• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

صالة وصول

صالة وصول
أ. محمود توفيق حسين

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 17/1/2012 ميلادي - 22/2/1433 هجري

الزيارات: 5674

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

في العيد، وبعد أن فرغنا من الصَّلاة في ميدان (مصطفى محمود)، وابتسَمْنا لوجه الصُّبح الجميل، الذي انكشف بعد غبش الفجر الذي كانت البنايات واللاَّفتات الإعلانية والأشجار تغالب نومَها فيه، ولَملم المصلُّون سجاجيد الصَّلاة، وأوراقَ الصُّحف التي بلَّلها النَّدى، قام أهل الصُّفوف الأماميَّة في خشوعٍ وسَكينةٍ بعد أن مكثوا هنا من وقت صلاة الفجر، بينما انطلقَتْ صيحات وتصفير الشباب العابثين في الصُّفوف الخلفيَّة، وخرجوا بسرعةٍ من مناخ الصلاة الخاشع، في بَهْرجة الألوان والصخب والمزامير، والاختلاط الطبقيِّ والجنسيِّ، ولاحظتُ في سيري جماعةً من الشباب المشايخ القادمين على ما أظنُّ من الأرياف القريبة، و(بولاق الدكرور)، و(الحوتية)، يُشِيحون بوجوههم عن (الميوعة والبناطيل الساقطة)، وذلك التبذُّل الذي لا شكَّ عندهم في أنَّ مرجعه المدينةُ، وكبيرهم الذي التفُّوا حوله ينظر نظرةً هجوميةً لمقدِّم البرامج الدِّينية الذي يطلُّ على الميدان من الصورة الإعلانية في بذلةٍ أنيقةٍ بنظرةٍ جانبيةٍ سينمائيةٍ؛ أخمِّن أنه بدا له متكبِّرًا متكلِّفًا مستفزًّا، وبدا له وكأنه يتعمَّد إغاظته، وهي ذاتها المشاعر المُضْطرِمة التي تنبعث بغير إرادةٍ من عصفورٍ دوريٍّ بلون التراب تجاه عصفورِ زينةٍ وجَدَه أمامه على غصن.

 

إنَّها الصورة التي تنتظرني تحتها، وهُيِّئ لي أن هذا الشيخ الشابَّ ينظر إليك أنت هذه النظرة الهجوميَّة التي تَصْدر من رجلٍ يشعر بالتهديد، وشاركتُه أنا تلك النظرة بعد أن تخيَّلتُ صورتك في اللوحة، رغم أنِّي أختك؛ لأني أشعر أيضًا بالتهديد.

 

انطلقتُ ناحية اللوحة الإعلانية لمقدِّم البرامج الدينية (المودرن)، حيثُ اتَّفقنا أن تنتظرني هناك، بِخُطًى هادئةٍ، أُغالب نعاسًا ملِحًّا بعد أن سهرت للصُّبح، حتَّى اقتربت من مكانك، حيث تستند إلى عامود اللَّوحة شاردًا، ولاحظت بعينيَّ المتورِّمتين اللتين ورثتُهما من أبي، وتشبهان عينَيْ حكيمٍ فرعونيٍّ أجهده التأمُّل، لاحظت بعض الأخَوات المُختَمِرات، مِمَّن لم يتغلَّبْن على السجايا القديمة تمامًا، وتعايَشْن مع انضباطٍ مشوَّشٍ، كل واحدةٍ منهن طوَّقت نفسها بيديها مثل مقدِّم البرامج الدينية فوقك، من برد المراقبة الحييَّة، ينظرن إليك نظراتٍ جانبيةً يحاولن فيها عبثًا الموازنة بين الفضول والاحتشام، فتسلَّلتُ ووقفتُ خلفهن تمامًا، واحدةٌ منهن سمعتُها وهي ترجِّح فيك أنك من المبتعثين للأزهر من إحدى بلاد السوفييت القديمة، بينما رجَّحتْ أخرى أنك من (المنصورة) حيث تنتشر العيون الملوَّنة، وثالثة كانت أكثر رومانسية، وظنَّت أنك من أهل البوسنة، وأن شرودك كان فيمن فقدتَهم من الأهل والأحباب في الحرب الشرسة أيَّام طفولتك، وأنك بحاجةٍ إلى من يضمِّد جرحك القديم، ويحيطك بالرعاية؛ تلك مزيةٌ للجمال وحده، أن تجد مَن يرغب في امتلاكك، ويفترض فيك نقطة ضعفٍ، حتى تتَّزِن الأمور بينك وبينه، فيضفي بذلك شيئًا من المنطقية على طمعه فيك، يفترض فيك نقطة ضعفٍ، ويفترض أنه وحده قادرٌ على أن يرحم ضعفك؛ وبالطبع، لو كنت قبيحًا من البوسنة ومات أهلك جميعًا، ما اهتمَّت (الأخت الرومانسية) بك؛ إنها تقول: إنها تريد أن تعطي، تلك ميزة للفضيلة وحدها، متعددة الاستخدامات، يمكننا أن نتحلَّى بها، أو نستر بها وقت اللُّزوم رغباتِنا الأنانيةَ البسيطة.

 

طيبٌ أنت يا رجب، وشاء الله أن تأخذ سماحة نَفْس أبينا الريفيِّ الأصل، وجَمال أمِّنا ذات الأصول التركيَّة الزاعق، وأَرِث أنا الفتاة ملامح أبي البسيطة، وجفنيه المتورِّمين، وحِدَّة أمِّي التي كان أبوها لواءًا صارمًا بالجيش، ويعلم الله أنِّي أُعاني رغمًا عني، ووددتُ لو أنِّي لا أعاني، وكذلك يعلم أنِّي لا أتَحمَّل فيك كلمةً واحدةً، غير أني أريد الهروب من هذه المُقارنة المحبطة التي تفرض نفسها علينا وعلى كلِّ من يرانا، في النادي، وبين الأقارب والجيران، ومن قبل في (باص) المدرسة الخاصة، حيث كنتُ أنزل منه وقد تقوَّس ظهري بالحقيبة الثقيلة، وبالهمِّ الذي يضعه على ظهري الصِّغار: (أخوكِ أحلى منكِ)!

 

منذ أول يومٍ في طفولتي، اطَّلعتُ فيه للمرآة، وكنتَ تَحْملني، وشاهدتُ وجهي ووجهك متلاصقين، حتى أسفتُ وتفلَّتُّ من بين يديك حزينةً، من يومها وأنا سجينةُ قفص المقارنة ذي (الجنْزير) الرهيب، وأنت بالخارج تجلس وسيمًا جدًّا، حسَنَ النية متمتِّعًا هادئًا، وغير مستوعبٍ، لا تردِّد كلمةً أكثر من ترديدك وأنت تبتسم ابتسامتَك المضيئة: (ما خدتش بالي)، ومفتاح الهروب، الذي يسقط منك أحيانًا، ويُصَلصل على الأرضية الحجرية، وأمدُّ يدي المتشبِّثة بالنجاة إلى آخرها؛ كي ألتقطه بطرَفِ إصبعي، هو فرص الهجرة إلى أوروبا التي تسعَى إليها، وفي كل مرةٍ، تلتقط مفتاح الهروب الذي سقط منك وتضعه في جيبك، متأسفًا من عدم الردِّ على طلب الهجرة، وتتركني لبكاءٍ سريٍّ تحرمه الفضيلة.

 

تركتُ الأخوات المعجبات، وتقدَّمتُ إليك بخطًى بطيئةٍ جدًّا، أتلذَّذ بهذه البلبلة التي سيُحدِثها ظهوري المفاجئ بجوارك، شامتةً في القوارير وقد سقطَتْ فراشات الحلم البشريِّ المجنَّح عند أقدامهن الصغيرة في الأحذية القماش، ولا شيء تتلذَّذ به فتاةٌ لديها مشكلةٌ أكثر من تعذيب فتياتٍ أخرياتٍ.

 

وبالفعل، ما إن جاورتُك، حتَّى بدا على وجوههن الضيق واليأس الطفوليُّ، وخيبةُ رجاءٍ ساذجةٌ مثيرةٌ للضَّحك، يتساءلن بينهنَّ عن تلك المنتقبة التي ذهبَتْ لـ(الأخ الوسيم الأشقر ذي العينين الزرقاوين) ووقفتْ بجانبه.

 

وتحرَّكنا نشقُّ الزحام إلى بيتنا القريب، وخلفنا هذا الاحتجاج البسيط العابر، وأنا أَسألك: ما بال الفتيات اللائي أُخذِن بك بصوتٍ كأنَّ فيه اتِّهامًا، وأنت غير متَّهمٍ، وقلت لي وأنت تبتسم ابتسامتَك البريئة، وفي عينيك الشعاع الفاتر للامبالاة، كما كنت تقول دائمًا: (ماخدتش بالي)، وأنا كنتُ حريصةً طيلة عمري أن (لا تأخذ بالك) مِمَّا يعتلج بقلبي، حريصةً قدر جهدي - يا دكتور - على ألاَّ ترتفع تلك الحرارة في جوفي تجاهك عن هذا الحدِّ الذي يسبِّبه العتب.

 

وفي الطريق، وبينما كنَّا أمام المستشفى الدوليِّ الذي تعمل به، وشعرتُ أنك تقاوم رغبةً ملحَّةً في دخوله حتى في أول أيَّام العيد، صادفنا صديقك الطبيب الملتزم (حازم) داخلاً إليه عائدًا من الصلاة هو أيضًا، ولما لاحظ مرورك، ابتسم ابتسامةً عفويةً، ثم أخفض رأسه حياءً، خفضًا لا أعرف لِم ذكَّرَني برأسي عندما كنت أضعها على أسياخٍ قفصك منهزمةً، تنحَّيتُ أنا جانبًا متوتِّرةً، هنَّأك بالعيد، واختطفَ إلَيَّ نظرةً شاردةً، فانثال شيءٌ من الشَّجن من جرحي.

 

جرحي كان بسببك؛ لأن رجب الطيب، وبغير قصدٍ، لم يترك لي أن أحلم حلمًا جميلاً لا يظهر فيه بوجهه المشرق؛ أنا حلمت بحياةٍ ناعمةٍ بنفسجيةٍ بغير كدرٍ، خارج قفصك، لا يحترق فيها زهر أمنياتي عندما تلتقط مفتاحك، حلمتُ بعالمٍ كل ما فيه - يا ألله - باذخ الجمال، مُتْرَف الرقَّة، إلاَّ البشر، تخيلتهم ذوي بشرةٍ حنطيَّةٍ، ووجوهٍ بشوشةٍ لا أكثر، هم مثلنا تمامًا، غير أنَّهم لا يعرفون ذلك الحيوان الزاحف البغيض العجوز المسمَّى (المقارنة)، عالَم بغير صورٍ وبغير مرايا، تمامًا بغيرٍ صورٍ وبغير مرايا، حتى بحيراته الفيروزية ومسابحه التي يزيِّن قاعَها الخزفُ الثلجيُّ اللون، ينظر الناس فيها في الليالي المقمرة، فيجدون كل شيءٍ قد انعكس على صفحتها؛ السماء، والبدر، والأشجار، والغيوم، والنُّجوم، وأذيال القطط الهائمة على الإفريز، كل شيءٍ إلاَّ وجوههم.

 

جرحي كان منك؛ فقد قضيتُ اللَّيالي أحلم بهذه الحياة من داخل قفصك، حتَّى رأيتك تلتَفِت ذات مساءٍ، وتدير المفتاح، وبدلاً من أن تفكَّ أسْرَ أختك القديم، واربتَ الباب، وأدخلت الحلم إليَّ، لَمَّا تغيَّرتَ فجأةً، وصرتَ تُحدِّثنا في البيت عن عمَلِك، قصة تحبس الأنفاس من شدَّة إثارتها، عصابة من المفسدين كانت تدير المستشفى، وجعلتنا كأننا نشاهد بأعيننا السقوط المتتالي المدوِّي لأعضائها، في جوٍّ من الترقُّب وسوء الظنِّ والحذر، ولا أحدَ يفكِّر إلاَّ في نفسه، خائفًا من أن يكون دورُه قد جاء، وعن اللجنة الاستشارية الدوليَّة التي حضرتْ لتصحيح المسار، شعرنا بالإثارة الممزوجة بالخوف من هذه الأخبار، وبالفخر من أنَّك حزت ثقة هذه اللجنة وحدك، وبروح التعاطُف ونحن نسمع عن صديقك (حازم) الطبيب النَّزيه البسيط، الذي يعالج الفقراء بالمجَّان في القوافل الطبية، ويشارك في حملات الإغاثة الطبية الدولية، ذاك الذي يمشي في الردهات كمثل وليٍّ كرَّس نفسه لمداواة الآلام، وتعاطى السهر على راحة الآخرين حتى تورَّم جفناه، تعاملتْ معه اللجنة بشيءٍ من التقدير، وكثيرٍ من التوجُّس، لا يشعرون تجاهه بنفس الراحة التي يشعرون بها تجاهك، وتحجَّج (الخواجات) أنه يحتاج إلى بعض التأهيل، ولعلَّهم توقَّعوا منه عدوانيةً مستترةً، وقسوةً وجرأةً مؤجلتَيْن، ميولٌ تليق بمن ليس لديه شيءٌ ليخسره، كأنَّها توقُّعات عصافير زينةٍ من عصفورٍ دوريٍّ بلون التراب حطَّ أمامها على الفرع، ثم إنه فاجَأَنا هذا الفارس الحنطيُّ النبيل، بأنه يريد الاقتران بي، ماذا قلت؟! يريد الاقتران بكِ، فأخذت أجوب قفصك مضطربةً كل الاضطراب، كحمامةٍ خجلَى، أُدخل إليها (وليف) هادئٌ لم ينفش ريشه.

 

أتى معك الشهر الماضي، من أجل الرؤية الشرعية، وانشغلتُ أنا وأمي في إعداد الحلويات، وانهمكتُ كأني لا أريد الخروج إليه، كنت أتهرَّب، إلى أن لَم يعد هناك مفرٌّ من الخروج، فخرجتُ بخطًى شديدة الارتباك، وأنا أدعو ربي أن يعفيني من وطأة نظرته الأولى المتفاجئة، كنت على يقينٍ من أن ملامحك الجميلة قد أغرته بالمجيء؛ ليظفر بأختٍ صالحةٍ وجميلةٍ، أو جميلةٍ وصالحةٍ، وإن كان له عذرٌ في ذلك، فلا عذر لك وأنت بالتأكيد لم تلمِّح له بأن أختك لا تشبهك مطلقًا، وأنها عاديةٌ تمامًا و(دوريةً)، كالآلاف ممن ذهَبْن في كل اتجاهٍ بعد أن قُضيَتْ صلاة العيد في ميدان (مصطفى محمود)؛ لأنك كالعادة: (ماخدتش بالك)، وأذكرُ تلك اللحظات الصعبة، والحياء، والعرق الخفيف، والبرد، وأذكر يديَّ اللتين أخذتُ أفركهما مرتبكةً، وأمي تدعو لي، وتدفعني من خلفي، حتى جلستُ أمامه في الصالون، بدتْ لي بسمته مجوَّفةً، كأنما أجبرته عليها اللياقة، وأسئلته غير حماسيةٍ، عن أحوال الدبلومة والهوايات المفضلة، كان كأخٍ أكبر يَشعر بالشفقة، ويبحث عن حلٍّ، أكثر منه عريسًا متوهجًا مستبشِرًا، حتى إني شعرت أنه يفاوض نفسه، ويحاول أن يقنعها بالرضا بالموجود، ويعوِّد نفسه على وجهي كما هو، لا كما تخيَّله، ويتبسَّط في الحديث، فانفجر غضبي في جوفي مغَصًا شديدًا بالمعدة، ودافعتُ عن نفسي، أظهرتُ عدم حماسي لِوُجوده، وعارضت آراءه بطريقةٍ أحرجَتْه وأحرجتكم، حتى أوفِّر له بابًا للخروج، فخرج بعد قليلٍ ووجهه للأرض، وأنت ذهبت تودِّعه للباب بقلة حيلةٍ، أما أنا فغبتُ في عتمة غرفتي، واستكنتُ ووضعتُ رأسي بين جناحيَّ، وحيدة، يمتصَّني الهمُّ البارد الممتدُّ من أعلى الرقبة، بغير ألَمٍ، كخفَّاشٍ متمرِّسٍ، كنت أنزف، لكن لَم أكن مضطربة.

 

أنت لَم تلمني يومها، ولم تستفسر منِّي، فأنت تعرف أنِّي ورثتُ من أمي فوق التطلُّب والمبالغة في النظام والنظافة، وفوق الحدَّة والجدِّية، ورثت روحًا دفاعيةً شرسةً، وكان لزامًا عليك ألاَّ تقف عند الأمر، كأنه لَم يحدث شيءٌ، وهذا ما توقَّعته منك، فقد أخذتَ من أبينا السماحة وطيبة القلب والتواضع وأخْذَ الأمور ببساطةٍ، طيبٌ أنت يا رجب؛ وكلَّما اختلفنا منذ طفولتنا، كنت أصرُّ على أنني على حقٍّ، وأنت لم تكن تصرُّ على شيءٍ، وكان يمكنك أن تترك أي شيءٍ، لتظل بجانبي، وأنا كنت أقول في نفسي: ليتك تأخذ كل شيءٍ وتتركني.

 

اليوم الوحيد الذي شعرت فيه أنِّي أحبُّ وجودك معي في حياتي، وأني آسفةٌ على ذلك الشيء البغيض الذي يفوح مني، وآمنت فيه أن ذاك العصفور الملوَّن بسيطٌ لا يقصد الاختيال، كنت في الابتدائية وكنت أنت في الإعدادية، أعجبني إصرارك وأنت ابن استشاريٍّ كبيرٍ، ومن حي (المهندسين) الراقي، أن تعمل في الإجازة؛ وعملت في إجازة نصف العام في (معمل كتاكيت) بحيِّ (ميت عقبة)، وأخذ أبي الأمر كطرفةٍ، وأمي كادت تُجن، وأذكر الصباح الشاتي الماطر، قمتُ من نومي بعد أن أقلقني تجوالك في غرفتي بحثًا عن شيءٍ في دُرجي، وأقلقني ذلك الحلم المشوَّش الذي رأيتك فيه مع أمي في سيارةٍ مسرعةٍ في الطريق الموحل، ومن أمامكما أمشي منكسرةً في يد أبي الرجل الطيب متورم الجفنين تائهيْن، ومرَّت السيارة من جانبنا ولَم تقف لنا، ولطَّختنا بالوحل، وأخذنا أنا وأبي نتبادل النظرات الخجلَى ونحن نمسح الطين عن وجهينا، فقمتُ غاضبةً مستفزةً تحت تأثير الحلم، ومكثت قليلاً في تعكيرٍ وتشويشٍ تحت البطانية الدافئة، حتى أدركت أني كنت أحلم، وأرهفتُ السمع من تحت غطائي إلى هَمسك الذي زاده البرد شجنًا وحنانًا، كنت تهمس: (يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم)، وتسللتَ من الغرفة وأنت تحمل الطاقية الجلدية التي كانت في دُرجي، وتبعتُك إلى المطبخ، فمسحتَ بيدك على شعري، ولان قلبي لك، كما يلين ظهر قطةٍ لم تمسِّدها يدٌ حانية من قبل، وأخذتَ تعدُّ لنفسك (ساندويتشين) فول وطعمية؛ كغلامٍ مسكينٍ مجبرٍ على العمل ليعول أهله، وكنتُ أساعدك بحماسةٍ، وفي ذات الوقت كنت أنبِّهك لكي لا تُسقِط الفتات على الأرض، ولففتهما في ورق الجرائد، ووضعتَ على رأسك الطاقية الجلدية وأغلقتَ أذنيها تحت ذقنك، وسألتني بلهجةٍ رجوليةٍ حانيةٍ إن كنتُ أريد شيئًا تحضره لي معك في عودتك، فهززت رأسي نافيةً بعينين دامعتين، لم أستطع أن أردَّ عليك من الخجل الذي حبس صوتي؛ نزلت خلفك أتابعك وقلبي يسبق خطواتي، وراقبتك وأنت تحلُّ (الجنزير) الذي تربط به الدراجة الهوائية إلى رِجْل (كنَبة) البواب، وتضع طرَف (بنطلونك) في الجورب، كما يفعل العمَّال البسطاء، وتنفخ في كفَّيك وتَمضي، جلستُ قليلاً على كنبة البواب أبكي تحت المطر، وأعتذر لِطَيفك المقوس على دراجةٍ تمضي في برك الأمطار، وكان ذلك اكتشافي المبكِّر لتأنيب الضمير.

 

في المساء يومها، عدتَ مبتسمًا بحذائك الموحل، والقشِّ العالق بسترتك الكاكيَّة، وقفص كتاكيت، وصرخَتْ فيك أمي التي فتحت الباب، ورفضتْ دخولك، أدارتكَ أنت وقفصك تجاه السلَّم، فنزلتَ في هدوء المصدومين في صوصوةٍ حزينةٍ مناسبةٍ، فيما كان أبي يضحك من خلفك على منظرك البائس والطين الذي غطَّى حذاءك، ومن ضيوفك اللطاف الصغار بين يديك التي أحرجَتْك أمُّك معهم.

 

يومَها نزلتُ خلفك إلى حديقة البيت، وفتحت الماء وغسلت حذاءك الملطَّخ بالخرطوم، فيما لا زال طرَف (بنطلونك) في الجورب، وقَبِلتُ أخيرًا دعوتك التي كنت أتهرَّب منها دائمًا كي نلتقط صورًا معًا؛ لقد عرضتها يومها بظمأٍ، وقام البوَّاب بالمهمة بعد أن أهديته الكتاكيت، والتقط لنا بضعة صورٍ ملونةٍ لغلامٍ أشقر وطفلةٍ حنطيةٍ نحيفةٍ متورمة الجفنين لها غمازتان لطيفتان؛ كانت كلها من مسافةٍ بناءً على رغبتي، حيث كنت أوجِّه البوَّاب، ارجعْ، ارجعْ؛ ثم في غمرة الحماسة، وذاك الحب الذي غشَّانا تحت المطر الخفيف، فانتعش منه عشب قلبي الذابل، ردَّدتُ بحماسةٍ: اقربْ، اقربْ، حتَّى التقط صورةً يَمْلؤها وجهانا الملتصقان، وأنت كنتَ سعيدًا جدًّا تبكي تحت الرذاذ.

 

ويا ليت الصور تثبِّت ما كان يجيش في قلوب المصوَّرين للأبد، تبقَى الصورة، وتتغيَّر المشاعر، تسلَّلَتْ إلَيَّ ذاتُ المشاعر العارمة رغمًا عنِّي، وسكنَتْني مرة أخرى؛ كنت أحاول أن أنفضها عنِّي كما يُنفَض الغبار، لا أريد أن أعود مرَّةً أخرى، أتَمنَّى ابتعادك، غير أنِّي فشلتُ، سكن هذا الغبار على بلاطي مرَّةً أخرى، وازداد بِمُرور السنين، كما يتجمَّع في فناء بيتٍ مهجورٍ، إلى أن جاء الصبح الشتوي الذي ودَّعناك فيه إلى المطار، وأنت ذاهبٌ لدراسة الدكتوراه في أوروبا، وكلنا متأثرون من فراقك، حتَّى أختك التي كانت تتمنَّى بُعْدك، ولَم أرضَ عن نفسي؛ لكوني بكيتُ فراقك يومها، وشعرت أني أحبُّك، حتى تعجَّبتم في الوداع من شدَّة بكائي؛ تمنَّيت لو أني شعرت بذلك وأنت معي، غير أني فشلتُ، وها أنت ذا مِلْتَ عليَّ بحنوٍّ بالغٍ في صالة المطار، وأنت تنفخ في يديك من البرد وقد قوَّستَ ظهرك، بهيئةٍ ذكرتني بصبانا يا (بائع الكتاكيت)، وسألتني إن كنت أريد شيئًا قبل الوداع، فبكيتُ وسألتك عن الصور، أول وآخر ما التقطناه معًا من صورٍ، ونحن مبتلاَّن بجوار الدراجة، والصورة الوحيدة التي التصق فيها وجهي بوجهك ويظهر فيها ابتسامتك ودمعك، أين هي؟ فضربتَ جبهتك بيدك وقلت بحرجٍ إنك نسيتها مع الدكتور (حازم)، أنسيتها مع الدكتور؟! نعم، يا ألله! عرفت يومها أنه رأى صور الطفولة من قبل أن يأتي، ورأى لوني الحنطيَّ والغمَّازتين، يعرف إذًا ملامحي ولم تأتِ به الأوهام، يا ليتني كنت أعرف.

 

رفعت رأسي المختفي بين جناحيَّ في عتمة الاكتئاب، وسألتك بفضولٍ أنثويٍّ وصوتٍ هاربٍ من الخجل عمَّا قال لك بعد الزيارة، فقلت: إن صوته أبَحَّه الحزن، وإنه شعر بعدم حماستي له، مثلما شعر بعدم حماسة اللجنة، ولذات الحجَّة: (لم يتجهَّز بعد)، وقلت: إنك شاركته نفس الظنِّ بإيماءةٍ من رأسك، وداريتَ وجهك عنه حياءً، فور ما سمعتُ هذا منك تنفَّستُ الصعداء من تحت نقابي، واندفعت بحدَّتي أقول: (حازم سيفرض نفسه).. وشعرت بالحرج، فأكملت: (سيفرض نفسه على اللجنة.. سيفرضه الناس)؛ وقد (أخذتَ بالك) هذه المرَّة، وأجريت اتصالاً بجوالك وأنت تبتسم، وبعد قرابة نصف الساعة، فاجأنا صوتُ "حازم" من خلفنا وهو يناديك، فقلت في نفسي وأنا أكتم ابتسامةً: (أهي صالة مغادرة هذه أم وصول؟!)، والتفتُّ لوجهه المشرق بالأمل والتقوَى وهو يقترب منَّا، صرتُ حمامةً خجلَى، غير مضطربة، واستدرتُ حياءً أنظر في الزجاج المظلل لصالة الجوازات، ولم تصبني الدهشة وأنا أسمعه يطلب خِطْبتي منكم، وقد أعطيتكم ظهري، لَم تُصِبني الدهشة مما شممته من رائحة البنفسج تملأ صالة المطار، ولا لكوني أرى كل ما كان خلفي في الزجاج المظلَّل إلاَّ وجهي ووجهه.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • رجل يرقب النمل في استلقائه!

مختارات من الشبكة

  • بريطانيا: ويلز تستقبل أول صالة رياضية للمسلمات في صيف 2016(مقالة - المسلمون في العالم)
  • كازاخستان: افتتاح صالة رياضية خاصة للمسلمات(مقالة - المسلمون في العالم)
  • بيرو: تخصيص قاعة للصلاة للصحفيين المسلمين بقمة المناخ(مقالة - المسلمون في العالم)
  • هولندا: حزب الوحدة الإسلامي يكافح صالات الشيشة(مقالة - المسلمون في العالم)
  • فرنسا: تخصيص صالة ألعاب رياضية للنساء يثير جدلا بباريس(مقالة - المسلمون في العالم)
  • عن " حجرتان وصالة: متتالية منزلية " في وداع إبراهيم أصلان(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • فرنسا: منع فتاة من دخول صالة رياضية بسبب ارتدائها الحجاب(مقالة - المسلمون في العالم)
  • فنلندا: صالة ألعاب رياضية نسائية تحظر الصلاة داخلها(مقالة - المسلمون في العالم)
  • النرويج: رفض طلب استخدام صالة الألعاب الرياضية لصلاة الجمعة(مقالة - المسلمون في العالم)
  • بريطانيا: افتتاح المركز المجتمعي الإسلامي في ليدز(مقالة - المسلمون في العالم)

 


تعليقات الزوار
2- الحياة
علاء الدين احمد حسين - مصر 26-02-2012 07:42 PM

فى كل مرة أقرأ فيه للكاتب أشعر بأنه جاء بآخر ما عنده ولكنه فى كل مرة يأخذني لعالم نسجه هو وحده ولا يستطيع أحد أن يفك طلاسمه غيره أتساءل بينى وبين نفسى من أين جاء بكل تلك البستطة الممزوجة بعمق إنسانى جعلني أحيا وأتعاطف أو أغضب وأدافع ناهيك عن تلك السلاسة فى استخدام التعبيرات ومفرادات اللغة أما عبقريته التي تزداد يوما بعد يوم بل لا أكون مبالغا إذا قلت بعد كل حرف تلك العبقرية التي تجعلك تشاهد أبطاله وهم يتحدثون تراهم بعينك ولكنك ىتتوقع أعمالهم يجعل دائما أسيرا لسطرهم لترى ماذا ستفعل بهم الحياة.

1- رسم دقيق وجميل للشخصية
رامز - السعودية 07-02-2012 05:39 PM

على الرغم من أن المشكلة إذا اختصرت ربما لن تثير اهتمام القارئ، إلا ان الكاتب جعلنا نتعاطف مع صاحبة المشكلة بطريقة عرضه التي وضَّحت التركيبة الشخصية لها ووضحت الذكريات المؤلمة ..

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 20/11/1446هـ - الساعة: 9:38
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب