• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

وحان وقت الرحيل (رواية)

وحان وقت الرحيل (رواية)
جمال أبو زيد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 11/3/2012 ميلادي - 17/4/1433 هجري

الزيارات: 15676

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

وحان وقت الرحيل

مقدمة

للقصة تأثيرها.. وللرواية رونقها.. وللحكاية حسنها وبهاؤها.. فالنفوس جبلت على الفضول، وهي تأنس بسماع أخبار الآخرين. ونظرا لأهمية القصّة في حياة الناس نراها استُخدمت على نطاق واسع للتأثير عليهم قديما وحديثا، فقد قص الله علينا أحسن القصص، وأفسح لها مجالا واسعا في كتابه الكريم. فروى لنا قصص الأمم الغابرة، وأيامهم الخالية، وروى لنا حكايات الدول البائدة وسبب سقوطها واضمحلالها، لأخذ العبر من حالهم ومآلهم. وأمر رسوله الكريم بذلك: ﴿ فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾. لذا لم يغفل، صلى الله عليه وسلم، أسلوب القص والحكاية، فكتب السيرة والحديث زاخرة بالقصص والمواعظ.

 

وفي الوقت الحاضر استخدمت الحضارة الغربية الرواية والقصة على نطاق واسع لتوجيه الناس والتأثير على سلوكهم وأخلاقهم. في الأثناء بدر في ذهني كتابة رواية تسلط الضوء على الساعة وأشراطها وأماراتها بأسلوب قصصي مشوق لتقريب الصورة للأذهان للأحداث والأهوال المرعبة التي ستقع بين يدي الساعة، تطير منها القلوب والألباب رعبا، حين استفزني ما يتردد هذه الأيام بين الناس عن نظرية نهاية العالم وخرابه، والتي تروج لها بعض وسائل الإعلام الغربية، حتى تجرأ بعض الكتاب والمراقبين لتحديد نهاية عام 2012 موعد لذلك، وقد أنتجوا فلما يحمل عنوان العام ذاته: "2012"، أنفقوا عليه أكثر من ربع مليار دولار، وعرضوه على الشاشات الكبيرة والصغيرة، ويصور هذا الفلم مشاهد لنهاية العالم وتدميره.

 

حينما شرعت في كتابة هذه الرواية ظننت أن الأمر سيكون سهلا غير أنني وجدت نفسي أسبح في بحر لجي متلاطم الأمواج، فخضت عبابه، وغصت في أعماقه المظلمة للبحث عن الأصداف والدرر.

 

لقد اعتمدت في روايتي هذه التي بين يديك -أيها القارئ الكريم- على الله أولا، ومن ثم على الآيات الصريحة، والأحاديث الصحيحة، ونظرت في مصادر التفسير المعتبرة، وكتب العلماء الثقات، وابتعدت قدر الإمكان عن المبالغة والتهويل وعن الأحاديث الضعيفة، وقد اخترت لها عنوانا: "وحان وقت الرحيل" للتذكير بالآخرة، والدعوة للاستعداد لها...

 

وفي الختام، اللهَ أسألُ أن ينفع بعملي هذا. ويتجاوز عن الهفوات والنقص. فهذا جهد المقل.. فإن أحسنت فمن الله وتوفيقه، وإن أسأت فمن نفسي والشيطان.

 

وما أردت إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله.

والله من وراء القصد...


الفصل الأول

طفقتِ الطائرة القادمة من دمشق والتابعة للخطوط الجوية السورية، تحلق فوق مطار دبي الدولي وتستعد للهبوط، فيما كان رشيد منهمكًا في قراءة مقال حول تقرير أعدّه عالم فضاء أمريكي تحدّث فيه عن حتمية انهيار الحضارة الحديثة، ورجوعها إلى ما قبل القرون الوسطى...

 

بدر في ذهنه الحديثُ الذي يُتداول في الأوساط العلمية، وتتناقله ألسنة الناس حول التوافق العجيب بين النبوءات القديمة، والتقارير العلمية الحديثة التي تشير إلى نهاية العالم في عام 2012، استنادا إلى حسابات فلكية، وعمليات رياضية...

 

... قطع عليه تفكيره صوت المضيفة:

"سيداتي وسادتي.. الرّجاء الرّجوع إلى المقاعد وربط الأحزمة. ستشرع الطائرة في الهبوط بعد قليل...

درجة الحرارة الخارجية 38 درجة مئوية.. والساعة فيها تشير إلى العاشرة ليلا بالتوقيت المحلي"...

 

اعترت رشيدًا الدّهشة حين تراءت له معالم المدينة من نافذة الطائرة، وشاهد أنوارها المتلألئة، وأضواءها الزاهرة المنبعثة من مبانيها الشاهقة، التي كانت ألوانها البهية تتعانق في سمائها، لترسم لوحة فنية رائعة الجمال، تخلب الأبصار برونقها، وتأخذ بمجامع القلوب بسحرها...

 

فلا غرو في ذلك إذ تزينت عروس الخليج وأخذت "دبي" زخرفها، فتلألأت أضواؤها.. وازدحمت بالطائرات سماؤها.. وبالمركبات طرقها وشوارعها.. وامتلأت بالسفن والمراكب مياهها.. فصارت قبلة لرجال الأعمال، ومركزًا لصفوة التجار، وسوقا رائجا يجذب المستثمرين من كل مكان...

• • • • •

 

ولدى وصوله إلى غرفته في الفندق رمى رشيد بجسده المنهك، وبرأسه المثقل بالمشاغل والهموم على السّرير، لينالَ قسطًا من الراحة...

 

فما برحَ أن راح يغطُّ في سباتٍ عميقٍ، فالسَّفر قطعة من العذاب مهما كانت وسائله، ومهما كانت أسبابه وطرقه!!

 

رأى في منامه أنّه يسير بين حدائق غنّاء، ومروج خضراء، وأشجار كثيفة، وأنهار جارية، ومبان شاهقة...

 

جعل يحدث نفسه: "سبحان الذي بعث الحياة في هذه الصحراء!! فكأني بها وهي أرض جرداء، لا حياة فيها ولا ماء!!"...

 

لم يلبث أن أخذ منه التعب كل مأخذ؛ فأنهكه المسير.. وأضناه السهر.. وأرهقه طول الطريق وبعد الشّقة، حيث كان يواصل الليل بالنهار في سعيه الحثيث ميممًا وجهه شطر البيت العتيق مشيًا على الأقدام بعدما تخلّف عن القافلة جراءَ مرض ألمّ بفرسه، ومن ثم نفوقه وهلاكه في الطريق.

 

عاد بفكره قليلا إلى الخلف فتذكّر متحسرًا ما دارَ بينه وبين الشيخ رضوان أمير القافلة:

• هيا اركب معنا يا رشيد، واترك حصانك هنا، فلا أظن أنه سيقوم من مرضه هذا! ألا ترى أن المرض قد اشتد به؟

• كيف أتركه هنا وحده يا شيخنا؟، وهو على حالته هذه!

• إنك تعلم أنه ليس في مقدورنا الانتظار طويلا يا رشيد، فالوقت ليس في صالحنا!

• امضوا في طريقكم على بركة الله، وسألحق بكم إن شاء الله!

• لا ينبغي لنا أن نتركك وحدك في هذا المكان الخالي؟؟!

• لا تقلق علىّ يا شيخنا، سأبقى لتمريض فرسي، وسأكون على إثركم حالما يتعافي، فالحمد لله أعرف الطريق جيدا.

• • • • •


كلّ الطّرق تؤدي إلى مكة المكرمة!! وكلّ المؤشرات تدلّ على قرب الوصول!! وكما قيل: "أن تصل متأخرًا خير من أن لا تصل".. فقد كان كلّ شبر يقطعه رشيد يرفع منسوب الشّوق في فؤاده، ويبعث بالحنين في مهجته، ومع كلّ نسمة تهبُّ من قبل الأرض المباركة، يزداد الوجد في وجدانه انبعاثا، فيصرف ذهنه عن عناء المشقة، وبعد الشُّقة، وكانت الأشواق المتأججة في مهجته تؤنسه في وحدته، وتسليه عن وحشة الطريق، وقلة الرّفيق...

 

وما أن بدأت معالم مكة المكرمة تتراءى في الأفق حتى أخذ قلبه يتقافز في صدره فرحًا وسرورًا، فأحسّ بالسّعادة تدبّ في فؤاده، وبالسرور يسري في كيانه...

 

فأخذ يردد مغتبطا: "الحمد لله أخيرًا قد وصلتُ!".

 

مكث غير بعيد ينظر في دهشة إلى مبانيها السّامقة! وعماراتها الباسقة!! وأبراجها الشاهقة!! وأنفاقها الكثيرة...

 

بيد أنه لم يلبث أن هاجمته الخواطر، وداهمته الهواجس، وتزاحمت في ذهنه الذكريات، فأخذ يفرك عينيه، ويتساءل في قرارة نفسه: "سبحان الله! ما هذا؟! لقد تغيرت معالم مكة كثيرا! فاندرست آثارها.. وتبدّل رسمها.

 

... فأين جبالها؟! وأين تلالها؟! وأين هضابها؟!


وبينما هو على تلك الحال إذ برجل من أهل مكة المكرمة يقطع عليه حبل أفكاره، ويبتدره بالسؤال:

• أتبحث عن شيء هنا يا أخي؟

• لا.. لا أبدا! فقط كنت أتأمل فيما وصلت إليه مكة المكرمة؟

• لقد تغيرت كثيرًا! أليس كذلك؟

• بلى!

• على كل حال.. اسمي عبد الرحمن التميمي. فما هو اسمك؟

• اسمي رشيد الشامي.

• ومن أي البلاد أنت؟ فتبدو عليك علامات التعب وآثار السفر!!

• من مدينة دمشق.

 

قال عبد الرّحمن مندهشًا:

• حقا هذا أمر عجيب! فما الذي جاء بك إلى هنا في مثل هذا الوقت العصيب؟! ففي الوقت الذي ينطلق الناس فيه إلى الشام، أنت تخرج منها!!

• لقد جئت من ناحية الشام لألتحق بالمهدي.

• لقد تأخرت يا أخي، فالمهدي قد غادر مكة!

• ماذا تقول؟! غادر مكة وإلى أين؟؟!

• لقد توجه إلى الشام هو وأتباعه.

 

أُسقطَ في يد رشيد وألجمتِ المفاجأة فاه فوضع يده على رأسه، ولاذ بالصمت.

 

ثم استدرك نفسه وقال متحسرًا:

• لا حول ولا قوة إلا بالله، فما جئت إلا لأبايعه وأنضم لجنده.

• قدر الله وما شاء فعل يا أخي!

 

هز رأيه بأسى وقال:

• صدقت قدر الله وما شاء فعل، ولكن هل لك أن تخبرني: ما فعل الناس معه؟ فأنا في شوقٍ لمعرفة أخباره، وكلّ أحواله.

• لقد بايعه أهل العلم بين الرّكن والمقام، في بيت الله الحرام وهو كاره، بعدما أصلحه الله في ليلة.

• ولماذا بايعوه رغمًا عنه؟

• لأنّه كان زاهدًا في الزّعامة، مشفقًا على نفسه من تبعاتها! وهو يرى تكالب الناس عليها.

• وما الذي تعنيه بقولك: أصلحه الله في ليلة؟! ألم يكن رجلا صالحا قبل ذلك؟!

• قصدت بذلك: أنّ الله ألهمه قيادة المسلمين، ونفث في روعه أنّه هو المهدي الذي بشّر به الصادق الأمين!

• وهل بايعه كثير من الناس؟

• نعم! فقد توافد عليه خلق كثير، وأتوه من كل حدب وصوب فبايعوه: فقد بايعه أبدال الشام وصالحوها.. وعصائب أهل العراق ومؤمنوها.. ونجائب أهل مصر وموحدوها، وقدم عليه أصحاب الرّايات السُّود من قبل خرسان لمؤازرته ونصرته، كما انضم الجميع إلى جيشه، وانضووا تحت لوائه.

• لقد اتّبعه خلق كثير، أليس كذلك؟

• بلى يا أخي! لقد وصل عددهم زهاء اثني عشر ألف رجل...

 

تنهد رشيد بعمق وقال بلوعة:

• ليتني كنت معهم!

 

سكت رشيد لحظة، قبل أن يستأنف كلامه بأسى:

• وماذا فعل الله بالجيش الذي جاء من قبل الشام للقضاء عليه؟

• لقد تجمّعوا في المدينة المنورة وخرجوا منها إلى مكة المكرمة للقضاء عليه. فخيب الله سعيهم، وخسف بأولهم وآخرهم الأرض بالبيداء التي بين مكة والمدينة، فبلعتهم الأرض، فهم يتجلجلون في باطنها إلى يوم القيامة، فهلكوا جميعا، ولم يبق منهم إلا رجل واحد، كان شريدا فنجا، وهو الذي أخبر عنهم وعمّا جرى لهم من أهوال!

• لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

ترقرقت عينا رشيد بالدمع، وخنقته العبرة. سكت قليلا، ثم استأنف كلامه قائلا:

• أتعلم يا عبد الرحمن، أنّ هذه تعدُّ أقوى العلامات على أنّه هو المهدي؟!

• بلى أعلم ذلك! فلا عذر لأحد بعدها بالنّكوص عن اتّباعه، أو التخلف عن نصرته.

 

تنهد رشيد بعمق وقال بأسى:

• وهل كل الذين خسف الله بهم الأرض كانوا يعلمون أنّه المهدي؟!

• الله أعلم يا أخي! فلعل بعضهم لم يكن يعلم شيئا، أو ربما كان مجبورا، أو قد يكون متواجدا في عين المكان مصادفة، فكما تعلم أنّ الطريق تجمع بين الصالح والطالح، والقاصي والداني، فالله أعلم بالنيات وما تكنّه الصّدور، سوى أن أولئك سيصدرون يوم القيامة مصادر شتّى، فيُبعث كل واحد منهم على نيته، ويُحاسب بما انطوى عليه صدره.

• وهل اتعظ الناس بتلك الآية المرعبة والعقوبة القاسية؟

• كلاّ! فالإنسان جُبل على العناد، وإتباع الهوى، فمن ليس في نفسه واعظ فلا تنفعه المواعظ. فلقد ناصبه أهل الجزيرة العربية العداء على الرغم من ذلك، فألَّبوا الناس على قتاله، وسعوا في قتله، حتى انبعث شقي من أشقياء قريش، كانت أمّه من بني كلب، فحشد جيشا كبيرا للقضاء عليه.

 

غير أن الله نصره عليهم، وأمكنه منهم، فغنم المهدي ومن معه منهم غنائم جمة. وفتح الله على يديه الجزيرة العربية مرة أخرى، وبذلك أخمد نار الفتنة.

 

• ولكن، لماذا ترك المهدي أحب بلاد الله إلى الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، وتوجه إلى الشام؟!

• لأن الشام أرض مباركة أيضا وقد اختارها الله لتكون أرض المحشر وأرض المنشر، ولذا نصحنا رسولنا الكريم باللواذ بها، والسير إليها في آخر الزمان، عندما تدلهم الخطوب، وتقع الفتن.

• صدقت!

• وما الذي تنوي فعله الآن يا رشيد؟

• سأرجع إلى الشام طبعا!

• إذن سأرافقك فقد كنت أنوي الذهاب إليها، وقد أعددت نفسي للالتحاق بجيش المهدي، فهل لي أن أصحبك؟

• ولماذا لم تذهب معه؟

• لم يخلفني عن الذهاب معه إلا دين كان علي، وقد وفقني الله لقضائه! وأنا مستعد لمرافقتك الآن.

• بكلّ سرور يا أخي! فأنا أيضا بحاجة لرفيقٍ مثلك يؤنسني في السّفر، ولكني أريد أن أشتري فرسًا لأعود به، فهل لك أن تساعدني في ذلك؟

• بالطبع ولكن ليس قبل أن تذهب معي إلى بيتي لتستريح قليلا، ومن ثم سأدلك على السوق.

 

الفصل الثاني

استقبلت الشام المهدي بالبهجة والسرور، ولاقى أهلها قائدهم الرّباني بالترحاب. فأكرم به من قائد عظيم!! كريم الأصل، نبيل المحتد، اصطفاه الله من أبناء الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، مكافأة له على حقنه لدماء المسلمين وإصلاحه بين فئتين عظيمتين منهم بزهده في القيادة، وتنازله عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه...

نزل محمد بن عبد الله الحسني المهدي دمشقَ، فاتّخَذَها دارًا لِخلافتهِ، ومقرًّا لِحكمهِ، ومعسكرًا لِجيشهِ وفسطاطا لأهل الإيمان.

 

فابتسمت بقدومه الدنيا، وأشرقتْ في النُّفوس شَمسُ التفاؤل.. وعَمَّ الخير وانتشر الرّزق، فأكل النّاس من فوقهم ومن تَحتهم، ورَبَا المالُ ونَما، حتى فاض، فحثاه المهديّ على النّاس حثوا، وفرَّقهُ بينهم دونَ عدٍّ ولا حسابٍ، فلا غرو في ذلك إذ كان جوّادًا كريِمًا كجدِّه أبي القاسم، صلّى الله عليه وسلم، الذي كان أجودَ من الرّيح الْمرسلة؛ حتَّى أنَّ النَّاس من كثرة ما أغدق عليهم المهدي من المال، وما أعطاهم من الهدايا ومنحهم من العطايا، مالوا عن المال وزهدوا فيه، وأشاحوا بوجوههم عنه..

فامتلأت الأرض عدلاً وإحسانًا، وخيرا وصلاحا على يديه، بعدما أن كانت قد مُلئتْ ظُلمًا وجُورًا، وفسقًا وفُجورًا...

• • • • •

 

كانت تلك الأيامُ أيام ملاحم ومعارك بين المسلمين وبين أعدائهم، على اختلاف مشاربهم، وتباين عقائدهم، فلقد تأججت نار الحقد في صدور أعداء الإسلام، حين رأوا نوره يسطع من جديد ليعم المعمورة، فحشد الفرس جيشًا جرّاراً للقضاء على الإسلام وأهله...

 

فنشبت عندئذ بين الفرس والمسلمين معارك طاحنة. كان النصر حليفا لأهل الإيمان فيها، إذ أمكن الله جيش التوحيد من رقابِ الفرس، ومنحهم أكتافَهم، فهزموهم شرَّ هزيمة، وشرّدوا بِهم مَنْ خلفهم، وأطفئوا نارَ الحقد المتأججة في صدورهم، ثمَّ ما لبثوا أن ساروا إلى ديارهم فغزوها، وإلى أرضهم ففتحوها..

 

وفي غضون ذلك ازدهرت بيت المقدس فعمّ في ربوعها الرَّخاء؛ وانتشر الرجاء فعمرت وتوافدَ النّاسُ عليها من أصقاع المعمورة، وقصدوها من كلِّ مكان، وأمُّوها من كلّ فجٍّ عميق، بعدما استردها المسلمون من أيدي اليهود الغاصبين، ومنّ الله عليهم بتحرير المسجد الأقصى، فطردوا منه اليهود، وأخرجوهم منها أذلاء صاغرين، بعدما أفسدوا في الأرض، وبغوا فيها بغير الحق، وملئوها ظلما وعدوانا، وتَجبّروا فيها حينا من الدّهر.

• • • • •

 

بيد أنّ دوام الحال من المحال، فقد انقلبت الأمورُ رأسـًا على عقب فجأة، فتغيرت الحال غير الحال، وأصاب الناس ما أصابَهم، إذ قلبت الدنيا لهم ظهر المجن. فارتدتِ ثوبا كالِحًا من الحزن، وتسربلت بسربال الأسى؛ فاكفهرت السّماء، وشحت بِمائها، وتشنّجتِ الأرض، فأمسكت خيراتها، فعمّ القحط ربوع المعمورة، وأُخِذَ النّاسُ بالسّنين، فأصابتهم شدّةٌ عظيمة، فجاعوا وعطشوا. كانت في تلك الإثناء كلّ الإرهاصات تشير إلى حدوث أمر جلل، وخطب عظيم، وأنّ النّاس مقدمون على فتنة عظيمة، ومصيبة جسيمة.

 

استمرّ القحط والبلاء لثلاث سنوات عجاف متتاليات، إذ حبست السّماء ثلث مائها في العام الأول من الأزمة، وثلثه الآخر في العام الثاني، ثم حبست ماءها تَمامًا في العام الثالث، فأجدبت الأرضُ، وأقفرت الحقولُ، وغارت الآبار، وجفت العيون، ونضبت الأنهار، فهلك الناس من الجوع والفاقة، وجف ريقهم فهلكوا من الظمأ والصدى. فالجوع قاتل، والعطش شديد، ولا مجير ولا مغيث!!

 

جعل الله طعام عباده الصالحين وشرابهم في تلك الأيام العصيبة: التهليل، والتحميد، والتكبير، فلم يجوعوا.. ولم يعطشوا.

 

كلّ الدلائل كانت تدل على أن أوان الدجال قد حلّ، وكل المؤشرات تشير إلى أنّ زمانه قد أضل...

 

الدجال!! وما أدراك ما الدّجّال؟؟ فتنته عظيمة، ومصيبته جسيمة!! نكد وبلاء، وتمحيص وابتلاء، فلا فتنة أشدّ على المؤمنين من فتنته، ولا ابتلاء أعظم في الدّنيا من ابتلائه...

 

فمَا من نبيٍّ إلاَّ حذَّر أمّته منه ومن فتنته، وقد أحْسنَ نبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، في التَّحذيرِ منه حين أَمَرَنا بالتَّعوذِ بالله من فتنته في كُلِّ صلاة، وباجتنابِ لقائه، والابتعاد عن طريقه...

 

كما أمرنا بأن نتسلح بالإيمان لاتقاءِ شرّه، فلا عَاصِمَ من شره إلا الله، ولاَ مَلْجأ من فتنته إلا باللجوءِ إليه سبحانه وتعالى؛ فلا ينفعُ شيءٌ في تلك الأيام إلا الإيمان؛ فمن كان في إيِمانه دَخَنٌ، وفي دينه رقّةٌ، كان إلى اتّباعه أقرب، وإلى الإيِمان به أميل، وإلى الاستجابة إلى دعوته أسرع...

 

ولعلمه، صلى الله عليه وسلم، أنّ الدجال خارج في أمته لا محالة، فلم يترك مناسبة إلا وحذرهم منه. حتى أنه ذات يوم جَمعَ النّاس، ليقص عليهم ما سَمعه من تَميم الدّاري ورفاقه عن قصة الجسّاسة التي صادفوها في جزيرة في عرض البحر، وكانت تُدعى بذلك لأنَّها كانت تَجسّ الأخبارَ للمسيح الدّجّال، فقد أعجبته تلك القصة ووافقتْ ما كان يُحدّثهم به عن المسيح الدّجّال...

 

فقال الرّسول الكريم، صلى الله عليه وسلم: أتدرون لِمَ جَمعتُكم؟

قالوا: الله ورسوله أعلم!

قال: إنّي والله ما جمعتكم لرغبةٍ، ولا لرهبةٍ، ولكن جمعتُكم لأنّ تَميمًا الدّاري كان رجلاً نصرانيًا فجاء فبايع، وأسلم، وقد حدَّثنِي حديثًا وافقَ الذي كنت أحدّثكم بهِ عن المسيحِ الدّجّالِ: "حدّثـني أنـّه ركـبَ في سفينةٍ بَـحرية مع ثـلاثين رجـلاً من لُخم وجـُذام، فـلـعـب بِهم الـمـوجُ شـهـرًا في البحر، ثـمَّ أرفـؤوا إلى جـزيرة في البحر، حتـَّى مغرب الشّـمـس، فـجـلـسوا في أقربِـها، فـدخـلـوا الجزيرة، فـلـقـيـتهـم دابـةٌ أهـلـب، كثير الشّـعـر، لا يـدرونَ ما قُـبُـلـُه من دُبُـره، مـن كـثـرة الشّعـر...

فقالوا: ويـلكِ!! ما أنتِ؟!

فقالت: أنـا الجسَّاسة!

قالوا: وما الجسَّاسة؟

قالت: أيَّها القومُ، انطلقوا إلى هذا الرّجل في الدّير فأنّه إلى خبركم بالأشواق.

قال: لَمَّا سَمّتْ لنا رجلاً فَرقْنا منها أن تكون شيطانة. فانطلقنا سِرَاعًا حتى دخلنا الدّير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خَلـْقًـا، وأشَـدّهُ وثَاقاً، مَجموعة يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد!

قلنا: ويلكَ!! ما أنتَ؟

قال: قد قدرتُم على خبري فأخبروني: ما أنتم؟

قالوا: نَحن أناسٌ من العرب. ألجأنا الموج إلى جزيرتك هذه!


... ثم طرح عليهم أسئلة فأجابوه، فقال: إنّي مُخبركم عنِّى: إنِّي أنا المسيح؛ وإنِّي أوشك أن يؤذنَ لِي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض فلا أدع قريةً إلا هبطتُها في أربعين يوم، إلاَّ مكة وطيبة فهُما محرّمتانِ عليّ كلتاهُما؛ وكُلَّمَا أردتُ أن أدخل واحدةً منهما استقبلنِي ملكٌ بيدهِ السّيف مصلتًا يصُدُّنِي عنهَا، وإنّ على كل نقبٍ منها ملائكةٌ يَحرُسُونَها...

 

الفصل الثالث

كان المسلمون في تلك الحقبة في صلح آمن مع الروم، حين جَمعتهم مصالحهم المتقاطعة، فاتفقوا على قتال عدو مشتركا كان من ورائهم، فغزوه معًا جميعا، فقاتلوه وانتصروا عليه وسلـِمـُوا، وغنموا منه غنائم كثيرة...

 

ولَدَى انقلابهما من أرض المعركة منتصرين، غانِمين، غلبَ على الرّوم طبعُها، فنقضت غزلها أنكاثا، وغدرت كدأبها، ورفع رجل منهم الصَّليبَ، ثُمَّ صاح بزهو:

• غَلبَ الصليبُ.. غَلبَ الصَّليبُ!

فقام له رجل من المسلمين فكسّر الصَّليب ودَقّ عنقه، فأرداه قتيلا، فوقعت بذلك فتنة عظيمة بين الرّوم والمسلمين تَمايزت على إثرها الصفوف، ولَجأ كلّ إلى رايته: أهل الإيِمان تَحت راية لا إله إلا الله، وأهل الكفر تَحت راية الصّليب، فتقاتلوا حينا من الدَّهر.

 

دارت على الروم الدوائر، وكان النصر حليف المسلمين في مواقع عديدة، فغنموا منهم، وأسروا وسبوا.

 

فاعتنق الأسرى الإسلام لما لامس الإيمان شغاف قلوبهم، وذاقوا حلاوته في صدورهم، فانضموا إلى قافلة التوحيد، وانْحازوا إلى فسطاط الإيمان، ودخلوا في جند الرّحمن، عن رغبة وطواعية...

 

فانبعثت نار الحقد في نفوس الروم، وأوغر الغل صدورهم، فألْهب مشاعرهم، فحشدوا حشدهم، وتَهيئوا للثأر، وقد جَمعوا أمرهم - في هذه المرة- على استئصال شأفة المسلمينَ، واقتلاع شجرتهم من جذورها، كي لا تقوم لَهم بعدها قائمة. جنَّدت الروم لِمعركتهم الفاصلة جَميع إمكاناتِها، وتنادوا إليها من كلّ حدب وصوب، فجاؤوا بِجيش كثيف في ثمانين راية، تَحت كلّ راية اثنا عشر ألفا، أي كان عددهم زهاء المليون من الرجال، وما أن وصل جيش الرُّوم إلى الشام حتى نزل بقضه وقضيضه بدابق، وهي أرض تقع على مشارف مدينة حلب، فاتْخذوها معسكرًا لَهم، وقاعدة عسكرية لِجيشهم العرمرم.

 

وفي الأثناء هبّت طائفة من خيار أهل الأرض من المدينة المنورة لنصرة إخوانهم في بلاد الشام، ودفع الصائل عنها لَمَّا نَما خبر قدوم جيش الغرب وزحفهم نَحو الشام إلى أهل المدينة، فالتحقت تلك الطائفة بجيش التوحيد الذي كان محتشدا، بالغوطة في دمشق.

 

وطفقت طبول الحرب تقرع، فاستعدّ الفريقان، وأخذ كل منهما أهبته للمعركة الفاصلة، والملحمة الكُبرى التي تواطأت الروايات على وقوعها، وتوافقت النبوءات على اندلاعها بين جيش التوحيد من جهة، وجيش النّصارى من جهة أخرى..

 

ولما تراءت الفئتان، والتقى الجيشان، وتصافّوا أمام بعضهم نادت الرّوم:

• خَلُّوا بيننا وبين الذين سُبُوا منّا نقاتلهم.

وكانوا يريدون بذلك الأسرى الذين اسلمُوا وانْحازُوا إلى جيشِ المسلمين.

 

فردّ عليهم المسلمون:

• لا واللهِ لا نُخلّي بينكم وبين إخواننا!

 

عندها استشاط جيش الروم غضبا، وركبهم الحمق، فما لبثت أن انقدحت شرارة المعركة، وكشرت الحرب عن أنيابها، ودارت رحاها، وما هي إلا لحظات قليلة حتى اشتعل أوارها، وحَميّ وطيسُها، فاستحرَّ بين الجانبين القتل: فتطايرتِ حينئذ الرؤوس، وتقطّعتِ الأيادي، وتناثرت الأشلاء، وسالت الدماء.

 

فطارت من هول الوقيعةِ قلوبُ الضّعفاء، وارتعدت فرائصُ الجبناءِ رعبا، وكانت المعركة تشتد شراسة، ويزداد وقعها ضراوة مع مرور كل لحظة...

 

عندئذٍ انْهزمَ الطابور الخامس والمندسون بين جيش التوحيد، فنكصوا على أعقابهم، وفروا من أرض المعركة لا يلوون على أحد، فأحدثَ ذلك شرخا عظيما، وربكة كبيرة في صفوف جيش التوحيد، فانقلبت فجأة حساباتُهم، وتَخلخلتْ معنوياتُهم، غير أنّ ذلك لم يثنِ من عزمهم على مواصلة القتال، ولم يفتَّ في عضدهم، إذ سرعان ما انبرتْ ثلثةٌ مؤمنة من أبطال المسلمين وصناديدهم، فاقتحموا جُموع الأعداء غير آبهين بقوتهم، ولا كثرة عددهم، ولا تفوق عدتهم، فقاتلوا قتالاً عنيفًا حتى حجز الليلُ بين الفريقين، وقد مـنَّ الله على تلك الطائفة المؤمنة بالشـَّهادة، فـَقـُتـلـوا جميعا صابرين محتسبين، ولم ينقلب منهم أحدٌ، ولم ينج منهم رجل واحد.

 

وفي اليوم التالي نَهضت طائفةٌ أخرى من الأبطال الأشاوس فقاتلوا الأعداء قتالا شرسا، في معركة طاحنة، يشيب من هولها الولدان، وتطير من وقعها عقول الشجعان، حتى مـَنَّ الله عليهم بالشهادة أيضا كلهم أجمعين مقبلين غير مدبرين... حينئذ أخذت كفة الروم في القتال ترجح، وأمسى لا يفصلهم عن النصر إلا خطوات قليلة...

 

إذ طفق أبطال الإسلام وصناديده يتساقطون في ساحة الوغى، وعلى أرض المعركة كما تتساقط أوراق الشجر في الخريف وهم يذودون عن عقيدتهم، ويدافعون عن أرضهم..

 

فلم تغرب شَمسُ اليوم الثالث حتى راحت بأرواح ثلث الجيش المسلم شهداء في الأيام الثلاثة الأولى للمعركة...

 

عند ذلك قويت شوكة الأعداء، وارتفعت معنوياتهم، وتضاعفت شراستهم في القتال، وهم يرون بأم أعينهم جيش المسلمين يتقلص ويتناقص، ورقعة الأرض التي يقفون عليها تنكمش وتنزوي من تحت أقدامهم، فاشتدَّ عزمهم، وجمعوا أمرهم على التنكيل بِالمسلمين ومَحقهم مَحقًا في اليوم التالي؛ فهذه فرصتهم قد سنحت، وهذا حظهم قد رفرفت علاماته في السماء!!...

 

أنشب الألم مخالبه في قلوب جند الله، ورفرفت فوقهم سحابة الأسى، واشْتَدَّ عليهم البلاءُ، واستبدّ بهم الحزنُ، وزُلزلوا زلزالاً شديدًا...

 

وما أن لاح فجر اليوم الرابع للمعركة حتى أعَادَ المسلمونَ تنظيم صفوفهم ليخوضوا المعركة بثلث الجيش الباقي، فتَبَايعوا على الموتِ، وتواصوا بالثبات، فنهدوا جميعا، فاقتحموا صفوف الأعداء بصبر الأبطال، وثبات الشُّجعان، وكانت عيونهم ترنو إلى السماء طالبين المدد، وألسنتهم تلهج بالدُّعاء.

 

وفي هذه الأثناء أنزل الله سكينته عليهم، وثبت أفئدتهم، فحَملُوا على أعدائهم حَملةَ رجلٍ واحدٍ، وانقضُّوا على جنود الكفر انقضاض العقاب على فريسته، بأفئدةٍ ثابتةٍ، وسواعدَ فتية، فقارعوهم مقارعة الأبطال، دقة بدقة، وضربة بضربة...

 

وما أن اشتدّت وتيرة المعركة وازدادت ضراوتها، حتى شدّ كلّ منهم في من يليهِ، وقاتلوا قتال من يطلب الموت، ويعشق الشهادة، حتى أنَّك لم تعد تسمع إلا قعقعة السيوف، وحَمحمة الخيول، وغمغمة الأبطال...

 

فطال ذلك اليوم على الرُّوم طولاً شديدًا، وأبطأت شَمسُه في الرحيل...

 

وما أن مال قرص الشمس إلى الأفول، وانقشع غبار المعركة، وتلاشى في السماء نقعُها، حتى تَجلّت تباشيرُ النّصرِ في الأفق ضاحكة، فقذف الله في قلوب الرّوم الرعب، وفي سواعدهم الوهن ففشلوا وذهبت ريحهم شذر مذر، وانقلبت الدائرة عليهم، فمنح الله أكتافهم المسلمين، فأثخنوا فيهم قتلا وتنكيلا، وهزموهم شرّ هزيمة.

 

فسقط منهم خلق كثير لا يُحْصى عددهم، وسالت دماؤهم على الأرض أنْهارًا حتى خاضت الخيل فيها، وتراكمت جثثهم بعضها فوق بعض حتى أنّ الطّيرَ لم يكن في مقدروه تجاوزهم إذا طار فوقهم حتى يَخرَّ من السماء ميّتًا من نتنِ جثثهم الْمُكدّسة في ساحة الوَغَى...

• • • • •

 

بيد أن الجيش المنتصر لم يتوقف عند ذلك الحد، فانطلق زاحفا نحو مدينة اسطنبول بتركيا لتحريرها من أيدي الطغاة...

 

وما أن اقترب جيش التوحيد من مشارف المدينة حتى دبّ في قلوب الأعداء المتحصنين فيها الخوف، وركبهم الرّعب، وقد سمعوا ما جرى لجيش الروم.. فآثروا السلامة.. واستسلموا. فدخلها جيش الإيمان بالتّهليل والتَّكبير. وكَفَى الله المؤمنين القتال!

 

وفيما كان الجيش الفاتح في نشوة الفرح، وغاية السعادة بالانتصار المبين، والفتح العظيم في القسطنطينية؛ يقتسمون الغنائم، ويفرقون الأنفال وقد علّقوا سيوفهم بشجر الزيتون، إذ بالشّيطان يستصرخهم ليرهبهم، ويعكِّر عليهم صفو سرورهم، ويوقف زحفهم، فصاح فيهم اللعين كذبًا وزورًا:

• أنْ قد خرج الدّجّال!! وقد خلفكم في أهاليكم!

 

نزل الخبر عليهم كالصاعقة، وما لبثت أن خيّمت سحابة الحزن فوقهم، وألقى الأسى بظلاله القاتمة على الجيش، وهاجمت جنودُ الأتراح بشائرَ الأفراح فانتصرت عليها واغتالتها في نفوسهم، فتبدّل أمنهم خوفًا، وسرورهم نكدًا، فتقافزت قلوبُهم في صدورهم فَرَقـًا، وخفقت أفئدتُهم ذُعرًا، وانبعث الحنينُ بين حنايا صدورهم، فتذكّـروا أولادَهم وأهاليهم؛ فزهدوا في الغنائم التي غنموها جراء فتحهم لاسطنبول، حيث لم يَجدوا وقتا لتقسيمها بينهم، ثم انتخبوا منهم على الفور طليعة ليتحققوا من النبأ، فامتطى عشرة فرسان، من خير فوارس الأرض آنذاك خيولهم وشدُّوا عليهم سلاحهم، وانطلقوا على جناح السّرعة، يسابقون الرّيح نَحو الشّام ليتأكدوا من صحة الخبر...

 

ثم سرعان ما انقلب الجيش المنتصر من مدينة اسطنبول، عائدا إلى فسطاطه، ومقرّ قيادته بدمشق، بعدما علموا أنَّ الدّجّال قد خرجَ حقيقة، للدفاع عن أهاليهم وأبنائهم، وكان الحزن يَحدوهم، واللوعة تدفعهم، وهم يسابقون الزمن إلى ديارهم ويقطعون الفيافي والآكام.

• • • • •

 

قفل رشيد راجعًا إلى الشّام، بمعية عبد الرَّحمن التَّميمي، بعدما اشترى فرسًا...

 

وبينما كانا في طريقهما، ابتدر رشيد عبد الرحمن وهو يغالب عبرته قائلا:

• إن كلُّ الإرهاصات تدلّ على قُرب السّاعة، وبأنَّها أصبحت قاب قوسينِ أو أدنَى يا عبد الرَّحمن، وكلُّ المؤشرات تشير إلى أنّ القيامة قد حان وقتها.. وأظلنا زمانها!

 

بلع عبد الرحمن عبرته وقال بلوعة:

• وكيف علمت بذلك يا رشيد؟

• ألا ترى أن كثيرا من علاماتها قد ظهرت وأنّنا نعيش في أيامها؟ فقد أظلنا زمن الدّجّال الذي إذا ظهر فسيكون أول علاماتها الكبرى.

 

رنا عبد الرّحمن ببصره إلى السماء وقال مرتبكًا:

• نسأل الله السلامة يا أخي!

 

سكت رشيد برهة ثم قال:

• ما رأيك يا أخي، بأن نعرّج على المدينة المنورة فنزورها، فهي في طريقنا إلى الشّام؟!

• إنّها حقا فكرة رائعة يا عبد الرحمن، فأنا في شوق لزيارة المسجد النبوي! فمنذ مدة طويلة لم أزره.

 

الفصل الرابع

وبينما كان الناس في شدة وبلاء، قد أرهقهم الجوع، وأنهكتهم الفاقة، وأضناهم العطش والظمأ، إذ بالدّجّال يفك سلاسله، ويحطم أغلاله، فيظهر فجأة من أرض خُرسان، من جهة المشرق جَرّاء غضبة عظيمة غضبها، وخرج من مَحبسهِ، ثم طفق يطوف بالأرض طولاً وعرضا، ويقطعها شمالاً وجنوباً، ويطويها طيا، ويتنقل فيها بسرعة الغيثِ إذَا استدبرتهُ الريحُ، فقد زُويتْ له الأرض، واُخْتُصرَتْ له المسافاتُ، فلم يترك أرضَ قوم إلا هبطها، ولا مدينة إلا وطأها؛ سوى مكة والمدينة، فقد حَماهما الله من دنسه. ووقاهما من فتنته...

 

فتبعه على ضلالته خلق كثير، وآمن بدعوته جـمّ غفير، فلكل ناعق أتباع.. ولكل ضال قرناء.. ولكل ساقطة لاقطة!! إذ انبهر الناس بِخوارقه، واندهشوا من قدراته المبهرة، فقد أجَرى الله على يديه خوارقَ كثيرة!! وحيلا خطيرة! إذ خرق له العادات، وعَطَّل له السّنن الكونية، وطوّع له القوانين الطَّبيعية، فقد كان في مقدوره أن يأمر السَّماء فتمطر.. والأرض فتنبت، وجعل معه جبلاً من خبز، ونَهـرًا من ماء، في زمنٍ ضرب فيه القحطُ أطنابه، وعمّ الجوع، والعطش ربوع المعمورة، فقد عانت البشرية من الجفاف، لثلاث سنوات عجاف أكلت الأخضر واليابس، كما جعل الله معه نَارًا وجنّةً، فكانت ناره جنّة، وجنّته نارًا.

 

لقد ادّعى الدجال النبوة بادئ ذي بدء كذبا وزورا، ثم لم يلبث أن ادّعى الألوهيةَ والرُّبوبيةَ معا بعدما استتب له الأمر، فزعم بأنه يَخلقُ ويرزقُ، ويُحي ويُميتُ؛ فآمن به المنافقون، واستجاب لدعوته ضعاف القلوب رغبةً فيما عنده من خيرٍ ومالٍ، وطمعًا في الدنيا وزخرفها...

 

لقد صادف خروجه بعض نبوءات اليهود، وطابق معتقداتِهم المبثوثة في كتبهم، والتي كانت تشير إلى ظهور مَلِكٍ لَهُم من بني داودَ، عليه السّلام، في آخر الزّمان، يعيد لهم مجدهم، ويرد إليهم سلطانهم المغتصب، ويقيم لهم دولتهم الكبرى، ويُحقّـق لهم حلمهم في السّـيـطـرة على أمم الأرض كافة، فاتبعوه وآمنوا به وعزروه ونصروه...

 

إذ كانوا يعتقدون أن بِمجيئه - أي الدجال - سيتحول النّاس قاطبةً إلى عبيد لَهم، وستطرح الأرض فطيرًا، وملابسَ من صوف، وقمحًا وسترجع إليهم السّلطةُ في الأرض. ولن يأتِي ذلك المسيحُ – بزعمهم - إلا بعد انقضاء حكم الأشرار، أيّ حكم المسلمين!!

 

لذا كانوا يُخصصون ليلةَ عيدِ الفصح لدعوته وحثه بالتعجيل بالخروج.. وكانوا يدْعُونه في كتبهم بالمسيح، ويصفونه بالمخلّص!

 

وكانت من عجائب قدرته أنه ما مرّ على خَربةٍ إلا اتبعته كُنوزها ومعادنُها راغمة.. وكان كلّما مرّ على قرية، أو عَرَّجَ على أرض قوم، دعا أهلها إلى عبادته والإيمان به وإتباعه قصرا، فإذا استجابوا له وأطاعوا أمره، واتّبعوا طريقه، وسلكوا نَهج الضلالة معه، أمر السّماء لَهم فأمطرت، وأنزلت ماءها، والأرض فأنبتت، وأخرجت نباتَها وجادت بخيراتِها، فيعمّ عليهم الخير والرّخاء، فترعى مواشيهم، وتأكل أنعامهم..

 

وفي المقابل الويل كلّ الويل! لِمن رفضَ دعوته أو أبَى إتّباعه من أهل القرى. فكان إذا انصرف عن قرية غاضبا تركها في قحط وجوع، وشظف من العيش، وتعاسة وشقاء، بعدما يأمر السّماء بِحبس مائها عنها، ويأمر الأرض بِإمساك خيراتِها...

 

وذات يوم صادف الدّجّال أحدَ الأعراب في طريقه، فأتى به على رؤوس الأشهاد ليستعرض قدراته! ويبرز مواهبه...

 

فقال له: أرأيتَ إنْ بعثتُ لك أباك وأمَّك؛ أتشهدُ أنِّي ربُّك؟

فقال له الرَّجُلُ: نعم!

فتَمثلَ للرجل شيطانانِ في الحال على صورة أبيهِ وأمِّه.. فكَلَّماه بصوتِهما، وبِما يعرف عنهما...

ثُم قالا له: يا بُنيّ! اتّبعه. فإنّه ربّك!!

فاتبعه الرجل رغم أنفه...

وحينَ بلغ الدجال المدينة المنورة حَطّ برحله خلف جبل أُحد، وضربَ بفِسْطاطِه في سَبْخةِ الجـُــرُف، على بعد ثلاثة أميالٍ من المدينةِ.

فما مكثَ غيرُ بعيدٍ حتى صعدَ الجبلَ. فرنا ببصره نـحو مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، وأشار إليه بيده...

 

ثم قال لمن حوله من أتباعه:

• أترون القصر الأبيض؟

فقالوا: نعم!

فقال: هذا هو مسجد أحمد!! وإنّني أريد الذّهاب إليه...

 

فعلى الرُّغمِ منْ علمهِ بأنَّهُ مَمنوعٌ من دُخولِ المدينة، إلاَّ أنَّ شوقه الغامر دفعه للمغامرة علّه يَجد لذلك سبيلاً، فقد كان قلبُه يتحرّقُ شوْقًا لاقتحامِها. فحاول دخولها المرة بعد المرة، وأعاد الكرَّة تلو الكرَّة لكن دون جدوى، فهيهات هيهات لذلك! فقد ذهبت كل محاولاته سدى، فليس كل ما يتمنَّى المرء يدركه! إذ رماه الله بالعجز، وسدّ في وجهه جَميع السُبُل، وأغلق عليه كل المسالك، فباءت جَميع مُحاولاته بالفشل. فكلما سلك إليها طريقًا أو حاول أن يلجها من نقب وجد ملكا مصلتًا سيفه يَمنعه من الدّخول.

 

فلما عجز عن دخول المدينة، استبد به الغضب، فشدّد حصاره عليها انتقاما لكبريائه، وإرضاء لنزعة الطغيان في قلبه، فالطاغية لا يرضى بالهزيمة، ولا يعترف بالعجز! فعندئذ منع أهلها من الخروج منها، أو الدخول إليها. فلاقى قاطنوها جراء ذلك شدة وبلاء عظيمين...

 

وفي غضون ذلك، رجفتِ المدينةُ ثلاثَ رجفاتٍ متتالياتٍ، فلفظت خبثَها، وأخرجت رجسها، وتَخلّصت من دنسها، كما يتخلص الحديد من كيره؛ والذَّهبُ من شوائبه إذا فُتنَ وعُرضَ على النَّار، فطردت منها مرضى القلوب، فلَم يبقَ في المدينة مرْجفٌ أو منافقٌ، أو مكذّبٌ، إلا خرجَ للدّجّال، والتحقَ به في ذلك اليوم، الذي عُرف بيوم الخلاص!

 

فترى المجرمين يومئذ يُهرعون إليه، ويسعون نَحوه، يدفعهم الطّمعُ، وتَحدوهم الرغبةُ في الدّنيا وزينتها، وكان أكثرُ مَنْ خرج إليه منها في ذلك اليوم النِّساء.. فما أسرعهن إلى الفتنةِ! وما أعجلهن إليها! فهُنَّ أكثرُ أتباع الدّجّال، وهُنَّ أغلبُ أهلِ النّار!! حتى أنّه لم يَجد بعض الرّجال في المدينة بـُدًّا من ربط نسائهم، ووثاقهن بالحبال لمنعهنّ بالقوة من الالتحاق بالدّجّال، بعدما تكلّلت كلّ مُحاولاتِهم لثنيهنّ عن عزمهنّ بالخروج إليه بالفشل...

 

وذات يوم، وفيما كان الدّجّال جالسًا في فسطاطه، منتفشا ريشه كالطاووس بين أتباعه خرج إليه شاب مؤمن، هو خير النّاس يومها، وأشدهم إِيماناً، بعدما جَمع أمره، وعزم على تَحدي عدو الله وإحراجه أمام الملأ ليقيم عليهم الحجة ويبين حقيقته لهم، فذهب إليه، وقد نذر حياته لله...

 

أوقفه حرّاس الدجال قبل أن يصل إليه فسألوه:

• إلى أين تعمدُ؟

• إلى هذا الذي خَرجَ!!

 

فقالُوا بِحنقٍ:

• أوَمَا تؤمن بربّنا؟؟


فأجابَهم بثقةِ المؤمن العارف بربِّهِ:

• ما بربِّنا خفاءُ!

نعم ما بربِّنا خفاءٌ! فقد اتّصفَ سبحانه بصفات الكمال، وتنزَّه عن العيوب والمثالب عزّ شأنه، وتقدست أسماؤه، فهو الله الذي لا إله إلا هو، لَه الأسماء الحسنى، والصّفات العُلى. ليس كمثله شيء وهو السّميع البصير.

 

ولحكمة أرادها ربنا خلق المسيحَ الدّجّالَ، أعورًا ذميمًا، وجعله ناقصًا معيبًا، لا يخفى على كل ذي بصيرة أمره، ولا يلتبسُ على كل ذي لب شأنه!! وقد كُتب، على جبهتهِ وبين عينيهِ: "كافرٌ" بِخطّ واضحٍ جليٍّ، يقرأه كلُّ مؤمن سواء كان كاتبا أو غير كاتب، عربيا أو أعجميا، كما جعله الله عقيما لا يولدُ لهُ.

 

استشاط الحراس غضبا، فهمّوا بقتله والبطش به.. لولا أن قال بعضهم لبعض:

• أليس نَهاكُم ربُّكم أن تقتلوا أحدًا دونَ إذنه!

قالوا: بَلَى!

 

فقبضوا عليه وانطلقُوا بهِ إلى الدّجّال يَجرُّونه ويشتمُونه...

 

وَما أنْ رأى المؤمنُ الدَّجَّالَ جالسًا في فسطاطه بين الملأ من أتباعه حتَّى أخَذَ يُحَدِّقُ في وجهه مشْدُوهًا، ويَقرأُ جبهتَه، ويقارنُ أوصافَه بالّتي يعرفُها عنْه، فهو كما جاء وصفه في الأثر: دميم الخَلقِ، سيء الـخُلـُقِ، أبيض البشرةِ، أعور، مطموس العينِ اليسرى، واسع الجبهة، قصير، أفحج، شعره كثيف أجعد، عظيم الرأسِ، ضخمُ الْجُثَّةِ..

 

استدرك الشاب نفسه ثم صاح بصوتٍ عالٍ ليسمعَ النّاسُ:

• أيّها النّاسُ.. هذا هو المسيح الدَّجَّال! الذي ذكره رسول الله!

اعترى الطّاغية الغضب، فأمرَ به فَعُذِّبَ عذابًا شديدًا، ثم أوْتِيَ بهِ إليهِ مرة أخرى فسألهُ على رؤوسِ الأشهادِ، وكان يظنُّ أنَّ التَّعذيبَ غيَّر رأيهُ فيهِ:

• أوَمَا تؤمن بِي؟!!

 

فردّ عليه الشاب بتحدٍّ أكبر، وثقة أشد:

• أنت المسيحُ الكذَّاب!

 

كَظمَ الدَّجَّالُ غيظَهُ، وكتمَ غضَبه، وتَمالك نفسَه، إذ كان يَخْشَى أن يطرحَ الشاب الشّك في صدورِ النّاسِ، فنظرَ إليهم، وقال:

• أرأيتم إنْ قتلتُ هذا، وأحييتهُ؟؟ هل تشكون في الأمر؟

• فقالوا: لا!

 

فأمر الدَّجَّالُ أن يُنشرَ ذلك الرّجل أمام أعين النّاس بالمنشار، فقُطعَ من مَفْرَق رأسِه حتَّى فُرّق بين رجليه فجُعِلَ نصفينِ اثنينِ، فقام الدجّال ومشَى بين الشِّـقين متبخترا مزهـوا، واثق الخطى، والنّـاس ينظرون إلى الرَّجلِ وهو يتخبّـط في دمائه، وقد تفرَّقَ شِقّـاهُ، كلُّ شِّـقٍّ منهما في جهةٍ، فغشيتهم الدَّهشة، وعقدتْ ألسنتُهم الرّهبةُ.

 

التفت إليهم الدّجَّـال، وقال بعلو:

• انظروا إلى عبدي هذا! فإنِّي أبعثه الآن!

ثم قال له: قُمْ!!

 

فسرعان ما الْتَأمَ نِصْفاه، وتَزاوجَ شِقَّـاه فاستوى الشاب قائمًا، متهلل الوجهِ، ثابت الجنانِ، رابط الجأش ضاحكًا، وقد ازدادَ إيمانًا، وامتلأ فؤاده يقينا، وحبًا للشهادة، وشوقا إلى لقاءِ ربِّه...

 

فقال له الخبيث بصلفٍ: مـَنْ ربُّك؟

فقال المؤمن: ربِّيَّ اللهُ.. وأنتَ عدو اللهِ.. أنتَ الدَّجَّالُ!

 

فصاح في وجهه غاضبًا:

فقال: ما ازددتُ فيك إلا بصيرةً! والله ما كنتُ فيك أشدَّ بصيرةً منّيَّ الآن!

 

ثم التفت الرّجل المؤمنُ إلى النَّـاس، وقال بثبات وثقة:

• أيّها النّاس، إنَّه لن يُسلَّطَ عَلى أحدٍ بعدي، ولن يستطيع أن يفعل مثل هذا بأحد من النّاس.

 

فعند ذلك أخذ الدجال الشابَ ليذبَحه وينتقم منه، فحَالَ الله بينه وبينه، وحَماهُ من شرِّه، إذ جَعلَ بين رقبته إلى تَرْقُوتِهِ نُحاسًا..

 

غلى مرجل الغضب في رأس الدّجَّـال، واشتعلتْ سـَورته في فؤاده، وتأججت نارُ الحقد في صدره لمـّا أخفقَ في ذبحه أمام الناس، فأخذ برجلي الشاب ويديه، ورفعه ثم قذف بِهِ في النّار التي كانت معه. كانت تلك النار جنة في حقيقة الأمر.

 

فاتخذ الله ذلك الشاب شهيدا، كما أخبر عنه رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، ووصفه بأنه أعظم الناس شهادة وأعلاهم عند الله منزلة.

 

وعندما اعترى الدجالَ اليأسُ من دخول المدينة، وركبه العجز وعلم أنه لن يستطيع اقتحامها مهما فعل، لم يَجدِ بـُدًّا من مغادرة المدنية ومُجاوزتِها إلى غيرها، فتركها وانصرف عنها وهو يُجرجر حبال الخيبة، وقلبه يكاد يتفطر من الحزن.

• • • • •


وما أن وصل رشيد وعبد الرحمن إلى المدينة حتى وجداها فارغة من أهلها إلا قليلا منهم، بعدما هجرها سكانها، وزهدوا في العيش فيها، فأقفرت ربوعها، ودُرست أطلالها، وخربت ديارها، وصارت للسباع سكنا، وللطيور مأوى وأوكارا!!

 

تساءل عبد الرحمن مندهشا والعبرة تكاد تَخنقه:

• ما هذا يا رشيد؟؟! قل لي بربك: ماذا حلّ بالمدينة؟!!

• الله أعلم يا أخي! ولكنها كما ترى خاوية على عروشها، كأنَّها لم تغن بالأمس!

• لقد صدق نبينا الكريم، صلى الله عليه وسلم، حين أخبرنا بخرابها قبل قيام الساعة!

• ولكنني، لم أكن أتصور أن يصل الأمر إلى هذا الحد!

 

ألتفت رشيد فجأة وصرخ:

• أنظر.. أنظر.. يا عبد الرحمن! إنه ذئب خلفك!

 

التفت عبد الرحمن بسرعة ثم قال مندهشا:

• لا حول ولا قوة إلا بالله!! لقد أصبحت يثرب مرتعا للكلاب، ووكرًا للذئاب!

 

سكت عبد الرحمن قليلاً ثُم قال وقد ترقرقت عيناه بالدمع:

• هيا بنا نَخرج منها بسرعة يا أخي، فإنني أشعر بالخوف والوحشة!

• ولكن، لم يبقَ يفصلنا عن المسجد النبوي إلا مسافة قصيرة، فدعنا نزوره أولا ثم نغادرها سريعا، فأنا لا أرضى أن أدخل المدينة ولا أزوره!

 

هزَّ عبد الرحمن رأسه موافقا:

• لا بأس!

 

اعتصر الحزن قلبيهما وهما يدخلان المسجد، الذي كان خاليًا، حيث لَم يَجدا فيه إلاَّ رجلا مُسنًّا جالساً في الروضة يسند ظهره إلى أحد الأعمدة المنتشرة في المسجد، يسبّح ويذكر الله.

 

فاقتربا منه، وسلّما عليه برفق.. ثم بادره رشيدٌ متسائلا:

ما الذي حَلَّ بالمدينة؟؟ وأينَ ذهبَ أهلُها يا عمّ؟!


هزَّ الشيخ رأسه، وقال بلوعة:

كما ترَى يا بُنَيَّ! لقد زهد أهلها فيها، بعدما ابتلاها الله بالدَّجّـال الذي قهر أهلها، وضيق عليهم عيشهم.

 

صرخ رشيد مفزوعا:

• أوَقدْ خرجَ الدّجّال؟!!

• نعم يا بُنيّ!!

 

صاح عبد الرحمن مفزوعًا:

• وأين هو الآن يا عمّاه؟

• الله أعلم!

 

قال عبد الرحمن وهو يغالب عبرته:

• إنّا لله وإنّا إليه راجعون! وماذا سنفعل الآن يا رشيد؟

• علينا أن نسبقه إلى الشام!

 

قال العجوز وقد اغرورقت عيناه بالدّمع:

• ليتنِي كنت قادرًا على الذهابِ معكما!

 

الفصل الخامس

رفـرفت سـحـابة الـحـزن فـوق أهـل الشّـام حين تـناهى إلى سَـمعهـم نبأ قـدوم المسيح الدّجّـال عليهم، وسيره نَحوهم بِجيش كثيف، ودنوه من ديارهم ليستحلها.. فطفقوا يتضرعون إلى الله، ويَجأرون له ليكفيهم شرّه، ويقيهم من فتنته؛ بعدما سَـمِـعوا ما حـلَّ بالبلادِ التي مرّ بِها، أو دخلها من كرب وبلاءٍ.. ثم لم يلبثوا أن لجئوا إلى الجبال القريبة منهم، فاحتموا بها...

 

ولدى وصول رشيد وصاحبه إلى مدينة دمشق وجداها، قد تحولت إلى مدينة أشباح: فأسواقها مقفلة، وطرقها مقفرة. توجّها إلى المسجد الأموي مباشرة لأداء الصلاة.

 

التقى رشيد بصديقه الشيخ رضوان في المسجد، فتعانقا بِحرارة ثم جلس إلى جانبه.

 

ابتدره الشيخ وهو في غاية الدّهشة والسّرور:

• لا أكاد أصدق ناظريّ! رشيد أمامي!! الله أكبر! لقد فقدنا الأمل في عودتك إلينا، وظننا أنك قضيت نحبك في الطريق إلى مكة المكرمة، فقد انقطعت أخبارك عنا. قل لي ماذا فعلت بعدما تركناك؟

• لقد هلك فرسي في المكان الذي تركتني فيه بعد أيام، فدفنته، وواصلت السير إلى مكة المكرمة سيرا على الأقدام.

• الحمد لله على سلامتك يا رشيد! لقد أدخلت عودتك إلينا سالما إلى قلبي السرور!

• أشكرك كثيرا على مشاعرك النبيلة يا شيخنا الفاضل!

 

تنهد رشيد بعمق ثم قال:

• أرجوك أخبرني، أين هو المهدي الآن؟؟! وإلى أين ذهب أهل المدينة؟

• إنه في جبل ببيت المقدس مع طائفة من المؤمنين. أما الناس فقد فروا إلى رؤوس الجبال.

• وكيف الوصول إليه؟

• لا أظن أننا سنكون قادرين للذهاب إليه الآن.

 

أسقط في يد رشيد، غير أنه استدرك نفسه فأشار إلى عبد الرحمن الذي كان يراقب الموقف العاطفي عن كثب، فقال:

• على فكرة.. هذا أخونا عبد الرّحمن التميمي، جاء معي من مكة المكرمة ليلتحق بالمهدي!

صافحَه الشيخ رضوانُ بِحرارة، وقال له مرحبا:

• أهلا وسهلا بأهل مكة الكرام!

• إنّه لشرفٌ كبير بأن أتعرف عليك يا شيخ رضوان! فقد حدَّثني رشيد عنك كثيرًا! حتى كأنه لا يعرف أحدا غيرك في دمشق!

• جزاك الله خيرا!

 

سكت رشيد برهة، ثم قال:

• لقد سَمعنـا أنَّ الدجَّـال في طريقه إلينا!

 

تنهّدَ الشيخُ بعمقٍ وقال:

• نعم! فالنّاس هنا يترقّبون قدومه بِحزنٍ بالغٍ، وقد امتلأت قلوبُهم رُعبًا، ونفوسهم هَمًّا وغَمًّا!! وقد فرّ كثير منهم إلى رؤوس الجبال.

• حسبُنا الله ونعم الوكيل!! ولكن ما العملُ الآن؟

• ليس أمامنا إلاَّ التَّضَرَّع إلى الله!

• أليس خروج المسيح الدَّجَّال دليلا على قرب الساعة يا شيخنا؟ وأنَّه يُعد من علاماتِها الكُبْرى؟!

• بلى يا رشيد!! فعلى ما يبدو أنّه قد بدأ العدّ التنازلي، فكل الإرهاصات تدل على أن عقد الساعة بدأ بالانفراط، فالدّجّال هو أول علاماتِها الكبرى ظهورا، فلذا علينا التهيؤ للرَّحيل، إذ لا يفصل بين العلامات الكبرى فاصل زمني طويل؛ فإذا خرجت إحداها كانت الأخريات على الأثر...

• نسأل الله السلامة!

• إنّه لم يعد ينفع هذه الأيام يا رشيد، إلاّ التوبة النصوح، والرجوع إلى الله، وتعهد الإيمان، ورفع منسوبه في القلوب!

 

• وهل ظهرت علامات القيامة الصغرى جَميعها يا شيخنا، حتى تَخرج الكبرى؟!

• نعم! لقد ظهرت جلـّهـا وتتابعت قبل ظهور المهدي، كما أنَّ العلامات الصغرى قد تتداخل مع الكبرى وربـَّما يتكرر بعضها!!

• هلاّ تُذكـِّرنا بتلك العلامات التي ظهرت؟؟ فقد وعدت عبد الرَّحمن بأنَّني سأطلب منك ذكرها له عندما نلتقي بك.

 

التفت الشيخ إلى عبد الرحمن وقال بلطف:

• إنَّها كثيرة يا أخي الكريم، ولا يسع المجال لذكرها!

 

قال رشيد:

• أرجوك.. اذكر لنا ما تيسر لك منها!

 

أطرق الشيخ برأسه وسكت هنيهة، ثم قال:

حسنا! سأذكر لكم ما يحضرني منها: فمن علاماتِها، بعثة النّبي الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، وانشقاق القمر له، ووفاته، ثم تتابعت العلامات فظهرت الفتن، فوقعت فتنة عظيمة بين الصحابة الكرام فتقاتلوا في الجمل وصفين، ثم كثر الهرج والمرج، بعد ذلك، وهو القتل، وخرجت نار بِحوران من أرض الحجاز أضاءت لَها أعناق الإبل، فبقيت تلك النار لثلاثة أشهر يراها الناس...

 

ثم تتابعت علاماتها وتوالت أماراتها: فولدت الأمَة ربَّتها، وفشتِ التِّجارةُ، وتداخلتِ الأسواق، وتَجمَّع المالُ وتكدّس عند أراذل الخلق، وأدناهم عند الله منزلة، وضُيعت الأمانة، وكُتمتِ الشّهادة، وتقاربَ الزمانُ، وتقاربتِ المسافاتُ، وانتشر بين النّـاس عقوقُ الوالدين، فكان الرّجل يقرّبُ صديقَه، ويبعد أباهُ؛ ويطيع زوجتَه، ويعقّ أمّـهُ!! وربا عدد النّساء على الرجال، حتى صار الرجل الواحد قيم خمسين امرأة، وخرج النسوة كاسياتٍ عارياتٍ وسرنَ في الشّوارع والأسواق بلا خجلٍ ولا حياءٍ!! فانتشرت الفتنة، وعَمَّتِ الرّذيلة، واستحلَّ النّاس الزّنا والفحش، وجاهروا بالدعارة، حتى صاروا يُمارسونَها في الطُّرقات، وفي الحدائق العامة، وتشبَّه الرّجالُ بالنّساء في كلِّ شيء، فلبسوا الذّهب والحرير، واكتسب النَّاس المال بأفواههم: بالدّجل، والتّملق للرّؤساء والزّعماء، وبالرقص والغناء، وتفشّى شُربُ الْخمر وبيعه في بلاد المسلمين، فأرسل الله بالآيات تَخويفا وتَحذيرا، إذ كثرتِ الزلازلُ والصّواعق، وانتشرت البلابل.

 

بيد أن الناس ازدادوا عنادا، وأصروا على الكفر والمعصية، فخسف الله ببعض القبائل من هذه الأمة الأرض، وعاقبهم بالقذف، والرّجف.. كما مسخَ بعضهم قردة وخنازير!! وأرسل عليهم الريح العقيم، وأنزل عليهم حجارة من السّماء عقوبة لهم وتذكيرا...

 

سكت الشيخ رضوان برهةً، بلع فيها ريقه قبل أن يستأنف حديثه بأسى قائلا:

• ... ولكن، وللأسف الشديد! لم يتعظ النَّاس بذلك، بل زادهم ذلك إعراضا وتكذيبا، فسلّط الله عليهم سفهاءهم فملكوا زمام أمرهم، فحكمهم جبابرة طغاة لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلا، فساموا الناس ظلما وخسفا وأذاقوهم صنوف العذاب، وملأوا الدنيا ظلما وجورا، وقتلا وتشريدا. حتى عدت لا تسمع إلا نعقا ونهيقا، فنطقَ حينئذ الرويبضة بعدما خنقوا صوت الحق، وكمموا أفواه الداعين إليه!!

 

قاطعه رشيد مندهشا:

• ومن هم الرويبضة يا شيخنا؟

• هو الرَّجُّـل التَّافه يتكلم في أمر العامة، كما وصفه الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم! فقد اتّخذَ النّاس رؤوسًا جُهّالا!! فتصدّروا للفتوى، وحكموا بين الناس بالهوى في وقت انتشر فيه العلم المادي والتكنولوجيا، إذ فتح الله على البشرية أبواب العلوم المختلفة فاستخدمها الإنسان في الترف والفساد، وفي الهلاك والدّمار، فاخترعت البشرية وسائل الدمار الشامل، والأسلحة الفتاكة، كما أتخذ الإنسان له رواحل ومراكب: كالسّيارات، والطّائرات، والسّفن، والمركبات الفضائية، وغيرها من وسائل النقل التي كانت قبلنا.. ومن علاماتِ الساعة الجلية التي ظهرت: هي تكالبُ الأمم على أمتنا فاحتلوا أراضيها، ونَهبوا خيراتِها، وسلبوا أموالَها، وسفحوا دماء أبنائها، بعدما هَجرت دستورها، واستوردت دساتير أخرى، وتركت الحكم بكتاب الله، والعمل بمقتضاه، واهتم المسلمون بزخرفة المساجد واتْخذوها طُرقًا، وتبارى العرب في التطاول في البنيان وتنافسوا في بناء الصروح والأبراج

 

... ومن علاماتها التي ظهرت هي فتح بيت المقدس، وانْحسار الفراتُ عن جبل من ذهب، وخروج مدعي النبوة وقد وصل عددهم زهاء الثلاثين، وهذا الأعور الدّجّال آخرهم...

 

هزّ رشيد رأسه بأسى ولوعة وقال:

• وكيف انحسر الفرات عن جبل الذهب؟! وماذا فعل الناس عند ذلك؟

• لقد ظهر جبل الذهب بعدما جف نهر الفرات، ونضب ماؤه، فتقاتل النّـاس عليه قتـالا عنيفا، فـفـنـوا جميعـا نتيجة الطمع، فقد قتل آنذاك من كـلِّ مائة تسعة وتسعون رجلاً، ولم ينج من الناس آنذاك إلا من زهد فيه، ولم يأخذ منه شيئا.

 

اغرورقت عينا رشيد بالدمع، فنظر إلى عبد الرحمن، الذي هز رأسه وقال والدموع تسيل على خديه:

• حسبنا الله ونعم الوكيل!

 

الفصل السادس

استبدّ الغضب بالدّجال حين دخل الشّـام فوجدها خاوية على عروشها، فارغة من أهلها، بعدما غادروها جميعا وانْحازوا إلى الجبال حال سَماعهم بوصوله إليهم. توجه عدو الله نحو بيت المقدس لمحاصرة المهدي...

 

وَجد المهدي وأتباعه شدةً عظيمة، وبلاءًا شديدًا جرّاءَ ذلك الحصار الرهيب، فقد تنكرت لهم الدنيا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، فاشتد حزنهم، وطاف بِهم طائف الخوف، فتحيّروا في أمرهم، وتنازعوا في طريقة التعامل مع عدو الله الدّجّـال، وكيفية التَّـصدي لشرّه وفتنته...

 

ولَمَّا اشتدّ عليهم الأمر، ونفد حلمهم، وعيل صبرهم، أقبل بعضهم على بعض يتلاومون؛ فقال قائل منهم:

• يا معشر المسلمين حتّى متى أنتم هكذا؟؟! وعدو الله نازل بأرضكم؟! فهل أنتم إلاَّ بين إحدى الحُسنيين: بين أن يستشهدكم اللهُ، أو يظهركم على عدوكم؟!

 

أشار عليهم، عندئذ، أهل الرأي والمشورة بالخروج له، والاستعداد لِملاقاته، إذ لا مفرّ لَهم من ذلك، فاتفقوا على لقائه، وعزموا على الخروج إليه بِحلول الصُّبح؛ بعدما تبايعوا على الموت، وتعاهدوا على الثبات..

 

ثم باتوا ليلتهم تلك في أسوأ حال، وقد بلغت منهم القلوب الحناجر، وهم يترقبون قدوم الصّبح، ويصقلون لعدو الله السيوف والخناجر، إذ طار النوم من جفونهم، وهجر الكرى مآقيهم، فبرحوا مضاجعهم، وأخذوا يجأرون إلى الله طوال الليل، ويتضرعون إليه ويسألونه الثبات والنصر على عدو الله الدّجال...

 

وما أن آذن الليل بالانجلاء، وطفق نوره يفتق الظلماء حتى أنزل الله سكينته على عباده الصالحين، فأشرقت في نفوسهم بشائر الأمل، فأحسنوا به الظّنّ، وأعدّوا لعدو الله الدّجال ما استطاعوا من العدة، وتجهّزوا لملاقاته وقتاله...


وفي تلك الظروف الشّديدة، والأنْواء العصيبة، والأجواء الرهيبة، أذن الله لعيسى بن مريم، عليه السلام، بالنزول إلى الأرض، فنزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وكان يضع يديه الشريفتين على أجنحة ملكينِ كريمين، ولم يلبث أن انطلق إلى بيت المقدس...

 

وبينما كانت طائفة المؤمنين في مسجد بيت المقدس تئن تحت وطأة الحصار، في كرب عظيم، وبلاء عصيب، يسوون صفوفهم لصلاة الفجر، وقـد تقدّم المهدي ليؤمهم، فلكل أمة سنة وإمامها! إذ بظلام حالك يغشاهم فجأة. وما أن تبدد الظلام، وانقشعت عن أعينهم الغشاوة حتى رأوا رجلا وقورا بينهم لم يكن معهم من قبل: أبيض البشرة تُخالطها حُمرة، يشع وجهه نورا وبَهاء، مربوع القامة، عريض الصّدر، مسترسل الشعر، كأن شعره يقطر ماء، وكأنه خرج لتوّه من الحمّام، يرتدي ثوبين مصبوغين باللون الأصفر يُخالطهما الزّعفران، فانتشر شذى عطره الفواح، وعبيق أريجه فملأ المسجد.

 

اعترتهم الصّدمة، وأخذتهم الدّهشة، فظلت أفواهُهم فاغرة، وأعناقهم مشرئبة، وقد عقدت المفاجأة ألسنتهم...

 

وما أن علموا أنَّه عيسى بن مريم، عليه السلام، حتى تبدد خوفهم، وسرت في قلوِبهم الطمأنينة، ودبت في صدورهم الفرحة، وغشيتهم السعادة.

• • • • •

عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يَمترون!! رسول كريم مثير للجدل!! ونبيّ عظيم جدير بالإكرام، جعل الله ولادته معجزةً، فكلَّم الناس في أول يوم ولد فيه، بلسان فصيح، وقول صريح، فأقرَّ لله بعبوديته، وأعلنَ صراحةً عن نبوءته، وألْجم أفواه المتخرصين على أمه البتول، عليها السلام، وألقم المتقولين عليها والطاعنين في شرفها وعفتها حجرا...

 

أرسله الله عزّ وجلّ بالآيات السَّاطعة.. والبراهين القاطعة.. وأجرى على يديه المعجزات الباهرة.. والخوارق القاهرة، فأعجز أطباء عصره، وحَيَّر أهل زمانه، فأذعنوا له صاغرين لمّا أقام عليهم الحجة، وأظهر لهم المحجة، وتَحدّاهم في فنّهم الذي برعوا فيه، وأفحمهم في علمهم الذي أتقنوه. إذ شتان بين الثرى والثريا! وبين ما جاء به من المعجزات ونظريات وتجارب الأطباء، وحيل السحرة وعلماء الكيمياء...

 

لقد آتاه الله قدرة عجيبة، إذ كان في مقدوره أن يُحي الموتى بإذنه، ويُبرئ الأكمه على رؤوس الأشهاد، ويُشفي الأبرص بإذنه تعالى، وما مسح بيده الشريفة على مريض، أو على ذي عاهة إلا شفاه الله في الحال.. فسُمي المسيح بذلك.

 

وفي غضون ذلك غلب طبع الغدر لدى اليهود، فتآمروا على التخلص منه، فوشوا به لأحد الملوك الجبابرة من الرومان، وأوغروا صدره عليه حتى فاض كأس الحقد في فؤاد الطاغية، فأمر بإحضاره.

 

فانطلق جنوده يبحثون عنه في كل مكان، حتى أدركوه في أحد البيوت في بيت المقدس، ولَمَّا هَمُّوا بالقبض عليه ألقى الله شبهه على أحد الجالسين معه من أتباعه، ورفعه في الحال إلى السماء من فتحة في الجدار أمام مرأى من أصحابه، فأخذ الجنود ذلك الرجل الذي كان يشبهه وهم يظنون أنه هو...

 

فما أن رأى الملِك ذلك الرجل حتى أعمى الله بصيرته، فظن أنه عيسى بن مريم، عليه السلام، فأمر بصلبه في الحال. فما أيسر القتل لدى الطغاة!!.. وما أخف كلمة "اقتلوه" على ألسنتهم. فكم من صريع على أيديهم لا يدري فيما قتل؟ ولم أزهقت روحه؟ فهذا ديدنهم وهذه عادتهم. الله يزرع وهم يحصدون، ويخلق وهم يعدمون، ويبني وهم يهدمون...

 

وعلى رؤوس الأشهاد صُلب ذاك الرجل بأمر الملك، فظن الناس أنه المسيح بن مريم عليه السلام.

 

بيد أن الله خيَّب سعيهم، وردّ على ادِّعائهم، وكذَّب ظنَّهم، وبين أنَّهم لم يقتلوه يقينا، بل أشتبه الأمر عليهم، وأن الله قد أنجاه من مكرهم فرفعه إليه إلى السماء...

• • • • •

 

استبشر المهدي ومنْ معه بقدوم عيسى بن مريم، عليه السلام، عليهم.. وارتفعت معنوياتهم حين رأوه بينهم، فرحَّب به المهدي، ثم تقهقر تاركًا له مكانَه، ودعاهُ للصلاة بِهم إماما اعترافا بفضله وإكراما له.

 

فقال له المهدي:

• يا روحَ اللهِ تَقدّم.

 

فوضعَ عيسى بن مريم، عليه السَّلام، يده الشريفة بين كتفيه ثم قال له بلطف:

• لا بل تقدم أنت فصلِّ، فإن الصلاة لك أقيمت. بعضكم لبعض أمراء.. يُكرم الله هذه الأمة!

 

فيا لَهُ من شرفٍ عظيمٍ!! ويا له من موقفٍ كريمٍ! فأية كرامة أعظم من أن يصلـِّي رجل من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، برسولٍ كريم اصطفاه الله، وجعله من أولي العزم من الرسل.

 

وما أن فرغوا من صلاة الصبح حتى راح عيسى بن مريم، عليه السلام، يشدّ العزائم، ويُحِي الآمال، ويثبّت الأفئدة، ويطمئن النفوس، فقال لهم:

• "أنا عبد الله ورسوله عيسى بن مريم، فاختاروا بين إحدى ثلاث: بين أن يبعث الله على الدّجال وجنوده عذابًا من السّماء، أو يَخسف بِهم الأرض، أو يُسلّط عليهم سلاحكم، ويكفّ سلاحهم عنكم"...

 

اختار المؤمنون الثالثة، فقد كانت قلوبهم تتميز غيظا على الدّجال وأنصاره من يهود أصفهان، الذين كان يصل عددهم إلى سبعين ألف، وقد كانوا يضعون الطيالسة فوق رؤوسهم، ويـُمسكون بأيديهم سيوفًا حدادًا.

 

... وما هي إلا لحظات حتى أمر عيسى بن مريم، عليه السلام، بفتح الباب ففتح، وما أن أبصره الأعور الدّجال، حتى تملّكه الهلع، وسرَى في وجدانه الرُّعب فذاب كما يذوب الملح في الماء، فقد علم أنـَّها ساعة هلاكه، فأطلق ساقيه للريح، وانطلق كالرّصاصة هاربًا فزعًا، لا يلوي على أحد، ولا يلتفت لشيء، فحينئذ امتلأت قلوبُ أتباعه رُعبـًا، فسقطتِ السُّيوف من أيديهم، ولاذوا بالفرار في كلّ اتجاه...

 

انطلق عيسى بن مريم، عليه السلام، في إثر الدّجّال حتى أدركه بباب لـُدّ بفلسطينَ، فذَابَ الأعور الدجال مرة أخرى فَزعـًا فعاجله عيسى بن مريم، عليه السلام، بضربةٍ بِحربتهِ فقضى عليه، وأرداه قتيلا...

 

أخيرا أهلك الله المسيح الدّجّـال على يد المسيح الصادق، بعدما مكثَ عدو الله في الأرض أربعين يومًا منذ خروجه من مَحبسه حتَّى ساعة هلاكه، فعاثَ فيها الفساد، وملك البلاد، وأذلّ العباد، وجعل نفسه لله نـدًّا، ونصّبَ ذاته على العباد ربّا...

 

لم تكن تلك الأيام كالأيام المعهودة لدى الناس، فقد طال بعضها وتمدد، فيوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وباقي الأيام كأيام الناس، فقد طرأ على ما يبدو تغيّر في النّظام الفلكي، فأبطأت الأرض من سرعة دورانِها حول مِحورها في تلك الأيام فطال ليلها، وتَمدد نهارها...

 

ولما خرّ الطاغية صريعا، ورأى المؤمنون آثار دمه على الحربة التي كانت بيد عيسى بن مريم، عليه السلام، امتلأت قلوبهم غبطة، وسرت في أفئدتهم البهجة.. ولم يلبثوا أن انطلقوا يتتبعون فلول اليهود الفارة، الذين هاموا على وجوههم في الأرض حينما رأوا ربـّهم صريعًا، وزعيمهم مجندلا، وقد امتلأت أفئدتهم رعبًا، وقلوبُهم خوفًا...

 

ولم يتركوا شيئا إلا اختبئوا وراءه، فأنطق الله الأشياء، ودلَّت المسلمين عليهم، حتى أخبر الشجر والحجر عمن يختبئ وراءهما منهم، إذ كانا يناديان: "يا مؤمن! يا عبد الله، هذا يهودي عندي، تعال فاقتله"...

 

ولم يكن يتستر عليهم في ذلك الوقت إلا شجر الغرقد لأنَّه شجرهم، وقد زرعوه لذلك اليوم، وأعدوه لتلك المحنة...

 

وفي غضون ذلك تخطفت المنية المهدي، بعدما مكث في الأرض إماما للمسلمين، وقائدا للموحدين زهاء سبع سنين ملأ الدنيا عدلا وإحسانا، بعدما كانت قد ملئت ظلما وجورا، وفسقا وفجورا. حزن المسلمون على فراقه غاية الحزن وودعوه بالبكاء والدموع.

 

الفصل السابع

ويل للعرب من شر اقترب!! وويل للدنيا من مصيبة قد حلت، وعلاماتها قد تجلت، إذ فرغت يأجوج ومأجوج في تلك الأثناء من فتح السَّـد الذي ضربه عليهم الرجل الصالح ذو القرنين، فحبسهم وراءه منذ قرون عديدة، وآجال مديدة، ليقي العباد من شرهم، والبلاد من فسادهم...

 

بيد أنَّهم لم ييئسوا، ولم يستسلموا للأمر الواقع، ولم يزدهم طول المدة إلا إصرارا على تدمير السَّد والخروج من خلفه، والانتقام من أهل الأرض جميعا، فما توقفوا عن المحاولة مذ أن حبسوا خلفه، ولم يألوا في ذلك جهدا، ولم يدخروا وسعـًا، إلا أنَّ محاولاتهم كانت تتكلل بالفشل في كلِّ مرَّة. إّذ كانوا يتركونه كلما جنّ عليهم الليل.. ليعودوا إليه صباح اليوم التالي ليكملوا عملهم ويتموا نقبه، غير أنهم كانوا يجدونه في كل يوم قد عاد كما كان..

 

وذات ليلة أمرهم زعيمهم بترك العمل في السد حين غطت عتمته الوجود كعادته غير أنه هذه المرة زاد على ذلك أنه استثنى ولأول مرة، إذ قال:

• هيّا اتركوا ما بأيديكم واذهبوا لبيوتكم على أن نعود لنكمل نقب السـّد غدا إن شاء الله!.

 

كانت لهم مفاجأة عظيمة حين رجعوا إليه في اليوم التالي فوجدوه على حاله التي تركوه عليها الليلة الماضية، فأكملوا نقبه ففتحوه، ودكّوا بنيانه فدمروه...

 

فخرجوا بأعداد غفيرة، وأرقام كبيرة، يعجز العادّون عن عدّها، والواصفون عن وصف كثرتِها، ففاضوا من كلِّ صوبٍ، ونسلـُوا من كلَّ حدبٍ كالسيل العرم، وقد كانت قلوبُهم طافحةً على أهل الأرض حقـدًا، وأيديهم في شوق للبطش والفساد، وللهدم والخراب...

 

جاسوا خلال الدّيار، وعاثوا في الأرض الفساد، فما مرّوا ببلد إلا خرّبوه، ولا قرية إلا دمّروها. وسكبوا الموت الزؤام فوق رؤوس الأنام، وملأوا الدنيا رعبا وإرهابا، فما ألـفَـوا طفلا رضيعا إلا قتلوه، ولا امرأة إلا نكـّلوا بِها وسفكوا دمها، ولا شيخًـا إلا جندلوه وتركوه في دمائه يتخبط صريعا...

 

فهم خلق ليسوا كالخلق، وعبادٌ ليسوا كالعباد!! فأوصافهم مُختلفة عن سائر البشر: إذ أن وجوههم صغيرة، وجباههم عريضة، كأنّها المجان المطرّقة، وقلوبهم قاسية لا تعرف الرَّحْمة، فهي كالحجارة بل هي أشدّ قسوة!!

 

فهم يعشقون رؤية الدماء، ويتمتعون بعذاب الناس وآلامهم!! فيقتُلون من أجل القتل، ويفسدون في الأرض من أجل الفساد. ويخربون من أجل الخراب!!

 

وكانوا كلـّما مرّوا على نَهر شربوا ماءه كشرب الهيم، وتركوه يبسًا، وما وردوا بُحيرة إلا مصوها مصا ولم يتركوا فيها قطرة ماء حتى أّنَّه قد مرّ أولهم ذات مرة على بُحيرة طبرية فشربوا ماءها جَميعا، فلما وصل آخرهم إليها نظر بعضهم إلى بعض وقالوا:

• لقد كانت هنا بحيرة!!

• • • • •

 

وفيمـا كان المسيح، عليه السلام، ومن معه من النّـاس يتقلبون في النّـعيم، في رغد من العيش، وإقبـال من الدنيـا، وسعة في الرزق نـما إلى مسامعهم نبأ خروج يأجوج ومأجوج من وراء السَّـد، وجاءتهم الأخبار بِما فعلوا بأهل الأرض من قتل وتنكيل، وإفساد وتخريب، فاستبد بِهم الفزع، وانتشر بينهم الرُّعب؛ فهم يعلمون أنهم لا طاقة لهم بهم، ولا قدرة لهم على ردهم.

 

كما أن الجهاد قد رُفع آنذاك، وتعطلت أحكامه، ووضعت الحرب أوزارها، فقد أمر الله رسوله، عيسى بن مريم، عليه السلام، بكفِّ اليـد، والصّـبر على البـلاء، حتى يَـجعـل الله لهم مخـرجا!

 

إذ أوحى الله إلى عيسى بن مريم، عليه السلام:

• "إنّي قد أخـرجت عبـادًا لِي لا يـدان لأحـد بقتالهم، فحـرّز عبـادي إلى الطُّور"...

 

فانْحاز المؤمنون حينئذ إلى رؤوس الجبال، فتحصنوا فيها ولجئوا إلى المغارات والحصون، فاختبئوا بداخلها...

 

بيد أنه بعدما أثخنت يأجوج ومأجوج في أهل الأرض قتلا وتنكيلا، وأبادوهم جميعا، وقتلوهم على بكرة أبيهم، ولم يبق منهم إلا من انْحاز إلى جبل أو تحصن في حصن، أو اختبأ بمغارة، تاقت أيديهم إلى القتل، واشتاقت عيونهم لرؤية الدماء، فقال قائلهم:

• لقد قتلنا أهل الأرض جَميعا!! ولم يبق إلا أهل السماء؛ ومَن اختبأ منهم في الحصون، فهلمّ نقتل أهل السّماء.

 

عند ذلك أطلقوا رماحهم، ورموا نشابَهم صوب السماء، وأخذوا يقصفونَها، ويرمونها فردّ الله عليهم نشابَهم ورماحهم مخضبة بالدّم استهزاء بهم، واستدراجا لهم...

 

فلمـّا رأوا رماحهم ونشابَهم تقطر دمًا أحمر قاني، ظن أولئك الحمقى أنَّهم قد بلغوا مرادهم، ونالوا منالَهم من أهل السماء فقتلوهم. سرت في قلوبهم نشوة الانتصار...

 

عندئذ قال قائل منهم:

• لقد استرحتم من أهل السماء.. وقتلتم أهلَ الأرض.. ولم يبقَ منهم إلا أهل الحصون. فهيا بنا إليهم...

 

انطلقت عندئذ يأجوج ومأجوج نحو الحصن الذي كان به رسول الله عيسى بن مريم، عليه السلام، وجَماعة من المؤمنين بِجبل بيت المقدس، ليُجهزوا عليهم، فحاصروهم حصارا شديدا حتى أصابَهم من ذلك جوع شديد وبلاء عظيم، ونشب الحزن مخالبه في أفئدتهم...

 

فلجأ الناس لروح الله، ورسوله، وكلمته، يطلبون منه أن يدعو الله لهم لينقذهم من شرهم، وفجأة رفع عيسى بن مريم، عليه السّلام، في تلك الأجواء العصيبة، والأحوال الرهيبة أكف الضراعة إلى السّماء، فدعا ربّه أن يهلكهم، وأن يكفيهم شرّهم...

 

فما أسرع ما استجاب الله لرسوله الكريم، فأرسل على يأجوج ومأجوج سوط عذاب في الحال، إذ بعث عليهم جنودا من عنده، وسلـّط عليهم دودا من الأرض يُسمى النّغف، فأصابَهم في أعناقهم، فحصدهم حصداً، فماتوا جَميعا كنفس واحدة، فتركهم قاعًا صفصفًا، لا تسمع لهم صوتا، ولا تُحس لهم ركزا...

 

لف الدنيا الصمت الرهيب فجأة، وخـَمدت الأصواتُ، وعمّ السكون، فلم يعد يُسمع لَيأجوج ومأجوج حسًا ولا حركة، ولا ضجيجا ولا جلبة، بعدما كان هرجهم ومرجهم يملأ الدنيا...

 

اعترت أهل الحصن دهشة، وسرت في وجدانهم رهبة، إذ لم يعرفوا سبب انقطاع صوتهم، فقالوا:

• من يَخرج من الحصن فيأتينا بِخبر القوم؟

فانبرى رجل شجاع منهم للخروج، فخرج ليستطلع الأمر، ويقف على حال القوم، ويأتيهم بِخبرهم، فودعهم وداع مفارق، إذ لم يكن لديه أدنى شك بأنَّه هالك، وبأنه لن ينقلب إليهم أبدا...

 

وحين نزل من الحصن رأى القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، ووجدهم جثثا هامدة. فوقف يتأملهم وهو لا يصدق ما يرى. لم يلبث أن انقلب إلى أهل الحصون جذلا فرحا ليزف إليهم البشرى، ويخبرهم بهلاك القوم...

 

استقبل المؤمنون النبأ بالفرحة والسرور، وانتشر خبر هلاكهم بين أهل الحصون، فأقبل بعضهم على بعض يتبادلون التهاني على النجاة...

 

وحين نزلوا من الحصون وجدوا أن الأرض قد امتلأت برائحة جثثهم الكريهة، التي انتشرت فآذت كل من كان فوق البسيطة. بيد أن رحمة الله سرعان ما أدركتهم فبعث الله في هذه الأثناء عليهم طيرًا كأعناق البخت، فحملت تلك الجثث العفنة فطرحتها بعيدًا عن الناس...

 

ثم أنزل الله أمطارا غزيرة من السماء، غسلت ماؤها الأرض، ونظّفتها من أدرانِهم، وطهّرتها من جيفهم، ومَحت آثارهم، واستمرت تلك الأمطار في الهطول زهاء أربعين يوما متتالية، حتى أصبحت الأرض، بفضل الله، نظيفة كالمرآة!

• • • • •


لم تلبث أن عادت البركة إلى الأرض مرة أخرى، فابتهجت الدنيا وضحكت فرحة وبسطت أجنحتها لعباد الله الصالحين، وألقتِ السَّعادة بظلالها الوارفة على أهل الأرض قاطبة، فتَمرّغوا في النـَّعيم، إذ جادت السّماء بِمائها.. وأخرجتِ الأرض نباتـَها وثِمارَها.. فرعتِ الْمَاشيةُ.. وعمّ النّماءُ.. وامتلأت الأنْهار والبحيرات بالماءِ.. وامتلأت ضروع الماشية باللبن...

 

وطرح الله بركته على أهل الأرض جميعا، وبارك لهم في الرزق، حتى صار في مقدور النَّفر من النـّاس أن يشتركوا في عُـنـقـود من العنب فيشبعهم، ويجتمع العدد منهم على رمّانة فيأكلون منها حتى تمتلئ منها بطونهم، وتقرّ عيونُهم...

 

وعندئذ ألقت البهجة رداءها على الوجوه، فارتسمت على الشفـاه البسمة، ورجعت للقلوب اليائسة الطمأنينة، وللنفوس البائسة الأمل.. فعم الخير، وانتشر الرّجاء.

 

لبث عيسى بن مريم، عليه السلام، بين أهل الأرض حاكما مقسطا، فأقام العدل بين النّاس، وحكم بينهم بالقسط، وبسط في الأرض السّلام. وفي غضون ذلك غربت شَمس الأديان، ولم يبق سوى الإسلام، إذ ذهب الزبد جفاء، واندثرت معه المعتقدات الباطلة.. وتلاشت الأفكار الفاسدة!! وأظهر الله دينه على الدين كلّه كما وعد وقرر، فلم يبق في تلك الحقبة في الأرض إلا دين التوحيد...

 

فعمت بين النّاس في تلك الأيام المحبّة وساد بينهم الوئام، إذ رفع الله من صدور خلقه الشّحناء، وأخرج منها الحقد والبغضاء، ونزع ما في قلوبِهم من غِلٍّ، فعاشوا أخوة متحابين، في سلام وأمان، لا يعتدي أحد على أحد، ولا يظلم أحد أحدا..

 

فقد لانت الطّباع برحمة الله، واتّسعت صدور الخلق، واضمحل الطّمع، وانزوى في قلوب الناس الجشع، وعمّت بين المخلوقات الألفة، وبسطت أجنحتها فوقهم المحبة، إذ لم تعد الوحوش الضارية ضارية، ولا الحيوانات المفترسة مفترسة، بل أصبحت وديعة أليفة، رفيقة لطيفة! إذ ترى السباع تلعب مع الأطفال، وترتع مع الصبيان، حتَّى أن الطفل الرضيع كان يضع يده في فمّ الحيَّة فلا تعضّه، وبات النّاس ينامون بِجانب الوحوش آمنين مطمئنين، وصار الذئب يرعى بالماشية كأنّه كلبها.. والأسد يرافق البقر ويرتع معها.. فلا يفترسها ولا يضرها ولا يعتدي عليها...

 

استمرت تلك الحقبة الفاضلة لسبع سنين، دعا فيها عيسى بن مريم، عليه السلام، النّاس إلى التوحيد، وإلى عبادة الله وحده على شريعة محمد، صلى الله عليه وسلم، وعُبد الله وحده وأمـِن النـّاس جميعا، فحجوا البيت واعتمروا…

 

وتزوج في تلك المدة عيسى بن مريم، عليه السلام، وأهلّ بالحج؛ فحج إلى البيت العتيق. ثم شد الرحال إلى المدينة المنورة، فزار مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، ووقف على قبره، فسلـّم على سيد المرسلين، وإمام النبيين محمد، صلى الله عليه وسلم، فردَّ عليه السلام...

• • • • •

 

بيد أن الله قضى على مخلوقاته بالفناء، فكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام؛ فعش ما شئت فإنك ميت!! وأحبب من شئت فإنك مفارقه! فلكل أجل كتاب، ولكل مخلوق أجل، فحين حانت ساعة الفراق، وآنت لحظة المنية، وحَلَّ وقت الوفاة لبـَّى عيسى بن مريم، عليه السلام، نـداء ربـّه ولـحق بالرفيق الأعلى، ففاضت روحه الطـّاهرة، ورجعت نفسه المطمئنة إلى ربه راضية مرضية، بعدما استكملت أجلها، وأتمت في الأرض رزقها. حيث مكث منذ نزوله حتى وفاته أربعين عاما، يدعوا إلى الله فمرّت تلك الفترة على المؤمنين سريعة لطيفة، على ما فيها من الفتن وما تخللها من المحن، كأنـّها أربع سنين، فقد آنس فيها الناس برسول الله. فمضى وقتها سريعا، فالوقت مع الأحباب قصير!

 

غشيت سحابة الحزن أهل الدنيا على وفاته، واعتراهم الأسى على فراقه، فذرفوا عليه الدموع، وسكبوا على فراقه العبرات!

 

وبرحيله خلا الجو لإبليس اللعين فرفع عقيرته من جديد، وطفق يدعو الناس للكفر ثانية، ويغويهم بالضلالة، ويغريهم بعبادة الأوثان، ويزين لهم الشرك بالرحمن. فما لبث أن استجاب له السذج من الناس والحمقى من شرار الخلق وأرذلهم طوية...

 

الفصل الثامن

آذنتِ الدنيا بالانقضاءِ، والْحياةُ بالفناء، فانفرطَ عقدُ السـّاعة، وتتابعتْ آياتـُها، وتداخـلتْ أماراتـُها، وانصرمت حبالـُها، وتقطـّعت أوصالـُها، حتى أتت على آخرها، فأضحتْ كلُّ المؤشراتِ تشيرُ إلى الزّوالِ، وجَميعُ الدلائل تدلُّ على أنـَّها النَّهاية!

 

فذات ليلةٍ، أوى النّاس إلى مضاجعهم لَمَّا جَنَّ عليهم الليل كعادتهم، غير أن تلك الليلة لم تكن كباقي الليالي، فقد طالتْ عليهم طولا شديدًا، فلم ينجل ظلامُها، ولَمْ يُقبل صبحُها، فتأخرتِ الشَّمسُ عن الطلـوع، فطفق النَّاس يتساءلون في حيرة من أمرهم عن سبب تأخرها عن وقتها...

 

ولم يدر بِخلد أيّ منهم أنّها كانت مَحبوسة عند ربِّها، وأنه لم يأذن لَهَا بالطُّلوع كعادتِها. ولَمْ يأمرها بالبزوغ كدأبِها.

 

وفي طريقه إلى المسجد التقى رشيد بأحد جيرانه، فبادره قائلا:

• ما أطول هذه الليلة؟

• نعم إنها أطول ليلة في حياتي، فقد نمت ثم استيقظت وقرأت وردي ثم نمت واستيقظت ولم ينجل الليل.

• وأنا أيضا فعلت مثلك.

• هل لديك أي تفسير لذلك؟

•الله أعلم، غير أني أعتقد أن أمرا عظيما وقع أو سيقع.

• نسأل الله السلامة!

 

وبينما كان النّاس في حيرتِهم ينظرون إلى ساعاتِهم، وينتظرون بزوغ الفجر، ويترقبون طلوع الشَّمس من مطلعها، والخوف يكاد يفتت أكبادهم، إذ حدثَ في تلك الأثناء في الكون أمر خطير! ووقعَ حَدث رهيب! فقد اختـلّ نظام الأفلاك اختلالا مُروعًا فجأةً، واضطربتْ مساراتُ النّجومِ، ومطالعها، وإذ بالشَّمس تَطلع من ناحية الغرب، وتبزغُ من غير مكانِها الذي درجت على البزوغ منه، على غير عادتِها، ولأول مرة منذ أن خلقهَا اللهُ!!

 

طفق الناس يراقبونَها ويشاهدونَها بأمِّ أعينهم وهي تفتقُ الظَّلام الدّامس، وتمزق رداء الليل البهيم، وتبزغ من المغرب غاضبة، وتتنفس حزينة كئيبة، فجعلوا يتتبعونَها بأبصارهم فاغرين أفواههم، وهم في غاية الدَّهشة والذهول...

 

ولم تلبث أن سارت عكس اتْجاهها حتى صارت في كبد السّماء فتوقّفت واستقرت هنالك في مكانِها ما شاء الله لَها أن تستقر، ثم عادت أدراجها إلى ناحية المغرب كسابق عهدها...

 

كادت قلوب الناس تتفطر رُعبا، وأوشكت نفوسهم تتفجرَ حسرةً، فقد أيقنوا حينئذٍ بالْهلاك، وعلموا أنَّ ذلك نذيرُ شؤمٍ، وأنّها علامة النهاية، وبأنّ لحظة الرحيل قد حانت، وأن ساعة الفراق قد أزفت، ولات حين مناص!!

 

فعندئذٍ انقشعت عن أعينهم الغشاوة، وطارت السكرة، فأبصروا، وفُتحت أقفالُ قلوبِهم فآمنوا جَميعا، وبادروا إلى التوبة! ولكن هيهات هيهات لِمَا يريدون! فبابُ التّوبة قد قـُفـلَ بطلوع الشمس من مغربها، وبَابُ الرَّحمةِ قدْ أوصدَ إلى الأبد، فلم يعد ينفعُ، في ذلك الوقت، وفي تلك الظروف، نفسـا إيِمانـُها ما لم تكن آمنت من قبلُ، أو كسبتْ في إيِمانِها خيرًا...

 

فقد أعذرَ مَنْ أنذرَ! وأنصف من أقام الحجة وبَيّن... ولله الأمر من قبل ومن بعد!

 

توالت الآيات وتتابعت، إذ لم يكن الناس يفيقوا من آية، حتى تتلوها أختها، ولم يكونوا يَخرجوا من ذهولِهم وحيرتهم، حتى يعاجلهم الله بآية أخرى، فأيقن الناس حينئذ بالهلاك...

 

وبينما هم في كرب وغم عظيمين، إذ خرجت عليهم دابة من الأرض شقت جبل الصفا وهي ترغو بصوت عال، ثم أخذت تكلم النـَّاس بين الركن والمقام، وتؤنبهم على ما فرّطوا في جنب الله، وتشهدهم على أنفسهم.

 

لم تكن تلك الدابة كباقي الدّواب! فقد ميّزها الله على جَميع مَخلوقاته، فهي عجيبة غريبة، عظيمة الْخَلق، مُتداخلة الألوان، تُكلـِّمُ النّاس بقولٍ فصيح، وكلامٍ صريح، فتذكّرهم بآيات الله التي جحدوا بِها، وتقيم على المعاندين الحجة وتذكرهم بكفرهم وعنادهم...

 

ثم أخذت تختم الكفار على أنوفهمِ، وتجلو وجوه المؤمنين، كي تـُميز الخبيث من الطيب، وتفرق بين المؤمن والكافر، فكان الناس بعد ذلك إذا التقوا يـُعرف الكافر منهم من المؤمن، كُلٌّ بسيماه.

 

ففي غضون ذلك ظهر دخًان كثيف فملأ ما بين السّماء والأرض، وسرعان ما أخذ في الانتشار حَتى غشي الناس جميعا، فوجدَ المؤمنونَ منه في أنوفهم كما يَجدُ المزكوم، وأمّا الكفـّار فقد كان الدخان يدخل في عيونِهم، ويَملأ أنوفهم، وآذانَهم، حتى يفجّر مسامعهم...

 

وفي غضون ذلك حدثت ثلاثة خسوفات في أنحاء متفرقة من الأرض: خسف في المشرق، وخسف في المغرب، وآخر في جزيرة العرب...

 

فبعث الله بعد ذلك ريحًا باردةً لينة ألينَ من الحرير، وأرقَّ من النّسيم العليل، على عباده المؤمنين، رحمة بهم، فلم تدع تلك الريح أحدًا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته، وأخذت بروحه برفق وتؤدة، ولم تترك من البشر على الأرض إلا شرارهم، ومن الخلق إلا أحقرهم؛ الذين لا عقول لَهم، فهم كالبغال في أجسادهم، وكالطَّيرِ في خفةِ عُقولِهمْ، وسَذَاجتِهم، فهم لا يعرفونَ مَعروفًا، ولا يُنكرون منكرًا.. ولا يُحلون حلالاً، ولا يُحرّمون حرامًا...

• • • • •


أجهش رشيدٌ حينئذ بالبكاء حُزنًا على وفاة أسرته وفراق أصدقائه، وأقاربه من المؤمنين، واستبدّ به الخوف، واعتراه الذّهول على ألاَّ يكون معهم، فقد كان يَخشى أن يكون ذلك قادحا في إيمانه، فهو يعلم أنه لن تقوم الساعة إلا على شرار الخلق...

 

وما زادَ في حزنه، وأيقظ هَمّه، وبعث في مهجته الغمّ والهم سَماعه نبأ هدم الكعبة الشّريفة، على يد رجل من الحبشة، يُدعى ذو السّويقتين، بعدما استحلّها أهلُها، وأهْملوا العنايةَ بِها، وضعف في صدورهم توقيرها وتعظيمها، فسلبها ذلك الفاسق اللعين حُليها وكسوتها، ونَهب كنوزها وأموالها، بعدما عمل فيها بِمعوله، فهدمها بِمسحاته طوبة طوبة، حتى سوَّاها بالأرض، فلم تُبنَ بعد ذلك أبداً...

 

ضاقت الدنيا بِما رحبت على رشيد، وأظلمت عليه المسالك، وادلْهمَّت في وجههِ الدُّروب، فهَامَ على وجهه في الأرض، واشتدَّ بذلك حزنه، وطاف به طائف الذكريات، وتقاذفته أمواج الخواطر العاتية، وتعاورته الآلام، وطرحته الوساوس فريسة للقلق، وسحقه الخوف، وهو يرى نفسه وحيدا شريدًا، بلا صديق حميم، ولا رفيق رحيم...

 

فقد كان كلّما التفت حوله رأى كافرًا بالله مُجرمًا، أو عاصيا مُجاهرا بِمعصيته، أو عابدًا لصنمٍ!! فقد رفع الله العلم، وضرب الجهل بين الناس أطنابه، فمالت عندئذ نفسه للعزلة، وحُبّبَ إليه الانفراد والوحدة، فهجر النّاس جَميعا.

 

تاه في الأرض وجعل يسير فيها بلا هدى ولا دليل.. كمركبٍ صغير تاه في عرض البحر في ليل عاصف، حتى وجد نفسه فوق قمة جبل قاسيون بدمشق، فجلس فوقه بعدما أنْهكه التّعب، ونشبت الآلام مخالبها في فؤاده، وهدّ الأرق قوته وبنيانه، وحَطم الأسى كيانه، فنحل جسمه، وتغيّرت حاله، فلم يعد يهنأ بنوم، ولا يتمتع بطعام ولا يستسيغ شرابا، إذ لا خير في الدنيا بعد فراق الأحبة!! ولا طعم لِحياة لا يُرى فيها إلا الأشرار.. والكفرة الفُجّار.

 

وفيما كان رشيد جالسًا فوق رأس الجبل وحيداً كئيبا، شاردَ الذهن، منقبضَ الفؤاد، كاسفَ البال، حائرَ الفكر، شاخصَ البصر إلى السّماء، يُفكّر في مآله، إذ به يرى نارًا عظيمة مقبلة من ناحية اليمن، تسوق النّاس أمامها سوقا، وتدفعهم دفعا، وهم في غاية الرّعب يصرخون، ويولولون، فارين منها، ومن لهيبها اللافح، وهي تتبعهم وتدفعهم، فقد كانت تسير كـلـّما ساروا، وتقف إذا توقفوا، وتبيت معهم أينما حلوا وباتوا، ولم تكن تَحرق إلا من تَخلّف منهم. ولم تبرحهم تلك النار حتى وصلوا إلى أرض المحشر بالشّام.

• • • • •


لكلّ بداية نِهاية، ولكل أمر مستقر، فقد أظل وقت الساعة، وجاءت ساعة القيامة، والناس في غفلة عنها، فبينما كان شرار الخلق مُمعنين في الضلالة، غارقين في الفساد، سادرين في غيهم، يتبايعون في أسواقهم، ويتسامرون في مَجالسهم، ويتنادون في نواديهم، ويسيرون في الشوارع، ويفعلون الفاحشة في الطرقات، يرفلون في حلل الغفلة، ويتقلّبون في الوهم، إذ التَقَمَ صاحب الصور صورَه العظيم، وحني إسرافيل جبهته على بوقه، وتَهيأ للنفخ فيه، وقد أصاخَ بسمعهِ لربّه منتظرا أمره بالنفخ...





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • كلـمات في رحيل غالية
  • رحيل (قصيدة)
  • تقديم لرواية " عصفوران بين الشرق والغرب "
  • الرحيل
  • رواية رائحة الحبيب

مختارات من الشبكة

  • أعتقد أنه حان الوقت لأن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة المسجد النبوي 4/5/1432هـ - حان وقت التوبة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حان وقت الغروب(مقالة - حضارة الكلمة)
  • إذاعة مدرسية عن أهمية الوقت (استغلال الوقت – فوائد تنظيم الوقت)(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • رمضان ... حان الرحيل(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • رمضان... حان الرحيل(مقالة - ملفات خاصة)
  • رمضان حان الوداع (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)
  • حان موعد الدراسة (قصة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • حان الوداع (قصيدة)(مقالة - موقع د. حيدر الغدير)
  • من السنن الموقوتة قبل الفجر(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن حمود الفريح)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب