• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

قراءة في قصة " بكاء الشادوف "

قراءة في قصة " بكاء الشادوف "
د. نبيل محمد رشاد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 10/4/2014 ميلادي - 9/6/1435 هجري

الزيارات: 9741

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

بكاء الشادوف

أقصوصة لمحمد عبدالحليم عبدالله

 

يستوقف نظرَ مَن تسوقه قدماه إلى تلك البقعة الهادئة الواقعة على النيل في القاهرة قطعةُ أرضٍ من بقايا الحقول، تنظر إليها القصور في ازدراءٍ وكِبْر، لكن الخصب الكامن في معدنِها بدا كأنَّه يتلقَّى عنجهيَّة المباني بتسامحٍ وعفو وإغضاء، كنفس العمل الذي يأتيه سكان هذه المباني، ونفس العمل الذي يأتيه الكادحون في هذه الأرض.

 

وهناك كوخ صغير يجثم بين قصرين، جدرانُه من صفيح وحطب، وطين وقصب، وجثم كأنه رصد وكله فرعون بكنز ثمين.

 

يتصاعد الدُّخَان من بابه وسقفه وكواه والتفاريح التي تملأ جدرانه، فلو رأيته من بعيد لظننت أنه يحترق.

 

لكنك حين تقتربُ منه يأخذ سمعَك أولَ ما يأخذ غناءٌ ناشزٌ لا انسجام فيه يتردَّد بلهجة صعيدية، ويراسله على البعد في وسط الحقل بكاء لشادوف ينزف الماء من بئرٍ غير غزيرة؛ حيث يسقي السبانخ والخبَّازى والنَّعْناع والجرجير، وبعض شجرات من الورد نثرت في فوضى على حوافي الحقل؛ لأن غرسها لم يكن عملاً مقصودًا لذاته.

 

وإن كنتَ ممَّن لا يقيسون الأمور بالأرقام كما يفعل عدَّاد الماء أو عداد الكهرباء، حكمت بأن في هذا الكوخ سعادة قد لا تكون فيما هو مُنْزوٍ بينه من قصور.

 

وكثيرًا ما يأخذ بصرَك أولَ ما يُرخِي الليلُ سدولَه غلامٌ في السادسة من عمره، أسود، صعيدي، محلوق الرأس بغير انتظام، جميل العينين، أخضر الأسنان من كثرة أكل الخضر، واسع الجلباب، مفتوح الصدر.

 

ترى هذا الغلام وقد جعل من إحدى الصفائح الفارغةِ دفًّا يوقع عليه غناءً يطرب له جدًّا، وقد تطرب له أنت كذلك على شرط أن تسمعه بأذنيه.

قلَّما يمسك الشادوف عن البكاء.

قلَّما يكف الدخان عن التصاعد.

وقلما يتخلف الغلام عن الغناء.

مشاهد متتابعة متلاحقة كأن كلاًّ منها كان سببًا في ظهور الآخر!

 

 

• • • •

كان الليلة جالسًا على باب الكوخ واجمًا لا يُغنِّي، والدفُّ الصفيح ملقًى على بُعْدٍ منه كأنه عودٌ خالٍ من الأوتار، وكان وجهُه الذي بدت ملامحه تحت ضوء شاحبٍ من مصباح صغير متجهًا إلى نافذة القصر، فقرأتُ عليه حزنًا، وأظن أنه لولا وقوف الظلام بيني وبينه لرأيتُ في عينيه البريئتين دموعًا، وأيَّد ما ظننت أنني سمعتُه يُهِيبُ بأمه الجالسة على العتبة من الداخل قائلاً لها - وهو يشير إلى نافذة مضيئة -: أما يزال "عادل" مريضًا بالحمى؟ ترى كيف حاله الآن؟ إنني لم أرَه من زمن طويل.. طويل.

 

كل يوم أُجهِّزُ له الورد، ولكنه لا ينزل.. ليتني أستطيع الدخول إليه.. منعني الخدم خمسَ مرَّات، فرميتُ الوردَ في النيل؛ لأنني قطفته من أجله.

 

فقالت الأم في حدة شديدة: إيَّاك أن تحاول هذا مرة أخرى.. مغفَّل.. "أمتى ح تتفهم"، إن أمه غاضبة، وتزعم أن نزوله إليك هو الذي سبب له الأمراض، ألم تسمعها وهي تُحذِّره من أن يمشي في الحقل، أو يقترب من الكوخ؟! فقال الغلام:

 

سمعتها يا أمي، وكانت تفتح النافذة المطلة علينا وتنحني إلى الأمام وهي تشير بيديها وتنادي عليه: "دولا.. دولا.. ألم أنهك عن النزول؟!"

 

فيفر عادل من أمامي!

 

ثم يسكت الغلام برهة، ويشرد بصره في الفضاء قبل أن يمصمص بشفتيه، ويهز رأسه في صمت، ثم يسأل أمه:

• لكن .. لم يمرض عادل يا أم، وهو يأكل لحمًا ويعطيني شيكولاته؟!

 

إن الدكتور في المستشفى قال لي يوم ذهبت مريضًا: "غذِّ نفسك يا شاطر"، لِمَ هو مريض يا أم؟!

• لم يمرض من الأكل.

• هل مرض من الجوع؟.. هل حرمه أبوه من الأكل لأنه (لا يسمع الكلام)؟

• ولا هذا يا مرسي.. إنه مريض بالحمى.

• سيشفى بإذن الله، فقط عليه أن يغذي نفسه.

•- بالعكس يقولون: إن الطبيب منعه من الأكل وهو يعيش على السوائل وحدَها.

 

فهز الغلام رأسه في حيرة مرة أخرى؛ لأنه لم يستطيع أن يوفق بين مشكلتين بدا التناقض واسعًا بينهما: ناس يمرضون فيشفون إن شبعوا، وناس يمرضون فيشفون إن جاعوا.

 

وفاحت روائح العدس فعطرت نواحي الكوخ، وجلس مرسي إلى العشاء بين أبويه، وبات بعدها يغطُّ في سبات عميق؛ لأنه البصل كان أكثر من كل مرة.

 

• • • •

ولم تشَأْ أسرةُ عادل أن تؤخِّر حفل ميلاده وإن كان لا يزال في دور النقاهة؛ لأن في تأخير حفل الميلاد شؤمًا على المواليد! ورأى مرسي وهو جالس عند باب الكوخ معطل الدف أن القصر الليلة في زينة، وأن أناسًا كثيرين يدخلون، وسأل فعلِم حقيقة الموضوع، وتقبَّل المريض التهاني والهدايا وهو في سريره، واختصر الحفل مراعاة للظروف، وتجمع المدعوون يسمرون، وتركوه وحده في الفراش.

 

وكانت هناك أقدام تتسلل على السلَّم الخلفي في طريقها إلى عادل، وحالف الحظُّ صاحبَها فلم يشعر به أحد، ودخل مرسي على صديقه غرفة نومه وفي قلبه شوق، وفي يمينه حزمة كبيرة من الأزهار لم يُنسِّقها سوى الحب، وكان المريض مسبل الجفنين كأنه نائم، فأقبل عليه صديقه كما يُقبِل الظامئ على المنهل، وأكب عليه في قُبْلَة أيقظته من أحلامه، وعجب عادل؛ لأن البراءة لم تكن قد خضعت بعد لسلطان التقاليد، فابتسم له، ومسح على رأسه الأشعث المغبر، لكنه سرعان ما تذكر أمَّه وخُيِّل إليه أنها تنادي من النافذة المطلة على الحقل وهي تشير بإحدى يديها:

"دولا .. دولا .. ألم أنهك عن النزول؟!"

 

فقال لصاحبه:

انزل يا مرسي.. أنت سبب مرضي كما تقول أمي!!

 

فلم يَسَعِ الضيفَ إلا أن يحملقَ فيه بعينين مستغربتين فيهما آثار من الدموع وهو يشير إلى صدره بإصبعه متعجبًا منكرًا: أنا؟ ... أنا؟

 

وكأنما عزَّ على الصديق الثاني أن يبكي زائره فهمس: "أنت زعلت..".

 

فمال مرسي عليه ليُقبِّله مرة أخرى.

 

• • • •

وتنقضي أيام يتم فيها شفاء عادل، وينزل إلى الدنيا ليملأها نورًا، وتحقق الأم نذرًا أنذَرَتْه لله، فتحرم على ابنها أن يحومَ حول الكوخ القريب ولو مرة واحدة، وتظل عينا الصبي الثاني تبحثانِ في سكون ولهفة عن الصبي الأول حتى إذا ما غلبهما اليأس اتَّجهتا نحو نافذتِه تطالعان النور.. ثم تنقضي أيام أخر..

 

وتنسق الأمور لأم عادل؛ لأن ابنها أصبح في أمان.

 

إن مرسي لا يظهر له ظل في المكان جميعه، ولا يسمع له صوت، وكثيرًا ما يهزُّ الشوق إليه ابنها الصغير فيطل على النافذة عله يراه عند الكوخ.. كان مرسي يهتف باسمه، لكن صوته لم يصل إليه؛ لأنه كان بعيدًا.

 

كان راقدًا في مستشفى الحميات في الدرجة الثالثة؛ حيث تتقارب الأسِرَّة في ازدحام قذر، تشرف عليه نفوس لا تحب عملها.

 

كان الغلام إذا هتف باسم صديقه وهو في وهج الحمى تنهَّدت إحدى الأمهات في سرير مجاور لتسهر على ابنها الصغير كما يقضي نظام المستشفى، ثم قالت:

• "يا عيني .. لازم أخوه!!"

 

لم يكن هناك غناء؛ لأن مرسي غائب، لكن الدفَّ الصفيح كان ملقى في إهمال على مقربة من الباب.

 

والشادوف كما هو لا يكف عن البكاء، والدُّخَان كما هو كذلك لا يتخلف عن التصاعد.. أعني أن ظاهرة واحدة من الظواهر الثلاث هي التي غابت!

 

وتدافعت الأيام في طريقها، والمريض في المستشفى يزهد في الطعام يومًا بعد يوم حتى قنع بالماء .. ثم استغنى عنه آخر الأمر!

 

وارتفع صراخٌ في الكوخ بعد ارتفاع الضحى حين نعى المستشفى إلى الأبوين ولدَهما.. ثم غابا قليلاً عن الحقل ريثما قضوا له آخر حاجاته ثم عادوا.

 

وكان أول ما عملته أم مرسي أن أخذت الدف وجرت به نحو النهر وألقته فيه.

 

وأشرقت شمس اليوم التالي فتخلَّفت الظاهرتان الباقيتان.. لم يكن الشادوف في ذلك اليوم يبكي؛ لأن صاحبه كان يبكي بعينيه.. ولم يكن يتصاعد من الكوخ دخان.

 

وكان هناك صوت في النافذة ينادي بين حين وحين:

"دولا .. دولا .." فيكمل الوالدانِ في ضميرهما بقية الدعوة: "ألم أنهك عن النزول؟!"

 

ثم تكفكف المرأة دمعَها بطرحتها، ويمسح الرجل دمعه بطرف كمه.

 

ثم أظلت الليلة التالية فلم يوقد في الكوخ مصباح، بل لبس الظلام منذ مدخل الليل حتى نهايته.. أما القصر، فقد كان مشرقًا بأضوائه، مزهوًّا بجمال بنائه.. فهل أحسَّ بالزهو الذي يحسه الصنم حين يُحرَقُ تحت قدميه قربان؟!

 

• • • •

القراءة:

محمد عبدالحليم عبدالله روائي مصري، ولد عام 1913 بإحدى قرى محافظة البحيرة، تخرج في كلية دار العلوم، وله عدد من الروايات مثل: "لقيطة"، و"غصن الزيتون"، و"من أجل ولدي"، و"البيت الصامت".

 

وله عدد من المجموعات القصصية؛ مثل: "ألوان من السعادة"، و"النافذة الغربية"، و"أشياء للذكرى"، و"جوليت فوق سطح القمر".

 

وقد لاحظ الأستاذ "يوسف الشاروني" أن نشأةَ المبدع الريفية قد تركت "بصماتها الواضحة على ما كتبه من أدب فيما بعد، لا سيما في أعماله المبكرة، سواء من حيث اختياره للأماكن التي تدور فيها أحداث قصصه، أو شخصياته، التي خضعت تصرفاتها - على حدِّ تعبيره - لمشاعر الريفي الحيي الخجول المتدين"[1].

 

وإذا كان الأستاذ "الشاروني" عند تحليله لمجموعته القصصية "حافَة الجريمة" قد قال: "تضم هذه المجموعة سبعَ عَشْرَةَ قصَّةً، لو حذفنا منها قصة أو قصتين لما استنشقنا غير رائحة الريف"[2].

 

فإننا نستطيع أن نقول القول نفسه على موضوعات مجموعته القصصية "النافذة الغربية" التي أخذنا منها أقصوصة هذا الدرس.

 

والأستاذ محمد عبدالحليم عبدالله رجل مصري من صميم الريف، قُدِّر له أن ينال حظًّا من التعليم والثقافة وَفْقًا لبيئته التي نشأ فيها وترعرع بين أحضانها، ومن ثَمَّ فقد تبنَّى عرض مشكلاتها في قصصه، حتى لَيستطيعُ دارس علم الاجتماع أن يقفَ على كثيرٍ من ملامح مجتمع ريف مصر قبل الثورةِ من خلال قراءاته لقصص محمد عبدالحليم عبدالله.

 

لقد كان الرِّيفُ المصري قبل الثورة - ثورة يوليو 52 - يعاني من ويلات ظلمات ثلاث؛ (الفقر، والجهل، والمرض)، وكان الفلاح المصري يقضي ساعة نهاره في شقاء وكدح، يفلح الأرض، ويتعهَّدها بعناية حتى تؤتي أينع الثمار، ثم يذهب عائدُ تعبِه وحرثِه وزرعه إلى غيره، إلى الإقطاعي الذي يملك الأرض، وربما يملك الفلاح أيضًا.

 

لقد كان الفلاح قبل يوليو 52 مظلومًا أبشع الظلم، لا ينال أجرًا على عرقه، ولا يستطيع أن ينال حظًّا - ولو ضئيلاً - من التعليم، وإذا مرض لم يجد مَن يُعالِجُه، ويظل يتقلَّب ويتلوى في فِناء داره إلى أن يحين حينه.

 

هذه هي البيئة التي نشأ فيها محمد عبدالحليم عبدالله، وهذا هو حالها من السوء، وأقصوصة "بكاء الشادوف" تحاول أن تظهر التناقض الواضح بين هاتين الطبقتين من طبقات المجتمع، طبقة الأغنياء الذين يتسلَّطون على الناس بما يملكون من الثروة والجاه، وطبقة الفقراء الذين كان يُمثِّلهم الفلاح المصري أصدق تمثيل.

 

تحاول هذه الأقصوصة أن تُركِّز على سلوك هؤلاء وأولئك؛ فالفقير الذي يمثله "مرسي" الطفل الصغير الذي ينتمي إلى الفلاحين إنسان عفٌّ، بسيط، ودود، متسامح، وصديقه "عادل" الذي ينتمي إلى طبقة الأغنياء لا يستطيع إلا أن يتأثر بما يتحكم في قصره من أعراف، ومن ثم فهو يُصعِّر خدَّه في أكثر من موقف، ويقابل مرسي عندما يذهب لزيارته وهو مريض بعجرفة وعنجهية.

 

وتشير الأقصوصة إلى أن مرسي الفقير البسيط الذي يسكن في كوخٍ متواضع يشعرُ بالسعادة غامرة من أعماق نفسه؛ لأن حياته بسيطة رتيبة هادئة.

 

ولأن الإحساس بالسعادة شيء كامنٌ في داخل النفس، يعمل الرضا على زيادة الشعور به، أما صاحبه (عادل) فعلى الرغم من غناه، ومن المعيشة الرغدة التي يحياها، فإنه لا يشعر بالسعادة؛ لأنه يعيش تحت وطأة قيدٍ ثقيل من الأعراف والبروتوكولات التي يلزمُ بها أصحابُ القصور أنفسَهم وذويهم.

 

ومن المظاهر التي تدل على ولوع الكاتب بإبراز المتناقضات التي في المجتمع أيضًا، ما ألمح إليه الكاتب من أن (عادل) حينما مرِض جاءه الطبيب إلى المنزل، وظل تحت عنايته الكاملة حتى عُوفِي من مرضه، على حين أن (مرسي) حينما مرِض بالمرض نفسه أُرسِل إلى مستشفى، ثم جلس في مقاعد الدرجة الثالثة؛ حيث الإهمال وسوء المعاملة؛ لأن هذا القسم تشرف عليه أشخاص لا تحب عملها.

 

كأن "محمد عبدالحليم عبدالله" يريد أن يقول: لقد صار المجتمع المصري مجتمعًا ماديًّا صرفًا، فهؤلاء الذين يُشرِفون على هذا القسم من أقسام المستشفى في الحقيقة لا يُؤدُّونَ أعمالهم؛ لأنهم لا عائدَ يعودُ عليهم من وراء تأدية هذه الأعمال، وكأنهم لا يقتنعون بما يأخذون من أموال الدولة - لاحظ زمن كتابة القصة - ويرون أن من واجبِهم أن يبتزُّوا جيوب الناس.

 

في التحليل الفني للقصة:

الوصف: يتَّكئ الكاتب على الوصف في بناءِ قصصه، وهو حين يصفُ إنسانًا أو جمادًا يُعنَى بالأشياء الصغيرة جدًّا، ويستنطقُها حتى لَتبوحُ بأسرار صاحبها النفسيَّة، وحتى لكأنك تستطيع إن كنتَ من المبدعين في الفنون التشكيلية أن تُمسِك بريشتك وترسم صورةً مقاربةً للأصل للمنظر أو المشهد الذي وضعه الكاتب؛ فقد بدأ أقصوصتَه بوصفِ المكان الذي هو وعاء الحدث وصفًا تفصيليًّا، فقال يصف القصر:

"يستوقف نظرَ مَن تسوقه قدماه إلى تلك البقعة الهادئة الواقعة على النيل في القاهرة قطعةُ أرض من بقايا الحقول تنظر إليها القصور في ازدراءٍ وكِبْر، لكن الخصب الكامن في معدنها بدا كأنه يتلقَّى عنجهية المباني بتسامح وعفو وإغضاء، كنفس العمل الذي يأتيه سكان هذه المباني، ونفس العمل الذي يأتيه الكادحون في هذه الأرض".

 

ثم قال يصف الكوخ:

"وهناك كوخ صغير يجثم بين قصرين.. جدرانه من صفيح وحطب، وطين وقصب، وجثم كأنه رصد وكله فرعون بكنز ثمين، يتصاعد الدخان من بابه وسقفه وكواه والتفاريح التي تملأ جدرانه، فلو رأيته من بعيد لظننت أنه يحترق".

 

وبعد أن وصف المكان وصَف بطلَ الأقصوصة أو الشخصية الرئيسية في القصة، وهو الغلام "مرسي" وصفًا دقيقًا يستوعب كل ملامحه، ويُفصِح عن حالته النفسية؛ فلقد حدَّد سنه، ووصف شكله طولاً وعرضًا ولونًا، ووصف ملابسه، ووصف العمل الذي يتلهَّى به يقطع أوقات الفراغ، يقول:

"وكثيرًا ما يأخذ بصرَك أولَ ما يُرخِي الليلُ سدولَه غلامٌ في السادسة من عمره، أسود، صعيدي، محلوق الرأس بغير انتظام، جميل العينين، أخضر الأسنان من كثرة أكل الخضر، واسع الجلباب، مفتوح الصدر، ترى هذا الغلام وقد جعل من إحدى الصفائح الفارغة دفًّا يوقع عليه غناءً يطرب له جدًّا".

 

ونلاحظ أن كاتب القصة جعل شخصيَّتها الرئيسية شخصية تنتمي إلى صعيد مصر حتى توحي بما عليه أهل الصعيد من إباء وشمم، كما نلاحظ أنه عبَّر بأوصاف تنمُّ عن فقره الشديد:

• "محلوق الرأس بغير انتظام"، ربما لأن أمه هي التي تقوم له بهذا العمل؛ لأنه لا يمتلك مالاً يذهب به إلى الحلاق.

 

• و"أخضر الأسنان من كثرة أكل الخضر"، ليشير بها إلى أن غذاء هذا الغلام يعتمد بالدرجة الأولى على ما يخرج من الأرض من الخضر، وكأنه يريد أن يدل بهذا على شدة فقر هذا الغلام؛ لأنه لا يأكل اللحم بسبب فقره.

 

• "واسع الجلباب" ليدل على أن الجلباب الذي يرتديه لَمْ يُصنَع خصيصى له، وإنما هو جلباب أبيه، أو جلباب أهدي إليه من أحد بعد أن استهلكه، ولم يعُد يصلح للاستخدام.

 

• "مفتوح الصدر" يدل بها الكاتب على أن هذا الغلام لا يرتدي شيئًا تحت هذا الجلباب الواسع.

 

ولا يعتمد الكاتب في وصفه على حاسة البصر وحدَها، بل يتَّكئ في وصفه على استخدام معظم الحواسِّ التي يدرك بها الإنسان حقائق الأشياء، فمن اتِّكائه على الوصف السمعي قولُه في وصف الكوخ:

"لكنك حين تقتربُ منه يأخذُ سمعَك أولَ ما يأخذُ غناءٌ ناشزٌ لا انسجام فيه يتردَّد بلهجة صعيدية، ويراسله على البعد في وسط الحقل بكاء لشادوف ينزف الماء من بئر غير غزيرة".

 

اللغة: لغة القصة فصيحة إلا فيما ندر، ويبدو في كثير من عباراتها تأثر المبدع بالثقافة اللُّغوية العربية والإسلامية التي درس طرفًا منها في كلية دار العلوم، ترى ذلك في قوله عند وصف الغلام "وكثيرًا ما يأخذُ بصرَك أوَّل ما يرخي الليل سدوله غلام.."؛ حيث يستخدم في الحديث عن إقبال الليل تعبير امرئ القيس، الشاعر الجاهلي المشهور في معلقته واصفًا تراكم الظلام، وشدة وطأته عليه في قوله:

وليلٍ كموجِ البحر أرخى سدولَه
عليَّ بأنواعِ الهموم ليبتلي

 

وفي موضع آخر يريدُ الكاتب أن يصفَ شوق مرسي إلى رؤية صاحبه الذي لم يَعُدْ ينزل من القصر بسبب مرضه، فيذكر أن مرسي صعِد إلى حجرة صاحبه من الباب الخلفي حتى لا يراه أحد، ودخل فوجد صاحبه نائمًا، يقول الكاتب:

"فأقبل عليه كما يقبل الظامئ على المَنْهَل"، ولا شك أن هذه الصورة مستمدة من الثقافة اللُّغوية العربية مثل سابقتها.

 

وفي نهاية القصة يبدو تأثُّره بالثقافة العربية، وهو يقارن بين حال الكوخ الذي تسربل بالظلامِ بعد موت صاحبه، وحال القصر الذي ظل متوهِّجًا من كثرة الأضواء، فيقول:

"ثم أظلت الليلة التالية، فلم يُوقَد في الكوخ مصباح، بل لبس الظلام منذ مدخل الليل حتى نهايته.. أما القصر، فقد كان مشرقًا بأضوائه، مزهوًّا بجمال بنائه، فهل أحس بالزهوِّ الذي يحسه الصنم حين يُحرَقُ تحت قدميه قربان؟!".

 

وقد وُفِّق الكاتب في استخدام اللغة العامية في الأقصوصة؛ حيث كانت هي اللغة التي يتكلم بها مرسي، وتتكلم بها أمه دائمًا، وهذا شيء محمود للكاتب لأنهما غير متعلِّمين، وكذلك كانت أم عادل تتكلَّم بالعامية، وممن تكلم بالعامية أيضًا في القصة الأم التي كانت تسهر على رعاية ولدها بالمستشفى إلى جوار مرسي.

 

وإلى جوار اللُّغتين الفصحى والعامية نجد الكاتب يتَّكِئ كثيرًا على معجم التعبيرات الدالة على الحركة الجسمية، فنراه يستخدم الانحناء إلى الأمام، ومصمصة الشفاه، وهز الرأس، والتنهُّد، والإشارة بالأصابع، لإثراء التعبير والتصوير في القصة.

 

وقد وقع الكاتب في بعض الأخطاء اللُّغوية والنَّحْوية أذكر منها على سبيل المثال تقديم التوكيد على المؤكد في أكثر من جملة؛ كما في مثل قوله: "كنفس العمل الذي يأتيه سكان هذه المباني، ونفس العمل الذي يأتيه الكادحون في الأرض"، وكان الصواب أن يقول: "كالعمل نفسه الذي يأتيه سكان هذه المباني، والعمل نفسه الذي يأتيه الكادحون في الأرض".



[1] يوسف الشاروني: الروائيون الثلاثة، طبعة هيئة الكتاب سنة 1980م ص219.

[2] السابق نفسه ص267.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أقاصيص
  • في الدعوة إلى السلام لمرثد الخير بن ينكف
  • هوية الكتابة النسوية: قراءة في رواية "الحب الظمآن" لـ: د. ثريا محمد علي
  • بكاء المخلوقات

مختارات من الشبكة

  • قراءة موجزة حول كتاب: قراءة القراءة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • أهمية القراءة(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • ملخص مفاهيم القراءة بقلب(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • وقل رب زدني علما(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • القراءة المقبولة والمردودة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • منهج الزمخشري في الاستشهاد بالقراءات القرآنية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • قياس وتدريبات القراءة بقلب(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • التوجيه الصوتي للقراءات القرآنية في كتاب "لطائف الإشارات لفنون القراءات" للقسطلاني، الصوامت نموذجا(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • سورة الصمد في الصلاة بين قراءتها عادة وقراءتها محبة!(مقالة - آفاق الشريعة)
  • بؤس القراءة الحداثية للوحي العزيز: قراءة في فكر محمد شحرور(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 


تعليقات الزوار
1- رسالة حب
عبدالعزيز الجابري - العراق 29-01-2016 08:33 PM

رسالة حب لكل أديب هدفه تقويم وإصلاح المجتمع

رأيت هذه الأقصوصة مع تحليلها منهجاً يدرس في الجامعات

فكم هي رائعة وكذا جهودكم

فشكراً لكم .

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب