• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة
علامة باركود

حُداء الروح

حُداء الروح
الأزهر إسماعيلي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 27/12/2011 ميلادي - 1/2/1433 هجري

الزيارات: 6647

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

إهـداء:

إلى صاحِبي، أعظم فضل عليّ في حياتي، بعد فضل الله، ولكلٍّ مقامه: رسول الهدى - صلَّى الله عليه وسلَّم - ووالدي في ذكرى ميلادهما.

 

خرَجت متأخرًا كعادتي، في الطريق انتبَهت إلى أنني نسيت ساعة يدي بالبيت، لكني تذكَّرت أنني رأيتها قبل خروجي بلحظة، كان تفكيري مغلقًا مسطَّحًا تمامًا، غير أنَّ الساعة أحدَثت فيه نتوءًا حين أخَذ عقلي يلفُّ حولها، وتحرَّك السؤال داخل النتوء الذي بدأت تشقُّقات تظهر على سطحه وهو ينتفخ دون توقُّفٍ، وانفتَحت بجانبه فجوة عرَفت منها أنني ضيَّعت شيئًا، ما هو؟ أين؟ متى ضيَّعته؟ لَم أستطع تبيُّن شيء من ذلك!

 

لَم تكن يَفصلني عن مقرِّ عملي سوى مسافة قصيرة، حين قرَّرت العودة للبحث عمَّا ضاع مني، عُدت أدراجي سائرًا بخطًى هادئة، لكن ليس إلى البيت، "الفاصل بين العقل والجنون خيطٌ رفيع جدًّا، لا يَكاد يُرى".

 

وقف السؤال الجريء أمامي مباشرة: "هل أنا سوي؟ ألا يوجد شيء من الخَلل والفوضى في تركيبتي النفسية والعقلية؟!"، سؤال ثانٍ واجَهني حين أزَحت الأوَّل عن طريقي، وعاد الأول يقف بجنبه مع جرعة جُرأة زائدة: "وهل يوجد أسوياء فعلاً؟!"، لحظتها مرَّت بخيالي متلاحقةً وجوه أعرِفها: "إنني أحسد الأسوياء، ولكن أين هم؟!".

 

ما أجمل هذا الشعور! المدينة هادئة، الحرية في هذا الوقت بالذات، المفروض أنني آلة باردة مقيَّدة تقوم بعمل متكرِّر مُمل لا حياة فيه، أنا الآن حي، حر، أنا مَن يقرِّر الآن ما أفعل، سأرمي بكلِّ الكلمات المتآمرة القاتلة: العمل، النظام، القانون، لَم يكن في خيالي شخص بعينه أُخاطبه، كنت أخاطب كلَّ ذوي الألوان الحربائيَّة، والوجوه الضفدعيَّة المُنتفخة، والملامس الثعبانية السامَّة، أولئك الذين وَضَعت لهم المناصب مُكبِّرات صوت في أفواههم المُشوَّهة، المشلولة الجهة اليمنى من شفاهها السفلى؛ لخَنْق المقهورين بهذه الكلمات المهينة القاتلة، وقد كانوا قبل ذلك أرتاء لثغاءَ، تمتامين تأْتَائين، "افعلوا ما تشاؤون، سأترك الآن نفسي تفعل ما تشاء، نظامكم أحدَث فوضى عارمة داخلي، سأتبع فوضاي أنا؛ لتصل بي إلى نظامي أنا".

 

بدأَت علامة الاستفهام تُطِلُّ برأسها من الظلام، لَم أكن أعرف أين تقودني الفوضى؟ ولا أين أبحث عمَّا أبحث عنه؟ أين أجده؟!

 

"مَن يعرف اليوم المعنى الحقيقي للعقل والجنون، نظامكم الإسطبلي هو الذي سيُفقدني عقلي، سأمارس إذًا جنوني لأُحافظ على عقلي، سأهرب، كلكم يمارسه".

 

كنت أنظر إلى الوجوه القليلة المُبعثرة أمامي، السائرة في كلِّ الاتجاهات، كانوا يبدون لي بخطواتهم السريعة هاربين من شيء إلى شيء، "هروبكم فِعل مُخل بالحياء، هروبي هروب من الفعل المُخل بالحياء!".

 

كانت أعصابي تنتشي وتسترخي في هذا الحمَّام من الكلمات الدافئة، وعيناي تغتسلان بمشهد المدينة الساكن الرخو ذي اللون المائي في أوَّل الصباح، غمَرني شعور الغريب التائه المنبوذ، العائد إلى مدينته التي وجَدها مُتبدلة المعالِم، فلم يعرف الطريق إلى بيته، "يآاااه! منذ متى وأنا تائه عني، شوَّهتم كثيرًا وجه مرآتي بأدرانكم، سأهرب هذه الساعات رغمًا عنكم لأَغسلها، لا يهمني ما ستفعلونه، لا أهتمُّ إطلاقًا".

 

كنت أسير كيفما اتَّفَق دون اختيار ولا تخطيطٍ، رغم أني كنت أبحث عمَّا ضاع مني، دخَلت المكتبة حين قادَتني قدماي إليها، وكانت علامة الاستفهام قد خرَجت بكاملها من الظلام: "كلنا نهرب لنُخفي عجزًا ما، نهرب كتمًا لصرخة إعلان الانسحاب وخَرْق الحُجُب - الهندسيَّة المنطقيَّة المتماسكة - لقواعد اللغة الكاتمة أنفاسَ المعنى، نهرب إخفاءً لعبثيَّة ولا منطقيَّة الدَّلالة المسجونة وراء أسوار المجاز والاستعارة، والكناية والرمز!"، "ما أفعل هنا؟!"، لَم يتبادر إلى ذهني أني يُمكن أن أجد ضالَّتي بمكتبة البلدية، ولكني قلتُ لنفسي: "ولِمَ لا؟! يبدو المكان مناسبًا لذلك!"، "هذا أحد الهاربين"، قلت ذلك حين رأيت أمين المكتبة، هو مَن يَدفعني دومًا لإلحاقه بزُمرة الهاربين، رغم منطقيَّة تصرُّفاته في كثيرٍ من الأحيان؛ فهو لا يستطيع الزواج، حتى وظيفته هذه مؤقَّتة، لكنَّه يضع الكثير من الشروط الصارمة المتناقضة، التي يجب أن تقبلَ بها المرأة التي يختارها للزواج، "يبدو لي أنَّ وعينا لا يَحيا إلاَّ في التفاصيل الصغيرة التافهة من حياتنا!).

 

إنه يهرب، لكنني لن أقول له ذلك محافظة على صَدَاقتنا، "عقدة الهروب هذه ضاعفَت بؤسنا، وزادَت نسبة النفاق في علاقاتنا، أصبَحنا جميعًا نكره مَن يدخل علينا مَخادعنا قبل أن نُلقي على نفوسنا ثوبًا آسِرَ الألوان، يستر البثور والقروح والأورام!).

 

تبادَلنا عبارات التحية المعتادة، لَم أزِدْ كلمة، ولا هو كان يساعد تلميذًا في بحث حول "أسرار الكون"، حَمدت الله على ذلك، وانسَحبت بسرعة إلى قاعة المطالعة، سلَّمت، فردَّ التحية شاب بدا لي في الخامسة والثلاثين أو أزيد بقليلٍ، كان منحنيًا يبحث في أحد الرفوف الدينية عن كتاب، وآخر يظهر أنه تلميذ في المرحلة الثانوية كان جالسًا وأمامه كتابان أو ثلاثة، حين مرَرت به خَمَّنت أنه يحل مسألة رياضية، الهدوء الذي وجَدته منذ قرَّرت بداية رحلة البحث، أصبَح أملس تمامًا، وهذا شجَّعني على المُضيّ في البحث، لولا النافذة المفتوحة التي كان الشارع يتقيَّأ عليّ منها فوضاه، وقد بدأَ صراخها يعلو مع تمدُّد النهار، بادَرني الشاب: "صباح الخير، كيف حالك؟".

 

"صباح النور، بخير، الحمد لله".

 

اتَّجه نحوي دون أن يحضر أيَّ كتاب، كأنه تفطَّن إلى أن حاجته عندي، لا في الكتاب الذي تركه مفتوحًا فوق الطاولة، ولا في أحد الكتب النائمة في الرفوف.

 

"قل لي، أنت تعمل في ثانوية "ك"؟، قلت: لا، في ثانوية "ن"، بدا لي إلى غاية هذه اللحظة أقرب إلى الطبيعي، الطبيعي أصبح نادرًا جدًّا، واصَل كلامه:

 

"تَعْرِف الأستاذ "ب"؟ "نعم، لقد أصبَح مُفتِّشًا"، كنت أُجيب باقتضاب محاولة للتملُّص، كان بالي مشغولاً بما جِئت لأجله، وأخَذت كتابًا من الرف.

 

"إنه أستاذ جيد"، أكمل حديثه" متمكِّن، درَست عنده، يستحقُّ كلَّ خير، نعم".

 

كانت ملامحه ترافق كلامه، يصعد حاجباه ويَفترقان، ثم ينزل بهما ويقرِّبهما بحركة سريعة مع تضييق عينيه، فيكسو ذلك - وجهه وكلامه - مسحة جدِّية، كان يجرُّني شيئًا فشيئًا إلى عالَمه، يستولي على اهتمامي وهو يواصل حديثه: "هو أيضًا حصَل على مِنحة إلى إنجلترا، لكنَّه لَم يذهب، كان فقيرًا يتيمًا، أنت أيضًا درَست بثانوية "ك"؟ أجبته: "نعم"، وأدرَكت خَطئي بمجرَّد جلوسي بجنبه، فقد عرَفت بأنَّ خيط حديثه ما يزال طويلاً، وأنه في بدايته، تنازَعني أمران: جغرافيَّته التي بدأ الغموض يلفُّها، وغايتي التي قادَتني قدماي لأجلها إلى هنا، حاصَرتني طريقة حديثه إليَّ بجديَّة واحترام، بدأ كلامه يتشعَّب، ترَكت ما كنت أُلاحقه بعيني من كلمات على إحدى صفحات الكتاب، والتفتُّ إليه أتابع كلَّ شيء فيه: تعابير وجهه، صوته المنخفض كأنه خَشِي أن تَختطف أُذنا ذلك الجالس بقربنا كلماته، فكان بعضها يتبخَّر في المسافة القصيرة بين شفتيه وأُذني، الحَشرجة التي كانت تغلف نَبَراته، فكانت تبدو أشبه بصوت مَن أفسَدت كثرة معاقرة الخمر أوتاره، وصفاء رنينها، رِقَّة صوته حين يقصد التأكيد على كلمة أو جملة بعينها، ثم خشونته التي يُرافقها صدًى كأنه كان يتحدَّث داخل غرفة واسعة فارغة، ثَقُل كلامه كأنه مخمور، ثباته إلى درجة أني كنتُ أتخيَّله واحدًا من أولئك الأساتذة المُنتفخين المُزيَّفين، يشرح - لطالبة مخدوعة مُبهورة بليدة - ما لا يعلمه غيره - في اعتقاده - من مناهج البحث العلمي الحديثة، الْتَفتُّ إليه بكاملي، وأخَذت أنظر في عينيه أبحث فيهما عمَّا لا تقوله كلماته وتعابير وجهه، فيهما قسوة ولا معنى، بدأت سلسلة كلامه تتقطَّع وتتبعثر، يضع النقاط حيث لا يجب أن توضَع، وهو - برغم ذلك - يواصل حديثه بانغماس عاطفي كبير: "أنا أحب الأدب، أحب قراءته، الأدب الحر، آه، تعرف: التقنيون أذكياء! أنا لَم أحصل على البكالوريا أوَّل مرة، حتى إن الأستاذ "م" سألني، تَعْرِفه؟ الأستاذ "م"، كيف لَم ينقذوك؟! نعم، كنت متفوقًا خلال السنة، كنت رياضيًّا، آه، أنت أيضًا أدبي! نعم، نحن كنا ناجحين، تَعْرِف، أنا لَم أستطع المواصلة، آه، ظروف معينة، تَعْرِف "ع"، لا أحد في مثل مستواه اليوم، إنه في "إنجلترا"، لقد درَس في المتوسطة التقنية، أنت أيضًا درَست بها، كنت تدرس مع "ب"، "نعم" أجَبته، وواصَل حديثه دون فاصلة: "تعرف الحسد، آه، أن يحسدك الناس، أن يضعوك نُصب أعينهم، أنا جامعي، درَست سنتين في الجامعة في المتوسطة التقنية تربح سنة، كلُّ مَن درسوا بها ناجحون، تربح سنة، هذا أفضل، أنا لَم أحصل على البكالوريا إلاَّ في السنة الثانية، توقَّفت عن الدراسة، اشتغَلت منذ سنة 1991، درَست في معهد متخصِّص بمدينة "سطيف"، إنه في إنجلترا".

 

كنت أُتابعه بتركيز حشَدت له كلَّ حواس التلقي، غير أنَّ كلامه لَبِد فجأة عند هذه النقطة كيربوع كنتُ أُطارده، فسألت بطريقة تجعل السؤال طبيعيًّا: "تقصد...؟"، قال: "ب"، قلت: آه، نعم، قال: "لقد أحسَن فعلاً"، قلت - بعد أن عاد اليربوع إلى القفز أمامي من جديد - مصحِّحًا المعلومة: "هو في إيطاليا"، لكنه لَم يسمع، أحْسَست حينها بأنه لا يريد الحوار، الاستماع، الإجابة عن الأسئلة، يريد فقط مَن يسمعه، وفَهِمت أنَّ هذا هو دوري الذي أدَّيته منذ البداية بالطريقة التي يريدها، فحاوَلت الاستمرار في تحقيق رغبته الدفينة هذه، مُشجِّعًا إيَّاه على المواصلة؛ حينًا بإيماءاتٍ برأسي، وحينًا آخر بـ"نعم، نعم"، أو بابتسامة أو معلومة أجعل بها لنفسي مكانًا في عالَمه: "اشتَغَلت"، واصَل حديثه: "المهم أن تسيرَ من الحسن إلى الأحسن، أن تتقدَّم، لا أن تقفَ في مكان واحدٍ كالماء الراكد، أو تتراجع إلى الوراء، أنا أثَّرت فيَّ العسكرية"، كنت أشتغل، حقَّقت في تلك السنة نتائج رائعة، كنت أُدرِّس السنة التاسعة، حصل 74 % من التلاميذ على المعدَّل في المادة، كان يمكن أن يَحصلوا على مائة بالمائة".

 

كان يتحدَّث كأنه يَستعيد صورًا جميلة بعيدة باهتة في الذاكرة، بدَت بعيدة جدًّا، أحْسَست بأن أشياءَ كثيرة بألوان داكنة قد تراكمَت عليها.

 

"لكن ظروفًا وأمورًا حالَت دون ذلك، ذهَبت لأداء الخدمة الوطنيَّة، كنت مسؤولاً عن التدريب، أُدرِّب أشخاصًا كثيرين، لقد أثَّرت فيَّ العسكرية"، تَعْرِف "س" كانت معنا"، حاوَلت التركيز أكثر للَمِّ شتات حديثه: أين كانت معهم؟ "لقد قالوا لي: إنها حينما ذهَبت إلى الجامعة لَم تَعُد كما يجب، تَعْرِف الجامعة، الحرية، وما أشبَه ذلك، قلت: إنَّ ذلك طبيعي، سبَّبت لي بعض المشاكل"، وفَهِمت بأنها كانت معه في الثانوية، "في الجيش، تَعْرِف، لا مكان للرفعة والطُّهر، هم يكرهونك حينما تكون كذلك، يريدونك أن تكون، آه، أنت تعرف، أن تكون مثلهم، الكلام البذيء، تَعْرِف، نحن تربَّينا في المساجد، آه، تَعْرِف، تَعِبت كثيرًا"، سألته: أين أدَّيت الخدمة العسكرية؟ أجاب: "في باتنة، بين 96 و1998، تَعْرِف، مع الإرهاب، تَعِبت كثيرًا، لكنني استفدْتُ من الخدمة العسكرية أشياءَ، خَسِرت الوظيفة، نعم، لكنني استفَدت منها أشياءَ"!

 

كنت أودُّ أن أسأله: ماذا استفدت؟ لكنني أحجَمت؛ لأنني بدأت أفهم لغته، فحينما لا يريد أن يتحدَّث عن شيء يُلوح بيده كأنه يقول: لا داعي للحديث في هذا، ويبتلع أكثر الكلمات، فتركته يواصل حديثه:

 

"تعرف، العسكرية فيها الصرامة والقسوة، والكثير من الظلم، أن تُدرِّب ثلاثمائة إنسان، تشعر بتقزُّز و"قرف" من البشر، حينما عُدت إلى العمل، تَعْرِف لَم أواصل، بدأْتُ أتسبَّب في الكثير من المشاكل، أتشاجر مع سائقي الحافلات، آه، تَعْرِف، تَعِبت، أصبَحت أتغيَّب، توقَّفت، أوقفوني، لقد تَعِبت، أنا أحبُّ قراءة الأدب، آه، الأدبيَّات، القراءة الحرَّة، تَعْرِف العقَّاد؟".

 

انتَبَهت لحظتها إلى الشبه الكبير بين وجهه ووجه العقاد، لولا لِحيته التي لَم يَحلقها منذ أكثر من أسبوع على ما يبدو، وأسنانه المُصفرَّة بشكل لافتٍ، ومِعْطفه الوسخ المتآكل عند الأطراف، مع بقع حبر زرقاء كبيرة في ذراعه الأيمن.

 

"لَم أكن أعرف أنه يكتب في الإسلاميَّات، كنت أعرف فقط أنه يهتمُّ بالجاحظ، وامرئ القيس، والنابغة، كان صاحب فكر وقلب ورُوح أيضًا، له العبقريات الأربع، وأربعة كتب أخرى في الإسلاميَّات، لقد كان أستاذ هذا" ووضَع سبَّابته تحت اسم المؤلِّف على غلاف الكتاب الذي كان بين يديه، فوجَدته (سيد قطب)، "نعم، كان هذا تلميذه، إنه مُفكِّر، عقلي، منطقي، رياضي، فيزيائي"، ثم فاجَأني بسؤال: "هل تعرف عنه أمورًا أخرى؟ طرائف عنه؟، تعرف؟!".

 

لَم يحضرني أيُّ شيء عنه، لقد غيَّر المواقع بسرعة، بعد أن تعوَّدت على موقع المستمع، فقلت: لقد كان مُعتدًّا برأيه إلى درجة كبيرة، كان عصاميًّا، وكانت له مكتبة ضخمة، أضخم بكثير من هذه"، وكِدت أُحَدثه بعد ذلك عن معاركه مع الرافعي، وعن "مي زيادة"، وعن عدم زواجه، وعن الفتاة التي انتحَرَت حين بلغَها نبأُ وفاته، لكنني أمسَكت عن كل ذلك، كنت قد وقَفت، بدأت قوة جَذبه تَضعُف، فشَدتني القوة الأخرى، حَمَلت كتابي وظاهَرت بالعودة إلى الرفوف، عاد إلى القراءة، عُدت إلى البحث وبحماس، كان كلامه قد وجَّهني، فتيقَّنت بأنَّ ما أبحث عنه هنا بالمكتبة، وأنه قريب مني، في مكان ما هنا، غير أن قوَّة جذب الشاب لَم تَضعف إلى درجة خروجه من دائرة شعوري، التفتُّ إليه بعد مدة قصيرة من البحث، فوجَدت بين يديه كتابًا ضخمًا تظهر فيه صور، بدا لي معجم أعلام، وقفَ، اتَّجه نحوي مباشرة بخُطوات سريعة، قال: "كان العقاد وأحمد أمين علميين، آ..."، ضاعَت منه الكلمة، أخَذ يُحرِّك أصابع يده اليمنى بعصبيَّة كأنه يبحث عن شيء، حاوَلت مساعدته، فقال: "لا، لا، انتظر"، عاد إلى التفكير، ثم قال بعد برهة: "لا بأس"، وعاد إلى مكانه، عُدت إلى البحث، لَم يكد يجلس لحظات حتى رجَع إليَّ، وقد كنتُ في مكان بعيد عن الأشخاص الجالسين الذين لَم أعرف عددهم، ولا مَن دخل أو خرَج بعد دخولي، قال: "لا تلمني إذ فلتَ مني لساني، وقلت لك ما قلت، تعرف، يحب الواحد منَّا أن يتحدَّث أحيانًا، لا تظن أنني آه، تعرف"، وعاد بهدوء إلى مكانه، واصَل قراءته بصوت مسموع غير مفهوم، لكن مَن يراه يعتقد أنه يناقش صاحب الكتاب في آرائه، كأن نظامَ تشغيلِي قد ترجَم رموزه هذه إلى الكلمات الآتية: عيناك هما اللتان قالتا لي: إنك مثلي، تهرب باحثًا عن غايتك، لكني سبَقتك بمرحلة، لا يزال في عقلك صفاء لَم يتكدَّر بعدُ بالوهن والاستسلام، تُشبهني، ولا تُشبهني، تستطيع فهمي، ولا أستطيع فَهْمك، ولا فَهْم نفسي".

 

ولَم أستطع تفسير شعور الخوف والهلع الذي انتشَر في قلبي فجْأَة كجيش من النمل الأسود، حين استقرَّت في ذهني فكرة أنه قد اقترَب كثيرًا من مستقرِّه الذي يبحث عنه كأنه يراه بعينيه، انغرَست الفكرة في رأسي وأخذَت تنمو منذ رأيته لا يتمُّ شيئًا مما يبدؤه: يبحث في الرفوف، يعود فجأة إلى الجلوس، يقرأ مدة لا تزيد على دقائق، يُغيِّر مكانه إلى كرسي بجانبه، ينهض، يخرج، يعود فجأة، يتَّجه إلى الدلو، "لاحَظت أنه يشرب الكثير من الماء، كان ذلك الفاصلة الوحيدة التي حافَظ عليها، يتمُّها إلى آخر قطرة"، يَقفز من موضوع إلى آخر دون فصلٍ ولا وصلٍ، كان كمَن يُطارده وحشٌ وسط أجَمة تناهَت إلى سمعه جلبة حياة بشريَّة، لَم يستطع تحديد جهتها، وعاد يحمل هذه المرة ورقة، قدَّمها إليّ مع تعليق: "انظر، هذه كلمات العقاد الفيلسوف"، أخَذتها وجَدت فيها الكلمات الآتية للشاعر السعودي "حمزة شحاتة"، الذي ترَك بلده وأسرته وشهرته، وذهَب إلى القاهرة؛ ليختفي عن أنظار كلِّ الناس في شقة متواضعة لا يعلم خبرها غير ابنته:

 

"إنَّ العيش بالنسبة إلى مَن استكمَل وعْيَه مِحنة تستوجب الرثاء، حينما يكون الواقع أقوى من أحلامنا وقُدراتنا، لا نستطيعَ أن نمنعَ أفكارنا ومشاعرنا عن التشرُّد! لا شيء يعطي تفسيرًا تامًّا للحياة غير الموت".

 

تعجَّبت من جمال الخط وثباته ووضوحه! ولَم أستطع أن أُصَحِّح له اسم صاحب الكلمات، اكْتَفَيت فقط بتحريك رأسي إلى الوراء والأمام عدَّة مرات، رافعًا حاجبي، وأنا أقول: "فعلاً، إنها فلسفة قويَّة"، كان ينظر إليّ بابتسامة غريبة، رَددت إليه الورقة، فطواها بتأنٍّ وإحكام عدة مرات، ثم وضَعها في جيبه، وانصرَف دون أن يقول شيئًا، كان أمين المكتبة واقفًا بالباب، حين التفتُّ وجَدته مُبتسمًا، فعرَفت أن وقت الخروج قد حان، غَضِبت حينها من نفسي ومن هذا ال... الذي شغَلني عما كِدت أصل إليه، وفكَّرت أن أطلب من أمين المكتبة أن يسمحَ لي بالبقاء، لكني وجَدت أنَّ ذلك غير ممكن لعدة أسباب، فعدَلت عن الفكرة، كنا نحن الثلاثة آخر الخارجين، أمَّا هو، فقد خرَج بهدوء وصمتٍ من الباب الخلفي، وخرَجت وأمين المكتبة من الباب الرئيسي بعد أن غلَّق جميع الأبواب، نَسِيت غضبي بعد خروجنا مباشرة، وسألته عن قصة الشاب، فقال مُلخصًا إيَّاها على غير ما أردت:

 

"إنه يريد العالم كما يُصوِّره له خياله، وحين لَم يُحقِّق ذلك، لَم يستطع التأقلم مع الواقع كما هو، جاء هنا ليهرب، إن حالته في الأيام الأخيرة أصبَحت سيِّئة جدًّا".

 

تعجَّبت حينها لهذا التفسير، ليس لأنه غير متماسك، ولكن لأنه هو الذي قاله، وأطلَّ السؤال بوجهه القبيح داخل رأسي كأنه يَسخر من عقلي: "وهل يوجد أسوياء؟!".

 

وافتَرَقنا كلٌّ إلى وجهته، عادَت كلُّ التفاصيل تُطارد خيالي ومشاعري: حركاته، نبراته، نظراته، عيناه اللتان توشَّحتا في اللحظات الأخيرة من لقائنا ببراءة طفوليَّة، وكادتا تَنطقان ولَم تَفعلا، هيَّأته وهو خارج: جسمه المائل إلى الأمام سبب طأطأته غير الطبيعية لرأسه، كأنه أثقلُ من أن يستطيع رَفْعه، طريقة مَشيه كأنه يخشى إيقاظ نائمٍ قُربه، كلُّ شيء فيه، تلوَّنت حسرتي على ما كِدت أجده، وهذه التفاصيل بمذاق واحدٍ في نفسي: مرارة قاسية حادة، كشوكتين انغرَستا في أعماق مشاعري بقوة، وتَسَلَّقتا بأظافرهما الطويلة على أعصابي منذ ذلك الوقت حتى صباح اليوم التالي، دَفَعتاني بقوة وعنف إلى المكتبة، خالَفت عادتي بمجرَّد دخولها، لَم أمرَّ على أمين المكتبة، بل اتَّجهت مباشرة إلى قاعة المطالعة، لا أحد، يبدو أني أوَّل مَن يدخلها، وبدل وصْل ما انقطَع في اليوم السابق، ذهَبت إلى أمين المكتبة وفي ذهني سؤال أكثر إلحاحًا من ذبابة، سلَّمت عليه، كان مشغولاً، وجَدت كوب شاي فوق مكتبه، رشَفت منه رشفة رغم أني لا أحبُّ الشاي! ترك ما بين يديه فجأة قبل إتمامه، وبادَرني بملامح مَن يُخبر بأمر غريب لا يُصدَّق، هو أوَّل مَن عرَفه منذ لحظات: "أتَذكر الشاب الذي كان معك يوم أمس بقاعة المطالعة؟"، تظاهَرت بنسيانه لحظة ثم قلت: "نعم، نعم، ما به؟"، وكدت أُضيف: هل فعَل بنفسه شيئًا؟ لكن السؤال بدا لي في غير وقته، فقلت في نفسي: ستكشف لي إجابته ذلك، قال: "لقد وجَدوه صباح اليوم مشنوقًا بغابة الحملاوية وهو عارٍ تمامًا!"، شعَرت بالحسرة كرة في حلقي، وبدأنا حوارًا حول الشاب دون أيِّ تفاعل مني، أسرَعت بكلِّ ما استَطَعت إلى إنهائه بطريقة لَبِقة، عُدت إلى قاعة المطالعة، قَصَدت الصف الأيمن من الرفوف، مَدَدت يدي إلى الرف الأعلى، وتناوَلت الكتاب، جَلَست على أقرب كرسي، فتَحته، بدأت تقليب الصفحات بسرعة، وصَلت آخر أبوابه، وشرَعت في احتضان الكلمات بشوق عارم.

 

انتـهى.

 

بدأتها يوم السبت: 24- 4 - 04 وقد أتمَّ والدي أربعًا وستين سنة، وأنْهَيتها صباح يوم الأحد الثاني عشر من ربيع الأول 1425هـ.

 

نـور: " فلو عِشنا العمل الفني بشكل تام، لَما احْتَجنا إلى التفسير"؛ ت. س. إليوت.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • حلاوة روح
  • غذاء الروح
  • حديث الروح

مختارات من الشبكة

  • قوة العرب المعطلة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • إلى مرفأ الأشواق(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أحب الخير لمن تؤاخي (قصيدة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • بين يدي القراطيس (دعاء لطرح اليأس وحداء لتطلب الأمل)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التوفيق بين أحاديث عودة الروح للبدن وأحاديث استقرار الروح في الجنة أو النار(مقالة - آفاق الشريعة)
  • العشر الأواخر فرح الأفراح وزاد الأرواح(مقالة - ملفات خاصة)
  • الروح في قصائد ديوان (مراكب ذكرياتي) للدكتور عبد الرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • شيخوخة الروح(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • دعوى انتقال الروح من إنسان إلى آخر ودعوى التطور من القرد(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 13/11/1446هـ - الساعة: 23:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب