• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    التأويل بالحال السببي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

المثاقفة والمصطلح النقدي العربي

المثاقفة والمصطلح النقدي العربي
د. إبراهيم أنيس الكاسح

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 19/5/2014 ميلادي - 19/7/1435 هجري

الزيارات: 61737

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

المثاقفة والمصطلح النقدي العربي

 

بداية:

يتكوّن انطباع إيجابي عندما يأتي التفكير، أو التحليل العقلي، على مسألة المجاورة بين مفهومي المثاقفة، والمصطلح عمومًا؛ ذلك أن المصطلح، كما سيأتي، لغة خاصة تنهض بمهمتي تيسير وتنشيط المعرفة ومداولات الفكر الإنساني في الحقل المعرفي الذي يتم فيه إنتاج وتحريك المصطلح، ومهمة التواصل، ونقل المفاهيم بين المشتغلين في إطار هذا الحقل الواحد.

 

وتأسيسًا على هذا التصور، فإن اللغة المصطلحية لا تمتلك خصوصيتها، بدرجة مهمة، من جهة ارتباطها بمجموعة قومية معينة، كما هو الحال في اللغة العامة، كما أنها لا تتوافر على صفات التميّز والحضور؛ اعتمادًا على بنيتها الذاتية المتّصلة بأمة ما، وثقافة هذه الأمة، وإمكاناتها الحضارية، وأحيانًا الصفات الطبيعية لإنسانها، التي تؤهلها لتسجيل حضورٍ مهيمن على لغات إنسانية أخرى.

 

وعندما نستدعي مفهوم المثاقفة، في سياق مقاربة مسألة المصطلح، فإننا نتعاطى بإيجابية مع فكرة انتقال المصطلحات، وهجرتها بين الثقافات وحضارات الشعوب؛ أخذًا بأحد أبعاد مفهوم المثاقفة القائم على عالمية المنجزات، وتجاوزها للأمم والمجالات الحضارية. فالمصطلح لغة العلم والمعرفة، لا لغة الأعراق والقوميات، وهو أيضًا أداة مستخدميه من العلماء والمفكرين، ممن يجمعهم الانتماء إلى المجال العلمي والمعرفي الواحد، وإن تباعدت هوياتهم الإثنية والعرقية؛ وبذلك تصير عولمة المصطلح ضربًا من الممارسة الإيجابية التي يحوطها سياج المعرفة والعلم. غير أننا، مع ذلك، سنرصد واقعًا مصطلحيًّا عربيًّا حديثًا مشوشًا ومضطربًا؛ أنتجته القراءات القاصرة على مستويات متعددة؛ فاستحالت العولمة المصطلحية تعبيرا عن علاقة غير متكافئة بين مركز معرفي غربي ينهض بفعله تلقائيًّا، وفي إطار المبادرة المعرفية الطبيعية المنسجمة مع التحوّلات المعرفية في نظام بنية هذا المركز، وهامش نقدي عربي يتغذى على منجزات المركز النقدي الغربي، على مستوى المقولات النقدية النظرية، والإجراءات المنهجية؛ وارتهن النقد العربي الحديث، بالتالي، لواقع من يستوطن أطراف المركز.

 

نسعى في هذه الدراسة إلى مقاربة مسألة المصطلح، والمصطلح النقدي العربي في علاقتهما بالمثاقفة المعرفية والأدبية، واضعين هذه المسألة في سياقاتها الخاصة، من جهة ارتباط المصطلح بالحقل المعرفي، وما ينتجه من مناهج وإجراءات لدراسة ظواهره، ساعين وراء تركيز أكثر على قضية المصطلح النقدي العربي، الذي نراه يختزل، بكفاءة، إشكالية أو إشكاليات الواقع المصطلحي في العلوم الاجتماعية والإنسانية العربية العامة.

 

حدُّ المصطلح، والمصطلح النقدي:

يُنظر لهذا الدال (المصطلح Terme) في التراث العربي، على أنه ما جاء نتيجة لإجماع جماعة من المهتمين في مجال معرفي معين، وهو مصدر ميمي بصيغة اسم المفعول، من الفعل: اصطلح الذي يحيل على معنى الإجماع والتوافق والتواضع بين فئة ما من الناس. وفي معنى التوافق والاتفاق يأتي أيضا الفعل (صلح) الذي مصدره الإصلاح[1].

 

هذا على مستوى المدوّنة اللغوية، التي تُعنى بتأصيل الدوال اللغوية في مرجعها اللغوي الوظيفي، كما جرى تداوله في اللسان العربي، أمّا إذا انتقلنا إلى دلالة هذا الدال في علم المصطلح Terminologie، أو المصطلحية كما يطيب لبعض الباحثين تعيين هذا المجال المعرفي، الذي يُعنى بالتنظير لفن إنتاج المصطلح، ووسائل تخليقه، فإن الأدبيات العربية التراثية قد احتفت كثيرًا بأهميته، وإن تحت الصيغة الدّالية: اصطلاح، إذ لم تُستخدم لفظة: مصطلح إلا في التداول المعرفي المتأخر في الثقافة العربية[2]؛ الأمر الذي يعني تشديدًا عربيًّا مبكّرًا على مبدأ ديمقراطية صياغة المصطلح، وشرط تحقيق نسبة عالية من الإجماع عند إنتاجه لتسمية مفهومه.

 

لقد أولت الثقافة العربية هذا الإجراء المعرفي (المصطلح) اهتمامًا واضحًا؛ إذ وصفه الخوارزمي بأنه "مفتاح العلوم"، ووُصف حديثًا بأنه "العتبة" لكل علم[3]. وقد أقام المهتمون العرب بالمعرفة تقديرهم لقيمة هذا الإجراء المعرفي على فهم وظيفي برغماتي؛ يعي دور المصطلح في تفعيل المعرفة في مجالها، وأهميته في تسهيل التفكير، والمساءلة الذهنية لقضايا أي علم من العلوم.

 

يقول الشريف الجرجاني في كتابه التعريفات عن الاصطلاح إنه عبارة عن (اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه الأول، وإخراج اللفظ من معنى لغوي إلى آخر، لمناسبة بينهما. وقيل: الاصطلاح لفظ معين بين قوم معينين.)[4]، وفي كتاب الكليات للكفوي، جاء تحديد الاصطلاح بوصفه: (اتفاق القوم على وضع الشيء، وقيل إخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى معنى آخر لبيان المراد.)[5].

 

وفي الأدبيات المتأخرة التي اهتمت بعلم المصطلح، فإن تحوّلا طفيفًا قد طرأ على النظر إلى دلالة هذا الدال "المصطلح"، وهو تحوّل يستجيب لضرورات التطور المعرفي، وضغط نمو المعارف الذي يحتّم مجاراة التحوّلات والتنوع الذين يفرضهما توالي المنجزات المعرفية. فقد تراجع الإصرار السابق، لدى المؤلفين العرب القدماء، على ضرورة توفّر علاقة بين معنيي الاصطلاح: اللغوي، والاصطلاحي، بمعنى أن الدال المصطلحي ينزاح، في حقيقة الأمر، عن معنى كان له في الاستعمال السابق، وهو ما يمثل الاختلاف في الدلالة بين ما تقدّمه المدونة المعجمية التي تقدّم معرفة لغوية، والمدوّنة المصطلحية التي تقدّم معرفية مفهومية، ترتبط بالمعرفة العامة في مجال أو حقل علمي وفكري محددين.

 

يعرّف مصطفى الشهابي المصطلح بأنه لفظ اتفق العلماء على اتخاذه للتعبير عن معنى من المعاني العلمية[6]، فما هو إلا (رمز لغوي وضع بكيفية اعتباطية أو اتفاقية بين فئة من المختصين في حقل معين من حقول العلم والمعرفة لضرورة البحث)[7]، وقد يكون هذا الرمز مصطلحًا بسيطًا مؤلفًا من كلمة واحدة، أو مركبًا من أكثر من كلمة، مع الاحتفاظ دائمًا بشرط إحالته على مفهوم محددٍ بشكل دقيق[8].

 

لقد جرى، من خلال التحديدات السابقة، كما في غيرها عند كثير من الباحثين المحدثين الذين اهتموا بعلم المصطلح، تجاوز شرط الإلحاح على العلاقة بين الدلالتين المعجمية والمصطلحية، في فهم واقعي لطبيعة المصطلح الذي قد لا يكون منجزًا في إطار لغته الأصلية، ومؤصلًا فيها؛ بوصفه رمزًا قد جرى استنباته في تربة المعرفة، والمعرفة اللغوية الأصلية، وإنما من المصطلحات ما قد يكون وافدًا من معارف في لغات أخرى، عند تعريبها أو ترجمتها، يتعذر تحقيق شرط المجاورة بين الدلالتين المعجمية والمصطلحية؛ لذلك نرى اتفاقًا بين المهتمين بعلم المصطلح القدماء والمحدثين على ما هو ثابت في بنية إنجاز المصطلح، من ناحية الالتزام بشروط: الإجماع، ووحدة الحقل المعرفي، وكفاءة الدلالة المفهومية. في حين حصل اختلاف، أوجبته ضرورات التحوّل المعرفي، كما سبق وأبنّا، بين المصطلح المنجز داخليًّا، والآخر الموطّن في سياق ثقافة ما.

 

ونستطيع أن نؤسس على الفرق بين التحديدين القديم والحديث للمصطلح، تمييزًا بين مرحلتين في تاريخ الحضارة والمعرفة العربية: مرحلة عُرفت بذاتية الإنتاج المعرفي، ومن ثم مطلق الحق في إطلاق المصطلحات لتعيين المفاهيم وتسميتها، مع قليل من المصطلحات الوافدة من الثقافات القديمة الفارسية واليونانية، وبدرجة أقل الهندية، وفي مجالات معرفية محددة كالفلسفة، ومرحلة أخرى لاحقة، تميّزت بوفرة المصطلح الوافد، والعابر للثقافات، والتي صارت فيها الثقافة العربية جهة مستقبلة، تشتغل على إعادة توطين المصطلح، وسبل تكييفه مع مواضعاتها.

 

يحتفظ المصطلح النقدي بأغلب الصفات التي للمصطلح عمومًا، ولا يتميز عن الأخير إلا من خلال الحقل المعرفي، الذي يُكسِب المصطلح النقدي خصوصية مفهومية؛ ناجمة عن ارتباطه بالمعرفة الأدبية، أو مجال التفكير في الأدب نظريًّا وتحليليًّا، ولو سقنا تحديدًا سريعًا للمصطلح النقدي فإننا سنقول مع صاحبه يوسف وغليسي إنه (الرمز اللغوي (مفرد أو مركب) أحادي الدلالة، منزاح نسبيًا عن دلالته المعجمية الأولى، يعبّر عن مفهوم نقدي محدد وواضح، متفق عليه بين أهل هذا الحقل المعرفي.)[9]، ولا شيء يجعل هذا التحديد للمصطلح النقدي مختلفًا عن طبيعة التحديد الذي طال المصطلح مجرّدًا، إلا كونه قد تحيّن، من خلال حمولته المفهومية، في إطار مجال الدراسات الأدبية، مع ملاحظة أن الباحث قد سرّب إشارة في تحديده للمصطلح النقدي مفادها أنه منزاح نسبيًا عن دلالته المعجمية، وهو ما نعده سعيًا وراء الشمول الذي يريده الباحث لتحديده؛ ليستوعب المصطلح النقدي العربي القديم، الذي أنتج في إطار البيئة المعرفية العربية، وهو ما أسميناه (ذاتية الإنتاج)؛ إذ نجد كثيرًا من المصطلحات النقدية التي جاءت في كتابات النقّاد القدماء، ما كان مؤصّلاً في اللغة المعرفية العربية بامتياز؛ فاحتفظ المصطلح النقدي بالتجاور بين الدلالتين المعجمية والمصطلحية، بالنظر إلى ذاتية إنتاجه. وسيبتعد النقد العربي، والدراسات الأدبية العربية الحديثة، مسافات كبيرة عن هذه الإمكانية التي تحققت للنقد العربي القديم، من خلال الاعتماد الواضح على المصطلح النقدي الوافد من ثقافات أخرى، كما سيأتي عليه الحديث لاحقًا.

 

حدّ المثاقفة:

يقترب مصطلح " المثاقفة"، دلاليًّا، من مصطلح آخر يجد رواجا واضحا في الأدبيات الثقافية الإنسانية في العقود المتأخرة، وهو مصطلح" العولمة"؛ ونتيجة لهذه المجاورة الدلالية غدا من المفيد محاولة فكّ التقاطع بين مفهومي هذين المصطلحين؛ لنشيّد مقاربة معرفية تنسجم مع نريد طرحه في هذه الدراسة من جهة، ومن أجل تكوين تصور متماسك عن طبيعة الاختلاف بين من يشارك في إنتاج المعرفة إنسانيا، وبين من يستجيب فقط لمنجزات مركز معرفي مهيمن.

 

يجد مصطلح العولمة Mondialisation أو Globalisation ذيوعا في الأدبيات الإنسانية عمومًا، والعربية على وجهة الخصوص، في العقدين الأخيرين، وقد جرت مقاربة مفهوم العولمة من منظور إجرائي يستجيب لما أنتجته العولمة وأوجدته من أوضاع إنسانية وقيم، مثّلت، من خلالها، مرحلة جديدة في تاريخ التعامل الإنساني مع المسائل الاقتصادية والتقنية؛ لذلك فهي ممارسة أو سلوك فرضته الحاجة الإنسانية، عند قطاعات محددة، وفي مجتمعات توافرت فيها صفات هيكلية داخلية وخارجية، إلى البحث عن تطوير وسائل جديدة، وأساليب متطوّرة، تُسجّل في تاريخ تطور التفكير الإنساني، وفي تاريخ ممارسته لأساليب العيش، وتحقيق تغييرٍ في الأوضاع والأحوال، يُغاير بها تمامًا مراحل سابقة في التاريخ الإنساني.

 

فالعولمة مرحلة أخرى، وعهد جديد في سياق إبدال المراحل والعهود في تحقيب التاريخ الإنساني، وقد تم في هذه المرحلة تغليب النزعة الاقتصادية، والميل المُنتظر للأفراد والجماعات جهة تحصيل أوضاع أفضل على المستوى الاقتصادي، وأيضًا لتحصيل فائض لهذه الأوضاع: مكاسب، وثروات، وتوطين قيم جديدة، وتكريس نزعة التنافسية الحادة، والحرص على القبض على أسباب الفوز بأفضل النتائج من خلال الدفع باتجاه مواجهة (التحديات). كل ذلك أكسب مفهوم العولمة بعدًا اقتصاديًّا بامتياز، ودفع المحللين لهذه الظاهرة إلى تغليب البعد الاقتصادي، عند محاولة تقديم تصورٍ عن طبيعتها، وصياغة مفهومها، وكيفية إجراءاتها الواقعية.

 

فالعولمة: (دمج النشاطات المنظمة عبر الحدود الجغرافية وهي حرية تصور وتصميم. وشراء وإنتاج وتوزيع وبيع منتجات وخدمات بشكّل توفّر من خلاله أقصى المنافع للشركة)[10] التي لم يعد يهمها من العالم سوى كونه (سوقا واحدة، ولكن مع مفارقة التعامل من خلال تجار ينتمون إلى ثقافات مختلفة)[11]. وصار التشديد على تحول العالم بتنوعه، واختلافه على مستويات متعددة: عرقية وحضارية، إلى فضاء مفتوح؛ يجب الاشتغال على كيفية استثمار إمكاناته؛ لتحقيق الربحية، وتجاوز الحدود الوطنية، والأطر الاقتصادية التقليدية، ومتابعة رأس المال، الذي صار الضابط لإيقاع الحركة، والموجّه لبوصلة تنقّل الأفراد والمؤسسات الاقتصادية والمالية[12].

 

وقد ضبطت اللجنة الأوروبية مفهوم العولمة من خلال الدلالة الاقتصادية المهيمنة عليه؛ فعرفت العولمة بوصفها (سياقًا يتزايد فيه التعالق والتداخل بين الأسواق والإنتاج لمختلف الدول تحت تأثير تبادل المنفعة والخدمة، وأيضًا التدفقات المالية والتقنية.)[13].

 

إن هيمنة المبدأ الاقتصادي، وغلبة النزعة المادية على مفهوم العولمة؛ حتى غدا هذا الملمح جوهره، ومكوّن ماهيته، أفضى إلى جعل الثقافة بمعناها الشامل حالة تتشكل، وتصاغ تحت تأثير تداعيات العمليات الاقتصادية المحرّكة للنشاط العولمي. لقد دفعت العولمة إلى أن تكون الثقافة: أدبًا، وفنًا، وفكرًا، وأزياء، وأنماط سلوك مجتمعي، قيمة تستجيب لتوجيه العولمة الاقتصادية؛ فانحسرت الخصوصيات الثقافية، وسادت إمكانية التقريب بين الأذواق؛ بفعل وسائل الاتصال الحديثة التي انتشرت وتطورت، تحت ضغط الاستجابة لضرورات العولمة ببعدها الاقتصادي المادي، وتضاءلت حالة الدهشة أمام الغريب والمختلف، الذي لم يعد كذلك، بعد أن حُرم كثيرًا من غموضه وسحره. ولم يعد العالم "المعولم" يملك، في الغالب، مناطق نائية وقصية تعود بنا إلى فكرة الجغرافيات والمجتمعات المعروفة والمتمدينة، والأخرى البكر أو الأقل تمدينًا. صحيح، أن ذلك لا يعني توازنًا في توزيع هذا الشعور بالانسجام والتقارب بين مكونات العالم؛ لأن العالم ما زال يحتفظ بالشرخ القائم بين القطب المالك لإمكانية إحداث الفارق، والقادر على تحقيق فائض مكتسبات العولمة؛ ومن ثم تسخيرها للإضافة والابتكار؛ بما يحفظ له حق الريادة، وموقع المركز، ونقصد هنا القطب الغربي بمكونه "الأوروأمريكي"، الذي يقابله قطبان: قطب يواكب، وآخر يواكب ببطء، وأحيانًا كثيرة ببطء شديد. وقد أفضى كل ذلك إلى إيجاد مناطق في العالم تستكين لسلوك الاستجابة والتلقي، وانتظار منجزات القطب القادر، الذي استطاع تحريك التاريخ بكيفية تكفل له تكريس مساحة شاسعة تفصله عن المناطق المجتمعية الأخرى، وبالتالي، الاستمرار في الاحتفاظ بوضع أفضل اقتصاديًّا وثقافيًّا واجتماعيًا.(إن العولمة هي محاولة تسييد القوة بمفهومها الشامل، الاقتصادي والسياسي والتقني والإعلامي والثقافي.)[14].

 

يكتسب مصطلح "المثاقفة" Acculturation، من خلال بنيته اللغوية الصرفية، دلالة المشاركة والتبادلية بين أطراف وجهات متعددة، وقد جرى تداوله كثيرا في الدراسات المقارنة التي تنطلق من فهم متوازن لطبيعة العلاقات بين الثقافات وومنجزات الشعوب؛ إذ يطرح هذا المصطلح مفهوم تبادل التأثير والتأثر، ولا يستوعب في دلالاته إشارة إلى فكرة المغالبة الحضارية، والتفوق؛ بما يشي بتثبيت فكرة العلاقات الثقافية القائمة على الأقطاب القادرة، والأخرى الأقل قدرة، وبالتالي، عليها أن تستكين لحتمية التلقي والمجارة.

 

وقد أتينا بهذا المصطلح؛ لأنه يستقيم عنوانا لمرحلة مهمة من تاريخ النقد العربي، كان فيها هذا النقد ممتلكا للصفات التي تؤهله للمشاركة في تكوين المعرفة الإنسانية، ولتأمين الإمكانات اللازمة لتنشيط المعرفة الأدبية على مستوى الثقافة العربية الإسلامية.

 

المصطلح النقدي والمنهج:

لقد وقع التشديد، ونحن نوّصل للمصطلح، على أنه حاصل إجماع فئة من المتخصصين في مجال معرفي محدد؛ ليغدو هذا المصطلح وسيلتهم للتواصل العلمي بينهم، وعبره يتم تدوير المفهومات، ومن ثم تحريك الرؤى والأفكار باتجاه التطوير والبناء المنتج للمعرفة في هذا الحقل الخاص.

 

وكون اللغة المصطلحية لغة خاصة، لم يتأت فقط من كونها خطاب في مجال معرفي محدد، ولكن لخصوصيتها بعدا آخر، يتمثل في علميتها، من جهة دقتها وتحديدها، وضرورة تعبيرها ونقلها الواضح للمفاهيم التي تنهض بمهمة الوفاء بإيصالها بين المتحاورين، وتمثل هذه المفاهيم حمولة هذه اللغة الخاصة، وجملة مضامينها.

 

واستدعاؤنا لبعد علمية اللغة المصطلحية، واقترانها، بدرجة عالية، بشرط الإجماع العقلي والفكري، يُفضي إلى التأكيد على أن اللغة المصطلحية تأتي ترجمة عن تطور الفكر الإنساني، من ناحية ميله إلى الموضوعية، والتفكير التجريبي المعقلن؛ الأمر الذي يقود إلى الاتفاق على جملة دوال ومدلولات مصطلحية، يتم إنتاجها في سياق البحث المعرفي، والمساءلة الفكرية العقلية.

 

فالمصطلح مرهون بمجاله المعرفي، وهذا طبيعي؛ لأنه يتم إنتاجه في إطار هذا المجال، وباتفاق المشتغلين فيه. ويقود هذا التحديد إلى الحديث عن معجم للمصطلحات في علم النفس، وآخر في القانون، وهكذا تتنوع معاجم المصطلحات بتنوع الحقول المعرفية التي تتنوع عمومًا بين إنسانية وتجريبية، وداخل هذا التنوع، تتفرع إلى حقول نوعية أكثر تحديدًا، وتصبح اللغة المصطلحية لغة موضوعية، تفارق اللغة العامة التي تتنزل في مدوّنات اللغة، وهي المعاجم.

 

إذا جئنا نقترب أكثر من حقل النقد الأدبي، بوصفه أحد فروع علم الأدب، والذي تتأسس طبيعته على مساءلة الظاهرة الأدبية: نصًا أو قضية، فإننا سنرصد أن النقد الأدبي عمومًا بما فيه النقد العربي، قد عرف مصطلحًا نقديًّا يرتبط أساسًا بالمنهج النقدي المُعتمد في المساءلة أو المقاربة الأدبية. ونخص بالحديث بطبيعة الحال، النقد الموضوعي الذي يمنح النقد الأدبي إمكانية أن يكون نشاطًا معرفيًا مستقلًا، له مسائله وانشغالاته الفكرية التي يستقل بها، وبها يتميز، وعن طريقها استطاع التوافر على هُوية خاصة في إطار تاريخ المعرفة الإنسانية، بتنوع أنساقها. ويُلاحظ على المصطلح النقدي أنه مصطلح منهجي، بمعنى أن يرد مصاحبًا المنهج النقدي الذي يتم توظيفه في الممارسة النقدية.

 

فإذا كان المنهج عمومًا (وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة)[15]، وأن هذه الوسيلة ما هي إلا (جملة من الخطوات والقواعد والمبادئ التي تكون نظامه (المنهج) المفاهيمي)[16] فإن المنهج النقدي يعكس، كما أسلفنا، نية النقّاد في تقديم مقولات موضوعية، تُكسب النقد سمات العلم وخصائصه؛ وذلك اعتمادًا على النقد الأدبي المنهجي، والنقد الأدبي بالمقابل، وبخلاف كثير من الأنساق المعرفية الأخرى، يستخدم مصطلحًا منهجيًا، بمعنى أن جزءًا مهمًّا من اللغة المصطلحية النقدية جرى إنتاجها في حقول معرفية أخرى: تاريخية أو نفسية أو اجتماعية أو لسانية، وبما أن (بين المنهج والمصطلح علاقة قرابة وثيقة)[17]، وبما أن النقد الأدبي مجال معرفي يستثمر مناهج أنتجتها حقول معرفية أخرى؛ بسبب انفتاح النقد الأدبي، فإننا نلحظ أن كل منهج يأتي مصحوبًا بمصطلحه؛ فيستخدم الناقد الموظّف للمنهج النفسي منظومة مصطلحية جاءت في كتابات علماء النفس، والناقد الاجتماعي نلحظ في نقده حضورًا للمصطلح الاجتماعي والواقعي المرتبط بالتفكير المادي والمادي الجدلي، وكذا الحال مع الناقد اللساني، وكأننا بالنقد الأدبي وقد صار موطنًا لمصطلحات جاءت من مرجعيات معرفية مختلفة؛ الأمر الذي يجعل منه المجال المعرفي الكوزموبوليتي بامتياز.

 

لقد ارتبط مبدأ موضوعية النقد وعلميته بالمنهج النقدي، أو النقد المنهجي، ولم يكن لهذا المطلب أن يتحقق إلا بواسطة الاستعانة بمناهج ترتبط بحقول معرفية أخرى، وكأن النقد، في علاقته بالظاهرة الأدبية، يعي خصوصية هذه الظاهرة، من جهة كون الأدب يتقاطع مع المكون الذاتي الوجداني في الإنسان المبدع والإنسان المتلقي، وقد تُفقد هذه الوضعية النقد إمكانية ممارسة موضوعية؛ إذا تُرك لوحده يواجه ظاهرة (الأدب)، من خلال علاقة مباشرة بين الناقد المحلل وضرورات تحليل الظاهرة التي تفرضها طبيعة هذه الظاهرة وكيفية تشكيل بنيتها؛ فكان من الناقد أن لجأ إلى معارف أخرى تتجاوز الأدب وتتقاطع معه في الوقت نفس؛ ليعتمد مناهج ترتبط مرجعيًا بهذه المعارف، وستفضي بالضرورة إلى اصطحاب مصطلحها معها.

 

المصطلح النقدي العربي والمثاقفة:

إلى هنا، ومقاربتنا لمسألة المصطلح كانت في إطارها العام وربما المجرّد. وقد تسجَّلت هذه المقاربة في مبحث محدد في على المصطلح Terminologie هو نظرية المصطلح؛ ذلك أن الهمّ الأساس الذي يضبط هذه المقاربة، هو الاشتغال على أسئلة ماهية المصطلح، وكيفية إنتاجه، والسياقات المختلفة معرفيًا وتاريخيًا التي أثرت في إنتاجه.

 

كل ذلك، كما قلنا، في الإطار العام، وحين اقترابنا من مسألة المصطلح النقدي العربي، فإننا سنجد اتفاقًا، في مبحث نظرية المصطلح، بين النقدين الغربي والعربي، ونضع هنا النقد الأدبي الغربي في مقابلة النقد العربي؛ لأننا لا نستطيع الحديث عن ثنائية تتجاوز هذين الطرفين عندما نشاء المقارنة والتقييم؛ إذ لا نستطيع الحديث مثلًا عن النقد الإنساني لنضعه مقابلًا للنقد العربي، فهذا متعذر تاريخيًا، وحتى لو عدنا للنقد العربي القديم في القرنين الثالث والرابع الهجري، والذي عرف لقاءً بين الثقافة العربية والثقافة الشرقية من خلال النموذجين الفارسي والهندي، فإننا نرصد أن هذا اللقاء كان حول معارف وأنماط سلوك حياتية أو أدبية وثقافية، لم يجد النقد الأدبي فيها مكانًا مهمًّا، والتأثير المهم والذي أوجد تطورًا نوعيًّا في الدراسات النقدية العربية القديمة، كان للنقد وللثقافة النقدية الغربية؛ عبر الفكر الأرسطي بالذات، وقد رصدنا أصداء ذلك في كتابات: قدامة بن جعفر، وابن رشيق القيرواني، وحازم القرطاجني، والتي تضمنت، حقيقة، مصطلحات نقدية يونانية تعامل معها هؤلاء النقّاد بالتعريب[18]؛ فأضحت مفاهيمها رائجة في التفكير النقدي العربي، وبالذات ما تعلق منها بحدّ الشعر، ووظيفته، والأسباب الداعية إليه. وهي مسائل من مباحث نظرية الأدب، التي يحسنها التفكير اليوناني الذي اعتاد البحث في المجرّد، ومساءلة المفاهيم والمعاني؛ لإنجاز تصورٍ حولها.

 

النقد الأدبي عموما محكوم بالمثاقفة، وواقع تحت ضغط حتميتها، والمثاقفة التي نعني داخلية في إطار فضاء الثقافة الواحدة. فهي مثاقفة معرفية؛ لأن النقد لم يفتأ يعتمد المناهج النقدية التي تأصلت في مرجعيات معرفية متنوعة في إطار بحثه الدؤوب عن الموضوعية[19]، وهو ما كان مدار حديثنا في النقطة السابقة. وهي مثاقفة حضارية مجتمعية تأثر بها الناقد العربي قديما؛ فانعكست على مصطلحه النقدي وهو يعالج مسائل النص الشعري العربي.

 

المثاقفة الداخلية والمصطلح النقدي العربي:

نعنى بالمثاقفة الداخلية للنقد الأدبي العربي انفتاحه على مصادر إنتاج المصطلح غير المتصلة مباشرة ودائمًا بالظاهرة الأدبية، وبالخطاب الأدبي الشعري، ونشدد هنا على الخطاب الشعري بوصفه الجنس الأدبي المهيمن عند إجراء المثاقفة الداخلية؛ وبالتالي فإن أغلب المصطلح النقدي الجاري في الاستعمال النقدي ينصرف لدراسة الشعر، ويُتاح عند التعليق عليه، ومما يميز المثاقفة الداخلية في النقد الأدبي العربي أنها جرت، أو لنقل نشطت في مرحلة تاريخية مبكرة من تاريخ النقد العربي، وهي مرحلة ما يعرف بالنقد القديم الذي جرى تناوله في كتاب محمد مندور عن النقد المنهجي عند العرب.

 

لقد عرف المصطلح النقدي العربي القديم مصدرين لإنتاجه في المثاقفة الداخلية، مصدر نستطيع تسميته بشيء من المرونة، بالمصدر الحياتي، والمصدر الآخر، مصدر معرفي.

 

نريد بالمصدر الحياتي، البيئة العربية القديمة، بمختلف مكوناتها، الطبيعية أو المعمولة بشريًا، مما أسهم في تكوين مصدر مهم في تزويد المهتم بالأدب الشعري بإمكانية إنتاج مصطلح نقدي حول الشعر. فقد قال المهتم بالأدب الشعري العربي: (الشاعر الفحل) صفة للشاعر الذي يملك أدوات إبداعية متقدمة في القول الشعري، معتمدًا على ما للفحل من الإبل من صفات إيجابية تميزه من غيره من الإبل، كما تميز الشاعر الفحل بصفات إبداعية أهّلته ليكون في الطبقات المتقدمة من الشعراء. وقد قال المهتم بالأدب الشعري العربي (الإخلاء) تعليقًا على الشاعر الذي يقول نظمًا ولا يقول شعرًا، مستدعيًا المعنى المعجمي للدال (الإخلاء)، والذي يصف النبّال الذي يرسل السهام من قوسه ولا يصيب هدفًا، وقد أطلق المهتم بالأدب الشعري مصطلح (الإيطاء) ليعلّق على من يعاود القافية نفسها أكثر من مرة، مستفيدًا من المعنى اللغوي لهذا الدال، والذي يحيل على معنى معاودة المشي على نفس الأثر، ومن ذلك مصطلحات: الطبع، والتكلف، وعمود الشعر، والحوشي، والإقواء والتمليط... وغيرها كثير من المصطلحات التي استدعاها النقّاد من بيئتها الطبيعية الخارجية، مستفيدين من دلالتها المعهودة لهم، والتي تحيل على مبدأ شعبية الشعر وجماهيريته من جهة التلقي والتواصل معه، فالعناصر الطبيعية، والمعاني القريبة، تتصل بالمجال المألوف للإنسان العربي، كما أن الشعر يشارك تلك العناصر المادية والمعاني قربها من الناس واتصالهم بها؛ فتحصل المجاورة بينهم؛ لتشكّل في مجموعها منظومة العيش العربي القديم، ونظام الحياة آنذاك، وهذا ما يفسّر، ربما، أن المصطلح النقدي القديم الذي أنتجته المثاقفة الداخلية الحياتية يتجه في جزء منه إلى وصف الإنسان الشاعر والتعليق القيمي على كفاءة أدائه الإبداعي؛ سواء على مستوى الاستعداد الفطري، أو على مستوى ما يحصله من أدوات تعينه على تحقيق الشعرية في خطابه الشعري.

 

ومن المنتظر تمامًا، أن تلتقي الدلالتان اللغوية والمصطلحية في المصطلح النقدي العربي الذي جرى إنتاجه في إطار المثاقفة مع الشأن الحياتي؛ لأنه أصل إنتاج اللفظة اللغوية التي تواضع عليها أبناؤه، ودوّنتها معاجم اللغة فيما بعد، وهو الأصل الذي زوّد المهتم بالأدب الشعري بسبل صياغة مصطلحه النقدي. وقد استفاد الناقد العربي القديم من الوعي اللغوي الجماعي الذي يقرن بين المعنيين المعجمي اللغوي والاصطلاحي؛ لتثبيت كثير من هذه المصطلحات، وإكسابها صفة الشيوع؛ لذلك ترى أن التواضع عليها لم يتم فقط من جهة مصدر إنتاج المصطلح، أو لنقل مَن تواضع على إكساب هذه اللفظة صفة المصطلح لتحيل على المفهوم النقدي المرجو، بل إننا نستطيع أن نطوّر المقاربة في تجاه أكثر جرأة لنقول: إن المصطلح النقدي العربي الحياتي لم يكن نتاج تواضع من طرف المهتمين بالأدب الشعري، بقدر ما كان من جهة من يتلقى هذا المصطلح من الناس عامة؛ فتحقق له القبول، ومن ثم الذيوع؛ اعتمادًا على المعاني وظلال المعاني المستقرة في الوعي اللغوي الجماعي، وهو ما يتأتى غالبًا، في إطار اللغة الأصلية، وعندها يتم إنتاج المصطلح في إطارها؛ استفادة من حالة المجاورة بين المعنيين اللغوي العام، والمفهوم الخاص الذي لم يكن ليفاجئ المتلقي عند إطلاقه؛ بسبب حالة الاعتيادية الحاصلة من جراء حركة المصطلح في نظام الإنتاج اللغوي.

 

وصورة المثاقفة الداخلية الأخرى التي نعود بها إلى المثاقفة بين النقد الأدبي العربي، وأنساق المعرفة التي جري إنتاجها قديمًا في تاريخ المعرفة العربية، وهي أنساق ارتبطت مباشرة بالدين الإسلامي، ونصوصه وخطاباته المؤسسة له، كالقرآن الكريم، والحديث النبوي، أو المصاحبة له كالمنجز المعرفي اللغوي أو البلاغي أو التاريخي أو الأدبيات التي فسّرت القرآن الكريم.

 

وقد استطاع النقد الأدبي العربي أن يكتسب قدرًا مهمًّا من الموضوعية، عندما استفاد من هذه المعارف في نقده للأدب، وللأدب الشعري على وجه الخصوص، وقد انتقلت أفكار هذه المعارف مصحوبة بمصطلحاتها؛ فشاع في هذا النقد المصطلح اللغوي والبلاغي، والإخباري، والعروضي.

 

ونريد أن نتوقف قليلًا عند المعرفة العروضية التي ولدت أساسًا من خلال الاشتغال على النص الشعري، لنقول: إن علم العروض قد تأسس متأثرًا بالاتجاه العام الذي بدأ يتبلور مع النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، والذي كان سلوكًا محصّنًا للغة العربية وأدبياتها؛ حماية لها، وحفاظًا على بنيتها، مع بدايات التوسع العربي الإسلامي؛ وما استتبع ذلك من تداخل وامتزاج بين الألسن والأجناس؛ فكان العروض، منذ ولادته، علمًا معياريًا شأنه في ذلك شأن علوم اللغة والبلاغة، في سياق عام يرمي إلى حماية اللغة، والذوق اللغوي، والحرص على مبدأ المطابقة مع النموذج اللغوي العربي الأصيل الذي جاء القرآن الكريم على صوته، ومقتضى نظامه التركيبي.

 

وجدت أنساق المعرفة العربية الإسلامية القديمة في اللغة، وفي دلالات اللغة المعجمية مصدرًا لإنتاج مصطلحها، ويبدو هذا جليًا على أغلب مصطلحات النحو، والبلاغة والعروض، وربما من الطريف أن نسوق هذه الحادثة التي جمعت بين الأصمعي وأعرابي، عندما قال الأصمعي: أتهمز إسرائيل؟ قال: إني إذا لرجل سوء، ثم قال له: أفتجر فلسطين؟ قال: إني إذًا لقوي.

 

فالأعرابي العربي، الذي اعتاد المعنى اللغوي، والذي يدركه جيدًا، قد باغتته هذه المصطلحات التي انتقلت من مستوى معلومه اللغوي؛ لتكون مجهولًا مصطلحيًّا لا يدركه إلا الخاصة من أبناء الحقل الواحد، وإن كانت هذه المصطلحات أساسًا مما جرى التواضع عليها، مكتسبة دلالة أخرى خاصة. وقد أجاب الأعرابي منطلقًا من المعرفة اللغوية، في حين كان سؤال عالم اللغة الأصمعي منطلقًا من المعرفة المصطلحية.

 

المثاقفة الخارجية:

عرفت الكتابات النقدية العربية المبكّرة المثاقفة النقدية الخارجية، وخير نموذج يعبر عن حالة التواصل هذه، كتاب نقد الشعر لقدامة بن جعفر في القرن الرابع الهجري؛ إذ ظهرت في كتابه أصداء تأثر بكتاب الفيلسوف اليوناني أرسطو (فن الشعر)، الذي أسهم في توجيه التفكير النقدي وجهة نظرية تأملية، تحاول فهم طبيعة الظاهرة الشعرية، ودوافع الإبداع، وقد سقنا هذه الالتفاتة إلى أوائل مناسبات وفرص الاتصال بالآخر ثقافيًّا؛ لكي لا يذهب الظن جهة وقف المثاقفة النقدية على العصر النقدي العربي الحديث، ولكنا نسجّل وضعًا حضاريًّا يختلف في القرون الهجرية الثالثة والرابعة وما تلاها، وهو وضع يقيم الثقافة العربية الإسلامية مركزًا حضاريًّا قادرًا على الإنتاج المعرفي، والإضافة الفكرية للمدونة المعرفية الإنسانية، وقد اكتسب هذا الوضع الحضاري صفة المركز لاعتبارات عضوية تتعلق بالغلبة، وقوة الحضور الواقعي والمادي، وما كان من تأثر بالثقافات الأجنبية الأخرى، فقد تحقق في إطار من الرغبة في الاستزادة، وتحقيق شمول المعرفة وسعتها، لا بدافع من تشخيص ذاتي يظهر العجز والقصور، وانحسار الإمكانات عن مجاراة حركية التطور، كما حصل في المثاقفة الاضطرارية أو الجبرية التي اندفع إليها العقل العربي فيما بعد؛ بدافع جوهري من الشعور بالعجز، وغياب القدرة على تقديم الإجابات الحقيقية عن أسئلة الظاهرة الأدبية، والنص الأدبي.

 

وخير برهان يدعم فكرة التأثر الهادي، أو المثاقفة المتوازنة في تاريخ النقد العربي القديم، محدودية المصطلحات النقدية المعرّبة، التي ستكون نتيجة هذا التأثر، وترجمة عن درجاته. فالمصطلح النقدي المعرّب قديمًا كان محدودًا؛ ولمحدوديته، استطاع الناقد العربي القديم، وبالذات المحافظ من النقّاد، أن يحتفظ بقدر من المرونة، والقدرة على المبادرة، فأظهر حذره من المصطلح النقدي المعرّب، وأنه لا يؤت به إلا للضرورة القصوى[20]، لماذا؟ لأن القدرة على المبادرة المعرفية متاحة آنذاك، وما يتم استحضاره من الآخر، فهو بمثابة الاستزادة لتوسيع دائرة النقاش حول قضايا الأدب، يضاف إلى ذلك حالة من التقارب بين إنجاز النص الشعري، من جهة بنيته، وإنجاز التعليق النقدي عليه. كل ذلك يخالف تمامًا ما سيحصل في الفترة التي بدأت تتشكل مع عصر النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبالذات مع بدايات القرن العشرين الذي يعد بحق القرن المفارق لما سبقه من قرون، من جهة امتلاكه صفات وخصائص تأثرت بشكل جوهري بالعلاقة مع المركز الحضاري الغربي، إن من جهة الاستجابة الإيجابية، والطواعية في الانجذاب إلى هذا المركز، أو من جهة الخطاب المعترض، بدرجات مختلفة، على سلوك خطاب الاستجابة لمنجز المركز الغربي ثقافة ومعرفة.

 

لقد اعتمد النقد العربي الحديث منجزات النقد الغربي على مستوى التنظير ومناهج التحليل النقدي، وهذه ليست فرضية تحتاج التدليل على صحتها. بقدر ما هي مقولة حقيقية، تصف بواقعية الأداء النقدي العربي الحديث. وقد مثّل التأثر المباشر والقوي بالنقد الغربي الحدّ المؤطّر لتاريخ النقد العربي الحديث، من جهة بداية هذا النقد، وكيفيات تطوره. وقد غدا النقد العربي الهامش العاكس لأصداء قوة ضغط المركز الثقافي الغربي، وصارت فاعلية النقد العربي متوقفة على كيفية مواكبة هذا النقد، ومجاراة مقولاته ومناهجه. وهذا التوصيف يستوعب كل الأسماء النقدية العربية، منذ طه حسين ومحمد مندور وأمين الخولي ومحمد أحمد خلف الله، حتى النقد السيمولوجي وما بعد البنيوي من المتحمسين لنظريات القراءة والنقد الثقافي[21]. ويجد الراصد لبدايات النقد العربي الحديث، ولتطوره، صعوبة في التقاط ملامح أصالة حقيقية لهذا النقد، وأنه ما كان إلا أصداء وظلالا للمنجزات النقدية الغربية، التي صارت مركزًا يتطور ويمارس إبدالاته المنهجية والنظرية، في إطار تحوّلات التفكير الإنساني الطبيعية، وفي إطار النمو التلقائي لبنية المعرفة لديه، بما فيها المعرفة الأدبية. ويعود ذلك، بطبيعة الحال، إلى توافره على المنظومة النسقية اللازمة لإجراء إنتاج معرفي يستجيب لضغطها الساعي وراء التجديد التراكمي، والإضافة التصاعدية، وفق منطق حركية الفكر، وتدافع أنماط وأنظمة الإنتاج المعرفي؛ ولكي يحقق النقد العربي إمكانية كتابة معرفية تتسم بالموضوعية التي يحتّمها تاريخ المعرفة الإنسانية المتأخر، وأمام نص إبداعي تنوعت أجناسه؛ بسبب تعرّفه على أدب المركز الغربي، وتعقّدت أبنيته وأنساقه، بسبب استجابة الحالة الإبداعية العربية الحديثة لجاذبية إبداع المركز في أشكاله ومضامينه، مع طموح المبدع العربي في ممارسة التجريب الإبداعي، لم يكن أمام النقد العربي الحديث إلا أن يستسلم لمبدأ التأثر بهذا المركز، واستدعاء مقولاته في المجال النقدي، وهي حالة عامة استقرّت في وعي النخب والقيادات العربية مع بدايات القرن العشرين؛ فاستحالت إرادة واعية تقدّر أن مصدر المعرفة الحديثة تحرك من الماضي، وهو تحرّك من الزمان، إلى الحاضر الذي لا يتشكل وفق دلالة الزمن فقط، وإنما المكان الذي هو غرب الشمس.

 

وخاض النقد العربي الحديث معاناة فهم واستيعاب النظريات النقدية الغربية، ومغامرة إجراء المناهج النقدية الغربية على النص الإبداعي العربي. وقد أشرنا سابقًا إلى أن المناهج النقدية تمثل الصلة بين النقد الأدبي في خصوصيته، والحقول المعرفية الأخرى، التي يجري تأثر هذه المناهج النقدية بها. ولا غرابة أن يستفيد النقد الغربي من تطور المعرفة في حقولها المختلفة في المجال الحضاري الغربي، وأن ينعكس ذلك مناهج وأدوات نقدية متعددة، ومتجددة، وهو ما لم يتأت للفكر العربي عموما، الذي لم ينجح في تأسيس حركية معرفية وثقافية متطورة في مختلف أنساقها؛ ليستفيد من نتائج ذلك النقد العربي. وربما يقودنا تقرير هذا المبدأ إلى التخفيف من حدة وصف النقّاد العرب بالتقصير، وباعتمادهم شبه المطلق على النقد الأدبي الغربي، الذي صار، كما قلنا، مركزًا للنقد العربي الذي استحال هامشًا، ونؤسس تفهمنا لحالة النقد العربي على طبيعة الحياة الثقافية والفكرية العربية بعد سقوط بغداد، وهيمنت حالة التعطّل عن المبادرة المعرفية؛ ولذلك انعكاسه بطبيعة الحال على النقد العربي الحديث.

 

لقد ارتهنت اللغة المصطلحية في النقد العربي الحديث لإشكالية تعاطي النقّاد العرب مع المناهج النقدية الغربية، وهو ما وصف به الناقد حسين الواد زملاءه من النقّاد العرب الذين (يتأثرون بالمناهج الجديدة من موقع متخلف يسمح بالتلقي ولا يسمح بالمناقشة)[22]؛ وبالنظر إلى العلاقة العضوية التي تربط المصطلح النقدي بمنهجه، فلا شك أن يحدث العجز عن استيعاب حقيقة المقولات النقدية الغربية، وتطبيق مناهجها تطبيقًا ينسجم مع جوهرها، اضطرابًا في استخدام المصطلح[23]، وخللا في توظيفه؛ يفقد المصطلح أهم صفاته النوعية التي بررت وجوده أصلًا. ومن قبيل الانبهار بتفوق منجز المركز الغربي النقدي، أن يصير المصطلح لغوًا للتفاخر والتباهي، أو للتعبير عن مجاراة الموضة الفكرية[24]، كما هي حالة من يخضع لموجبات تأثر واستجابة لنموذج يتضاءل أمامه، وينعكس ذلك انبهارًا وانشدادًا لا يتجاوز السطح والظاهر.

 

أفضت المثاقفة بنوعيها الداخلي والخارجي إلى اعتماد آليتين مختلفتين في صياغة المصطلح أو توطينه في كل نوع من نوعي المثاقفة. فقد اعتمدت المثاقفة الداخلية آلية المجاز في صوغ المصطلح النقدي، سواء تعلق الأمر بالمصطلح النقدي المباشر الذي جاء به النقّاد العرب القدماء، وكان وثيق الصلة بالفضاء الحياتي العربي، كما سبق وأن بيّنا في فقرة سابقة، إذ احتفظ المصطلح النقدي المجازي برباط ما مع معناه المعجمي الأساسي، مستفيدًا من هذا المعنى لإيضاح المعنى المصطلحي، ومنح هذا المصطلح فرصة استحضار المعنى الأصلي، والانتفاع من دلالته في تشييد الدلالة الجديدة المجازية، ومنتفعًا، في الوقت نفسه من مشاعية الدلالة، وجماهيريتها بين العرب عند التواصل حول الإبداع الشعري. فالفحل، كما سبق وعرضنا، صفة للجمل الفتي القوي القادر، وهو المعنى اللغوي العام الذي استقرّ في معرفة صاحب اللسان العربي، والفحل من الشعراء، صفة للشاعر المبرز القادر على مستوى المعاني والصيغ والأشكال الشعرية؛ فاستحق منزلة الطبقات المتقدمة بين أقرانه من الشعراء الآخرين.

 

لقد استفاد النقد العربي القديم من آلية المجاز لتثبيت مصلحه النقدي، ولعل نسبة عالية جدًا من هذا المصطلح تعود إلى هذه الآلية، والأمر يطال أغلب المصطلح النقدي الذي تم تداوله في إطار الممارسة النقدية العربية القديمة، وإذا كان من مصطلح مخترع في العلوم العربية القديمة كالنحو مثلًا، فإن النقد حسب زعمي، لم يعرف كثيرًا من المصطلح المخترع، ونقصد بالمصطلح النقدي المخترع ما ولد أساسًا من خلال التفكير النقدي والاشتغال على الأدب نظرًا وتحليلًا.

 

نعود بتفسير غلبة آلية المجاز لتثبيت المصطلح النقدي إلى ما أسميناه بشعبية التعاطي مع المسألة الأدبية، ومشاعية التواصل حول الأدب، والتفكير في قضاياه، ومقاربة أبنيته ومعانيه، في مجال من منظومة اتصالية شاملة تستحضر السياق الخارجي، ومكونات الوعي العام في البيئة العربية؛ الأمر الذي يقرن بين التعليق على الشعر ونقده، ورصد حضوره وعناصر البيئة الإنسانية العربية بكل صورها وأشكالها وتجلياتها؛ فعندما يصف الناقد العربي، قديمًا، المعجم اللفظي في شعر الشاعر بأنه: حوشي، فإن لقاء يحصل بين أطراف التواصل النقدي: الناقد، والشاعر، والشعر، والسياق الحياتي، ومتلقي القصيدة، وموضوع هذا اللقاء الوعي الدلالي الذي ينتجه إطلاق مصطلح الحوشي: الغرابة، الوحشة، البعير الذي لا يألف غيره من الإبل...؛ فتتحقق معرفة بالموضوع الشعري، وإحساس بالمعنى، وإدراك لطبيعة المنقود بكيفية فعّالة؛ أكسبت النقد العربي القديم كثيرًا من الحيوية، بل كثيرًا من مشروعية الحضور نسقًا معرفيًا مستقلًا يمتلك مبررات وجوده في تاريخ المعرفة، ويُسهم، وفق هذا الدور، في أداء مهمة يشعر العربي بأهميتها، بعيدًا عن الرطانة، والتقعر، والإفراط في التجريد العلموي الذي تعيشه الممارسة النقدية العربية المعاصرة، بحجة مقولات العلمية والموضوعية والنقد المنهجي.

 

آلية أخرى عرفها النقد العربي القديم لصوغ مصطلحه، أو تثبيته في الكتابات النقدية، وهي آلية التعريب، والتي كانت محدودة الاستعمال، عكست علاقة المثاقفة الخارجية بين النقدين العربي واليوناني. فبخلاف المصطلح النقدي المجازي الذي عرف شيوعًا وذيوعًا كبيرين مقارنة بالمصطلح النقدي المعرّب؛ والأمر طبيعي بالنظر إلى محدودية العلاقة بمنجز الآخر، وشعور الاكتفاء المعرفي الذي صاحب الحضارة العربية الإسلامية في القرنين الثالث والرابع الهجري، كل ذلك لم يحوج النقد العربي إلى كبير اعتماد على المصطلح النقدي الوافد، وإن كان عند بعض النقّاد القدماء ميل إلى ذلك، كما هو الحال مع قدامة بن جعفر في القرن الرابع الهجري، فإن ذلك كان في إطار التنظير للشعر، والسعي وراء طبيعة التصورات المطروحة في الثقافة اليونانية حوا أسئلة الماهية والوظيفة الشعرية، وهي، كما لا يخفى، انشغالات أبستمولوجية، وذهنية مجردة يفعّلها النشاط الفلسفي، والتفكير المجرّد الذي عرف حظًا أوفر من التطور والفاعلية في الثقافة اليونانية القديمة.

 

لقد أراد الناقد العربي القديم الاستفادة من المفاهيم النقدية اليونانية، وشاء ذلك في إطار محدود معتمدًا آلية التعريب أكثر من الترجمة، وقد كان في علاقته مع هذه الآلية (التعريب) حذرًا لم يأخذ بها إلا عند الضرورة القصوى، والسبب في ذلك، الخشية على اللغة العربية من تفشي الدخيل الأعجمي[25]، فتسرّبت مصطلحات نقدية معرّبة قليلة، مثل: ريطوريقا، قوميديا، بوطيقا، وعبر قناة صارمة تخضع لاشتراطات معيارية محافظة؛ تفرض المطابقة مع النموذج اللفظي العربي وزنًا، ونطقًا[26].

 

لقد بدأ النقد العربي مرحلة جديدة مع انطلاقة القرن العشرين، وتشكّل مع هذه المرحلة منجز نقدي جديد يختلف نوعيًّا عن النقد القديم، وقد قام هذا الاختلاف النوعي على طبيعة المرجعية الجديدة لهذا النقد، وهي مرجعية وافدة أراد منها الناقد العربي الحديث أن تكون مصدر ممارسته، ودعامة إجراءاته الجديدة؛ فأمدته بالمناهج النقدية الحديثة التي تنوعت بتنوع زوايا مقاربة المسألة الأدبية: مفهومًا، ونصًا، وقد سعى الناقد العربي، عبر العقود الزمنية المتعاقبة، وراء محاولة إدراك مقولات هذه المناهج، ومن ثم توظيفها. وأمام هذه المناهج الوافدة، التي منحت النقد العربي صفة الحداثة، والتمايز النوعي عن تاريخه القديم، وجد الناقد العربي نفسه، أمام آليتين لتوطين المصطلحات النقدية الحديثة التي أنتجتها المناهج النقدية الغربية، وهما آليتان للتعاطي مع المصطلح الأجنبي: الفرنسي أو الإنجليزي، وعبرهما يتم التواصل حول المفاهيم التي وراءها بعد نقلها وطرحها للتداول المعرفي.

 

لم تعرف آلية التعريب رواجًا كبيرًا في النقد العربي الحديث، ولم يكن ذلك بسبب الحذر السابق الذي عرفه النقد العربي القديم أمام تعريب المصطلح الأجنبي؛ لاختلاف شروط المعرفة بين الواقعين الحضاريين العربيين: القديم والحديث، فلم يكن المصطلح الأجنبي، في النقد العربي الحديث، محدودًا، تقابله قدرة هذا النقد على إنتاج المفاهيم النقدية، ومن ثم تسميتها، كما كان الأمر مع النقد العربي القديم، بل كان المصطلح الأجنبي وافرًا؛ حاضرًا بكثافة في كل الممارسة النقدية العربية الحديثة؛ لأن حاضن هذا المصطلح المنهجي والمعرفي، ونقصد بذلك النقد والمعرفة الغربية، كانت هي المرجعية شبه الوحيدة للنقد العربي الحديث، وأمام هذه الوفرة في المصطلح الأجنبي، لم يعد هذا النقد قادرًا على التزام التعريب دائمًا؛ لأن اللغة النقدية ستستحيل أجنبية بدرجة عالية، على اعتبار أن التعريب التزام بالمصطلح الأجنبي وفق صورته الأصلية مع تحوير طفيف يطال شكله؛ ليصير أعجميًا باعتبار الأصل عربيًّا باعتبار الحال كما يقال[27].

 

والآلية الأخرى التي اعتمدها النقد العربي الحديث لصوغ مصطلحه هي الترجمة والتي مثلت له، حقيقة، السبيل الوحيد لتعامل ممكن مع النقد الغربي؛ لأنها تقوم على نقل المفهوم عبر تسمية عربية. فالمفهوم منجز في ثقافة أخرى، والمصطلح محاولة للتسمية والتعيين في إطار اللغة العربية، ونقول محاولة للتسمية؛ لأن ترجمة المصطلح في العربية هو تبار في اقتراح التسميات يصل حد التنافس بين النقاد العرب في أيهما يطرح التسمية الأنسب أو الأليق معتمدا على تقدير أن إدراكه كان الأقرب لفهم دلالات المفهوم، والقبض على جوهر تصوره. وقد دخل النقد العربي الحديث مرحلة أخرى من مراحل أزماته؛ إذ انصرف عن مهمة إنجاز المفهومات والرؤى النقدية إلى مجال الاشتغال على التسميات، وطرح البدائل المصطلحية، ويكفي أن نستدعي مصطلحًا نقديًّا واحدًا كالتفكيكية لندرك إلى أي حد تعددت ترجماته، واختلفت صور تسميته عربيًّا، ولا ريب أن حالة كهاته أوجدتها إشكالية تعدد الترجمات للمصطلح الواحد، وتميز درجات الفهم لطبيعة مفهومه، ستعمق مأزق النقد العربي الحديث الذي تحول المرجع النقدي الغربي لديه، من فرصة لبناء ممارسة نقدية فاعلة ومُنتجة، إلى مصدر يدفع إلى الاضطراب والتشويش؛ ومن ثم إلى إعادة إنتاج القصور والعجز. ولا يستقيم أن نحمّل النقد الغربي هذه المسؤولية؛ لأنه ببساطة ينهض بدور الفعل الطبيعي، والنقد العربي يعجز عن مجارة حقيقية لهذا الفعل، كما أننا لا نبرر تحميل ناقد عربي بعينه مسؤولية إشكالية ضخمة بحجم إشكالية ترجمة المصطلح النقدي من جهة مبادرته إلى طرح تسمية لمفهوم نقدي وافد تغاير تسمية أخرى اقترحها ناقد آخر؛ وذلك بالنظر إلى حالة الاضطراب العام استوطنت المشهد النقدي العربي الحديث.

 

المصادر:

1- الجرجاني الشريف، كتاب التعريفات، تحقيق إبراهيم الإبياري، دار الكتاب العربي، بيروت،ط4،1998.

2- الخوارزمي أبو عبدالله، مفاتيح العلوم، تحقيق إبراهيم الإبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1984.

3- الزبيدي محمد مرتضى، تاج العروس من جوهر القاموس، ج2، القاهرة.

4- الكفوي أبو البقاء، الكليات، تحقيق عدنان درويش، محمد المصري، دمشق، ط2، 1981.

5- الناقوري إدريس، المصطلح النقدي في (نقد الشعر)، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط2،2008.

6- الواد حسين، قراءات في مناهج الدراسات الأدبية، سراس للنشر، تونس، 1985.

7- بوطيب عبدالعاطي، إشكالية تأصيل المنهج في النقد الروائي العربي، عالم الفكر، ع1، 1998.

8- جعنيد عبدالرزاق، المصطلح النقدي قضايا وإشكالات، عالم الكتب الحديث، الأردن،ط1، 2011.

9- حجازي سمير سعد، النقد الأدبي المعاصر قضاياه واتجاهاته، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط1، 2001.

10- كيران بول كير، العولمة: الضغوط الخارجية، تعريب رياض الأبرشي، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 2003.

11- مطلوب أحمد، في المصطلح النقدي، المجمع العلمي، بغداد، ط2002.

12- مقران يوسف، المصطلح اللساني المترجم، دار رسلان، دمشق، ط2009.

13- مندور محمد، النقد المنهجي عند العرب، دار نهضة مصر، القاهرة.

14- وغليسي يوسف، إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2008.

15- وماييه لانسون، منهج البحث في الأدب واللغة، ترجمة محمد على أبو حميدة، دار أعمار للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 1999.



[1] ينظر، تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي، ج2، القاهرة، ص183، مادة صلح.

[2] ينظر: كتاب التعريفات، الشريف الجرجاني، تحقيق إبراهيم الإبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط4، 1998، ص44، ومفاتيح العلوم، أبو عبد الله الخوارزمي، تحقيق إبراهيم الإبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1،1984، ص 13 15.

[3] ينظر: المصطلح النقدي قضايا وإشكالات، عبد الرازق جعنيد، عالم الكتب الحديث، الأردن، ط1، 2011.

[4] ينظر: التعريفات، الشريف الجرجاني، تحقيق إبراهيم الإبياري، ص44.

[5] ينظر: الكليات، أبو البقاء الكفوي، تحقيق عدنان درويش، محمد المصري، دمشق، ط 2، 1981، ص 201.

[6] ينظر: في المصطلح النقدي، أحمد مطلوب، المجمع العلمي، بغداد، ط 2002،ص8.

[7] ينظر: المصطلح النقدي في (نقد الشعر)، إدريس الناقوري، المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، طرابلس، ط2، 1984، ص10.

[8] ينظر: إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، يوسف وغليسي، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2008، ص24.

[9] المصدر نفسه، ص24.

[10] العولمة: الضغوط الخارجية، بول كير كيران، تعريب رياض الأبرشي، مكتبة العبيكان، الرياض، ط1، 2003، ص29.

[11] المصدر نفسه، ص29.

[12] la mondialisation et ses effets, revue de la literature, Canada, 2000,p, 6

[13] brid, p,7

[14] العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي، مجموعة من الباحثين، مركز البحوث مديولي، القاهرة، ط1، 1999، ص117.

[15] المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة،1983،ص195.

[16] إشكالية تأصيل المنهج في النقد الروائي العربي، عبد العاطي بوطيب، مجلة عالم الفكر، ع1، 1998، ص50.

[17] إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، يوسف وغليسي، ص 56.

[18] ينظر: مفاتيح العلوم، أبو عبد الله الخوارزمي، ص 12 13.

[19] ينظر: منهج البحث في الأدب واللغة، لانسون وماييه، ترجمة محمد على أبو حميدة، دار أعمار للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 1999، ص25.

[20] ينظر: في المصطلح النقدي، أحمد مطلوب، ص17، وأيضًا: المصطلح اللساني المترجم، يوسف مقران، دار رسلان، دمشق، ط 2009، ص8.

[21] ينظر: قراءات في مناهج الدراسات الأدبية، حسين الواد، سراس للنشر، تونس، 1985، ص40.، وأيضًا النقد المنهجي عند العرب، محمد مندور، دار نهضة مصر، القاهرة، ص5.

[22] قراءات في مناهج الدراسات الأدبية، حسين الواد، ص51.

[23] ينظر: إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، يوسف وغليسي، ص 54 55.

[24] ينظر: النقد الأدبي المعاصر قضاياه واتجاهاته، سمير سعد حجازي، دار الآفاق العربية، القاهرة، ط 1، 2001، ص 90 91.

[25] ينظر: في المصطلح النقدي، أحمد مطلوب، ص1718.

[26] ينظر: مجموعة القرارات العلمية لمجمع القاهرة، أحمد مطلوب،19ص.

[27] ينظر: إشكالية المصطلح في الخطاب النقدي العربي الجديد، يوسف وغليسي، ص87، وشحادة الخوري، ص158.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تطور المصطلح النقدي العربي
  • المبادئ الأساسية لعلم المصطلح
  • علم المصطلح النقدي بالمغرب: من حيث إرهاصات نشأته، ومفاهيمه الأساسية، وقضاياه الإشكالية، ومناهج درسه

مختارات من الشبكة

  • نقدنا العربي الحديث: مثاقفة أم احتذاء؟(مقالة - موقع الدكتور وليد قصاب)
  • المسلمون الغربيون من مجالات التأثر والتأثير بين الثقافات المثاقفة بين شرق وغرب(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • الوجود الإسلامي من مجالات التأثر والتأثير بين الثقافات المثاقفة بين شرق وغرب(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • البعثات التعليمية من مجالات التأثر والتأثير بين الثقافات المثاقفة بين شرق وغرب(مقالة - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • مناحي التأثر والتأثير بين الثقافات: المثاقفة بين شرق وغرب (PDF)(كتاب - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • مجالات التأثر والتأثير بين الثقافات: المثاقفة بين شرق وغرب (PDF)(كتاب - موقع د. علي بن إبراهيم النملة)
  • المثاقفة مع الآخر(مقالة - موقع الدكتور وليد قصاب)
  • نقد النقد الحديثي المتجه إلى أحاديث صحيح الإمام البخاري: دراسة تأصيلية لعلم (نقد النقد الحديثي) (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • شيء من التفكير النقدي العربي القديم: ابن سلام الجمحي أنموذجا (1)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • بلاغة الصورة السردية الموسعة أو المشروع النقدي العربي الجديد(مقالة - حضارة الكلمة)

 


تعليقات الزوار
2- المصطلح
خلود - ليبيا 03-05-2016 12:13 AM

موضوع مهم ، وشائك ويعرض إشكالية المصطلح بطريقة علمية وموضوعية . ولكن المصطلح النقدي اليوم قد تخطى مراحل كثيرة ، جعلته أكثر مواكبة لعلمه ، ولم يعد هناك هذا التباعد الشديد بين المصطلحات في كتابات النقاد العرب .

1- موضوع رائع
نورس - فلسطين 24-06-2015 05:57 PM

الحمد لله على هذا الموضوع الرائع

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 24/11/1446هـ - الساعة: 12:14
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب