• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

ذكرياتي في السودان (3) يوم الأحزان

ذكرياتي في السودان (3)
عامر الخميسي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 30/8/2022 ميلادي - 2/2/1444 هجري

الزيارات: 4004

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ذكرياتي في السودان (3)

يوم الأحزان

 

لم أكن أعرف أن بعد يوم العيد البهيج سيكون يوم شديد عليَّ؛ بل من أصعب الأيام في حياتي، سيكون يوم صاعق بالفجيعة وجالب لي الحزن العميق والأسى المستطير، لقد كان يوم الفراق والرحيل، وستطلع شمسه على رحيل أعز من عايشت، وهكذا حياتنا كما قال الشاعر:

فيومٌ علينا ويومٌ لنا
ويومٌ نساءُ ويومٌ نُسَر

 

لقد امَّحى جمال العيد، وذبلت نضرته، واختفت بسمته، وغابت فرحته مع صباح اليوم الثاني للعيد.

 

غفوت ذلك الضحى، وفي الساعة التاسعة تقريبًا أو التاسعة والنصف استيقظتُ لتناول طعام الإفطار والتيهيُّؤ لبرنامج عيدي آخر وزيارات أخرى ضمن إطار جدول العيد، فتحتُ عيني وبدأت بالحمد وتناولتُ الهاتف، وإذا بي أفتح على رسالة أحد الإخوة ممن يعملون في السعودية، وهو حبيب إلى قلبي، وكنتُ معه في غاية الانسجام؛ لكن بعد أن داهمني برسائله ذلك الصباح ما عدتُ أنفتح معه كما كنتُ من قبل، ولربما تبقى رسائله أيامًا قبل أن أفتحَها بسبب خبره ذلك الذي حمله إليَّ...أذكر أنه قال لي: السلام عليكم، ولم يقُلْ لي: كل عام وأنتم بخير، أو يُهنئني بالعيد، فشعرتُ أنه يحمل لي خبرًا غير سارٍّ اقشعرَّ له جلدي، واضطرب له قلبي؛ لكن إلى الآن لا أدري ما الخبر؟


قال: يا عامر، قل الحمد لله، فتوقَّفَتْ أناملي برهة، وداخلتني ريبةٌ عجيبةٌ؛ فهو أولًا قال: السلام عليكم بكل اختصار، ثم لم يُهنِّئ أو يسأل عن الحال؛ وإنما بادرني بالأمر بعد دقيقة تقريبًا.

قلتُ: الحمد لله.

قال: أخوك عليٌّ في ذمة الله!

 

وكنتُ قد سمعتُ الناس يقولون في "ذمة الله" وما أكثر ما سمعتُ هذه اللفظة من صغري إلى الآن؛ لكن حينها نسيت كل ما مرَّ عليَّ من حروف هذه اللفظة، أصبحتُ أُميًّا؛ بل طفلًا لا يفقه هذه الأحرف.

♦ ماذا تقول؟

♦ أنت تمزح وإلا جد منك؟

♦ أين أنت؟

♦ مَن أخبرك؟

بعد الأيمان..

أين؟ وكيف؟ ومتى؟

وفي العيد كذلك؟!

اللهم صبرًا، اللهم جبرًا، اللهم قوة.

 

وأصبحت أضرب أخماسًا بأسداس حالي:

إنَّ الرَّزيَّة لا رَزِيَّةَ مثلها
فِقدانُ كلِّ(أخٍ)كضَوءِ الكَوكبِ

 

وإلى الآن منذ خمس سنوات وما بَرِحَتْ نفسي تُسائلني في أسًى وحرقة وأسف وكمد كأنَّها غيرُ مصدِّقة لفِراقه: أحقًّا لن أسمعَ صوت أخي الحاني؟ أحقًّا لن يجمعَني به مجلسُ أُنْسٍ وسَمَرٍ تنزاحُ به عن نفسي همومُ الدُّنيا وأكدارها؟! ولن أتطارحَ معه الرأيَ، وأتجاذبَ أطرافَ الأحاديث في ليلة أشرق نورُها وفاض سرورها؟! لقد بقيت أردِّد قول الشاعر:

وكلُّ جديدٍ أو شبابٍ إلى بِلًى
وكلُّ امرئٍ يومًا إلى اللهِ صائرُ
وكلُّ قَرينَي أُلْفةٍ لتفرُّق
شَتاتًا وإن عاشَا وطالَ التعاشُرُ

 

وأصبحت أردِّد بيت الشافعي:

وَمَنْ نَزَلَتْ بِسَاحَتِهِ الْمَنَايَا
فلا أرضٌ تقيهِ ولا سَماءُ

 

إنَّ شقيقي عليًّا هو أول من فقدناه في أسرتنا منذ أول ما وعيت، نعم توفي لي شقيقٌ في صغره قبل أن آتي أنا وعليٌّ إلى هذه الحياة- أي قبل خمس وثلاثين سنة تقريبًا- حيث توفي وهو ابن سنتين، وكان جميلًا ولا سيما ضحوكًا، بهي الطلعة، ممتلأ، كثير الحركة، يختلف تمامًا عن أقرانه وأترابه، فرآه أحد كبار السِّنِّ، فنظر إليه نظرةً غريبةً، ثم قال كلمة مدويَّة، فأخذَتْ الولدَ حُمَّى غريبةٌ، وما نام تلك الليلة إلا في قبره!

 

جاء أخي عليٌّ إلى الحياة بعد أختين، ثم جئت بعده، ثم كان عبدالرحمن وأسامة وعائشة والزهراء، وعِشْنا لا نُفكِّر فيمن سيُخطَف الأول، ولا كان موت أحدِنا على بال أيٍّ منا؛ لكن هو كما قال الشاعر:

هو الموت عضبٌ لا تخون مضاربه
وحوضُ زعافٍ كلُّ مَن عاشَ شارِبُه
وما الناسُ إلا وارِدُوهُ فسابقٌ
إليهِ ومسبوقٌ تخِبُّ نجائِبُه

 

الراحلون بلا شكٍّ يُشعروننا بألَمٍ عميقٍ وعجزٍ كبيرٍ؛ ألَم نتجرَّعه بفقدهم، ويحاصرنا ذلك الفراغ في أرواحنا نحوهم، وهذا العجز هو الإيمان في حقيقته، إنَّه قوَّة فوق كلِّ شيء، متجاوزة لكلِّ سبب، وقد يموت الإنسان بسبب وبلا سببٍ، وبما هو ضد السبب فإذا انتهى عمره سقطت ورقتُه وقُبِضَتْ رُوحه، لا بقاء لأحدٍ في هذه الدنيا مهما طال صيتُه وعظُم شأنه، كُتِب الفناء على مَنْ في هذه الدنيا، وقدَّر ربُّنا على الكلِّ قدرًا نافذًا ماضيًا لا يمكن أن يتجاوزه أحد.

 

لفظ الموت أجوَفُ واويٌّ، ولأنه أجوف فهو يبتلع إلى جوفه أبناء الدنيا ويُغيِّبهم، ولأنه واويٌّ فهو يلتفُّ على الحي كالتفاف الواو فتلتف حينها الساق بالساق، ثم يكون إلى ربِّكَ المساق، وقد عرفه العلماء بأنه ليس بعدَم مَحْض، ولا فناء صرف؛ وإنَّما انقطاع تعلُّق الرُّوح بالبدن، ومفارقته وحيلولة بينهما، وتبدُّل حال، وانتقال من دار إلى دار، وما هذا العمر إلا صفحة سوف تنطوي بهذا الزائر الأخير:

وما العمر إلا صفحةٌ سوف تنطوي
وما المرء إلا زهرةٌ سوف تذبلُ

 

ولا أقطع لطرق الآمال كالموت، وقد كان حالي وأنا أُمنِّي نفسي دومًا بلقاء أخي:

وكنتُ أداري بالرجاءِ مشاعري
ولي أمَلٌ أنَّ اللِّقاءَ سَيَحْصلُ
فمدَّ إليه الموتُ كفًّا قويَّةً
فأيأَسَنِي مِنْ حَيْثُ كُنْتُ أؤملُ

كنا أربعة إخوة كأربعة عصافير طار أحدنا ورفرف عاليًا بجناحيه مودِّعًا لنا بلا رجعة.

 

لا أنسى مولانا سيف الدين أرباب القاضي السوداني ومواساتاه ولطفه، فقد عزم عليَّ أن نذهب تلك العشية إلى (حلة كوكو) على سيارته لشراء اللبن، وكان في الطريق يسكب عليَّ من كلماته ما يُزيح الآلام، فلكأنه أخٌ لي من زمن بعيد.

 

لا أنسى مجلس العزاء الذي أقامه الدكتور خالد جياش في بيته اليوم الثاني؛ أي: ثالث أيام العيد، وكان من الحاضرين د. قائد بادي، ود. حسام الأحمدي ود. خالد الشجني، ود. الجالدي، ود. أحمد حربة، ومولانا سيف، ومَنْ لا أذكرهم الآن، وألقى الدكتور قائد كلمة بيَّنَ فيها حقيقة الموت الذي لا مفرَّ منه ولا مهرب، وأن حياة المرء في دُنْياه أيام، وأنه من الشرف الكبير أن يموت المرء مدافعًا عن دينه وعقيدته، وأن للإنسان عمرًا لا يتخطَّاه، وبيَّنَ فضل الصبر وأجره؛ فكانت كلماته بردًا وسلامًا.

 

بعد مجلس العزاء كان عليَّ أن أودِّع مضيفي، وأنتقل إلى سكن المعالي، وهو سكن طلاب الدراسات العليا في شمبات- منطقة بحري وسط الخرطوم- وكان بصحبتي حسام وخالد، وكانت تنتابني موجات الحزن طيلة الطريق، وهما يهوِّنان عليَّ، لا أنسى أنا نزلنا أمام أحد محلات عصائر (المانجو) وقد سبقاني بخطوات وشعرت حينها بدوار، فوجدتُ عمودًا استندتُ عليه، ودارت بي الدنيا فلم أشعر بشيء، ففقداني في الزحام، وعادا يبحثان عني، ورآني حسام، فهرع إليَّ ولم أستطع الرد عليه بغير الدموع، فاحتضنني طويلًا، وجعل يقول لي: إلى متى الحزن؟

 

هذا قدر الله، أما عهدناك قويًّا؟ وجعل يكلمني طويلًا، فأين لي بذلك العمود الذي استندتُ عليه حتى أبوح عنده بما يتردَّد في الصدر وتعتلج به المشاعر!

 

ثم إنه أخذ بيدي ومشينا بضع خطوات، وجلسنا في تلك الكافتيريا، وقدَّم لنا صاحبها عصيرًا باردًا لا أنساه، وعادة إخوتنا السودانيين أن يكون كأس العصير كبيرًا يكفي ثلاثة، وهذا من كرمهم، فجلسنا قرابة نصف ساعة، وكنتُ أقول: متى ينتهي هذا الكأس، وطيلة الجلوس كان الحديث عن القوة التي لا بُدَّ أن تكون رفيقةً للمسلم في الأزمات.

 

لقد عِشْتُ بعد وفاته شهرًا أرتع في بساتين الذكريات معه، كيف دَرَجْنا إلى الطفولة، وكيف دخلنا المدرسة، وأمُرُّ على أجمل الذكريات التي عشناها معًا، ومغاني الطفولة، ومراتع الصِّبا، وكيف هي الحياة تمضي سريعةً كلَمْح البصر، وبقيت أردِّد مع الشاعر:

وما زِلْتُ أجري في الطَّريقِ ولَمْ تزل
متاعبُ هذا العُمرِ تركُضُ في أثري
إلى حيْثُ لا (وطنٌ رؤومٌ) ولا أخٌ
يُعينُ ولا حُرٌّ يُجير على حُرِّ

 

فالموتُ عاقبةُ كُلِّ حيٍّ، وختام كل شيء، ونهاية كل موجود- سوى الرب الملك الخالق المعبود - فالكل سيموت، إلا صاحب العِزَّة والجبروت، والموت طالب لا يعجزه مقيم، ولا يفلت منه زعيم ولا طبيب ولا حكيم، فهو قضاء نافذ، وحكم شامل، وأمر حاتم لازم نازل، وبعده يُجازَى كلُّ إنسان بما عَمِلَ في هذه الحياة الدنيا؛ كما قال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]، وقال تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].

 

قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: "نختبركم بالشدة والرخاء، والصحة والسَّقم، والغِنَى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهُدَى والضلال؛ أي: لننظر كيف شكركم وصبركم، ﴿ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ لا إلى غيرنا فنجازيكم بأعمالكم"؛ ا. هـ.

 

وأخرج الإمام أحمد بسندٍ حَسَنٍ عن أنس رضي الله عنه، قال: "لما قالتْ فاطمة ذلك، يعني لما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كرب الموت ما وجد، قالت فاطمة: واكرباه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا بُنَيَّة، إنه قد حضر بأبيك ما ليس اللهُ بتاركٍ منه أحدًا لموافاة يوم القيامة))؛ (السلسلة الصحيحة: 1738).

 

كتب لي أحد أساتذتي رسالةً تنضح بالمواساة، ثم ختمها برسالة سالم بن عبدالله بن عمر إلى عمر بن عبدالعزيز التي منها هذه الكلمات: "أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا لما أراد، وجعل لها مدَّة قصيرة، فكان ما بين أولها إلى آخرها ساعة من النهار، ثم قضى عليها وعلى أهلها الفناء، فقال: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]؛ (حلية الأولياء: 5/284)؛ فكانت رسالته بردًا وسلامًا على قلبي.

 

إن هذا العمر ما هو إلا رحلة تقطعها نحو الموت، والموت ما هو إلا سَهْم قد أُطلِق عليك، وبقاؤك في الدنيا بقدر مدة انطلاق السهم إليك، وما أصدق قول الشاعر وهو يتحدَّث عن العمر وأنه ما هو إلا رحيل؛ حيث يقول:

رحلت بي مراكبي لست أدري
أين يُلقي بنا العصا التسيارُ؟
رحلةٌ والزمان فيها محيطٌ
تاه فيه السَّفِينُ والبحَّارُ
عمرنا في مدى الحياة رحيلٌ
ليلةٌ تنطوي ويأتي نهارُ

 

يعلمك رحيل الأقارب أنك ضمن جدول الراحلين عما قريب، وأن الموت تخطَّاك وسيعود إليك، وهو نذير لك، يخبرك بالحقيقة المرة الغائبة التي لا تتخلَّف، كما يُعلِّمك الإسراع في التوبة، وتجديد العهد مع الله، والإنابة إليه، وإصلاح النفس من الداخل، والتخفُّف من التبعات، وتصفية الحسابات مع الخلق والخالق أوَّلًا بأول، وإيقاف عدَّاد التجاوزات الخاطئة، كما يُعلِّمك أن الحياة عمرها قصير فتُسرِع لإكمال مشاريعك الناجحة وعدم الكسل أو الفتور أو التوقُّف.

 

موت الأقارب يشعرك كم أنت مُقصِّر في حقِّهم وتتمنَّى أن لو فرَّغْتَ من وقتك للأُنْس معهم والحديث إليهم والسؤال عن أخبارهم وتلمُّس أوجاعهم واستخراج مكنونات مشاعرهم.

 

كما يُعلِّمك فَنَّ التسامُح، وأن تعيش بقلبٍ كبيرٍ يتجاوز عن الأحقاد، ويرتفع عن الدنايا، ويتجمَّل بالعفو والصفح واللين والمغفرة؛ لأن الدنيا عمرها قصير.

 

موت الأقارب يُشعرك بمدى أهميتهم وقربهم منك، وأنه كان من المفترض أن تُقدِّمهم على كثير ممن أوليتهم رعاية ومتابعة واهتمامًا، فخيرُكم خيرُكم لأهلِه، ومن الأولويَّات في حياة المسلم أن ينظر أولًا إلى أهله وإخوته وأسرته فيبثهم مشاعره، ويُوليهم اهتمامه، ثم بعد ذلك بقية الناس لا العكس.

 

وإن مما ضاعف المصيبة أن الفقيد لن أُلقي عليه نظرة الوداع الأخيرة، والأدهى أنه أيضًا لن يتمكَّن والدي ولا والدتي ولا أي فرد من أفراد الأسرة بوداعه؛ فقد دُفِن هناك في "العارضة" في جنوب السعودية بعيدًا غريبًا عن العشيرة والقوم والأهل والبلد حسبه أنه كان مدافعًا عن الحرمين الشريفين إذ كان في صفوف الجيش الوطني، فاخترقت رصاصة حوثية جسده فدُفِن ووُرِي هناك بعيدًا عن أهله وولده ووطنه.

 

كان يحزنني أكثر مشهد الأم المَكْلُومة وهي تتلقَّى نبأ فجيعتها في أكبر أولادها، ولقد كان والدي جلدًا صبورًا مُتسلِّحًا بالإيمان؛ لكن أمي عندما وصل إليها الخبر انهارت، ثم من شدة الحزن ما كانت تُحدِّث بغير الدموع، وظنَنَّا يومَها أنه ربما لن ينطلق لسانُها بعد ذلك أبدًا، وقد مكثتُ ثلاثة أيام أحاول الاتصال بها وأسمع كلامها لكن دون جدوى؛ فقد كانت تسمع فقط ولكن لا تستطيع الحديث ولا تقدر على الكلام!

 

لقد عشتُ وأسرتي عيدًا مختلفًا تمامًا عن كل الأعياد، ومن المؤلم أن بعض الأصدقاء الذين كانوا لم يعرفوا ما أنا فيه من حزن وعزاء تصلني رسائل أفراحهم وتهانيهم بالعيد، فرسالة أجد فيها التهاني، وأخرى فيها التعازي، وجعلتُ حينها أضرب كفًّا بكف حالي وحال الدنيا كما قال الشاعر:

بين الولادةِ والمماتِ مسافةٌ
ينأى بها الداني ويدنو النائي
قدموا إلى الدنيا فكُلُّ قصيدةٍ
في وصْفِهم مشحونةٌ بغناءِ
رحلوا عن الدُّنيا فكُلُّ قصيدةٍ
في وَصْفِهم مشحونةٌ ببكاءِ
وكذلك الدنيا يُودَّع راحلٌ
ويُطِلُّ مولودٌ على الأحياءِ
والناسُ بين مسلِّمٍ ومُودِّعٍ
ومُهنِّئٍ ومُقدِّمٍ لعزاءِ
أعمارنا فيها سِجِلٌّ حافلٌ
يقضي عليه الموتُ بالإمضاءِ

 

لقد وجدت أن أعظمَ ما يُذهِب الحزن، ويُسلي النفس العيشُ مع كتاب الله تدبُّرًا واستماعًا؛ فهو مصدر السكينة، ومنبع الرِّضا، ومرهم الجراح، لا كما يقول جيمس بونيباكر أستاذ علم النفس في جامعة تكساس حيث يرى أن الكتابة عن الاضطرابات تحسن الصحة النفسية وتعدل المزاج؛ بل العيش مع قارئ يجذبك صوته وتنفذ إليك تلاوته أقوى مُسكِّنات الألم في هذا العالم المزدحم بالأخطار والآلام.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • ذكرياتي في السودان (1) مشهد النيل من فوق السحاب
  • ذكرياتي في السودان (2) سلام على أهل السودان
  • ذكرياتي في السودان (4) رسالة الماجستير
  • إلى أهل السودان الحبيب

مختارات من الشبكة

  • ذكريات شموع الروضة (7) ذكرياتي مع محمد العبدالله الراشد وأبيه رحمهما الله (PDF)(كتاب - موقع د. صغير بن محمد الصغير)
  • الماء في قصائد ديوان (مراكب ذكرياتي) للدكتور عبد الرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • ذكرياتي عن أهل نجد في الشام، وعَلاقة الشيخ فوزان السابق بحيِّ الميدان والسلفيين(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الطفولة في ديوان (مراكب ذكرياتي) للشاعر الدكتور عبدالرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • من قلب الزمن الجميل.. ذكرياتي مع أستاذي الجليل(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من ذكرياتي مع أستاذنا العلامة الدالي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الروح في قصائد ديوان (مراكب ذكرياتي) للدكتور عبد الرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • السؤال والجواب في قصائد ديوان (مراكب ذكرياتي) للدكتور عبد الرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الدنيا في قصائد ديوان (مراكب ذكرياتي) للشاعر الدكتور عبد الرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • السماء في قصائد ديوان (مراكب ذكرياتي) للدكتور عبد الرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 17/11/1446هـ - الساعة: 9:44
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب