقصده الشاعر، بحيث لو أبدلناها بلفظ قريب منها في الدلالة يفقد النص قيمته الجمالية؛ مما يؤثِّر بالتالي في إنجاح نقل التجربة الشعورية، يلحظ ذلك المتلقِّي الواعي المتذوِّق لجيد الشعر، ومن شواهد ذلك قول أبي نواس:
وَهْوَ  بِالْمَالِ   جَوَادٌ        وَهْوَ بِالْعِرْضِ شَحِيحْ
فلفظة (شحيح) الواردة في بيت أبي نواس تقارب في دلالتها اللغوية لفظة (بخيل)، بَيْدَ أنها أكثر منها مناسبة وملاءمة وتعبيرًا عن المراد نقله منها في هذا البيت، بحيث إنَّ استبدال لفظة (بخيل) بها يجعل النص غير معبِّر بدقَّة عن المعنى، وقاصرًا على أداء دوره في نقل التجربة نقلاً ينسجم مع مشاعرها وأحاسيسها، وذلك - كما يقول الفخر الرازي - إننا نجد: "للفظة (الشحيح) قبولاً في النفس بحيث لو قال وهو بالعرض بخيل، لم يكن كذلك؛ لأن الموضع موضع مبالغة، من حيث كان الغرض من البخل بالعرض صيانته، فلمَّا جعله شديد البخل به، كان قد جعله شديد الصون له"[58].

والذي لا شكَّ فيه أن دقَّة المبدِع في استخدام ألفاظه داخل التركيب قد ارتبط بموضوع الفصاحة أو الإبانة والوضوح، وهي سمة لقيت اهتمامًا كبيرًا من معظم الدارسين، وكانت خاصية الإبانة والوضوح وسيلة نقدية لإصدار الأحكام في ضوء خبراتهم الثقافية التي استمدَّت معالمها من العرف أحيانًا، والحس اللغوي أحيانًا أخري، ثم فساد التصرُّف أحيانًا ثالثة، ويبدو أن المجال الإبداعي آنذاك، قد وفَّر مجالاً خصبًا يرتاده النقَّاد تطبيقيًّا، متابعين ظواهر التعبير وصلتها بإنتاج المعنى عمومًا، والشعري على وجه الخصوص[59].

وإذا كان البلاغيون والنقَّاد القدامَى يميلون إلى الإبانة والوضوح "فلم يكن الوضوح عندهم بمعنى الابتذال، وإنما بمعنى القدرة على التعبير والإبانة، وحُسْنِ الترتيب والتنسيق؛ أي: إن الوضوح كان قيمة جمالية تؤكِّد خلوَّ الكلام من التقعُّر والمعاظلة والتعقيد"[60].

يقول أبو هلال: "وأجود الكلام ما يكون جزلاً سهلاً، لا ينغلق معناه، ولا يُستبهَم مغزاه، ولا يكون مكدودًا مستكرهًا"[61]، أو هو الذي: "تعرفه العامة إذا سمعته، ولا تستعمله في محاوراتها"[62]. 

ويقابل خاصية الإبانة والوضوح خاصية الغموض، والغموض في الشعر خاصَّة قضيةٌ شغلت كثيرًا من النقَّاد قديمًا وحديثًا؛ لأن الغموض في الشعر فعل يتحقَّق من قوة الأسلوب، الذي يحقِّق التأثير والمتعة بقوة الإدراك، لذلك يقول أبو اسحق الصابي - في سياق تفريقه بين الشعر والنثر -: "إن أفخر الترسُّل ما وضح معناه فأعطاك غرضه في أول وهلة من سماعه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يُعطِك غرضه إلا بعد مماطلة منه وغوص منك عليه"[63].

وارتباط الوضوح والغموض بالنثر والشعر هو ارتباط وظيفي، فلمَّا كانت وظيفة النثر توصيلية نفعية لزم أن يكون واضحًا، ولمَّا كانت وظيفة الشعر الإمتاع، لم يعتمد على تلك الوظيفة التوصيلية، بل نظر إلى ما يؤدِّيه الغموض من دفع المتلقِّي إلى أن يواجه التحدِّي الماثل في كشف الحجاب عمَّا دقَّ في النص واستتر، وفي مثل هذا الكشف تحصل المتعة، يؤكِّد هذا - أي: أثر الغموض في الشعر - ما قال كشاجم (ت360هـ) في كلامٍ له على المثل العجيب والبيت النادر وأثره في النفس أنه: "كلَّما دَقَّ معناه ولَطُفَ، حتى يحتاج إلى إخراجه بغوص الفكر عليه، وإجالة الذهن فيه، كانت النفس بما يظهر لها منه أكثر التذاذًا، وأشد استمتاعًا ممَّا تفهمه في أوَّل وهلة، ولا يحتاج فيه إلى نظر وفطنة"[64].

والإمام عبدالقاهر له موقف من مسألة الغموض الفني، فهو يعني به الغموض الذي يتَّسم بالخفاء الشفيف، والذي يُحتاج في فهمه إلى فضل روية وتأمُّل، مما يدفع المتلقِّي برغبة متزايدة إلى متابعة النص الأدبي ومعايشته واستنطاقه، والتفاعل معه؛ لكشف ما استتر فيه من معنى وإبراز ما استكنَّ فيه من دلالات، وذلك - بلا شكٍّ - يرفع من مقدار اللذَّة وسرور النَّفْس، لذلك يقول: "ومن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نِيلَ بعد الطلب له أو الاشتياق إليه، ومعاناة الحنين نحوه - كان نيله أحلى وبالمزية أَوْلَى، فكان موقعه في النفس أجلَّ وألطف، وكانت به أضن وأشغف"[65].

وهذا يتَّفق مع ما يدعو إليه النقد الحديث من أن الشعر الجيد هو ذلك الشعر الذي يعتمد على الإيحاء بالأحاسيس والمشاعر والأفكار دون تصريح أو تحديد، ومن ثمَّ يلجأ الشاعر إلى كثيرٍ من الوسائل الفنية التي تحقِّق له ذلك؛ مثل: الصورة، والرمز، أو الاقتصاد في الصياغة بشكل لافت، فالبعد عن المباشرة والوضوح مَطْلَب ينبغي أن تحقِّقه القصيدة الجيدة، وما ذاك إلا لأن القصيدة "تختلف عن المناقشة المنطقية في أنها ليست خلاصة للأجزاء المفردة التي تتكوَّن منها، ولكنها تنسيق للعلاقات الحية بين العبارات والصور يقوم به الشاعر، ليجعلها جميعًا تثير أو تسند أو تنسخ بعضها لبعض"[66].

ويؤيِّد ذلك ما ذهب إليه كولردج من أن: "القصيدة ذات القوَّة الأصلية التي تستحقُّ اسم الشعر بمعناه الجوهري، ليست هي القصيدة التي منحتنا قراءتُها أكبرَ مقدار من اللذَّة، وإنما هي القصيدة التي تعطينا أكبر مقدار من اللذَّة حينما نعود إلى قراءتها"[67]. 

ويتَّفق عبدالقاهر مع هؤلاء في أن المبدِع الذي ينشئ كلامًا غامضًا مدهِشًا يحفظ لنتاجه حياة أطول على مرِّ العصور؛ لأن الجميل يتنزَّل من عليائه إلى الابتذال بالذيوع والانتشار، واختلاف الأزمنة والأمكنة، وبالوقوف عليه، وبسبر أغواره[68].

ويؤكِّد ابن الأثير على أهمية الغموض في الشعر حين يفسِّر المراد بـ(أودية الشعراء) في (آية الشعراء 225) بأنها المعاني الشعرية التي يقصدونها، وإنما خصَّ الأودية دون غيرها لأن معاني الشعر تُستخرَج بالفكرة والرويَّة، والفكرة والرويَّة فيهما خفاء وغموض، فكان استعارة الأودية لها أشْبَه وألْيَق[69]، كما يُشِيد ابن الأثير بقيمة المعاني الغامضة باعتبارها مجالاً يمكن أن يختصَّ به شاعر دون شاعر[70].

والشعر عندهم مبرقع خفي الدلالة: "في كلِّ شعرٍ عظيم مادَّةٌ تَفُوق الكلام بثلاثة أضعاف، وعلى القارئ أن يكتشف الباقي المحذوف"[71]، أو بمعنًى آخَر أن يشبع الدلالة بملء فراغات النص، أو أن يقول ما سكت عنه الشاعر؛ لأن المتلقِّي الواعي قد يصل في النص إلى أشياء لم تكن للشاعر على بال.

ومما تجدر ملاحظته ألاَّ يتناهى الغموض في خفائه إلى أقصى الغايات بحيث يصير تعقيدًا مذمومًا؛ لوعورة التركيب، وسوء التأليف، فذلك تخليطٌ يستهلك المعاني ويشوش الفكر ولا يأتي بطائل.

وخلاصة القول في أمر الفصاحة أنها تتحقَّق بدقَّة الدلالة وصحَّة المعنى وسلامة التركيب، وأن ما أداره البلاغيون حول مصطلح الفصاحة والبلاغة لم يفقد صلاحيته للحلول في واقعنا الإبداعي بكلِّ مستوياته.

ــــــــــــــــــــــ
[1] "شروح التلخيص": 1/99، و"معاهد التنصيص": 1/35، و"البيان والتبيين": 1/69، و"سر الفصاحة": ص 98.
[2] "البيان والتبيين": 1/90، و"دلائل الإعجاز": ص 91، و"سر الفصاحة"، و"شروح التلخيص"، و"الصناعتين".
[3] "ديوان أبي تمام": 1/290، و"معاهد التنصيص": 1/35، 36.
[4] وهذا ما يُسمَّى بالنبر التأكيدي الذي يسبِّب علوًّا في الصوت ولفتًا للمتلقِّي، "اللغة العربية مبناها ومعناها": ص 306.
[5] د/ عبد الواحد علام: "قضايا ومواقف في التراث البلاغي": ص 40، 41.
[6] "الدلالة الصوتية": ص 196، وانظر شواهد على النبر واختلاف مواضعه في البيان في: "روائع القرآن": ص 264، وما بعدها.
[7]. Gary. P. The Appreclation of Poetry p 73
[8] "ديوان المتنبي": 4/199.
[9] "سر الفصاحة": ص 105.
[10] "قضايا الشعر المعاصر": ص 243.
[11] "ديوان الأعشى": ص 147.
[12] "مسائل فلسفة الفن المعاصرة": ص 138، وانظر فصلاً قيمًا لريتشاردز بعنوان: (الإيقاع والوزن) في كتابه "مبادئ النقد الأدبي": ص 188 وما بعدها.
[13] المرجع السابق: ص 139.
[14] د/ عبد الرحمن أيوب: "أصوات اللغة": ص 137.
[15] "الخصائص": 2/159.
[16] "التفسير النفسي للأدب": ص 64.
[17] "بلاغة العطف في القرآن الكريم": ص 148.
[18] "سر الفصاحة": ص 104، "شرح ديوان المتنبي": 3/292- 295.
[19] يقصد بأحدهم، الأعشى في قوله:
وَقَدْ غَدَوْتُ إِلَى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي        شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ  شَوِلُ
ويقصد بالثاني، صريع الغواني في قوله:
سُلَّتْ فَسُلَّتْ ثُمَّ سُلَّ سَلِيلُهَا        فَأَتَى سَلِيلُ  سَلِيلِهَا  مَسْلُولاَ
ويقصد بالثالث، المتنبي في بيته السابق.
[20] "الموشح": ص 445، و"شرح ديوان المتنبي": 3/294.
[21] "شرح ديوان المتنبي": 3/294.
[22] "قضايا الشعر المعاصر": ص 243.
[23] "الانزياح": ص 188.
[24] عياد: "دائرة الإبداع": ص 45.
[25] انظر تفصيل ذلك في: "الكتاب": 1/25، 26.
[26] "الصناعتين": ص 154.
[27] "دلائل الإعجاز": ص 361.
[28] "البلاغة العربية": ص 40، بتصرف.
[29] قائله: سليط بن سعد، وانظر: قصة المثل والشاهد فيه، الشنقيطي: "الدرر اللوامع": 1/45، و"شروح التلخيص": 1/ 97، 98.
[30] "الحيوان": 5/287، و"البيان والتبيين": 1/76.
[31] يريد المملك هشام بن عبد الملك، والممدوح هو إبراهيم بن هشام خال هشام بن عبد الملك، وكان يجزئه أن يقول: "خاله"، "العمدة": 2/267.
[32] "العمدة": 2/266، 267.
[33] "أسرار البلاغة": ص 20، 21، "دلائل الإعجاز": ص 83.
[34] "أسرار البلاغة": ص 66، 67.
[35] "المثل السائر": 2/222، 223.
[36] ابن الأثير: 2/222، وانظر: "الأسس النفسية لأساليب البلاغة": ص 114.
[37] الآمدي: ص 237، 238، المرزباني: ص 96، 97، وابن رشيق: ص 259، 260، وابن سنان الخفاجي: ص 101، وابن الأثير: 2/229.
[38] "عروس الأفراح": 1/99، وانظر: "من أسرار اللغة": ص 377.
[39] "خصائص التراكيب": ص 37.
[40] "من أسرار اللغة": ص 348، بتصرف، وراجع: "أحاديث في تاريخ البلاغة": ص 151 وما بعدها، حيث أورَد المؤلف مناقشة طويلة لبعض النقَّاد واللغويين حول هذا البيت.
[41] هو الدكتور عبدالواحد علام، انظر: "قضايا ومواقف في التراث البلاغي": ص 46.
[42] "الشعر والشعراء": 1/89، 90، و"الضرورة الشعرية في النحو العربي": ص 424، وانظر: "ترجمة الفرزدق الشعر والشعراء": 1/462 وما بعدها.
[43] "طبقات ابن سلام": ص 17.
[44] "خزانة الأدب": 1/116.
[45] "الضرورة الشعرية دراسة أسلوبية": ص 78.
[46] "دفاع عن البلاغة": ص 83.
[47] "في الأدب والنقد": ص 24.
[48] "الفصاحة مفهومها، وبمَ تتحقَّق": ص 29.
[49] "عروس الأفراح" (ضمن شروح التلخيص): 1/89.
[50] "الضرورة الشعرية دراسة أسلوبية": ص 410، وانظر: "ما يحتمل الشعر من الضرورة": ص 138 وما بعدها، و"الكتاب": 2/297، و"خزانة الأدب"؛ للبغدادي: 3/530.
[51] "العمدة": 1/127.
[52] "ديوان العباس بن الأحنف": ص 106، وانظر: "دلائل الإعجاز": ص 268- 271.
[53] "دلائل الإعجاز": ص 271.
[54] "شروح التلخيص": 1/111، 112.
[55] "نظرية المعنى في النقد العربي": ص 53.
[56] "نظرية المعنى في النقد العربي" ص 65.
[57] "الضرورة الشعرية": ص 97.
[58] "نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز": ص 111.
[59] "البلاغة العربية": ص 69، وانظر في ذلك: "العمدة": 1/134، 200، 2/266، 292، و"الموشح": ص 127، 139، 310، 311.
[60] "فلسفة الجمال في البلاغة": ص 378.
[61] "كتاب الصناعتين": ص 73.
[62] "كتاب الصناعتين": ص 70، 71.
[63] "رسالة في الفرق بين الشاعر والمترسل": ص 594.
[64] "أدب النديم"، المطبعة الأميرية بولاق 1298 هـ، ص 20.
[65] "أسرار البلاغة": ص 126.
[66] "الشعر كيف نفهمه ونتذوقه": ص 64.
[67] كولردج: ص 170.
[68] "أسرار البلاغة"، انظر: "المواضع": ص 42، 188، 190.
[69] "المثل السائر": 2/96.
[70] الاستدراك في الرد على رسالة ابن الدهان المسماة بـ"المآخذ الكِندية من المعاني الطائية": ص 8.
[71] ص 128 من Brémond  ، Heri. Poésie Pure، والقول منسوب لألفرد دو موسيه.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الشاهد الشعري في مبحثي الفصاحة والبلاغة (3/3)
  • العلم المظلوم.. علم البلاغة
  • ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (1/ 10)
  • نظرية قواعد "جويار" حول نبر الشعر ومناقشتها
  • نماذج في الفصاحة والبلاغة

مختارات من الشبكة

  • الشاهد الشعري في مبحثي الفصاحة والبلاغة (1/3)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الشواهد والمتابعات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الشاهد الشعري النحوي عند الفرّاء (ت:207هـ) في كتابه (معاني القرآن) دراسة نحوية(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • النحو الكوفي من خلال الشاهد الشعري(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • صناعة الشاهد الشعري في الدرس الأصولي: الإمام الشاطبي أنموذجا(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الشاهد الشعري في كتب طبقات الشعراء بين ابن قتيبة وابن المعتز(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • صدر حديثاً كتاب (الشاهد الشعري في تفسير القرآن الكريم) لعبدالرحمن الشهري.(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
  • الشاهد النحوي في تفسير (إرشاد العقل السليم لأبي السعود)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • الشاهد النحوي في كتاب: مصابيح المغاني في حروف المعاني لابن نور الدين المَوزعي (825 هـ)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • فوائد من حديث فليبلغ الشاهد الغائب(محاضرة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)

 


تعليقات الزوار
1- تنويه
سارة هاش 09-01-2012 01:02 PM

النص جيد ،وقد عني المؤلف بالجانب الصوتي ببعض النقاط ، ولكن حبذا لو أشار المؤلف للمصادر الأم لهذا العلم أيضاً ككتاب الرعاية لمكي بن أبي طالب القيسي وهو كتاب في علم التجويد، وقد درّست هذاالعلم بما لايقل عن عشر سنوات وهو علم رائع لمن محّص في ثناياه.
فمسائل النبر والتنغيم وصفات الحروف كالرخاوة والجهر والتفشي لها أصالتها التي لم ينتبه لها علماء اللغة في عصرنا ،وصنفوا علم الأصوات كعلم غربي ولم يُلتفت لما جاء به العرب.

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 23/11/1446هـ - الساعة: 18:47
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب