• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

استثمار الأسلوب العدولي (7 /11)

استثمار الأسلوب العدولي (7/11)
د. عيد محمد شبايك

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 18/10/2011 ميلادي - 20/11/1432 هجري

الزيارات: 9324

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ثالثًا: العدول في الرتبة (التقديم والتأخير):

يُعدُّ التقديم مظهرًا من مظاهر كثيرة تمثِّل قدرات إبانة، أو طاقات تعبيرية يُديرها المتكلِّم اللَّقِن إدارة حيَّة وواعية، فيسخرها تسخيرًا منضبطًا للبَوْح بأفكاره، وألوان أحاسيسه، ومختلف خواطره، ومواقع الكلمات من الجملة عظيمة المرونة، كما هي شديدة الحساسية، وأيُّ تغيير فيها يُحدِث تغييراتٍ جوهريةً في تشكيل المعاني، وألوان الحسّ، وظلال النفس، فليس قولك: زيد جاءني، كقولك: جاءني زيد، فقولك: زيد جاءني، أفاد فوق الإخبار بالمجيء ضربًا من الاهتمام بزيد، والحفاوة بأمره، وتوكيد تلك الحقيقة لسامعك لأهميتها، أو لأنه على حال لا يتوقع مجيء زيد، وما أشبه ذلك من تلك الألوان النفسية التي يبوح بها تقديم المسند إليه، فإذا قلت: جاءني زيد، انقطع هذا الفَيْض من الهواجس والخواطر، وكان الكلام كلامًا مرسلاً، يجري في سياق خالٍ من تلك النبضات التي جَرَى فيها السياق الأول.[1]

 

وبناء العبارة في الحقيقة بناءُ خواطر ومشاعر واختلاجات، قبل أن يكون هندسة ألفاظ، وتصميم قوالب، وإذا كان السياق سياقًا فيَّاضًا وحافلاً أبدتْ هذه الزحزحات الخفيفة للكلمات - أي: العدول - غِنًى وفيضًا.

 

ولعلَّ هذا ما الْتفتَ إليه عبدالقاهر حين قال في صدر حديثه في هذا الباب: "إنه جمُّ المحاسن، واسع التصرُّف، بعيد الغاية، لا يزال يفتر لك عن بديعةٍ، ويُفضِي بك إلى لطيفٍة، ولا تزال تَرَى شعرًا يروقك مسمعه، ويلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سببَ أنْ راقك ولطف عندك أنْ قُدِّم فيه شيءٌ، وحوِّل اللفظ عن مكانٍ إلى مكان".[2]

 

وشواهدُ العدول في التقديم - في القرآن الكريم - كثيرة، تندُّ عن الحصْر، وتتعدَّد أنماطه، نعدُّ منها في هذا المقام: تقديم المعمول على العامل، نحو قوله - تعالى -: ﴿ أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ﴾ [سبأ: 40]، الخطاب للملائكة، وهو تقريع للكفَّار... وفيه إقناطٌ للمشركين عمَّا علقوا به أطماعهم الفارغة من شفاعتهم، وتخصيص الملائكة؛ لأنَّهم أشرف شركائهم، والصالحون للخطاب منهم، إذًا فتقديم المعمول "إياكم" على العامل "يعبدون" اقتضاه المعنى، كما يُفهم من السياق، هذا فضلاً عن مراعاة المناسبة.[3]

 

ومن أنماطه تقدُّم المفعول لأجْله، وهو الآخِرُ رتبةً، كما في قوله - تعالى -: ﴿ أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ﴾ [الصافات: 86].

 

الآية - كما نعلم - استفهام إنكاري، وما دام معناها الإنكار، فإنَّ ترتيب ألفاظها ينبغي أن يكون بحسب الأوليَّة في استحقاق الإنكار، وأَوْلَى الألفاظ بالإنكار هنا لفظ "إفكًا"؛ لأنَّ الكفر قد يكون ميراثًا عن الآباء، ولكنه قد يكون انحرافًا عن الحقِّ متعمدًا، لا ينفع معه الدليلُ على فساده، فذلك هو "الإفك"، ثم يلي في الإنكار أن ينصب الإفك على إشراك آلهة مع الله، فإذا كانتِ الآلهة دون الله لا مَعَه، فهذا أوغل في الشِّرْك، ويُضاعف من سوء ذلك أن يكونَ ذلك بإرادتهم وباختيارهم، ولو تصورْنا النظم في غير القرآن "أتريدون آلهة دون الله إفكًا"، لانطفأ كلُّ ما في الكلام من حرارة الإنكار، ولبدَا الكلام وكأنه سؤالٌ لهم عما يُفضِّلونه من أنواع الشِّرْك، وثمَّة ملحظ آخر أنَّ المفعول لأجْله "إفكًا" تقدَّم، وهو الآخر رتبةً، وتلاه المفعول به ونعته، وهذا يدلُّ على أنَّ أوَّل ما تعلق به الاهتمام هو السببية التي عبَّر عنها المفعول لأجْله؛ لأنَّ الكفر عن ضلال قد تُرْجَى له الهداية، أما الكفر عن إِفك، فذلك انحرافٌ مع تدبير، وكيْد وإصرار.[4]

 

ومن أنماطه أيضًا تقديم الضمير على ما يفسره، نحو قوله - تعالى -: ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ﴾ [طه: 67]، والنكتة في هذا التقديم والتأخير: أنَّ النفس تتشوَّف لفاعل "أوجس"، فإذا جاء بعد أن أُخِّر وقع من النفس بموقع.[5]

 

وهذا التعليل يغلب عليه طابعُ العموم، والحقُّ أنَّ موسى مؤيَّد من ربِّه، فهو - سبحانه - معه يسمع ويرى، ولَمَّا كان توجس الخوف يُشعر بدنو منزلة موسى - عليه السلام - في هذا الموقف، أشعر النظم الكريم بأنَّ ذلك ينبغي أن يكون بعيدًا عنه، لذلك أعقبه بقوله: ﴿ قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى ﴾ [طه: 68]، والأعلى لا ينبغي أن يخافَ ظاهرًا ولا باطنًا، وتقديم الجار والمجرور (في نفسه) على المفعول (خيفة)؛ لبيان أنها كانت في نفسه، ولم تكن ظاهرة، وإن كان لفظ "أوجس" يوحِي بكون الخوف في نفسه، لكن النظم الكريم حَرَص على التصريح به؛ ليؤكِّد المعنى، ولا يظهر موسى في مقام الخائف، لا سيَّما في هذا الموقِف أمام أعدائه.

 

ومنه تقديم ما هو متأخر في الزمان، نحو قوله - تعالى -: ﴿ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى ﴾ [النجم: 25].

 

قال ابن الصائغ: "ولولا مراعاةُ الفاصلة لقُدِّمت "الأولى" كقوله: ﴿ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ ﴾ [القصص: 70] "[6]، والحقُّ أنَّ هذا ملحظ شكليّ، ولا بدَّ أنَّ هناك ملحظًا بيانيًّا يتطلَّبه المعنى، ويُستنبط من السياق، فعندما ننظر إلى الآيات المصاحبة للآية، حتى يساعدَنا السياق على فَهْم المعنى الصحيح، فالسياق - كما يقولون - الحارس الأمين على المعنى، قال - تعالى -: ﴿ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى * أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى * فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى * وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ﴾ [النجم: 22 - 26].

 

﴿ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ﴾ أم منقطعة مقدَّرة بـ "بل"، وهى للانتقال مِن بيان أنَّ ما هم عليه غيرُ مستند إلا إلى توهمهم وهوى أنفسهم، إلى بيان أنَّ ذلك لا يجدي نفعًا لهم في الآخرة، فليستْ لهذه الأصنام شفاعة عندَ الله، والهمزة للإنكار والنفي؛ أي: بل ليس للإنسان كلُّ ما يتمناه... وفي تقديم الآخرة تعليلٌ لانتفاء أن يكون للإنسان كلُّ ما يتمناه حتمًا، فإنَّ اختصاص مِلْك أمور الآخرة والأُولى به - تعالى - مقتضٍ لانتفاء أن يكون للإنسان أمرٌ ما، وقُدِّمت الآخرة لقطع أهمِّ أطماعهم عندَهم من الفوز فيها؛ لذا أردف ذلك بقوله - تعالى -: ﴿ وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا ﴾، وإقناطهم عمَّا طمعوا به من شفاعة الملائكة، موجِب لإقناطهم عن شفاعة الأصنام بطريق أولى، "وكم" خبرية، مفيدة للتكثير... وجمع الضمير في شفاعتهم مع إفراد الملك باعتبار المعنى، وتقديم الجار والمجرور على المبتدأ في قوله: ﴿ فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى ﴾ يُفيد القصْر بأنَّ الأمور تسير وَفقَ إرادة الله - تعالى - لا وفق ما يتمنَّاه الإنسان.[7]

 

وإذا كان ما يتمنَّاه هؤلاء من شفاعة الأصنام لهم - وهذا لا يكون إلاَّ في الآخرة وعندَ الحساب - مستحيلة؛ لأنَّ أحدًا لا يملك الشفاعةَ إلا مَن أَذِن له الله بها؛ لذلك قُدِّمت الآخرة على الأُولى في هذا الموضع، إذًا فتقديم الآخرة على الأولى في هذا الموضع هو الأنسبُ، والذي يقتضيه السياق، ولأنه ينسجم لفظيًّا مع الإيقاع الموسيقي للفاصلة، فضلاً عن انسجامه المعنويّ.

 

معنى ذلك: أنَّ التقديم - وهو أسلوبٌ عدولي عن أصل الرتبة، ومؤشر أسلوبي - إنما يكون لغاياتٍ تتصل بالمعنى، وذلك شأن الأسلوب العدولي مع كلِّ القرائن.

 

رابعًا: العدول في الضمائر:

سبق أن تناولْنا الحديث عن العدول في الضمائر من الغَيْبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة.

 

ومن العدول في الضمائر المغايرة بين التكلُّم والغَيْبة، أو بين الغَيْبة والتكلم، أو بين التكلم والخطاب.

 

فمِن العدول عن التكلُّم إلى الغَيْبة، قوله - تعالى -: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [الأنبياء: 31 - 33].

 

 

بداية، نودُّ أن نلاحظ أنَّ العدول عن التكلُّم إلى الغَيْبة في الآية الثالثة قد واكبه وتآزر معه - كما سنرى - عدولٌ معجمي، يتمثَّل في إيثار الفعل "خَلَقَ" في تلك الآية دون الفِعْل "جعل"، الذي وَرَد ثلاث مرَّات في الآيتين الأوليين.

 

لقد ذكر المفسِّرون أنَّ الفرق بين "الخلق" و"الجعل" هو أنَّ الأول يتضمَّن معنى التقدير والإبداع من عدم، أما الثاني ففيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء موجود أصلاً، أو تَصْيير شيء من شيء، أو نقْله مِن حال إلى حال.[8]

 

وثَمَّ فارقٌ آخر بين الجَعْل والخلق يتجلَّى بوضوح في السياقات القرآنية التي تدور حولَ اللفت إلى مشاهدة الكون وآياته، إثباتًا لقُدرة الخالق - عزَّ وجلَّ.

 

ولو تأملنا هذه السياقات، تبيَّن لنا أن هذه المشاهد والآيات حين ترد مع الفعل "جعل" فإن الجانب المحسوس أو الشكل الماثل فيها يكون هو موطنَ اللفت ومناط الاعتبار، أما عند ورودها مع الفعل "خلق" فإن اللفت لا يكون إلى هذا الجانب المحسوس؛ بل إلى ما وراء تكوينه من لطيف الحكمة، وخفي التدبير.

 

ففي الآيتين الأُوليين مِن آيات سورة الأنبياء، كان اللَّفْت - مع فعل الجعل - إلى الهيئات المحسوسة التي نعاينها في شموخ الجبال، وتمهيد الفِجاج، ونطالعها في ارتفاع السماء، كالسقف المحفوظ بغير عَمَد، أمَّا في الآية الثالثة - حيث العدول إلى فعل الخلق - فلم يكن اللَّفْتُ إلى الجانب المحسوس، أو المشاهد من الليل والنهار والشمس والقمر؛ أعني: جانب الظلمة والنور؛ بل إلى القدرة الخفية التي بها يتعاقَب اللَّيْلُ والنهار، وتدور الشمس والقمر.

 

لقد ورد الفعل "جعل" متعلِّقًا بالليل والنهار والشمس والقمر في سياقات أخرى متعدِّدة في القرآن الكريم، وبتأمُّل هذه السياقات يتبيَّن لنا أنَّ المظهر المحسوس في تلك الظواهر الكونية هو مثارُ اللَّفْت، وموطن العِبرة.[9]

 

نستطيع القول - إذًا -: إن العدول عن فعل "الجعل" إلى فعل "الخلق" في آيات الأنبياء، يَرْجع إلى اللَّفْت إلى الشكل المحسوس الذي بيده الحسُّ المستبصر في الآيتين الأوليين، واللَّفْت إلى ما يكمن خلفَ هذا الشكل مِن حِكَم وأسرار في الآية الثالثة، وبناء على ذلك نستطيع القول بأنَّ نكتة العدول عن ضمير التكلُّم في "جعلنا" إلى ضمير الغَيْبة في "خلق" هي ملاءمةُ طرقِ التكلم - وهو قرين الحضور والمشاهدة - لحسيَّة الاستدلال على عظمة الخالق في الآيتين الأوليين، وملاءمة طريقِ الغيبة - وهو قرينُ التواري والخفاء - لعقلانية هذا الاستدلال في الآية الثالثة، وبهذه الملاءمة، وتلك التي تؤدِّي المخالفة بين الضميرين دورَها في هذا السياق الذي يلفت الأبصار، ويستثير البصائر والعقول إلى تأمُّل تلكم المشاهِد الكونية الدالَّة على قدرته - سبحانه - وأنَّه هو الظاهر الباطن.

 

ونوَدُّ أن نبادر بالإشارة إلى أنَّ هذا الذي نلاحظه في آيات الأنبياء من ارتداد المخالفة بين (ضميري الخطاب والغَيبة)، إلى المخالفة بين (المشاهد الجليَّة المحسوسة، والخفية غير المحسوسة) يُقدِّم فيما نحسُّ - والله أعلم - تفسيرًا يكاد يكون مطردًا للعدول عن كل شيء منهما إلى الآخر في غير هذا الموطن، لنتأمَّل - على سبيل المثال - قولَ الحق - تبارك وتعالى -: ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ﴾ [فاطر: 9]، حيث أسْند فعل الإرسال إلى ضمير الغيبة، ثم عدل[10]عن ذلك إلى ضمير التكلُّم عند إسناد فِعْلَيِ السَّوق والإحياء.

 

يقول الزمخشري: ولَمَّا كان سوق السحاب إلى البلد الميِّت، وإحياء الأرْض بالمطر بعد موتها من الدلائل على القدرة الباهرة، قيل: فسُقنا، وأحيينا، معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخلُ في الاختصاص، وأدل عليها[11] (أي: تقدير الأرزاق التي لا يتولاها إلا الله)، فناسَب ذلك أن ينتقل الإسنادُ إلى ضمير ذي الجلالة، فهو الذي يسوق السحاب، ويقسِّم الأرزاق، وينشر رحمتَه على عباده، ولا يدع شيئًا من ذلك لأحد من خَلْقه.

 

هذا، والذي نطمئن إليه في تفسير هذا العدول هو ما نلاحِظُه من المغايرة بين المحسوس، وغير المحسوس من الأحداث أو الظواهر، فنحن لا نرى فعْل إرسال الرِّياح، ولا نرى كيف تُثير الرِّياح السحب؛ وإنما نرى السحب ذاتها مسوقة، والأرْض حيَّة تكسوها الخضرة وتزينها بعدَ أن كانت مواتًا جامدة، ومِن ثَمَّ كان التعبير عن الإرسال بطريق الغيبة، وعن السَّوْق والإحياء بطريق التكلُّم أو الحضور.

 

خامسًا: العدول في زمن الفعل:

سَبَق أن تناولْنا الحديث عن العدول في زمن الفِعل في قسم التنظير، فلا داعي للتكرار.[12]

 


[1] "دلالات التراكيب" (ص: 170).

[2] "دلائل الإعجاز" (ص: 73).

[3] "تفسير أبي السعود" (7/136، 137).

[4] "البيان" (ص: 379)، وانظر شاهدًا آخر على التقديم: "دلائل الإعجاز" (ص: 286، 287)، حيث تعرَّض عبدالقاهر لبيان الفائدة من التقديم في قوله - تعالى -: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ ﴾ [الأنعام: 100].

[5] "البرهان" (1/62).

[6] "الإتقان" (3/339)، و"معترك الأقران" (1/32).

[7] "تفسير أبي السعود" (8/158، 159)، الألوسي (27/58، 59).

[8] انظر "مفردات الراغب" (ص: 94 - 157)، و"بصائر ذوي التمييز" (2/ 384، 556)، و"الكشاف" (2/571)، و"تفسير أبي السعود" (3/104، 105)، فالجعل على أساس هذا الفارق الذي ذكره المفسرون هو خطوة تالية للخلق مترتبة عليه، وهذا ما يتجلى بوضوح في قوله - عز وجل -: ﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا ﴾ [النحل: 81].

[9] انظر - على سبيل المثال - قوله - تبارك وتعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ﴾ [يونس: 5]، أو قوله: ﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا ﴾ [نوح: 16]، أو قوله: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ﴾ [الفرقان: 61].

[10] يلاحظ أنَّ في الآية الكريمة عدولاً آخر في مجال الصيغ، حيث بدأت بصيغة الماضي في "أرسل"، ثم عدل عنها إلى صيغة المضارع "فتثير"، ثم عاد إلى صيغة الماضي مرة أخرى (فسقنا - فأحيينا).

[11] "الكشاف" (3/302).

[12] راجع ص 36 من هذا البحث.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • استثمار الأسلوب العدولي (1/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (2/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (3/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (4/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (5/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (6/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (9/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (10 /11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (11/ 11)

مختارات من الشبكة

  • أفضل أنواع الاستثمار(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • استثمار الأسلوب العدولي (8/ 11)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الاستثمار الآمن في المؤسسات الخيرية (2)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مقاييس حرارة الاقتصاد(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • أوقات المسلم في رمضان(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الاستثمار المعرفي في الأطفال(مقالة - موقع د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر)
  • استثمار الزكاة(مقالة - موقع د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري)
  • استثمار الرهن(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • استثمار الأوقات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كيفية استثمار رمضان لتقوية الروابط الأسرية فرصة لجمع العائلة على الإفطار وصلاة الجماعة(مقالة - مجتمع وإصلاح)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 15/11/1446هـ - الساعة: 15:5
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب