نخوة.. بطريقة أخرى (مسرحية)

المشهد الأوَّل

(الإخوة الثلاثة: بركات الكبير وعبدالله الأوسط ومحمود الأخ الأصغر، يَجلِسون متحلِّقين حول دلَّة القهوة، ينتظِرون عابِر سبيل ليُكْرِموه، ويتحدَّثون عن أمجادهم)
عبدالله: والله، كُلِّي لهفة لعابر سبيل أو صاحب حاجةٍ غريب نقضي له حاجته.
محمود: إي والله، فأخلاقنا تلحُّ عليْنا أن لا نعيش لأنفُسنا بقدْرِ ما نعيش لغيرنا.
بركات: لله درُّكما، وكأنِّي أراكما صورةً طبق الأصل لأبي وجدِّي، الفروسيَّة والكرم يتوهَّجان في عيونكم.

(فجأة يسمع صوْت استِغاثة من بعيد، فينتصبون واقفين، ومع اقتِراب الصَّوت يتبيَّن أنه ابن عمِّهم مجاهد في حالة رثَّة، والإعياء ظاهر على وجهه)
مجاهد: أغيثوني أبناءَ عمي، أغيثوني.
بركات: أبْشِر يا ابن العم، أخبِرْنا ما الذي حدث.
مجاهد (وهو يبحث عن كلمات تسعفه): شلومو.
عبدالله: ذاك اللعين مجددًا.
بركات: دعْهُ يكمل.

مجاهد (ودموعه تغالبه): هجَم عليْنا هو وعصابتُه قبل الفجر، قتلوا كبارَنا وتشتَّت الأطفال والنساء عند الجيران، لقدِ استوْلى الآن على الجُزْء الغربي من المزْرعة بأكمله.
محمود: ما كان ينبغي عليْنا أن نسمح له ببِناء خيمته عند سياج مزْرعة مجاهد.
مجاهد: أخبرتُكم مرارًا وتكرارًا أنَّه يريد الاستيلاء على مزْرعتي، كان عليْكم الوقوف إلى جانبِي ووضْع حدٍّ له.
عبدالله: هذا ليس وقت العتاب الآن.
مجاهد: معك حقٌّ، إنَّه وقت الفعل، تسلَّحوا وهيَّا بنا نطرده من المزرعة .. الآن.
بركات: زمن العُنْف ولَّى يا مجاهد، يُوجد الآن في القرْية قاضٍ إليْه ترد الأمور.
مجاهد: ولكنَّ القاضي هو مَن أحضره.
محمود: لا عليك يا ابنَ العم، صدِّقْني سيعود حقُّك إليْك بأسرع ممَّا تظن.
عبدالله: لا تنْسَ أنَّ المزرعة هي إِرْثنا جميعًا، وديوان العائلة مبنيٌّ في وسطها.
(يخفي مُجاهد وجهه بين يديه من شدَّة الحسرة، ويتحلَّق الإخوة الثلاثة للنقاش).

المشهد الثاني

(يظهر في المشْهد القاضي وهو يمشي بتوتُّر منتظرًا شلومو، إلى أن يظهر الأخير ويدور بينهما الحوار الآتي):
القاضي: تأخَّرت كعادتِك، ما الذي فعلتَهُ أيُّها الأحْمق؟! لم يكن العُنف هو اتِّفاقنا.
شلومو: أنا آسف لا أدْري كيف خرجت الأمور عن السَّيطرة وحدث ما حدث.
القاضي: نَحن في ورطة، صدِّقْني لا بدَّ أنَّ مجاهدًا أخبر أوْلاد عمومته بما حدث.
شلومو: إذًا فلنقضِ عليْهِم هم أيضًا.
القاضي: أيُّها الغبي، لا تستخفَّ بِهم إنَّهم أقوى منَّا بكثير وأكثرُ عددًا، لا بدَّ أنَّهم يحشدون أسْلِحَتهم وأقارِبَهم من أجل قِتالِك.
شلومو: ماذا سنفعل؟
القاضي: أَرى أن نَذْهبَ لزِيارتِهم حاملين معنا الهدايا، معتذرين عمَّا حدث لنسكِتَهم قليلاً حتَّى نجِد حلاًّ، عُدْ إليَّ عِنْدَ العَصر وجهِّز نفسَك.

المشهد الثالث

(الإخْوة الثلاثة لا زالوا مُجتمعين للتَّباحُث، إلى أن يدخُل القاضي وبرفْقَته شلومو، والرُّعب واضح على ملامِحِهما، وهنا تكون الصدمة إذْ يقوم الإخوة مهلِّلين مرحِّبين بالقاضي، ويكْتفون بنظرةِ عتاب لشلومو)
القاضي: أنا آسِف على هذه الزِّيارة المفاجئة، و .....
الإخْوة: لا تقل هذا يا رجل.
القاضي: في الواقع حضرْنا إلى هنا لتوْضيح ما حصل.
بركات: نعم، نعم كنَّا سنأْتي إليْك لنتباحثَ معك فيما حدث.
(وهنا تنفرِج أساريرُ القاضي ويعتدل في جلسته، وتقفِز نظرات الخبْثِ والمكر إلى عيني شلومو)

عبدالله: أعتقد أنَّ ما حدث يَجب أن يصحَّح فورًا.
شلومو: لكن مَعِي أوراق تُثبت أنَّ ما حصلتُ عليْه هو حقِّي الشَّرعي.
محمود: هذا غيْر صحيح، أنت تكذب.
القاضي: صدِّقوني لن تحلَّ هذه المشكلة ببساطة، أعتقد أنَّه عليْنا أن نجلِس أكثر ونتحدَّث.
شلومو: أنا لن أتَحدَّث مع أحد، هذا حقِّي الشَّرعي وقد أخذتُه أخيرًا.
(ثمَّ يقوم بكبرياء واضح ويَخرج من المشهد)

بركات: هل يُرضيك هذا أيُّها القاضي؟ سلب جزءًا من مزْرعة ابن عمِّنا ثمَّ يدَّعي أنَّها له.
عبدالله: نريدك أن تَحكُم بيننا بالعدْل أيُّها القاضي، وإلاَّ ستخرج الأمور عن السيْطرة.
القاضي: أخبرتكم نَحتاج إلى أن نتباحثَ أكثر في الموضوع، ولا بدَّ لكل طرف أن يقدِّم تنازُلاتٍ من جِهَته، أنا أضْمَن لكم أن أضْغط على شلومو لِلوصول إلى حلٍّ، وفي المُقابل عليْكم أن تضْمنوا لي مجاهدًا؛ ليأخذ الأمور بهدوء.
محمود: ولكن .....
بركات: اتَّفقنا.
(يودِّعُهم القاضي على أملِ اللِّقاء بهم قريبًا، ثم يعود الإخوة إلى التَّباحث)

المشهد الرابع

(بركات ومحمود بعصبيَّة بالغة جدًّا، يحيط بهما الصَّمت، ويتناوبان النَّظر باتجاه الباب، ثمَّ يدخل عبدالله مرتبكًا)
بركات: أين هو؟
عبدالله: لقد أحضرتُه إنَّه ورائي.
(يدخُل مجاهد وقد ظهرتْ له لحية، وعلامات الإعْياء باديةٌ عليْه)

محمود (بعصبيَّة): هذا يكْفِي يا مُجاهد، أتُريد أن تُلْحِق بنا العار، وتضَع رؤُوسَنا في الوحْل بتصرُّفاتك الطَّائشة؟
مجاهد (بصوت مرتفع): عار؟! أتسمِّي دفاعي عن حقِّي وشرفي عارًا؟ أتُريدني أن أستَسْلِم لعبثكم!
بركات (محاولاً تهدِئة الوضع): نَحن لا نعبث، نَحن في مفاوضاتٍ جدِّيَّة مع القاضي ومع شلومو، وصدِّقْني ستُثْمِر قريبًا.
مجاهد (محتفظًا بحدَّته): لا أدري أهناك غشاوة على أعيُنكم أم أمر آخر لا أدْركه؟ أي مفاوضات وشلومو يتوسَّع في مزرعتي، بل واسْتولَى على ديوان العائِلة، وأعلن أمام الجميع أنَّه سيهدِمُه ليبني قصره هو.
محمود: اهدأ لقد اتَّفقْنا على أن يَكتفي بالجزْء الغربي من المزرعة ويترك لك الباقي.
مجاهد: ماذا؟ ومَن أعطاكم الحقَّ بإهدائه مزْرعتي؟ من .......
بركات: طَفَح الكيل، لا أراك إلا تعقِّد الحلول أمامنا.
مجاهد: لا حلَّ إلاَّ الكفاح، ما أُخِذَ بالقوَّة لا يعود إلاَّ بها، اختاروا الآن إمَّا أن تُعينوني بأنفسِكم وسلاحِكم المخبَّأ، وإمَّا أن تخلُّوا بيني وبيْنه، أقاتله أنا ومَن تضامَنَ معي من أهْل القرية، حتَّى آخِر قطرة من دمي، أن أموتَ مُجاهدًا شريفًا خيرٌ لي من التمرُّغ بمرارة الذُّلِّ.
(يقف بعزٍّ وكبرياء ويغادر)

عبدالله: للأسَف، لم يتجاوب معَنا وهذا سيغضب منَّا القاضي.
بركات: يبدو أنَّنا مُرْغَمون على استِعْمال العنف.
محمود (بمكر): هو اخْتار ذلك.

المشهد الخامس

(القاضي وشلومو يَتبادلان الحديث والضَّحِكات، ويستمْتِعان بشرب الشَّاي، ثم يدخل المشْهد عبدالله ومحمود)
القاضي: أهلاً يا أعزَّائي لقد تأخَّرْتُما قليلاً، لقدِ اشتقتُ إليْكُما.
محمود: هذا لطفٌ معْهود منك سيادة القاضي، (موجِّهًا الحديثَ إلى شلومو) أتَمنَّى أن تكون بخير يا شلومو.
شلومو: عزيزي صدِّقْني أنا بخير ما دُمتم أنتم كذلك، أتَمنَّى أن تكون الهدايا الَّتي أرسلتُها لكم قد أعجبتْكُم.
عبدالله: بالطَّبع لقد كنتَ موفَّقًا جدًّا، فأنا أحبُّ هذا النَّوع من الهدايا.
شلومو: أنا سعيدٌ جدًّا، ولكن في الحقيقة هناك أمرٌ يُقلقني وأصْبَح مصْدَر إزعاجٍ لي، إنَّه مُجاهد لا أدري لماذا هو متعنِّت جدًّا ولا يقبل التَّصالح معي، مع أنَّني أمدُّ يدي له بالخيْر دائمًا، إنَّه مستمرٌّ في مضايقتِي بذخيرتِه التَّافهة، إنَّه لا يعطينا مجالاً للهُدوء أو الرَّاحة.
محمود: لا تَقْلق يا عزيزي، لقد بدأت بتعقُّب حركاتِه، ومع من يتَّصل، أعِدُك أنَّه بغُضُون أيَّام قلائلَ ستكون لديْك معلوماتٌ كاملة بشبكة أصدِقائه، وأين يُخبئون سلاحهم.
شلومو: يا إلهي! أنت دائمًا عند حُسن ظني فيك، بالطَّبع أصدقائي يقدِّرون لك ذلك، وهُم متشوِّقون لعقْد صفقاتِهم الضَّخمة مع عقْل متفتِّح مثل عقْلِك، ولا تَنْسَ أيْضًا أنَّني بحاجة إلى تَسويق إنتاج المزرعة مع شخصٍ له خبرة ودراية مثلك.
(يغرق محمود في كرسيِّه مزهوًّا بنفسِه، وحالمًا بالثَّراء، ثمَّ يرمُقه عبدالله بنظرة غَيْرة ليبدأ هو بدوره)
عبدالله: والآن .... (فيتنبَّه له شلومو)
شلومو: هل فكَّرت في العرْض الَّذي قدمْتُه لك؟
عبدالله: في الحقيقة إنَّه عرضٌ مغْرٍ ولكنَّني لستُ متأكِّدًا بعدُ.
شلومو: في الحقيقة عرَض عليَّ الكثيرون أن أشتري ماءً للمزْرعة منْهم، لكنَّني أردت أن أخصَّك أنت بهذا الخير؛ فأنت جاري، على أيِّ حالٍ لن أضغطَ عليْك إذا لم تُرِدْ أنت ذلك.
عبدالله: انتظر انتظر، أنا موافق، ولكن بشرط أن يكون هذا لأجل محدود.
شلومو (بخبث): طبعًا لوقتٍ قصيرٍ أقصرَ مما تتخيَّل.
القاضي: والآنَ متى ستكون جلْسة المفاوضات القادِمة؟ يَجب أن نصِل إلى حلٍّ عادل قبل أن ينتَهي عملي في هذه القرية.
محمود: اتَّفقْنا أن يكون الخميس القادِم هو موعد البيان الختامي للمفاوضات.
عبدالله: أهالي القرْية ينتظِرون على أحرَّ من الجمر النتيجة، ولا يُمكِننا أن نتأخَّر أكثر.
(يدخل بركات)

بركات: مرحبًا.
(يقف الجميع مرحبين)

بركات: آمُل أنَّني لم أتأخَّر كثيرًا، هل بدأتم في النقاش؟
القاضي: كنَّا على وشك البدْء الآن.
بركات: إِذًا؛ اذهبا يا عبدالله ويا محمود، أنْجِزا ما اتَّفقنا عليه.
(يخرج عبدالله ومحمود بعد التحيَّة)

بركات: والآن؟
القاضي: لقدِ ابتكر شلومو حلاًّ جديرًا بالنِّقاش، هلاَّ تفضَّلت بطرحه الآن عزيزي.
شلومو: كنت أفكِّر في عرْض مبلغٍ مُرْضٍ لمجاهد، وبالطَّبع لكم أنتم أقرباؤه نتيجةَ ما لَحق بكم من إزْعاج بسبب هذه المشكلة البسيطة.
القاضي: رائع هذا حقًّا رائع.
بركات: لا أعتقد ذلك، لن يترُك مجاهد أرضَه أبدًا، ولن يرضى بِهذا، إنَّه متعنِّت جدًّا وصاحب شعارات، أصبح يُصِيبُني بالاشمئزاز.
شلومو: إنَّه خطرٌ عليْنا جَميعًا صدِّقْني.
بركات: أعلم، أعلم، يُريد أن يَخطف الأضْواء ويأخُذ منِّي زعامة العائلة.
القاضي: بصراحة لقد أصبحَ له نفوذ واسعٌ في القرية، وهو يَجمع من حوله المعْجَبين، وهذا مضرٌّ بِمصالح الجميع.
بركات: ما العمل؟
شلومو: لا بدَّ من عزْلِه وإقصائِه عن مؤيِّديه، لا بدَّ أن يكون تحت رحْمتِك ورقابتِك إلى أن يعترِفَ بفضلك عليه وولايتِك.
بركات: ولكن إبعاده سيُسَبِّب لي حرجًا شديدًا، ويثير الكراهية ضدِّي.
شلومو: ما رأيُك في أن أُعْطيه جزءًا من المساحة التي عند السِّياج بين مزْرعتي وأرْضِك؟
بركات: أتعني قن الدَّجاج والإسْطبل؟
شلومو: لم تعُد كذلك، إنَّها الآن مكانٌ مناسب ليعيشَ فيه مجاهد وأسرتُه؛ وبذلك يكون تَحت رقابة ثنائيَّة مني ومنْك، نَمنع السِّلاح الَّذي يستخدمه في إرْهاب أهلي المساكين، ونسمح بمرور الطَّعام طبعًا بِموافقتِك أنت، فأنت كبير العائلة.
القاضي (باشْمئْزاز من هذا الإجرام): ولكن هذا .....
بركات (يقاطعه): هذا رائعٌ جدًّا جدًّا، فعلاً هذا هو الحلّ، وفي النهاية سيحصل مجاهد على شيءٍ من أرْضِه، ففي النِّهاية أريده أن يأخذ حقَّه.
(يضحك شلومو وبركات من هذه العِبارة، أمَّا القاضي فيبقى مذهولاً بيْنهما)

المشهد السادس (مشهد صامت)

يَجلس شلومو إلى طاولة الطَّعام، يأكل بشهيَّة وهدوء، يقِف إلى يَمينِه عبدالله حاملاً له فوطة بيد وبالأُخْرى كأس ماء، وعلى شِمال شلومو يقِف محمود مُمْسكًا بِسلاحِه، يَحرس سيِّده، ويتلفَّت بِحرصٍ خوفًا من أي هجوم مفاجئ.

وفي زاويةِ المسْرح يَجلس مجاهد مكبَّلاً، حافي القدمين، وبثياب رثَّة، ويقِف فوق رأسِه بركات مصوِّبًا سلاحَه إلى رأس مجاهد، منتظرًا أيَّ حركة منْه ليقمعه.

تمت