• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

موسيقا الشعر

موسيقا الشعر
د. إبراهيم عوض

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 25/3/2013 ميلادي - 13/5/1434 هجري

الزيارات: 9544

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

موسيقا الشعر

فنون الأدب في لغة العرب (7)


إن عنصر الموسيقا في الشعر هو من العناصر الجوهرية التي لا يكون الشِّعر شعرًا بدونها، وعبثًا يحاول المسفسطون إيهامَنا بأن الموسيقا ليست بذات أهمية، وأن الشعر يظل شعرًا حتى في غيابها، وهي دعوى أشبهُ شيء بأن يقول قائل: إن البيتَ يظل بيتًا حتى لو لم يكن له جدران أو سقف، أو إن الإنسان يظل إنسانًا حتى لو لم يكن له رأسٌ أو جذع، إن البيت في هذه الحالة لا يعود بيتًا، والإنسان لا يظل إنسانًا، بل يصير كائنًا آخر مختلفًا، وليست الموسيقا شيئًا مجتلَبًا يُلْصق بالقصيدة، بل هي جزء منصهر مع بقية أجزائها، وتأثيرها تأثير خطير، ودعْك ممن يعمل على أن يُدْخل في رُوعنا أن الشعر بدون وزن وقافية أفضل منه بهما، فهذا خرق محض، أعاذنا الله منه ومما يجره على حياتنا هذا الخرق!

 

إن الموسيقا تخلق للقصيدة جوًّا عجيبًا يعبِّد الطريق إلى قلوبنا تعبيدًا أمام ما تتضمنه من معانٍ وأخيلة وأحاسيس، ويضفي عليها سحرًا وفتنة، فإذا أضيف إلى الوزن والقافية وسوسةُ السينات، أو قرع العَيْنات، أو جَرْش الجيمات، أو بَحَح الحاءات، أو صفير الصادات، أو مدات حروف العلة، أو تجاوب كلمة أو عبارة معينة في البيت الواحد أو في عدة أبيات متتالية أو متقاربة، أو رنين السجع، أو الجناس، أو الطباق، أو الموازنة، أو رد العجز على الصدر مثلاً، وجاء كل هذا في موضعه المناسب، وصرَّفته يدٌ صَنَاعٌ كان السحر أعظم، والفتنة أبلغ وأعجب، الواقع أن شعرًا بدون وزن وقافية - إن صح تسميته في هذه الحالة شعرًا، وهو لا يصح ولا يمكن أن يصح - هو كالأرض الجرداء مقارنةً بالروض النضير تصدح فيه الطيورُ ابتهاجًا بمقدم الربيع الجميل، وقد هب عليه النسيمُ العليل.

 

خذ مثلاً قول المتنبي:

ومن جاهل بي وهو يجهلُ جهلَه
ويَجهلُ علمي أنه بي جاهلُ

 

حيث نحس الجهل مجسمًا جراء تكرار الشاعر للكلمات المشتقة من مادة "ج هـ ل"؛ إذ تكاد تلك الكلمات تسد الأفق على القارئ أينما نظر فلا يجد حوله إلا الجهل، أو قوله من نفس القصيدة:

فقلقلتُ بالهمِّ الذي قلقل الحشا
قلاقلَ عِيسٍ كلُّهن قلاقلُ

 

حيث تتتالى القاف واللام المقلقلتان قلقةً طبيعية بجرسهما ذاته، وهو ما يريد الشاعر بثَّه في نفوسنا، أو قول البحتري في سينيته البديعة حين ذهب مغاضبًا حزينًا قد استولى عليه اليأس بعدما شاهد الموت بأم عينيه في معية الخليفة العباسي المتوكل حين انتفض عليه ابنه المنتصر وأعوانه وقتلوه هو ووزيرَه الفتح بن خاقان، وكاد أن يَضيع البحتريُّ معهما لولا لطف الله؛ إذ يقول في أولها:

صُنتُ نفسي عما يدنِّس نفسي
وترفَّعتُ عن جدا كلِّ جِبسِ

 

وهو البيت الذي تتردد في جنباته حرف السين "ومعه الصاد" بوسوسته العجيبة التي لا أحسبني أخطئ إذا قلت: إنها تلائم ما كان الشاعر يحسه آنئذ من وحشة وخوف في عزلته البعيدة عن دار الخلافة، وكأنه يناجي نفسه، ويوسوس لها بما يريد، أو قول إبراهيم ناجي في مفتتح قصيدة "العودة"، التي لا أظن أن يجد القارئ لها نظيرًا في الشعر العربي منه والعالمي على السواء:

هذه الكعبةُ كنَّا طائفيها
والمصلين صباحًا ومساء

 

حيث يمكن القولُ بأن هذه المدات التي تأخذ علينا السبيل أينما اتجهنا توحي بطول ما أنفق الشاعر من وقت في الطواف حول كعبته والصلاة عندها في الصباح والمساء على السواء لا يتوقَّف عن ذلك لحظة، أما ألوان المحسنات البديعية التي تزيد القصيدةَ إيقاعًا فوق إيقاع فلا أجد قصيدةً تظهر فتنتها وروعتها أحسن من نونية ابن زيدون التي تقطر ترفًا وعبقريةً وحبًّا وألمًا وزهوًا وفخرًا وخوفًا وتوجسًا معًا، وما من مرة قرأتها إلا أحسستها تهصر قلبي هصرًا، والحق أنني لا أتصور وجود قصيدة تضاهيها في حسن تصرُّف مبدِعها بتلك المحسنات، وازديادها بها جمالاً وإبداعًا على ما لها من الجمال والإبداع، ولنجتزئ منها بتلك الأبيات، وكل أبياتها في الواقع قد بلغت غاية السموق التي ليس بعدها من غاية، وإني لأستعجب كيف انقلبت "ولاَّدة" على الشاعر الوزير الشاب، ناظم تلك الدرة العبقرية، التي هي أغلى من كل مَهْر، وأعظم من أية هدية يمكن أن تخلب لبَّ فتاة مثلها، أو كيف بقيت، وقد كانت مثالاً للجمال البديع ببياض بشرتها، وسبائك شعرها الذهبي، وزرقة عيونها، وأناقة ملابسها، وأرستقراطية ثقافتها، ورقَّة ذوقها، وترف سلوكها، وفوق ذلك كله شرف نسبها "أليست بنت الخليفة؟" دون زواج إلى آخر عمرها الذي تجاوز الثمانين رغم وقوع كبار القوم في غرامها، وتدلُّههم في هواها؟ ألا إنه لَلُغز كبير من ألغاز القدر والتاريخ التي لا يمكن فهمُها ولا تفسيرها، يقول ابن زيدون في "ولادة" رافعًا إياها إلى مرتبةٍ تقصر عنها كلُّ المراتب، فقد جعلها فردوسًا من فراديس الجنان، كما جعل تحيتها على البُعد كفيلةً بأن تردَّ عليه الحياة، فضلاً عن أنها مخلوقة من مسك، على حين خلق جميع الناس من طين:

بِنتم وبنَّا، فما ابتلتْ جوانحُنا
شوقًا إليكم، ولا جفَّتْ مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرُنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا
حالت لفقدِكم أيامُنا فغدَتْ
سودًا، وكانت بِكُم بِيضًا ليالينا
إذ جانبُ العيش طَلْقٌ من تألُّقِنا
وموردُ اللَّهو صافٍ من تصافينا
لِيَبْقَ عهدُكم عهدَ السرور، فما
كنتم لأرواحنا إلا رياحِينا
لا تحسَبوا نأيَكم عنا يغيِّرنا
إن طالما غيَّر النأيُ المحبِّينا
يا ساريَ البرق، غاد القصر فاسْقِ به
مَن كان صِرْفَ الهوى والودُّ يسقينا
وسل هنالك: هل عنَّى تذكُّرنا
إِلفًا تذكُّرُه أمسى يعنِّينا؟
ويا نسيمَ الصبا، بلِّغْ تحيتَنا
مَن لو على البُعد حيَّا كان يحيِّينا
ربيبُ مُلك كأنَّ اللهَ أنشأه
مسكًا، وقدر إنشاء الورى طِينا
يا روضةً، طالما أجنتْ لواحظَنا
وردًا جناه الصبا غضًّا ونَسرينا
لسنا نسمِّيك إجلالاً وتكرمةً
وقدرُك المعتلي عن ذاك يُغنينا
إذا انفردتِ وما شوركتِ في صفة
فحسبُكِ الوصفُ إيضاحًا وتَبيينا
كأننا لم نبِتْ والوصل ثالثنا
والسَّعد قد غضَّ من أجفان واشينا
سرَّان في خاطر الظلماء يكتمُنا
حتى يكادَ لسانُ الصبح يُفْشِينا
إنَّا قرأنا الأسى يوم النوى سُوَرًا
مكتوبةً، وأخذنا الصبرَ تَلْقينا
لم نَجْفُ أفقَ سماءٍ أنت كوكبُه
سالين عنه، ولم نهجُرْه قالينا
ولا اختيارًا تجنَّبْناك عن كَثَب
لكن عَدَتْنا على كُرْهٍ عوادينا

 

وهذا العنصر الذي رأينا كيف يضفي على الشعر قدرًا هائلاً من السِّحر والفتنة حين يقع في يدٍ صَنَاع تعرف كيف تصرِّفه التصريف اللائق يمثل في الواقع، حسبما سبق أن قلنا، نوعًا من القيود، وهي قيودٌ من شأنها لا أن تشلَّ حركة الشاعر، بل أن تستفزَّ قدراته وتوقظ فيه عبقريتَه، وتدفعها دفعًا إلى الإتيان بالعجائب والمدهشات، إنها تقيِّدُه في الظاهر، لكنها تضع تحت تصرفه مساحات شاسعةً يتحرك فيها كما يحلو له، كانت غائبةً عن انتباهه في أوقات السكون والخمول، والشاعر مع هذه القيود أشبهُ شيء بالثعلب إذا ما حوصر؛ إذ لا يستسلم لعدوه الذي يطارده وينتظره خارج الجحر يبغي القبضَ عليه وإهلاكَه، بل يدعه في انتظاره وقلقه وتوتره ويمضي فيتخذ بابًا آخر من أبواب جحره المتعددة منطلقًا في فضاء الله ناعمًا بحريته وأمانه، على حين يبقى خَصمه في موضعه لا يريم، متصورًا أنه سوف يمسك به عما قليل، وتفسير ذلك أن في اللغة إمكانات كريمةً كثيرةً، والشاعر الموهوب العبقريُّ قد تشرَّب هذه الإمكانات تشرُّبًا، فإذا ما حُرِمَ إمكانًا من تلك الإمكانات اتجه إلى سواه، ووجد فيه البديل الذي قد يكون، أو يجعله هو أفضلَ من الإمكان الأول.

 

وتوضيحًا لذلك نسوق الأبيات التالية لعمر بن أبي ربيعة في وصف ليلة كان قد تواعد فيها وحبيبتُه أن يلتقيا إذا ما غاب القمر، وسكت الحسُّ، وهجع الناسُ في مراقدهم، ونتلبث لدن البيت الثاني منها بوجه خاص:

فلما فقدتُ الصوتَ منهم وأُطْفِئت
مصابيحُ شُبَّت بالعشاء وأنورُ
وغاب قُمَيْرٌ كنت أرجو غيوبَه
وروَّح رعيانُ، ونوَّم سمَّرُ
ونفضت عني النوم أقبلتُ مشيةَ ال
حباب، وركني خشيةَ القوم أزوَرُ

 

إذ نراه قد صغر القمر ونكَّره، وبدلاً من أن يقول: "وغاب القمر" قال: "وغاب قمير"، وكذلك بدلاً من أن يقول: راح "ونام" قال: "روح، ونوم"، وبدلاً من أن يقول: "أنوار" و"رعاة" قال: "أنور" و"رعيان"، وبدلاً من أن يقول: "أقبلت إقبال الأفعى" قال: "أقبلت مشية الحباب"، فانظر كيف قسره الوزن والقافية على ترك ما هو شائع في الاستعمال، فإذا به يجد البديل بكل سهولة وسلاسة ويُسْر، ثم يكون هذا البديل أفضلَ مما استبدله به؛ إذ إن تصغير القمر - وهذا مجرد مثال من كل ما أشرنا إليه من الاستعمالات البديلة التي لجأ إليها الشاعر - هو شيء غير شائع، ومن ثم غير مبتذل، مما أضفى على اللفظة نضرةً ليست للفظة الأصليةً، علاوةً على أن ذلك التصغيرَ يشير إلى ما يعتري القمر في بعض الليالي من تناقص الحجم، كذلك فمن المحتمل أن يكون الشاعر قد صغَّر القمر تعبيرًا عن سخطه عليه؛ إذ كان يشعر أنه لا يريم موضعه، ولا يريد أن يغيب، فكأنه يعده مسؤولاً عن تأثر لقائه بحبيبته، ثم هناك ما يوحيه التنكير من أن هناك لا قمرًا واحدًا معروفًا ثابتًا على وضع واحد، بل هناك أقمار متعددة بعدد الليالي، وربما بعدد ساعات الليالي..، وهكذا نرى كيف حوَّل الشاعرُ القيد إلى طلاقة وانسراح، وصيَّر الضرورة حريةً وعفويةً.

 

وهذا يذكرني بما يفعله الفحول من لاعبي كرة القدم حين يفاجؤون بالكرة تأتيهم وهم في منطقة جزاء الخَصم على نحو فُجائي غير متوقع، وفي موضع حرج، وفي وقت شديد القِصَر، بحيث إذا لم يتصرف فيها من فوره، ويُودعها مرمى الخصوم، ضاعت الفرصة إلى الأبد، ومع هذا يتصرف الواحد منهم كأنه قد خطَّط لهذا الموقف منذ فترة طويلة، وتدرَّب على مواجهته، والتصرف فيه على أحسن ما يرام، فيَركل الكرة في الحال من وضْعٍ شديد الصعوبة، لكنه يفعل ذلك دون أي اضطراب أو شعور بالقلق، والسبب؟ السبب هو أنه قد تشرَّب صَنعته تشربًا، وأضحت تجري في عروقه كدمائه، فهو يمارسها كأنه يتنفَّس، والطريف أن سعيد بن المسيب حين سمع هذا البيت، قال عن الشاعر مستغربًا ضائق الصدر: ما له، قاتَله الله؟ لقد صَغَّر ما عظَّم الله! يقول الله - عز وجل -: ﴿ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ﴾ [يس: 39].

 

فلم يَتنبه ابن المسيب - رحمه الله - إلى السحر العجيب الذي خلَعه "عمر" على المعنى، فأبرزه شيئًا لم يخطر لأحد من قبلُ على بال، علاوةً على أنه حافَظ فوق هذا كله على جمال الإيقاع الموسيقيِّ المتمثل في الوزن والقافية، وغيرهما من الأدوات الإيقاعية الأخرى؛ كالتناظر في الوزن الصرفي؛ مثل: بين "روح" و"نوم"، وكالتوازن التركيبي بين "روح رعيان" و"نوم سمر"، وكرد العجز على الصدر في قوله: "وغاب قمير كنت أرجو غيوبه".

 

وقد يضطر الوزن والقافية الشاعر إلى انتهاج تركيب نحوي غير الذي كان في بالنا، فيقدم ويؤخر، أو يحذف ما حقه الذكر، ويذكر ما حقه الحذف.. إلخ، كما في قول عمرو بن كلثوم من معلقته المجلجلة، يرد على ملك الحِيرة، حين أراد أن ينال منه، فأمر الساقية في مجلس شرابه أن تبدأ إدارة الكأس من الناحية الأخرى التي لم يكن الشاعر جالسًا فيها:

صددتِ الكأسَ عنا أمَّ عمرو
وكان الكأسُ مجراها اليمينا
وما شر الثلاثة أمَّ عمرو
بصاحبك الذي لا تَصْبَحينا
وكأس قد شربتُ ببعلبك
وأخرى في دِمَشْقَ وقاصرينا
إذا صمدتْ حميَّاها أريبًا
من الفتيانِ، خِلْتَ به جنونا
فما بَرِحَت مجال الشُّربِ حتى
تغالوها، وقالوا: قد رَوِينا
وإن غدًا وإن اليوم رهن
وبعد غدٍ بما لا تعلمينا

 

فالشاعر - وإن ذكر ثلاثًا من المدن المشهورة بصنع الخمر المعتقة وتقديمها للشاربين - لا يقصد الاقتصار على هذه المدن الثلاث فقط، لكنها طبيعة الشعر بسبب ضيق المجال كما سبق أن وضحنا، ولو كان الكلام نثرًا لقال: بعلبك ودمشق وقاصرين و..، و..، و..، إلخ، وذكر غيرها من المدن، لكن الشعر لا يعرف هذا التطويل؛ إذ الشاعر المجيد هو الذي يدل عادةً بأقل لفظ على أوسع المعاني وأحفلها بالتفاصيل، فالمهم هو أن يدفع بخيال القارئ في الاتجاه الذي يريده الدفعة الأولى تاركًا له مهمة القيام بالباقي، ليس ذلك فقط، فشاعرنا يقول: "وأخرى في دمشق وقاصرينا"، وظاهر الكلام أنه شرب كأسًا في بعلبك، وكأسًا أخرى في دمشق وقاصرين معًا، لكن من غير الممكن أن يكون هذا هو قصده، وإلا فمعنى ذلك أنه - بعد أن شرب رشفات من هذه الكأس الثانية في دمشق - قد استبقاها حتى أكمل شربها في قاصرين بعد ذلك، وليس هذا فعل الشاربين، بل المقصود: "وأخرى في دمشق، وثالثة في قاصرين، ورابعة في.. إلخ"، ولكنها - مرة أخرى - طبيعة الشعر، ثم إن الشاعر لا يقصد أبدًا أنه شرب كأسًا واحدة فقط في كل من بعلبك ودمشق وقاصرين كما قد تُوهِم حرفية الكلام، بل الكأس هنا تعني كؤوسًا لا حصر لها.

 

وانظر كذلك إلى بيت الفرزدق يخاطب ذئبًا لقِيه في الطريق وحيدًا فدعاه إلى الطعام، لكنه رغم ذلك كان حذِرًا منه أشدَّ الحذر؛ لمعرفته بطبيعة الغدر فيه:

وأنت امرؤٌ يا ذئبُ والغدر كنتما
أُخَيَّيْنِ كانا أُرْضِعا بلِبَانِ

 

وتأمل هذا التركيب الغريب؛ إذ كان ينبغي أن يجيء الكلام هكذا:

"ويا ذئب، أنت والغدر كنتما أخيين..." بحيث يكون الضمير: "أنت" مبتدأً، و"الغدر" معطوفًا عليه، وجملة "كنتما أخيين" خبر المبتدأ، أما على الوضع الذي ورد في البيت فـ"أنت" مبتدأ، و"امرؤ" هي الخبر، وبذلك تكون الجملة قد انتهت، ولا يصح إذًا عطف كلمة "الغدر" على المبتدأ؛ ليشتركا معًا في جملة جديدة يكون خبرها "كنتما أخيين"؛ إذ لا يمكن أن تكون كلمة "أنت" هي ذاتها مبتدأً في جملتين، لكن رغم ذلك كله لا نحس شيئًا من قلق رغم وجود بواعث القلق؛ ذلك أن هذه البواعث هي من الخفاء بحيث لا يتنبه القارئ لها بسهولة، ولولا أنني مشغول بهذه المسألة فلربما لم ألتفتْ إلى غرابة التركيب، وسبب خفاء غرابته، وكذلك سبب قَبولنا له بعد اكتشافنا تلك الغرابة، هو الموسيقى، وهذا ما أريد أن أصل إليه؛ إذ الموسيقا في الشعر تقوم بدورين متناقضين: متناقضين حقيقةً، أو بادئ الرأي في أقل تقدير، وهذان الدوران هما تقييد الشاعر تقييدًا يؤدي بالعكس إلى استنفار كل قواه العبقرية لا إلى شل حركته وموهبته حسبما بينَّا آنفًا، ثم التغطية على مثل تلك الهنَات والشذوذات التي نحن بصددها، إنها إذًا لتجرح، لكنها أيضًا تعالج! إنها الداء والدواء جميعًا، وهذا من مفارقات الفن التي هي سر روعته وفتونه! ومثل ذلك - وإن لم يصل إلى درجته في الغرابة والعدول عن الطريق - تكريرُ الفرزدق للفعل: "كان" في قوله: "كنتما أخيَّيْن كانا أرضعا..."؛ إذ يكفي تمامًا أن يقول: "كنتما أخيَّيْن أرضعا بلبان"، بل كان يكفي جدًّا أن يقول: "وأنت، يا ذئب، والغدر أخيان أرضعا بلبان".

 

ولأزيد القارئ من الشعر بيتًا أضيف أن قوله: "بلبان" هو من الكلام المنفتح الذي ينقصه التحديد؛ إذ نحن لا نعرف: هل المقصود أنهما أرضعا بلبان واحد؟ أم هل المقصود أنهما أرضعا بلبان معيَّن هو لبان الغدر؟ أم هل المقصود شيء آخر؟ أم هل المقصود كل ذلك؟ ومرةً أخرى إنه الشعر وعبقرية الشعراء، وصدق الرسول الكريم: ((إن من البيان لسِحرًا))!

 

ويرتبط بهذا ما يسمى بـ"الضرورات الشعرية"، فسببها - كما نعرف - هو الخضوع للوزن والقافية، والخوف من الخروج عليهما وانتهاكهما، وهذا يدلنا على مكانة الموسيقا في الشعر، فالشاعر يستسهل التضحية بالقواعد أحيانًا، ولا يستسهل التضحية بتلك الموسيقا على رغم ما نعلمه من مغالاة العرب بلغتهم ونحوها وصرفها، ومن ناحية أخرى فالموسيقى بدورها تغطِّي على ذلك الحد النحوي والصرفي الذي يشترط ألا يكون فادحًا، بل يقتصر على بعض الأشياء الصغيرة، ومثله ما يُعرَف في علم العروض والقافية بالزحافات والعلل، فهي لون من التقصير الصغير المسموح به لنفس الاعتبار، لكنها لا يمكن أن تتخذ مبررًا لإهمال الموسيقا الشعرية تمامًا، والواقع أن مثل تلك التقصيرات المحدودة أمر طبيعي، فما من خطة توضع موضع التطبيق إلا وتعتريها بعضُ التحويرات والتغييرات، ويقعد بها التقصير عن بلوغ المثال الأعلى كاملاً، ولكن على الإنسان في ذات الوقت ألا يسرف في ذلك الخروج عن الخطة، وإلا أتى علينا يومٌ نجد أيدينا فيه وقد خلت من كل خطة، على الإنسان أن يسدد ويقارب؛ كما قال الرسول الكريم، إلا أن ذلك لا يسوِّغ أبدًا أن نهمل التسديد تمامًا، ونذهب فنصوب سهامنا في الهواء دون اهتمام بإصابة الهدف، فهذا عبث لا يليق، ولا يؤدي إلا إلى الخسار والبوار.

 

إن بعض المدافعين عما يسمى بـ"قصيدة النثر" يلجؤون إلى مثل تلك الحيلة فيقولون - ضمن ما يقولون -: إن الأوزان العَروضية كثيرًا ما تعتريها بعض التحويرات، فنجد على سبيل المثال: "مستفعلن" وقد صارت "مستعلن" أو "متفعلن" مثلاً، ثم يقفزون من هذا إلى القول بأن تلك التحويرات الطفيفة - التي لا بد من أن أستدركَ هنا بأنها لا تشوِّهُ الوزنَ، ولا تفسده، ولا تلتفت الأُذن إليها كثيرًا، بل ربما لا تتنبه لها ألبتة، وذلك في غمرة الموسيقا الشاملة في البيت وفي القصيدة بأجمعها - هي مسوغ كافٍ للتخلي تمامًا عن الوزن، وترك الجَمل بما حمل، وهذا منطق عجيب، فقد قلنا: إن أي تصميم لا بد أن يبتعد عند التطبيق قليلاً أو كثيرًا عن أصله الأول، فهذه طبيعة الحياة؛ إذ التوازن المطلق لا وجود له، بل هو حالة افتراضية مثالية من شأنها أن تستحث جهودنا، وتستنفر قدراتنا لتوخِّي الكمال، الذي نعرف مع هذا أننا لن نبلغه بتمامه أبدًا، لكن ثمة حكمة جليلة تقول: "إن ما لا يدرك كلُّه لا يترك جُلُّه وإلا كان علينا أن نغادرَ الحياة، وننفض يدنا منها فورًا منذ اللحظة الأولى لمجيئنا إليها؛ لأنها مملوءة بأسباب الألم والشكوى، ولا يمكن أن تخلو منها يومًا.

 

إن هذا المنطق المضحك الغريب ليذكِّرنا بمن يجد أن الإنسان لا يمكن أن يعرى في أي وقت عن اختلالٍ ما في صحته، فيخرج من ذلك بنتيجة مؤداها أن علينا - ما دام الأمر كذلك - أن نعرض أنفسنا لكل أنواع الأمراض والاختلالات الصحية، إن التقصير أثناء الامتحان في درجة أو اثنتين أو ثلاث درجات مثلاً، أو حتى في عشر أو عشرين درجةً، بل حتى في خمسين - لا يسوِّغ الرسوب أبدًا، وإلا لم يكن هناك شيء في الحياة اسمه النجاح والتفوق والاجتهاد والطموح والأمل ما دمنا سنركن كلُّنا إلى اليأس واطِّراح الجد والكد والكفاح والتطلع إلى بلوغ الكمال، الذي نعرف - رغم ذلك - أننا لسنا بالغيه يومًا من الأيام.

 

والعجيب أن من يسوِّقون في سوق الأدب بضاعة ما يسمى بـ"قصيدة النثر" - التي لم أجد فيما قرأت تسميةً أليق بها من كلمة "النثيرة"، فهي نثر نثر نثر مهما روج المروجون وأرجف المرجفون - هؤلاء المسوِّقون يزعمون أن من النقاد العرب القدماء من لم يكونوا يرون كفاية الوزن والقافية وحدهما للتمييز بين الشعر والنثر، وهم ينتقلون من ذلك إلى المناداة بأن الوزن والقافية لا أهمية لهما، نعم، إن نقادنا القدامى جميعًا - لا بعضهم فحسب - لم يكونوا يرون أن الوزن والقافية كافيان للتمييز بين الشعر والنثر، لكن هذا لا ينبغي أن يعني أن الوزن والقافية غير مهمين، فضلاً عن وجوب الاستغناء عنهما بحجة أن هناك ألوانًا أخرى من الإيقاع في القصيدة ينبغي الاجتزاء بها، وكأن العرب القدماء لم يكونوا يعرفون تلك الإيقاعات، ولم يكونوا يستغلونها أحسنَ استغلال في كثير من إبداعاتهم كما رأينا مثلاً في نونية ابن زيدون، التي استشهدنا ببعض أبياتها من قبل، إن هؤلاء المتفلسفين يظنون أن بمستطاعهم جلب التمر إلى هَجَر، أو بيع الماء في حارة السقائين، إن تلك الإيقاعات لا تناقض الوزن والقافية، بل تعضدهما وتزيدهما سِحرًا على سحر، وعلى رأي المثل: "زيادة الخير خيران"، ومن يا ترى يكره الاستزادة من الخير؟ نعم، لم يكن نقَّادنا القدماء يعوِّلون في التمييز بين الشعر والنثر على الوزن والقافية وحدهما، وإلا لكان يكفي من يريد أن يقول شعرًا - بل من يريد أن يكون شاعرًا دون أن يبذل جهدًا - أن يروح فيردِّد أمام الناس وفي المنتديات والمؤتمرات الشعرية: "مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن"، أو "فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن"، وكفى اللهُ المؤمنين شر القتال، لكنَّ أحدًا منهم لم يقل بهذا، ولا خطر له هذا في بال؛ فقد كانوا عقلاء أصحاب حكمة، ولم يكونوا من ذوي النزعات المخربة، ولا البدوات المزعجة المتعبة!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • مشكلات الشعر.. الأسباب والعلاج
  • من أحكام الشعر
  • حقيقة الشعر وجوهره
  • أقسام الشعر
  • الخيال في الشعر
  • تردي الشعر

مختارات من الشبكة

  • الفريضة المنسية: إنكار المنكر ولو بقلبك فقط(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الموسيقا أحكام وإرشادات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حكم الغناء والموسيقا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • علاج الغناء والموسيقا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حكم الإسلام في الغناء والموسيقا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • زامبيا: حظر الأغاني والموسيقا والرقص في رمضان(مقالة - المسلمون في العالم)
  • البيان في ذكر بعض الأدلة على تحريم الغناء بالموسيقا والألحان(مقالة - آفاق الشريعة)
  • هل أتعلم عزف الموسيقا؟(استشارة - موقع الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي)
  • مجبرة على حفل زفافي بالغناء والموسيقا(استشارة - موقع الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي)
  • الموسيقا غذاء الروح والعقل!!(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
1- موضوع ماتع
مروان عدنان - العراق 11-09-2013 09:13 AM

تحياتي للدكتور إبراهيم على هذا الموضوع الماتع والمفيد ...وحسنا فعل حين أطلق لفظة "النثيرة" على ما تسمى قصيدة النثر وهي ليست بقصيدة ولا شعر وإنما نثر واضح ..فالشعر طريق صعب وعلى المرء إما أن يتحمل صعوبة التعلم وبذل الجهد وأما أن يلعن فشله كشاعر ويتجه ليكون كاتبا أو قاصا أو روائيا ...لا أن يفشل ثم يهاجم الشعر لأنه لا يجيده

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب