• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

القول الفصل في شاعرية القص: ملامح استشراف القصة الشاعرة

القول الفصل في شاعرية القص: ملامح استشراف القصة الشاعرة
محمد صادق عبدالعال

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 25/11/2024 ميلادي - 23/5/1446 هجري

الزيارات: 1448

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

القول الفصل في شاعرية القص: ملامح استشراف القصة الشاعرة

 

• ينبغي لنا أن نتفق اتفاقَ مَن يُرِد للحق الإحقاقَ، ولحرف الضاد الإنصافَ، وما علينا بعد الإتْحَافِ غير الالْتِفَاف حول حرف هو الأعلى بيانًا والأسمى لفظًا وتبيانًا، المقدَّس قرآنًا، والأجود على تعدُّد الجيد والسيد رغم هيمنة السائد، والزاخر الوافر الكافي المتفرِّد باختلاف المعاني على اتفاق دروب الحروف والألفاظ، ورغم نسيجها الضام لجناسها التام، ومرادفاتها الملائمة للنصوص والأغراض البلاغية، ومشتهيات البديع من تقابل وتضاد ومحسنات وطباق، وتَقلُّب الكلام على حقيقة ومجازات، مع تعدُّد العلاقات ومشاكلة المفردات، مع تباين المقاصد والحاجات، فالصحراء في فِقه اللغة ما ليس بها من زرع، والبيداء من مثلها، بيد أنها تزداد خطرًا بهلاك من يسلكها دون وقاية، والمفازة من بعدهما؛ إِذ لا نجاة لسالكها إلا بالمعجزات، وكلهم تحت مسمى الأرض بقعة، ومرادف الفضاء رقعة، وأما القِفار فهي ما افتقرت للساكنين أو الظاعنين أو الرعاة، فأية لغة كتلك التي أعطت لكل حالة معنًى ومذاقًا، وإن تدلت جميعًا من شجرة واحدة، فطوبى لمن جعلها في متاعه، فقد حاز قصب السبق، واكتسى حلة المجد، وامتطى صهوة العاديات المغيرات المثيرات نقعًا على من يدعي أنه الأحوذي العبقري الألمعي، وما جاء ذلك إنصافًا للعرب عن قلة حيلة أو هوان ذات، بل هم البلغاء في المجالس والساحات لهم أسواق كعكاظ، ونصلي ونُسلم على من شرف باستقبال الوحي على حرفها الضاد، فتسامى عن كل شبيه وأضداد، حتى صارت أقدس لغة وأجلَّ وعاء، أما بعد:

فنحن الآن أمام هيكلة جديدة للشكل القصصي، وهو مصطلح القصة الشاعرة، وإن كل جديد يطرأ على جنس من أجناس الأدب؛ إما أن يأتي على حين غَفلة أو عفو من الأصوليين، وإما عن ادِّعاءات بعض المحدثين أنهم مخترعوه أو مبتكروه، حتى وإن كانت تلك الأجناس تضرب بأنساقها في بطون الأدبيات العربية، وعن جدلية نشأة القصة القصيرة بشكل عام، ذكرت في رباعية "التراث والنبراس" ثبوت بدر القصة بجزيرة العرب، متخذًا من بعض الدراسات لمن هم أهل التخصص أولو المطالعة والمبارزة درعًا وسيفًا لي في وجه المشككين؛ وذلك قطع منها (وملخص القول في هذه القضية ما يؤكده الناقد الأدبي د. عبد المنعم تليمة (الأستاذ بكلية الآداب/جامعة القاهرة / بمصر) - أن العرب لم يأخذوا القصة الحديثة عن أوروبا، فـ(القَصُّ) جذوره ممتدة في التراث العربي، أما القصة القصيرة بشكلها الحديث الذي وصلت إليه، فهي نتاج أوربي بلا مراء، ولكن العرب لم يتخلفوا عن ركب القصة القصيرة؛ لأننا أبدعنا في هذا المجال في عصر موازٍ للإبداع الغربي، ودعوى سبق أوروبا لنا لا تقوم؛ لأن الفارق الزمني بيننا وبينهم لا يتعدى عشرات من السنين، وهذا في رأيه ليس زمنًا طويلًا ولا عصرًا كاملًا"، وأيضا دكتورة عائشة الحكمي تُقر بعربية النشأة لفن القص: فتقول الكاتبة: (ومع بدايات القرن التاسع عشر بدأ انتشار الصحافة وانتشر معها الفن القصصي، ودخول القصة معترك السياسة أعطاها حيوية ومضيًّا كسلاح لا يُفَلُّ، ودخلت في الصراع الاجتماعي والديني، حتى أصبحت مناضلة دون مقصدها تتنفس بالشكوى والتمرد، وتصارع مع البسطاء قسوة الحياة وغلظتها، ويكفي أن نذكر أسماء ذات اعتبار؛ لندرك كيف أن هذا القرن هو قرن القصة القصيرة (موباسان – تشيخوف - إدجار آلان بو – جوجول - أوسكار ويلد- دوديه – هوفمان... إلى غير أولئك[1].

 

• وأنا إلى هذا الرأي المحايد أشد ميلًا أصالة عن نفسي وعن منصفي الأدب العربي في قضية الأسبقية لفن القص؛ وقبل التَّفرغ لقضية القصة الشاعرة، أَوَدُّ أن أثبت رأيي المتواضع أن كافة الأجناس الأدبية كانت في الأصل سردًا ونثرًا، ثم استدعت البلاغة وثراء اللغة وإحداث الإبهار والإدهاش لدى المتلقي، وتكوين تصنيفات جديدة، وتوليد مبتكرات لم يكن للسابقين وقوف عليها حتى وإن كانت مندسَّةً في تراثهم الأدبي دسًّا غير مرتب مثلما كانت تدس الأعرابية في الشعير كل ثمين! والشاهد عندي في أن العرب لم يتخلوا أبدًا عن أي شكل أدبي مستحدثًا كان أو متأصلًا، بل إن أفضلية السبق كانت دومًا لهم ولا نقول ذلك انحيازًا لتراثنا أو عنجهية الادعاء، بل إن تراثنا كفيل بفرض ذاته على منصات الأدب ومعسكرات الفقه اللغوي، وإلا ما كان الله تعالى لينزَّل (القرآن الكريم) المعجزة المستدامة من لغة وبيان وأحكام على العرب يتحداهم به، وإن فرائض العقل تقول: إن التحدي لا يكون إلا في التفوق والتميّز لا مجرد المعرفة!

 

• ومثال: حينما تحدث ربنا عز وجل في صدر صورة يوسف - وهي السورة الوحيدة التي اشتملت على قصة طويلة كاملة من بدايتها حتى مختتمها - نجد تحديًّا أكبر في لغة ولسان عربي مبين أتبعه ربنا عز وجل بتحدٍّ آخر لا يستطيع بليغ فتيق، ولا كاتب مخضرم عاصر الوجهين للشمس أن يكتب مثلها إلا هو قوله عز وجل: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [يوسف: 3]، والفَطِن الكيِّس من يستطيع ربط الوشائج، واستدراك النتائج من قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]، ثم قوله تعالى: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ [يوسف: 3].

 

• والشاهد عندي أيضًا في ذلك التحدي الثاني هو قوله سبحانه: (أَحْسَنَ الْقَصَصِ)، فالمفاضلة لا تكون إلا على إحراز الجيد، أو ما يفوقه، فلفظة "أحسن القصص" إشارة دامغة إلى أن القصص العربي راسخ في دروب العرب، لكن لم يكن قد نُظِمَ بالشكل الملائم لِما عليه الشعر الذي انشغل به العرب، وإن كان في أشعارهم قصص لا يوازيه قصص آخر! وإن براعة العربي في الشعر ذاته قد جعلته لا يبالي أن يسمي قصيدته، فسماها له من خلفوه، واكتفى هو بوصف المجال مدحًا كان أو رثاءً، أو غزلًا إلى آخره من تلك التصنيفات.

 

• وقد يسأل سائل: ما علاقة العنوان وإشكالية القصة الشاعرة بما قد سلف من ذكر لثبوت بذور القصة بجزيرة العرب، أو المرور على جماليات القصص القرآني العظيم؟!

 

• نقول كما أسلفنا: إن كل الأشكال الأدبية التي نَبعت وسَحَّت، وتدفقت من رَبوة العربية المباركة، بينها جميعًا صلات لعلَّات مع الفارق في البيئات والثقافات التي أَظهرت بدورها تنوعًا في الألفاظ والتراكيب والكنايات والمجازات، فاتَّخذت لبنيانها مخادعَ للخلود على هيئات أدبية تناسب الدهور وتحولات المجتمعات، وصفات الأدب فيها، وفاعليات عصر السرعة والحداثة التي أحدثت تغيرات وتهجينًا في ثمار الأشجار الأدبية، أتت على الشكل مع ثباتِ لبعض الأصل والمضمون، فالصنف الأدبي إن لم يتطور مع تداعيات عصره وتقلبات مَصره، لما قيل عنه إنه راسخ في أرض الأدب، ولا نعني التطور الخروج التام عن حيز الشكل المتفق عليه، لكن المقصد هو الملائمة والموائمة دون إخلال ببديهيات ذلك الفن الأدبي.

 

والشاهد في جزئية المجازات والكنايات أن غالب معجم الزمخشري قائم على المجازات وبيوت أشعار العرب ليستشهد بثبوت أصل المفردة! وكذلك الشاهد الأصيل في تغيُّر وتحول الأجناس الأدبية بالتوالد والتهجين لإنتاج صنوف أدبية أساسها قائم، بيدَ أنها تتغير، هو ما قصده أستاذنا الأديب الراحل "يحيى حقي" في كتيب له بعنوان "فجر القصة المصرية الصادر عن المكتبة الثقافية"، يتحدث فيه عن نشأة القصة المصرية، وقد جمع ما قاله كثير من كتَّابنا الأفاضل الثقات؛ أمثال أستاذنا العقاد رحمه الله، حين أراد أن يصف أسلوب المقامة ومراحل تطوُّره مواكبة ومعاصرة: ((هو سجع محفوظ الفواصل والقوافي، يتردد على كل قلم، ويُزَجُّ به في كل موضوع، ثم ارتقى إلى سجع يبتكر الكاتب فيه كثيرًا أو قليلًا من قوافيه، ثم ارتقى إلى أسلوب منسق مصقول، لا تقوم فيه الأسجاع والقوالب، ثم تعدَّدت الأساليب، ووضَح أثر الحرية في الكتابة[2]، وهنا إشارة قوية إلى أن كافة الفنون الأديبة مطروقة سلفًا ولها أصول، لكنها تتغير بتغيُّر المجتمعات وتعاقُب الليل على النهار، وتجدُّد الأغيار! على سبيل المرور والذكر (قضية القصة التي هي أم السرد ومنبت النثر، حالت عليها الأحوال لتُقَطَّع جذاذًا إلا كبيرة لها وهي الرواية، فقطعت على - قصة طويلة - وقصيرة - وقصيرة جدًّا، انتهاءً بالمستحدثة الأخيرة (تلك المستحدثة الأدبية المختصرة "الميكرو قصصية"، والتي أختلف فيها مع مبتدعيها اختلافًا سببه الأصلي الانحراف عن المقومات الرئيسية عن عناصر القصة الأساسية، وقد أثبت ذلك سلفًا بشبكة الألوكة العربية، وهذا بعض منها:

• وأكرر أني لست بصدد الهجوم على تلك الشاكلة المختصرة (الومضة)، فلكُتَّابِها وجمهورها المبررُ المقنع لاتباعها وابتداعها، لكن اعتراضي ينطوي على أنها لا تقبل علامات الترقيم من علامة القول أو الفاصلة العادية لتعدُّد السرد، أو الفاصلة المنقوطة لاعتبار ما بعدها نتاجًا لما قبلها، أو علامات التعجب التي تكشف عن حالة وجوه شخوص القصة، إلى غير ذلك من أساسيات علامات الترقيم التي هي بمثابة إشارات المرور ليحيي المتلقي لحظات الانطلاق وسويعات الانتظار، وترقب النواتج! وإن تلك العلامات تعد من المراتب المعرفية لحالة السرد والحوار! ولنعد لبيت قصيد الدراسة:

القصة الشاعرة أو شاعرية القص:

وسواء شاع عنها أنها شاعرة أو تتسم بشاعرية القص، فلا جدال في القولين، فغرض المصطلحين واحد، وهو القصة بأصولها وعناصرها ومقوماتها المتعارف عليها، إضافة إلى التنسيق والتنميق الذي يخلق أجواءً شاعرية حين قراءتها، فتتباين من مجرد سردية قصصية إلى مزج بين ألوان البيان وتناص وتراص، فهي قصة كأية قصة، لكن الحالة استدعت لدى كاتبها نظمًا يجمِّلها وشاعرية تقطع حبال الملال منها، فضلًا عن أنها صادفت كاتبًا يهتم بالموروث الثقافي وتناص بالأقوال أو الأفعال والإيجاز العالي مع الرمز المعبر عن قرينة راسخة ودلالات معلومة، وهذا ما اتفق عليه كلٌّ من: شبيب محمد الدوسري/ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية، والشاعر والباحث السيد عبد الصمد؛ حيث قدم السيد عبدالصمد دراسة طيبة عن قصصي الشاعرة بشبكة الألوكة العربية تحت عنوان: "جماليات القصة الشاعرة/ محمد صادق - الدمياطي نموذجًا، (والقصة الشاعرة عند القاص الدمياطي "محمد صادق عبدالعال" - بينها وبين الشعر خيط رفيع يحافظ عليه دومًا في كتاباته، مبرزًا شاعرية قصته، منتهجًا لغةً شعريةً في بنائها قد تكون في جملتها أميلَ إلى الشعرية منها إلى السردية، ولقد عمد "صادق" في الكثير من قصصه الشاعرة لتوظيف الرمز على مستويات متفاوتة؛ من حيث الرمز البسيط إلى الرمز العميق إلى الرمز الأعمق؛ مما عمَّق المعنى والغاية من وراء قصته، فأصبح مصدرًا للإدهاش والإذهال والتأثير، وتجسيدًا لجماليات "التشكيل الشعري لقصته"، فأسهم في الارتقاء بشاعرية "طقوس سفره"، وعمَّق دلالاتها وشدة تأثيرها في المتلقي، كما يظهر هذا جليًّا في قصصه (اثنتان، انتشاء، سردية الشمس والغيوم، النوَّة الأخيرة، للسفر طقوس أُخَر، طقوس، البريء والجميلات)، وغيرهم، ولا أريد أن أتطرق إلى كافة العناوين في هذه المجموعة القصصية، وإنما أترك للقارئ فرصة اكتشاف ما قد توحي به هذه العناوين الصادقة والمعبرة من أفكار واستنتاجات[3].

 

• وقد تناول عديدًا من القصص ذات الاتجاه الشاعري التي نُشرت بشبكة الألوكة العربية، كما ذكر بعضًا منها معولًا على الإيجاز والتكثيف الشديدين، مع استعمال الرمز على مستويات متفاوتة؛ مما عزَّز من دراسته تلك، وقد جمع العديد من الأدلة المؤيدة لها بموضوعية تامة.

 

• وفي اطلاع للموقر / شبيب محمد الدوسري / جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية في مقال له بعنوان: "القصة الشاعرة ومحدداتها الفنية والجمالية: دراسة تحليلية تطبيقية على مجموعة انسكاب القصصية للشاعر علي الشيمي"، عبر الشبكة العنكبوتية تطابق قوله مع ما أشار إليه السيد عبدالصمد/ في اعتبارية أن التكثيف واستعمال الرمز على مستويات متفاوتة من مقومات القصة (الشاعرة القوية/ وفي دراسة لبعض قصص مجموعة انسكاب في القصة الشاعرة للرائع / شبيب محمد الدوسري، توصلت الدراسة إلى مجموعة من النتائج أهمها ظهور ملامح القصة الشاعرة عند الشاعر محل الدراسة بشكل واضح؛ حيث وظف الشاعر الإيجاز والرمز بوصفهما عنصرين أساسين في قصصه، على اختلافها في الموضوعات والطول والقصر، كما وظف الشاعر (على الشيمي) الموروث الثقافي في رمزه وإيحاءاته التي عالج بها قضاياه، سواء كانت قضايا ذاتية أو قضايا اجتماعية[4].

 

ومن هنا يُمكننا القطع بأن الموروث الثقافي والإنساني، واستخدام الرمز والقرائن، كل أولئك من بعد اللغة ذاتها التي هي الموروث الأرفع، سواء تقطَّعت أرفدة لغوية، أو انسجمت تراكيب إنشائية أو خبرية، أو كنايات عربية تناقلتها العصور، وألقت بها الأفواه تتراءى، وحملتها رياح الأصالة والتراث، فكل أولئك من مسببات إنجاب قصة شاعرة، بل من عوامل اصطفائها بوصفها نصًّا قصصيًّا شاعريًّا.

 

• إن للقصة الشاعرة أو شاعرية القص كما ذكرنا مقومات وعناصرَ، وعناصرها هي ذاتها عناصر القصة القصيرة من بداية ونهاية ووسط وعقدة، فضلًا عن محددات للمفعول فيه من زمان ومكان، وكذلك شخوص القصة أنفسهم.

 

• وإن كان الموقر الباحث /السيد عبدالصمد صاحب دراسة "جماليات القصة الشاعرة محمد صادق الدمياطي نموذجًا"، التي نُشرت بشبكة الألوكة العربية، وأيضًا الموقر/شبيب محمد الدوسري/ حاصل على درجة الماجستير في الأدب، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية قد اتفقا عن بُعد تِقني أن الموروث الثقافي واستخدام الرمز والقرائن، أسس هامة في إنتاج قصة شاعرة أو قصة ذات ملمح شعري؛ فذلكم برهانان على أن إنتاج قصة شاعرة يتطلب عودةً للموروث، ولكن بشكل يناسب بيئة ومتطلبات العصر الفكرية والثقافية؛ مما يحدث التفاتةً قويةً تعود بنا لجميل الموروث، سواءً في اللغة مادة التكوين أو الحدث ذاته.

 

• والفطن الحاذق من يرى أن اللغة بكل ما أُسْدل تحت مظلتها من محسنات بديعية، وكنايات ومجازات عربية، وألفاظ متطابقة، مع اختلاف وتغيُّر المعنى وسيطرة علامات الإعراب على المفردات؛ لتحول المعنى بالكلية لمسار آخر؛ فمن الفروق اللغوية في معجم لسان العرب مثلًا (لفظة القَطْر بالفتح تعني المطر - والقطر بضم القاف تعني الناحية أو الجانب، وعليها اصطلحنا على أنَ القطر بضم القاف البلد أو المكان، وبكسر القاف القِطر هو النحاس المذاب، ﴿ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴾ [الكهف: 96]؛ (معجم لسان العرب)، فإن استوعب القاص غيضًا منها، ولا أقول الكثير؛ لأن العربيةَ بحر حين يفيض يتخطى شطآن معارفنا، ولا ينقص من أمواهه شيء، فقد أصاب هيئة القص الممتع المحلى بشاعرية اللفظ ورقة المعنى ودقته؛ حتى كنايات العرب حتى وإن كانت قد لفحتها شمسُ التغيير ووجوه التحولات الزمنية، يبقى لها جليل الأثر وعظيم الخطر مثلها مثل التِّبر يضيع في الرمال؛ ما إن تسطع عليه الشمس بنورها حتى يلمع كالبريق.

 

ملامح استشراف القصة الشاعرة:

وأردت أن أقول ملامح ومن مفرداتها مَلمَح ولمحة، وهو ما يظهر على الوجه من علامات مبيِّنة، وفي قاموس المعاني الملامح: الْمَلاَمِحُ والظِّلاَلُ: مَا يَظْهَرُ مِنْ أَمَاكِنَ فِي لَوْحَاتِ الرَّسَّامِينَ مُضَاءةٍ وأُخْرَى غَامِقَةٍ؛ (قاموس المعاني)، فالقاص حين يسرد قصته، فإنما هي شكل سردي صافٍ أو حواري أو كلاهما معًا، فإذا غلب عليها الإيقاع ارتقت بالنص لمستوى التفعيلات الشعرية، حتى ولو لم يكن يدركها تمامًا، فتُصبح قصته من قصة عادية إلى قصة شاعرة، لها جلُّ مقومات وعناصر القصة، لكن يزيد عليها الإيقاع، مما يُحدث للأذن التفاتةً قويةً بأنها استشراف لقصةِ شاعرة، ولنا أن نسأل أنفسنا بعض الأسئلة، وفي طرحها أجوبة، لعلها تكون مقنعة ونافعة، وجد شافعة عند من لا يألفون هذا الفن القصصي الجميل الراسخ في بطون النصوص العربية ذوات الصبغة الأدبية وحتى العلمية! فأي الملامح أشد نصوعًا للوقوف على ثنية من ملامح شاعرية القصة؟

 

الملمح الأول: اللغة العربية وتعيين المفردات والألفاظ الأكثر دقة لوصف مقتضى الحالة:

بلا شك إنها العربية فما تزال مطلبًا قويًّا حال تكوين أي لون أدبي، فهي مادة البناء ودعامة الإنشاء، ومواكب الزينة ودلالات الحالة، ومراتب الإيضاح، ومفاهيم الإفصاح عن المراد بدقة عالية، وهي كماليات الإبداع وأدق معايير قياسه، وهي الفاصلة والواصلة والمحصِّلة، وحتى لا يقال: إنني أنسلخ من تقديم الشواهد الفعلية بتعميم القول أن اللغة مقوم رئيس في كتابة القصة الشاعرة، أو أي ألوان أخرى! أنصح نفسي ومن على شاكلتي أن يطَّلع على لسون العرب في معاجمهم، وما أكثرها لو كنتم توقنون! وفي فقه الثعالبي ذلكم الفقيه اللغوي الجهبذ الذي إن تتبَّعنا تصحيحات مسار المفردات من خزائن إرثه، لعلمنا أننا قد وقعنا في فخاخ الخلط والمغلوط والشائع غير الصحيح، ووضعنا الأفعال في غير مِحلها والصفات على غير تعبيرها الأدق؛ حتى إذا وصف القطعة من الخبز سماها كِسرة، ومن الكبد سماها فِلذة، ومن الشعر خَصلة، ومن الليل هزيع، ومن الحطب حِزمة، ومن النار منها جَذوة، ﴿ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [القصص: 29]، إلى غير ذلك من تقسيماته لمقاطع الأشياء التي اختلط علينا شأن تصحيح تراكيبها اللغوية، وكذلك تقسيمات القطع نفسه في فقه الثعالبي، "فيقول: الحز - للحم: والجز - للصوف – والقص - للشعر – البري - للقلم – والحذق – للحبل – والقطف - للعنب – والجرم - للنحل – والخضد - للنبات الرطب والحصد - للنبات إذا يبس..

 

• والفروق اللغوية فمصطلح (النوم) بكل درجاته وحالاته لدى الكثير منا واحد إلا من عاد للمعاجم، لكنه في فقه الثعالبي "درجات على خمسة منازل أولها النعاس، ﴿ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا ﴾ [آل عمران: 154]، ثقل النعاس، وسن ﴿ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ﴾ [البقرة: 255]، والنوم ليلًا يسمى هجوعًا، ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴾ [الذاريات: 17]، والنوم الطويل: رقود ورقاد، ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ﴾ [الكهف: 18]، ونوم النهار قيلولة، ونوم ما بعد العصر: عيلولة، وما بعد الفجر: حيلولة، والكثير من الترادفية لوصف الشدة والحالة، ووصف الشيء بالكثرة: إنه لكثير بثير بدير بجير، وعلى النقيض تمامًا في وصف ونعت الشيء بالقلة: إنه لقليل بَليل، وإنه لضئيل بئيل، ويقولون: رجل حَرَّان يَرَّان جَرَّان، وفي وصفهم القوم في حالة سيئة، هم في هياط ومياط؛ أي: صخب وجلبة، وفي وصف الرجال: فلان شحيح نحيح؛ أي إذا سئل تنحنح كراهة للعطاء.

 

• وفي وصف الأمكنة التي خلت من الساكنين والأنفاس زمنًا: خراب يباب، وقالوا في شدة الحر: عَكيك أَكيك، ووصفهم لمن حاز المال الكثير: جاء بالطم والرَّم، وقولهم فيمن أثقل عاتقه الدَّين: فقير وقِير.

 

وفي وصف الحركات الفيزيائية للطبيعة، وهي من دقائق اللغة:

سحَّ الماء: إذا نزل من المزن والسحاب، ونبع الماء: إذا اندفق من الينبوع، وفاض الماء: إذا كان من النهر، وكف الماء: إذا نزل من سقف الدار أو السطح، وسرب الماء: إذا خرج من القِربة، ورشح من الإناء، وله أن ينسكب الآن من العين بعدما علمت أنني كنت لا أدري عن جماليات الضاد شيئًا؛ (فقه اللغة للثعالبي).

 

وفي زيارة عابرة للسان العرب لابن منظور360 ه: في نوادر اللغة ويواقيتها الممتعة استخدام اللفظة الواحدة على معان مختلفة وليس هذا بغريب ولا بعجيب على لغة هي وعاء القرآن الكريم:

• مفردة ضَرَبَ: تطلق على حالة دق الوتد في الأرض حتى يستقر، وعلى باعة الدرهم وصكه، وضربت العقرب بمعنى لدغت، وضرب الليل بأرواقه: أقبل، وضرب في الأرض أقام فيها وأيضًا بمعنى سار، وضرب مثلًا ذكر وبيَّن، ولعلنا نجد أن القرآن الكريم المرجع الأعلى لبلاغة اللغة، قد استخدام كثيرًا من تلك العبارات لنتعلم، فيا ليتنا نتعلم منه البيان والسمو اللفظي والمفردات المواكبة، وكلمة الخال في اللغة أوردها بمعان عديدة: (أخو الأم – النكتة السوداء في البدن - البعير الضخم - الذي يدبر المال ويحسن القيام عليه - والسحاب الذي لا يخلفه مطر؛ (لسان العرب)، وقد أورد تلك المعاني جملةً (المعلم بطرس كرامة) في قصيدة عصماء مطلعها:-

أمن خدها أفتنك الخال
فسح على الأجفان مدمعك الخال

فالخال في الشطرة الأولى بمعنى الشامة، وفي الثانية بمعنى السحاب، وما وصلنا إلينا منها ستة وعشرون بيتًا بمعان مختلفة!

 

• وفي درجات الشدة في الصفات، تُعد واحدة من جماليات اللغة التي تعبر عن مقتضى الحالة وصفًا وإبانة؛ أمثلة: التَّسبيخ: شدَّة النوم، سَبَخَ النَّائِمُ: اِسْتَغْرَقَ فِي النَّوْمِ، ونقول في الدارج أرض سبخة: سَبِخَتِ الأرْضُ كَانَتْ ذَاتَ مِلْحٍ؛ أي: لم يحركها الماء ولم تحرث، والسُّعار: شدة الجوع، والصَّدى: شدة العطش، والنَّصب: شدة التعب، والوَصب: شدة الوجع، وشدة القتل: الحس، والبث شدة الحزن؛ كقول نبي الله يعقوب: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 86]، والهلع: شدة الجزع، والجشع: شدة الحرص.

 

ومن الأفعال التي تدل على الشدة وتجاوز الحد في الوصف: مفردة الهَد؛ تعني كثرة الهدم، ومنها قوله سبحانه في تعظيم الافتراء بأن لله ولدًا في سورة مريم: ﴿ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ﴾ [مريم: 90]، ووصف شدة الخصومة باللَّدد وتنذر به قومًا لدًّا.

 

• من جماليات العربية أيضًا أنها لم تَحبس المفردة في معنًى واحد إلا في حالات نادرة، أما نحن الآن فمع موروث يستصلح بوار معارفنا المحدودة؛ ليصبح على مد البصر ومنتهى النظر خضراءَ يانعة يَجني منها الراغبون ما تشتهيه أقلامهم: كلمة (دون) على سبيل الذكر في العربية وقعت على عدة معان؛ نذكر منها معنى غير: ﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ﴾ [النساء: 48]، هنا جاءت بمعنى غير ذلك، وكظرف مكان كقولهم: السماء دونك؛ بمعنى فوقك، وبمعنى خلف؛ مثل: جلس الولد دون أبيه؛ أي خلفه، والعديد من الاستخدامات لها بمعنى قبل وبين، وبمعنى فعل الأمر خُذْ؛ مثل قولهم: دونك الدرهم؛ أي: خذ الدرهم، وبمعنى الوعيد والتحذير؛ كقول الأب لولده محذرًا: دونك مخالفتي.

 

• الكلمات المتلازمة المأخوذة على معنى واحد، بينما هي تختلف في درجة تأثيرها وتفسيرها؛ مثال قوله تعالى: ﴿ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا ﴾ [طه: 112]، فالظلم هو أخذ الحق كله، وأما الهضم فهو بعض الحق أو اقتصاصه، وكذلك قول العرب: لا أصل له ولا فصل، الأصل هو الحسب، والفَصل هو اللسان؛ (لسان العرب)، وكذلك البأس والبأساء، فالبأساء هي شدة الفقر، وأما البأس فهو شدة القتال؛ لقوله تعالى: ﴿ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ﴾ [البقرة: 177].

 

• وأخيرًا روعة الإيجاز أفعال أمر من حرف واحد!

 

• (قِ): فعل أمر وقى يقي وقاية، فهو واقٍ، (عِ): فعل أمر من وعى يعي فهو واعٍ، (رِ): من ورى يواري وريًا، والورى قدح الزند، (شِ): من وشى يش وشاية ووشى وشيًا، ألا يستحق هذا البيان منا الالتفات إليه لنقلِّد به سرديتانا جواهر ولآلئ ذوات بريق! ومثال بسيط وعفو للإطالة حينما أراد الشريف الرضي أن يختتم قصيدته العصماء في رثاء أمه فاطمة بنت الناصر: قال لها:

كان ارتكاضي في حشاكِ مسببًا
ركض الغليل عليك في أحشائي

ولنقف عند اختياره لكلمة ارتكاضي، ولم يقل ركوضي، فمن بلاغيات اللغة في وصف وضعية الجلوس للجنين في بطن أمه، فهي ارتكاض ولا ليس جلوسًا أو ركودًا، أو من بَصَّره بذلك؛ حتى يتخيَّر المفردة الأشد إيضاحًا وملائمة غير إحاطته بلغة هي العصماء!

 

• وعفوا للإطالة والخروج عن حيز المقالة، وإن كان في صميم الفكرة ينشأ، ومرام القصد يسعى ويحفد، وما ذكرناه قطرة من فيض بِمنِّ الله علينا بتلك اللغة الجليلة الكثيرة الفضائل والمناقب، لو أحاط ببعض منها قاص أو سارد أو شاعر، لاستطاع أن ينسج بخيوط حروفها حللًا من فوقها ظلل من البيان!

 

• فالقصة الشاعرة هي قصة نظمية وأقرب للفلسفية، وإشاعة الحكمة بين سطورها، حتى ولو اقتضى الأمر ترادفات متعددة ومفردات متتابعة على نحو من الاستزادة وصبغة الإفادة، ولا يتنافى هذا الإسهاب مع آلية التكثيف، بل يزيد من قوة المعنى، ويُلقى بنظرة المتلقي للمرجو من الحالة، ومثال بسيط من قصتي: خيالُ ظلٍّ بالكتب"، قلتُ أغشاها وقد غَشِيَها من الرُّكام ما غشِيَها، وذلك هو الهِجران المستديم، فوَدِدتُ لو شَمَّرت عن ساعدي، لكن لا طاقة لديَّ، فجعلت أطبطب عليهنَّ، أولئك الساكنات برفوف الخشب الثاويات بوقار وأدب، المبتسمات برغم الوجه المقتضب، الواصلات برغم انقطاع السبب، المراودات برغم الفلس، فأمسح عن إهابِهِنَّ جحودَ العولمة وما ران عليها من دَرَنٍ، وأقول:

• أنتم رياض مَنسيَّة، أيا ليت الشباب يطوف يومًا عليها[5]، فعلى الرغم من فهم المقصد من أن الحديث عن الكتب والتراث والظرفية المكانية الواضحة بالمكتبة، لكنني تعمدت الاستزادة بعض الشيء في المفردات؛ كمن يذكر الولد بقيمة أمه وأبيه، فيقول: هما الرحماء والأوفياء والنصحاء.....)، فكذلك أردت إرسال تنبيهات شعرية متتالية بأهمية القراءة التي ضاعت بين براثن العولمة، وسحقت تحت أقدام الحداثة والتبَّسط، وها نحن قد ابتدرنا الحديث عن سمات استشعار القصة الشاعرة باللغة ذاتها لمؤثراتها وما أدراك ما مؤثراتها!

 

الملمح الثاني: استشراف التفعيلات داخل البنية السردية للقصة للقول عنها بأنها شاعرة:

بداية نقول والله المستعان: لا يعتزم قاص أن يكتب قصته شاعرة حين يرزق فكرتها، إلا إذا انخرط فيها وضمها لجناحيه، وقبض على مضامينها، وسار مع القلم مسيرة الاتباع، حتى إذا أدرك شجون سطورها وميولها لشاعرية أكثر، أعاد النظر ثانيةً فيها، فقَطَّع سطورها وجَمَّل شطورها على ما يستحب له من رائق التفاعيل، وأرخى عليها من سدول النغم ما يبهج القلم، فتصير شاعرة على بعد من رمية حجر!

 

ولا إلزام لقاص بأن يكتب قصته الشاعرة كلها على بحر واحد أو تفعيلة واحدة؛ لما فيه من إرهاق له كقاص اعتاد السرد، وانتقى النثر دون تقيُّد بعلات الأوزان والتفعيلات، ووراء ذلك مرجو منه تشعُّب الأحداث وإضاءة لحظة التنوير، وإبرام الحل للعقدة، وإلا فما الفارق إذًا بين القصة الشاعرة ذات الملمح الشعري والإيقاع المؤثر والشعر القصصي الذي يتسم بهيمنة وسيطرة البحور حتى ولو غَرقت عناصر القصة الأساسية مع تسارع دفتيه للوصول لبيت القصيد وخاتمة القصيدة، كما أن القاص غير مطالب بالإلمام ببحور الشعر والتفعيلات، لكن المتلقي أو الدارس هو من يصنف له قصته كقصة شاعرة؛ من حيث إدراكه هو بماهيات البحور ومستقرها وتفاعيلها، من بسيط كانت أو من كامل أو من سريع أو رجز... إلى آخره.

 

• ولو فرضنا جدلًا أن من سمات القصة لتُسمى شاعرة أن يلتزم القاص فيها بتفعيلة واحدة من بداية النص حتى آخره، ألا يؤثر ذلك سلبًا على جودة النص؛ من حيث عنصرة مقومات القصة، ونقل أحداثها إلا مع الماهر بها مهارة فائقة، وغالبًا ما تحدث رتابة للمطَّلع إلا إذا كان متمكنًا من لجام عبارته، ممسكًا على فكرته مبحرًا بتفعيلته لبيت القصيد بشكل فائق، فذلكم الجهبذ كما يقولون! وإن الأحداث داخل بنية القص تصاعدية متجهة ناحية الحدث الأكبر لتضاء وتسطع لحظة التنوير، ألا يتطلب ذلك انتقالًا من تفعيلة لأخرى!؟ ولا نقول بأن القاص سوف يكتب الآن قصة شاعرة على بحر ما أو تفعيلة، كذا كما ذكرنا بعاليه، بل إن الفكرة التي انبسطت له واستقبلها بصدر رحب، هي ما راودت عنه قلمه؛ ليتسامى بألفاظها وعباراتها وسكناتها وحركاتها؛ حتى تنضج شاعرة مكتملة لعناصر القص.

 

• ولنا أن نتخيل ونحرك الذائقة الشعرية عندنا في قصة شاعرة، تبدأ ببحر البسيط مستفعل فاعلن مستفعلن فعلن، "كأن نقول: إن السقيم لبابه يعرج الأمل، ( فتفر البأسات - مفاعلين فاعلات)، وذلك من بحر المضارع مثلًا، أو أن نقول مثلًا: (فتسطع للآمال يواقيت مفاعيلن مفاعيل، وأما عن كلمة (تسطع) جاء للربط بين كِلتي التفعيلتين، وهذا مجرد اجتهاد للتمثيل ليس إلا، على سبيل التقريب والمشابهة.

 

• إن تذوق القاص للشعر شأن رائع، فلربما كانت الذائقة الأدبية لديه كقاص أشد ميلًا للشاعرية عن السردية، فتمخَّضت عن جنس قصصي استوفى عناصره القصصية، ناهيك عن شاعرية النص ذاته التي تُكسبه مكسبات طعم ومذاق الشاعرية.

 

الرمز والدلالة:

في فن كتابة وصياغة القصة القصيرة لا يستوجب وجود رمز أو دلالة معبرة عن قرائن إن كانت حكائية شبه مباشرة، ليس بها من ألغاز محيرة، فتسرد مشهديةً سَلط القاص عليها أضواءَ قلمه، فهذا نوع من القصة، وهناك من يقحم في سردية قصته الرمز والقرينة؛ ليشغل رأس وفكر المتلقي، وهذا وارد، ورائع في السياقات القصصية، وكذلك القصة الشاعرة هي بين بين، ولكنها أكثر ميلًا لوجود رمز يستخدمه القاص على مستويات متفاوتة، أو حتى متقاربة للتعبير عن دلالة رسخت في أخلاد القراء، وسؤال يلقي بنفسه على قارعة النقاش:

• لِمَ يستحب الرمز داخل القصة الشاعرة؟!


القصة الشاعرة خروج عن المألوف السردي، وتفوُّق في جاهزية العرض لدرجة الشاعرية ذات الإيقاع والأجراس، والرمز بدلالته منعطف خطير داخل البنية السردية؛ فإما أن يجيد السارد اختياره على نحو من رضا المتلقي وقناعة منه أنه تخيَّر الرمز المناسب المذهل في الوقت ذاته، وقد زيَّن له الزينة وأحسَن تكوينه، فسمات وثقافة العربي الأدبية تختلف عن الغرب في يقينه أن لديه لغة ذات بيان لا يقاربه آخر، وقريض لا يساويه مناهض، فيُحسن سبكتها، ويتقن صناعتها، ويجعل من الطبيعة حوله رموزًا للقيم ودلالات عن أخلاقه وصفاته، وتقلُّبات حياته ما بين الصفاء والكَدر، ورغد العيش ومَسغبة العَوذ، فانتقى الرمز لما له معاينة ومعاصرة يومية، واستدعى الطبيعة؛ لتكون له معينًا يضرب بمكوناته أفضل الدلالات، ويُشاركه المتلقي نفس الشعور، فكلاهما في صُنعه شركاء متضامنون، وعلى ضربه مثلًا متفقون، إلا من جاء برمز لم يَعْهَدوه، فعليه الإفصاح؛ حتى لا تضيع الفكرة في غيابات العرض المبهم والسرد المغلوق.

 

• وفي دراسة الباحث السيد عبدالصمد المحاضر بنادي الأدب المركزي بالمنصورة – مصر جماليات القصة الشاعرة محمد صادق الدمياطي نموذجًا، تطرَّق لمثل ذلك مشكورًا في بعض مما نُشر لي في هذا الصدد، أقصد الرموز والدلالات داخل البناء القصصي للقصة الشاعرة بالنظر في قصة "اثنتان" / شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة تاريخ النشر / تاريخ الإضافة: 8/12/2015 ميلادي - 25/2/1437.

 

• وفيها حدد "صادق " خصائص قصته بالتكثيف، وبنية الرمز وتوظيفه، والانفتاح على كثير من الدلالات، والالتزام بالتدوير بالإضافة لشيء من "التفعيلة الشعرية"، معبرًا عن مفردات الحياة اليومية والتجربة الحياتية للإنسان في ممارساته اليومية، من خلال قصة هاتين الفتاتين بصمتهما وبالهمهمة والإبهام من حوليهما، وشخصيات هذه القصة غير محددة الأسماء أو الهوية، وتغلب عليها الشخصيات النسائية، وقد جعل "صادق" من الجمادات فيها أشباه أبطالِ لقصته، فأضفت على قصته مسحة إنسانية، لم تكن القصة الشاعرة أبدًا مزيجًا بين فني القص والشعر؛ ليكون الناتج مجرد الجمع بينهما، وإنما هي ناتج من تفاعل ذهني بين الجنسين، ليكون الناتج عنصرًا جديدًا يختلف في خواصه عن خصائص العنصرين المكونين له[6]، والرمز قد يختلف من بيئة إلى بيئة أخرى بحسب ما شاع عنه من مفهوم ومرجعية، فمثلًا المشتركات اللفظية حول كلمة أو مفردة واحدة، قد تختلف باختلاف الثقافات والبيئات، ففي لسان العرب مثلًا "كلمة الأيهم" تعني البلد الذي لا علم به، أو الجبل الصعب الصعود، والأصم أو الشجاع، أما عند أهل الحضر "الأيهمان، فهما السيل والحريق، وعند الأعراب الحريق والجمل الهائج؛ (لسان العرب)، فالاختلاف في دلالة الرمز وإن قلَّ، فإنه يستدعي من القاص أو السارد خلفية معرفية؛ حتى يواكب الرمز الدلالةَ المرجوة.

 

وفي قصتي المنشورة الفأس والكأس / شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة/ تاريخ الإضافة: 29/8/2022 ميلادي - 1/2/1444 هجري / - عوَّلت على رمزين من رموز شاعت بين الناس؛ لتصف وضعًا مزرِيًا بانشغال الناس وتهافتهم على عديد طرائق العولمة المتعددة قليلة النفع منها، كثيرة الأضرار، ومثلت ذلك بالكأس؛ لِما له من دلالة الراحة والاستمتاع ثم الفأس، بما ينسدل تحت دلالته من تنبيه للخامل والكسول، وفي كلا الرمزين، وهذا التقابل بينهما قد صنع فكرة القصة والهدف التربوي والأخلاقي منها "فتراه وهو يقصص على جده حالة الناس من بعد الإصابة بهذا المكروب الذي يتنامى بسرعة تفوق سرعة الصوت:

(جُل الناس وربِّ الناس كأنهم قد أُشرِبوا كأسًا مُتْرَعة من لذَّات خمر العولمة، يستفتحون بعوالم الافتراض وقلوبهم مُفعمة، ويستبشرون بلمع آل، وللسراب نواتج مفجعة! ويسود صمت الخائفين من الواقعة! حتى النيل الذي انتعش تراجع وانحسر، يُجافي شُطْآنه ذوات العشق والولَه! لكن جَدِّي سرعان ما انتفض فيضرب بعصاه النهر:

• أتْمِم منامك يا ولد!

 

• حتى إذ انشطر النهار وانبرى في العريكة معظمه، كانت سيَّارة قد جاءت مزركشة الجوانب والحواف، عليها من الكؤوس مصاف ذوات ألوان وأطياف، يعلو بها الماء ليروي حلوق العطاش بَيْدَ أنها فارغة، ويُنادي المنادي:

• يا أيها الناس، قد جئناكم ببضاعة مُزْجاة وكؤوس مدلاة! ولا نسألكم لقاء الكؤوس التي تاقَتْ لأجلها النفوس أشياءَ عزيزة، فمن كانت له فأس قديمة فَلْيُعرنا إياها! فقليلة هي البضاعة، فالرابح الرابح مَن يجعلها من متاعه)[7]، كما أن توظيف شخصية (الجَد) عندي، وقد استعملتها في عديد من الكتابات التي يوفِّقني الله لكتابتها، لتؤصِّل لحكمة الموروث وعراقة الماضي، وانتقاء الصالح وغربلة الرأس العربية مما شابها من آثام العولمة والانحراف عن ماهية الحضارة الحقيقية!

 

وأحيانًا يكون الرمز هو العنصر الرئيسي داخل البنية السردية القصصية، وحوله يدندن السارد ويُموِّج هالات الأحداث التفافًا حول هذا الرمز، وقد وفَّقني الله عز وجل لانتقاء رمز داخل قصتي "الشراع الأحمر" الذي أثار جدلًا مع جملة ممن عرض عليهم، فمنهم من رأى أن الشراع في حد ذاته كرمز مقبولٌ، ومنهم من رأى أن اللون غير شافع للتعبير عن دلالة مرادي من الفكرة، لكنني بيَّنت لهم أن اللون في ذاته له دلالة قوية عن الهوى وشغف الناس بالدنيا، وانخراطهم في نعيمها، وأريحية الخلود لمشتهيات العولمة، متخذًا من الحصن الأزهري الإسلامي، والوعاظ على اختلاف مواطنهم منبرًا لي، ودعمًا لِما فيه صلاح شأن الإنسان والمجتمع كله، وهذا مقتطف منها: ((ناهيك عن شِراعِها الأحمر المذهل، لونه القاني الْمُضْرَج بصبغ الدم المهراق، وصفرة الوجوه الواجفة من معاصرة الانكسار، أو الأرجواني المحاكي قدوم المساء، وأنظار كثير من الناس تتطلع إليها باشتياق، وأقدامهم تتقلع في صَبَبِ الاستباق، وهي بين الحين والحين تَزْعَقُ بصوت كأنه البُوق يحفِّز للحاق، وذراعا أمي تمسكان بي مخافة الإفلات))، والرمز من ابتكارات القاص وفطنته، يَضعه في مقدمة سهمه السردي، فيصيب به من يروق له هذا الاختيار، ولا يلقي بالًا لمن يراه غير ملائم أو معبِّر، أو غير ذي دلالة!

 

الصور والأخيلة:

لا يكاد يخلو منها نص راقٍ شعرًا كان أو نثرًا، أو حتى مقالةً بكافة صورها، فهي أداة التكثيف الأقوى، ومحور التخفيف عن كاهل النص من تثاقل المفردات وتعاقب المترادفات على متون السطور، وتقطُّع الشطور على فعل وفاعل ومفعول، وظروف للزمان وأخريات للمكان، فضلًا عن الشخوص؛ إذ تعالج الصورة ومعها الخيال كثيرًا من ذلك، فيبتكر السارد فيها صورًا حِسية وجمالية تصنع على عين الكاتب وإحداثيات قلمه، فيُحيل المتلقي من حالة إلى حالة، مراعيًا ألا تتجاوز الصورة أو سحابة الخيال عنده سقوف الثوابت والقيم، ولما كانت الصورة في الشعر مرجوة بترًا للمباشرة، وتلخيصًا للمحاضرة، وتتويجًا للاجتهاد والإبداع، فإن القصة على اختلاف مناحيها يجملها مثل ذلك، شريطة ألا يكون على حساب العناصر والمضمون، وكذلك القصة الشاعرة تتوق لقاص سارد يستطيع بصورة جيدة يضيء جنبات لحظة التنوير، وأن يحير المتلقي حيرة يهواها ويرضاها، فيمْعن في فك رموزها، ومعي مثال بسيط من قصة مِن "سجايا الغروب" التي نُشرت بشبكة الألوكة العربية: شمس النهار التي شرعت في الاتشاحِ بلون الأصيل، قد أشاحت بوجه الحرور عن نسائم صيف ناعمة قادمة، لتعيد تمشيطًا لشجرة صفصافتنا القديمة الكائنة بين ساقية جدِّي المعطلة من زمن بعيد، وعليها نقش لثور ذي قرنين توشك معالم رسْمه أن تختفي من تعاقب الشموس على الكواكب[8]، وفي تلك الصورة قد اكتمل عنصري الزمان والمكان، مع تصوير لشمس الصيف الحارقة بمن يُشيح بوجهه عن إساءة منتظرة منه لحضور ما هو مرجو ومطلوب؛ كنسائم الصيف الناعمة فيها تجسيم وتكوين، وقبل أن نغادر لآخر مقومات استشعار للسياق الشعري داخل البنية القصصية، أنقل لكم مشهدًا من قصة الفأس والكأس، وهي صورة عكستها مرآة الخيال عندي، وأتمنى أن تحكموا بالعدل فيها؛ من حيث الجودة والسطوع ومحاكاة الحالة، وهل وفِّقت بها أم لا، (حتى إذا انشطر النهار وانبرى في العريكة معظمه، كانت سيَّارة قد جاءت مزركشة الجوانب والحواف، عليها من الكؤوس مصاف ذوات ألوان وأطياف، يعلو بها الماء ليروي حلوق العطاش، بَيْدَ أنها فارغة، ويُنادي المنادي:

• يا أيها الناس، قد جئناكم ببضاعة مُزْجاة وكؤوس مدلاة! ولا نسألكم لقاء الكؤوس التي تاقَتْ لأجلها النفوس أشياءَ عزيزة، فمن كانت له فأس قديمة فَلْيُعرنا إياها! فقليلة هي البضاعة، فالرابح الرابح مَن يجعلها من متاعه![9]. هو تصوير وتخيُّل، حتى ولو كان من التخيلات الذاتية لشكل وصبغة العولمة ذات الطغيان المؤثر، بدون قوة الفرض لكن ببراعة العرض!

 

التناص والموروث الثقافي:

وأما عن التناص فقد آثرت أن يكون أخيرًا تقديرًا لعِظم دور ما سبَقه من مقومات هي الأساس، وإن كان التناص في ذاته شاعرية للسرد، وبهجة للقص وعودة بالمكتوب لجماليات الموروث، وعلى ذكر التناص وحيويته داخل النسق القصصي ذي الطابع الشعري، فقد ذكرت في دراستين متصلتين بعنوان التناص من دواعي البيان 1 و2، بين الدراسة الأولى والثانية ما يربو على ثلاث سنوات، لاعتبار هذا الشكل الأدبي مقومًا قويًّا في إبراز قيمة الموروث الذي هو من أساسيات الانعطاف ناحية القصة الشاعرة، واكتمال بدر تمامها، فذكرت والله المستعان: التناص من دواعي البيان1.

 

((التناصُّ إعلاء من شأن البيان، ودَرب من دروب البلاغة، تُزيَّن به صفحاتُ الكاتب، ويُظهر العمقَ الثقافيَّ والمسكوت عنه مِن ثقافة المبدِع، يتحقَّق منها القارئ والمطَّلِع، وفيه إظهار لمفاتن السرد ومباهِج الحكمة، وتحوُّل من المباشرة في الكلام إلى الالتفات وإظهارِ هُويَّة الذات، وربط بين مشتقَّات الإبداع، فلا يوجد نصّ وليد الساعة، فهو موروث رغم أنف كاتبه وإن أبدَع فيه وزخرفه... وإنَّ التناصَّ من موجبات الاستشهاد، وتقوية النص المكتوب، وصيانة النصِّ المنقول عنه، فلا يظُن كاتب أنَّه الألمعي المتفرِّد؛ فمَردُّ كل جميلٍ وبيان إلى القرآن الكريم، وما على الكاتب من حرَج إن أظهر ناحية التناص عنده وبيَّن للقارئ بأمانة من أين اشتقَّ ووثَّق كلامَه، فعندها سوف تذهب عنه الملامة، ولا يُرمى بصفة السارق ليقام عليه الحدُّ، وساعتها لن يثق بكلامه أحد حتى ولو أخلَص وتَخلَّص ودقَّق وأمعَن في البيان، فما أروع أن أقول: اقتبستُ من فلان وفلان، وما أفضل أن أكون أمينًا طيِّبَ القلم مصونًا![10]. والتناص كما ذكرنا يكون من عال إلى أدنى؛ كتناص من القرآن الكريم على نظم ونسق الآيات، مع الأخذ في الاعتبار أداب التناص وعدم النزول بالنص المقدس نزولًا لا يليق، وكذلك من الإبداع التناص بالزمان وبالمكان وبالحدث ذاته، فيوقظ في أذهان المتلقي مرجعية سابقة لتراثنا العربي الأصيل، وأكثر مثال يحضرني الآن ذكره هو قصتي الشاعرة (انفراجة) التي اختتم بها تلك المقومات اللواتي يسوقنا النص القصصي إلى معراج الشاعرية بلغة بليغة ورمز معبر، وتكثيف غير مبهم، ودلالة معرفة ومشوقة، وصور رائقة لا غَول ولا ريب، لعل القارئ يسعدنا بمروره الكريم من خلال رابط القصة المنشورة بشبكة الألوكة العربية الكريمة.

 

(انفراجة: ضاقت، ولَمَّا استحكمت، أسلمتْ خدَّها العفيفَ لكفِّها الصِّفرِ؛ صُنع أمها "حواء"، وما كان آدمها يومئذٍ هناك، فصارت بين يوم وليلة ربانًا للسفينة ببحر الحياة! نظرت حولها فلم تجد مِن رقيب سوى الرقيب، فكبَّت له كؤوسًا من مدامعها، حتَّى إذا جفَّت قناتها، كفكفت بطرف الثياب مَجرى الدموع، فجأة سقطت في حجرها تَمرة منسية من زمن الحصاد لباسقات النخيل اللواتي وضعْنَ حملهنَّ مِن زمن، ابتسمت ولقد هَمَّت بها، لولا أن تذكرت أنَّ لذة إطعام الصغير أشهى وأحلى، فقبضَت عليها تنتظر قدومَه.

 

• من القادم؟!

 

جند الملك وقائدُهم يبحثون له عن تمرة علاجًا لولده المريض كما أمر الطبيب، ألقتْها إليهم خشية أن تُتَّهم بحوزة الممنوع!

 

• قيل لها: أتلك آخر تمرة بالنَّخلة؟!

 

قالت: كأنها هي، وما أسقطتها عن أمري، ذلك ما فعلته الريح!

 

ألقى القائد في حجْرها كيسًا من نقود، وقال لمن حوله:-

فلتَصنَعوا صَنيعي، فلولا تمرتها لكيَّل لنا الملك بما يكفي؛ التفَّتِ الجارات حولها يسألْنَها:

كيف حدث هذا؟!

قالت: ويحكنَّ؛ إنَّ رحمة الله قريب! إنَّ رحمة الله قريب[11].

 

وفي القصة تناص متلاحق سواء كان بالعبارات والألفاظ القرآنية مرة، وأشعار السلف مرة أخرى، (ضاقت، ولَمَّا استحكمت) تناص من صدر قصيدة الإمام الشافعي رضي الله عنه، وأيضًا تناص بالعبارات القرآنية، (باسقات النخيل، وضعْنَ حملهنَّ - ولقد هَمَّت بها، لولا - كأنها هي، وما أسقطتها عن أمري، ثم تناص بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [الأعراف: 56]، لا يشترط في إبداع التناص نقل الحافر على الحافر، كما كانت تقول العرب، مع تقدير النص الأصلي المتناص عنه إجلالًا وإكبارًا، وأما عن التناص بالحَدث، "فهو ما ركزت فيه على إطلاق لحظة التنوير وحلِّ العقدة نفسها متناصَّة ومقتبسة، مما ورد في الأثر عن قصة "حاتم الأصم" الذي أراد الحج وكان كثير العيال قليل المال، ومر الأمير وجنوده وشاء الله أن يناله شيء من العطش، فشرب من دارهم واستعذب الماء منهم، فطلبه مرة أخرى حتى ارتوى وأجزل لأهل بيت حاتم العطاء، بل حثَّ جنده على العطاء مثلما بادر هو، وهذا التناص بالحَدث يغير واجهة المتلقي، ويرسله إلى بعيد؛ حيث الموروث والقيم التي كان عليها السلف.

 

• لذا فأصالة عن نفسي لا نيابة عن أحد إلا لمتفق معي، فيما أعتقد أن جماليات النص المعاصر أيًّا كانت هيئته لا تكتمل بدون اتكاء على موروث ثقافي ومرجعية لغوية، ونص أعلى وأحاديث السلف، وإن اعتراها التلف وتقادم بها العهد، فلا يزال لها بريق من أصالة وجزالة ودقة تعبير ووصف حالة؛ لذلك صدَّرت أول ملمح من ملامح استشراف وإشراق القصة الشاعرة باللغة، فهي كما ذكرت، وما أراني ذكرت من أفضالها معشار ما يجب ذكره.

 

• فيا أيها المثقفون وأرباب الكلمة والبيان، ألا يكفيكم من ذكر فضائل لغتكم قول ربكم مرة: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [يوسف: 2]، وقوله تعالى ردًّا على افتراء أهل الباطل بأن أعجميًّا يعلم النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم! نافيًا ذلك سبحانه ومؤكدًا بقوله: ﴿ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103]، وقوله تعالى: ﴿ قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ﴾ [الزمر: 28]؛ أي: جعلناه قرآنًا عربيًّا، واضح الألفاظ، سهل المعاني، خصوصًا على العرب، والكثير ما بين التصريح والتلميح وما يعقله إلا العالمون، فبأي حديث بعد هذا تؤمنون؟! وأنتم المختارون وأرباب البيان، ولقد تعلمون أن أياديَ خفية تسعى كما الأفعى لطمس الهوية والنيل من العربية بشتى الطرائق، وأراني قد أسهبت كثيرًا واسترسلت حتى مَلَّ القارئ سطوري.

 

• إنني حينما نظرت بعين مستبصرة لمقالة عابرة علميةً، كانت بعدد كتاب التحرير/ الصادر عن مطابع شركة الإعلانات الشرقية 1963 م 1383 هـ مصر/ وكانت تحت عنوان (العلم للجميع)، ولها عنوان فرعي مدهش لنا الآن، وهو قوله تعالى بسورة الأعلى: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ﴾ [الأعلى: 6]، والمقال علمي من الدرجة الأولى، لكن صائغه طوَّع لغته العصماء للإدلاء بجمال اللفظ، ورقة المعنى للتعبير عن قيمة العلم، واستساغة المعروض أيًّا كانت النظريات والفروض، فيقول: "في مفتتحه ((إنه مَعرض عرضه كعرض الدنيا، وطوله كطول الزمن، عدد قاعاته يزيد عن المائة، ويَصحبك منها عالم مختص، يصف لك الخبيء ويشرح لك الخفي، ثم ننتقل سريعًا لتناص جميل له من آي الذكر الحكيم، وهو يصف حال صبي نشأ على مقربة من إحدى البحيرات، فيقول: فهل أتاك حديث الصبي الذي وُلد ونشأ، وشبَّ على قربٍ من إحدى البحيرات، فتعلم السباحة وهو ناعم الأظفار طري الإهاب، وأخدته العزة بما علم وهو طفل غرير[12].

 

• الشاهد أن قومًا سبقونا للإيمان بعظمة تلك اللغة، وعرفوا كيف يوظفون مفرداتها، وأن يتناصوا من فرائدها تخرج من مطويات السطور، فيسطع بديع السرد ورقة النثر؛ حتى ولو كان الكلام على نحو من الحقائق العلمية، لكن جمال اللغة أكسَبه صبغة أدبية ومسحة بيانية، خفَّفت من وطأة الحقائق على أفهام المطلعين، فسبحان من أولانا تلك اللغة، وعلَّمنا مالم نكن نعلم، وكان فضل الله على العرب عظيمًا.



[1] التراث والنبراس (4) ثبوت بدر القصة بجزيرة العرب شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / اللغة.. والقلم / الوعي اللغوي / محمد صادق عبدالعال.

[2] فجر القصة المصرية / يحيى حقي / المكتبة الثقافية /الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986ص 20.

[3] شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية / جماليات القصة الشاعرة... محمد صادق - الدمياطي نموذجًا / السيد عبدالصمد.

[4] مجلة بن خلدون للدراسات والابحاث / القصة الشاعرة ومحدداتها الفنية والجمالية: دراسة تحليلية تطبيقية على مجموعة انسكاب القصصية للشاعر علي الشيمي / شبيب محمد الدوسري حاصل على درجة الماجستير في الأدب، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، المملكة العربية السعودية https://www.benkjournal.com/article/view/205

[5] خيال ظل بالكتب! شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة / محمد صادق عبدالعال.

[6] جماليات القصة الشاعرة... محمد صادق - الدمياطي نموذجًا/ شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية / السيد عبدالصمد.

[7] الفأس والكأس / شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة/ تاريخ الإضافة: 29/8/2022 ميلادي - 1/2/1444 هجري/ محمد صادق عبدالعال.

[8] من سجايا الغروب / شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة/ تاريخ الإضافة: 23/2/2022 ميلادي - 21/7/1443 هجري.

[9] الفأس والكأس / شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة/ تاريخ الإضافة: 29/8/2022 ميلادي - 1/2/1444 هجري/ محمد صادق عبدالعال.

[10] التناص من دواعي البيان / شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية / محمد صادق عبدالعال / تاريخ الإضافة: 9/9/2015 ميلادي - 25/11/1436 هجري.

[11] انفراجة! (قصة قصيرة)/ حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة/ تاريخ الإضافة: 21/1/2016 ميلادي - 10/4/1437 هجري

[12] كتاب التحرير /21/ ملحق العلم للجميع / الصادر عن مطابع شركة الإعلانات الشرقية 1963م 1383 هـ، مصر ص/1-2.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • صاحب الكوب (قصة)
  • أوبة (قصة قصيرة)
  • الدرس (قصة قصيرة)
  • الفأس والكأس
  • حلقات مفقودة: ثلاثية سردية

مختارات من الشبكة

  • القول الفصل في نظم باب الفصل والوصل (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة القول الحسن في جواب القول لمن (نسخة ثانية)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة القول الحسن في جواب القول لمن(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • نسبة القول أو الفعل إلى الله تعالى وهو قول أو فعل الملائكة بأمره(مقالة - آفاق الشريعة)
  • القول الأكمل في معنى قول الناس غدا أجمل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • القول في صفات الله تعالى كالقول في ذاته(مقالة - آفاق الشريعة)
  • القول في بعض صفات الله تعالى كالقول في البعض الآخر(مقالة - آفاق الشريعة)
  • القول ببدعية صيام الست من شوال: قول باطل(مقالة - موقع الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري)
  • القول الفصل بشذوذ لفظة لم يعملوا خيرا قط (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • القول الفصل في أكثر مدة الحمل (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 21/11/1446هـ - الساعة: 10:16
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب