• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

استثمار الأسلوب العدولي (3/ 11)

د. عيد محمد شبايك

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 6/8/2011 ميلادي - 6/9/1432 هجري

الزيارات: 24744

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تتمّةً لما سبقَ وتمّ نشره على شبكة الألوكة في الحلقة الثانية ... نقول:

 

ثانيًا: المصطلح عند البلاغيين والمفسرين:

وكما شاع مصطلح العدول عند اللُّغويِّين والنُّحاة، شاع كذلك عند البلاغيِّين والمفسِّرين، ولكن بمسميات مختلفة اللفظ، مرادفة في المعنى، متَّفقة في الدلالة، فاستخدم ابن وهْب مصطلح "الصرف"[1]، واستخدم ابن منقذ مصطلح "الانصراف"[2]، وكذلك استخدمه ابن شيث في "معالم الكتابة"، ولعلَّ الأصمعي أولُ مَن سماه "التفاتا"[3]، ثم أخذ التسمية منه ابن المعتز في "البديع"، وجعله أوَّل محاسن البديع، ثم تناقل البلاغيُّون المصطلح من بعده، ومنهم الزمخشري والرازي، وابن الأثير والعلوي، والسكاكي والقزويني، ومن تلاهم من شرَّاح التلخيص[4]، ومنهم من سماه "الخروج على مقتضى الظاهر"[5]، أو "الخروج عن الأصل"[6]، وسمَّاه الفيروزآبادي المفسر "التلون"[7].

 

والمستقرئ لهذه المصطلحات يُدرِك أنَّ المادة اللغوية أو المعجمية للعدول تدور في عمومها حولَ محور دلالي واحد، هو التحوُّل أو الميل والانحراف عن المألوف، أو الخروج عن القاعدة المطَّردة، أو انحراف - غير متوقَّع لدى المتلقي - عن نمط من أنماط اللغة الأصلية في نسقها المثالي.

 

وعبدالقاهر الجرجاني (ت 471 هـ) استخدم لفظ العدول كثيرًا، ورَبَط بينه وبين مصطلح المجاز، حيث يقول: "وإذا عُدل باللفظ عمَّا يوجبه أصل اللغة، وُصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعَه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وُضع فيه أولاً"[8].

 

ويقول في باب "التقديم والتأخير" في سياق العدول إلى التقديم وبلاغته: "اعلم أنَّه إذا كان بيِّنًا في الشيء أنه لا يحتمل إلاَّ الوجه الذي هو عليه حتى لا يُشكل، وحتى لا يحتاج في العلم بأنَّ ذلك حقه وأنَّه الصواب إلى فكر ورويَّة، فلا مزية، وإنما تكون المزية، ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجهًا آخر، ثم رأيت النَّفْس تنبو عن ذلك الوجه الآخر، ورأيت للذي جاء عليه حسنًا وقبولاً، تعْدَمُهُمَا إذا أنت تركته إلى الثاني، ومثال ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ﴾ [الأنعام: 100] ليس بخافٍ أنَّ لتقديم "الشركاء" حُسنًا وروعة، ومأخذًا في القلوب، أنت لا تجد شيئًا منه إن أنت أخَّرْت، فقلت: "وجعلوا الجن شركاء لله"، وأنك ترى حالك حال مَن نُقِل عن الصُّورة المُبهجة إلى الشيء الغُفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل... والسبب في أن كان ذلك كذلك، هو أنَّ للتقديم فائدةً شريفة، ومعنًى جليلاً، لا سبيل إليه مع التأخير.

 

بيانه: أنَّا وإن كنَّا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاءَ وعبدوهم مع الله - تعالى - وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم، فإنَّ تقديمَ الشرَكاء يُفيد هذا المعنى، ويُفيد معه معنى آخر، وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك، لا من الجن ولا غير الجن، وإذا أُخِّر، فقيل: "جعلوا الجن شركاء لله" لم يُفِدْ ذلك، ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنَّهم عبدوا الجن مع الله تعالى"[9].

 

فعبدالقاهر في هذا النص يُميِّز بين نوعين من التراكيب، أحدهما نمطي أو مثالي، والآخر فنِّي أو عدولي، وفنية هذا النوع الأخير أو مزيته تتجلَّى عن طريق المقارنة بين الوجهين "المثالي والمنحرف"، ومسوِّغ المقارنة بينهما أنهما يتماثلان في الدلالة على ذات المعنى المراد بالعبارة، فأصْل المعنى واحد بين "وجعلوا لله شركاء الجن"، و"وجعلوا الجن شركاء لله"، غيرَ أنَّ العبارة القرآنيَّة - بتقديم الشُّركاء على الجن - قد أحدثتْ في هذا المعنى خصوصيةً نفتقدها في العبارة المفترضة، وهذا هو السِّرُّ في إيثار العبارة القرآنية.

 

إذًا فتغيير الترتيب (بالتقديم أو التأخير) يُمثِّل عدولاً عن هذا الأصل المثالي، واختراقًا للحركة الأُفُقية المنتظِمة المسيطرة على بنيته العميقة، تبعًا لعنصر القصد عند المبدع، حيث تتوافق البِنيةُ السطحية المخالفة مع اتِّجاه الحركة الذهنية عند المبدع؛ "لأنَّ مجرَّد مخالفة الترتيب المثالي، ينبئ عن غرضٍ ما، هو إبراز كلمة أو نكتة لتوجيه الْتفات المتلقي إليها... ومن ثَمَّ فهذا الإجراء الأسلوبي يتطلَّب مِن صاحبه حسًّا لغويًّا مدربًا، ولطفا عاليًا في الذوق الأدبي، يُضاف إليه معرفةٌ بالظروف الفيلولوجية للغة المدروسة"[10]، التي تتدخَّل في التركيب اللغوي للعبارة.

 

واستخدم عبدالقاهر لفظ "العدول" بمعنى "التحوُّل" من دلالة اللفظ لمعناه إلى "معني المعنى" في قوله: " الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده... وضرب أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانيةً تصل بها إلى الغرض... وإذ قد عرفت هذه الجملة فها هنا عبارة مختصرة، وهي أن تقول: المعنى، ومعنى المعنى، تعني بـ"المعنى": المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبـ"معنى المعنى": أن تعقل من اللفظ معنًى، ثم يُفضِي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"[11].

 

فالتوصُّل بدلالة المعنى على معنى آخرَ لا يتمُّ إلا بالعدول عن الأصل لفوائد يقصر اللفظ وحْدَه عن أدائها.

 

ونظرية "معنى المعنى" التي طَرَقها عبدالقاهر - أو " المعاني الثواني " كما هي عند حازم[12] - لها تعلُّق بمفهوم "التوسع"، ومفهوم "المجاز" - ولعلَّه متأثر في ذلك بابن جِنِّي - حيث يقول: " إنَّ صور المعاني لا تتغيَّر بنقلها من لفظ إلى لفظ، حتى يكون هناك اتساعٌ ومجاز، وحتى لا يُراد من الألفاظ ظواهر ما وُضِعتْ له في اللغة، ولكن يُشار بمعانيها إلى معانٍ أُخر"[13].

 

وهكذا يتَّضح لنا من خلال ظاهرة الاتِّساع تعالُق الجانب النحوي بالجانب البلاغي، حيث الانتقالُ من الحقيقة إلى المجاز، وحيث يقوم الاتِّساع على أساس الدلالة اعتمادًا على المعنى - كما يرى عبدالقاهر[14].

 

ولم تَفُتْ عبدالقاهر الإشارةُ إلى مفهوم الاتساع، وذلك في مناقشته لقضية الصِّدْق والكذب في الشِّعر، فمن النقاد مَن قال: "أحسن الشعر أصدقه"، ومنهم مَن قال: "أحسن الشعر أكذبه"، أما من قال: أكذبه، فقد ذهب إلى "أنَّ الصنعة إنما تمد باعها، وينشر شعاعها، ويتسع ميدانها، وتتفرَّع أفنانها حيث يعتمد الاتساع والتخييل، وحيث قصد التلطُّف والتأويل، وهنا يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يُبدِع ويزيد، ويُبْدئ في اختراع الصورة ويُعيد، ويُصادِف مضطربًا كيف شاء واسعًا، ومددًا من المعاني متتابعًا"[15].

 

يبدو من هذا النص: أنَّ عبدالقاهر قارن بين الاتساع والتخييل، وهما عنصران فاعلانِ في تشكيل الأسلوب المجازي الذي يُعدُّ مَعْلمًا بارزًا من معالِم الإبداع، واختراع الصور، ولذلك يستطيعُ الشاعر أن يصنع اللُّغة بالطريقة التي يراها تخدم غرضه، وتجسد رؤيته، ومن هنا يكون الاتِّساع ذا قُدرة على تجاوز حدود المألوف والعادي.

 

إنَّ "معنى المعنى"، أو "المعاني الثواني" إنَّما مدارها على الكناية والاستعارة والتشبيه، من أجْل هذا قال عبدالقاهر كلمته المشهورة: "إنَّ من الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلاَّ مِن بعد العلم بالنظم، والوقوف على حقيقته... ومن دقيق ذلك وخفيه أنَّك ترى الناس إذا ذكروا قوله - تعالى -: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4] لَم يزيدوا فيه على ذِكْر الاستعارة، ولم ينسُبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزية موجبًا سواها، هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم، وليس الأمر على ذلك... ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يُسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لِمَا هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتى بالذي للفعل له في المعنى منصوبًا بعده مُبيِّنًا أن ذلك الإسناد، وتلك النسبة إلى ذلك الأوَّل إنَّما كان من أجْل هذا الثاني، ولِمَا بينه وبينه من الاتصال والملابسة... ثم يدعونا عبدالقاهر إلى المقارنة بين قولنا: "اشتعل شيب الرأس"، أو "الشيب في الرأس"، وبين نص الآية الكريمة فيقول: "ثم تنظر: هل تجد ذلك الحُسن، وتلك الفخامة؟ وهل ترى الروعة التي كنت تراها؟ فإن قلت: فما السببُ في أن كان "اشتعل" إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل، ولِمَ بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟

 

فإنَّ السبب أن يُفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصلُ المعنى الشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخَذَه من نواحيه، وأنه قد استقرَّ به، وعمَّ جملته... وهذا ما لا يكون إذا قيل: اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس... واعلم أنَّ في الآية شيئًا آخر من جنس النظم، وهو تعريف الرأس بالألْف واللام، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة، وهو أحد ما أوجب المزية، ولو قيل: واشتعل رأسي، فصرَّح بالإضافة لذهب بعض الحسن"[16].

 

إنَّ هذا النَّص يدلُّ على أنَّ "معنى المعنى" لا يكون في اللغة المباشرة العادية التقريرية، إنَّما يكون في استخدامات اللغة التي تمثِّل خروجًا عن النمط المثالي للغة، وانتهاكًا لِمَا هو مألوف وعادي.

 

كذلك كان شأن الاستعارة عندَ سابقيه، كابن وهب (ت328هـ)، حيث يقول: "وأمَّا الاستعارة، فإنَّما احتيج إليها في كلام العرب؛ لأنَّ ألفاظَهم أكثرُ من معانيهم، وليس هذا في لسانٍ غيرِ لسانهم، فهم يعبِّرون عن المعنى الواحد بعبارات كثيرة، ربَّما كانتْ مفردةً له، وربما كانتْ مشتركة بينه وبين غيره، وربما استعملوا بعضَ ذلك في موضع بعض على التوسُّع والمجاز"[17].

 

أمَّا القاضي الجرجاني (ت366هـ) فقد جَعَل التوسُّع مرتبطًا بالاستعارة، فقال: "فأمَّا الاستعارة، فهي أحدُ أعمدة الكلام، وعليها المعول في التوسُّع والتصرف، وبها يُتوصَّل إلى تزيين اللفظ، وتحسين النظم والنثْر"[18].

 

وبهذا تكون الاستعارةُ عند البلاغيِّين والنقَّاد أداةً من أدوات التوسُّع الذي يُمكِّن المبدع مِن كسْر قواعد اللغة، ومنحها مجالاتٍ أوسع للتعبير عمَّا يشعر به، فاستخدام الشاعر للألفاظ يعتمد فيما يعتمد على المعنى السيكولوجي لها؛ أعني: دلالتها الارتباطيَّة الذاتية والجماعية، ولكنَّه اعتمادٌ يتجه فنيًّا بهذه الإيحاءات الخاصة إلى سياق أوسع وأشمل؛ ليفكَّ ارتباطها التقليدي، فيتحوَّل على يده كلُّ ما هو ذاتي وخاص من دلالات الألفاظ إلى كلِّ ذي طابع عام[19].

 

إذًا فمن النقَّاد مَن سَمَّى هذا التصرُّف العدولي "اتساعًا"، ومنهم مَن سمَّاه "توسُّعًا"، مع أنَّ المفهومين يحملان الدلالة نفسها، وحتى لا يظن ظانٌّ بأنَّ هناك فرقًا بينهما، فإنَّ مفهوم الانحراف - الذي استخدمه بعضُ النقاد[20] - يدلُّ دلالة كبيرة على هذا التصرُّف العدولي، كما أنه يُبرز أنَّ إدراك النقاد العرب لهذه القضية مرتبطٌ بإدراكهم لطبيعة الأسلوب الذي يُعدُّ انحرافًا عن القاعدة العامة أو المألوفة، ومِن ثَم يكون "الانحراف" مُعادلاً لـ"الاتِّساع أو التوَسُّع"، وبخاصة انحراف اللغة عن أصْلها الحقيقي بوضعها في إطار التعبير المجازي، ولا شكَّ أنَّ هذا الإجراء العدولي يعتمد اعتمادًا أساسيًّا على خيال المبدِع، وقدْرته على التغيير في ماهية الأشياء، ومنْحها أبعادًا جديدة[21]، "وذلك في الجهاد الفني فوزٌ غير قليل"[22].

 

ثم نلْتقي بالزمخشري (ت538هـ)، فنجده استخدم مصطلح "العدول" بمسمًّى آخَرَ، وهو "الالْتفات"، وبيَّن فائدته في الكشف عن بلاغة النص القرآني من خلال منهجه التحليلي الذي اتَّبعه في "الكشَّاف"، حيث لاءم بين فِكرتَي تخيُّر اللفظ، وتخير الموقع، فتحقَّق له بمصطلح "العدول" بيان كيفية تحقيق تجاوب النظم.

 

يقول الزمخشري في قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ ﴾ [فاطر: 9]: إن قلت: لِمَ جاء ﴿ فتُثِير ﴾ على المضارع دون ما قبله وما بعده؟ قلت: ليحكيَ الحال التي تقع فيها إثارة الرِّياح السحاب، وتستحضر تلك الصور البديعية الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوْع تمييز، وخصوصية بحال تستغرب، أو تهم المخاطب، أو غير ذلك"[23].

 

إنَّ العدول بالخطاب من الماضي إلى المضارع - ونحن نعلم دلالة المضارع - يُمثِّل الفعل كأنَّه واقع ماثل مشاهد، على نحوٍ يحقق في الحكاية المعايشةَ الفعلية للحدث مِن قِبَل المتلقِّي.

 

وكذلك العدول عن المضارع إلى الماضي يجعل المتوقَّع في النسق الطبيعي المطرد للزمن في حُكم الواقع لدفْع المخاطب إلى التيقُّن منه؛ كقوله - تعالى -: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [النحل: 1].

 

قال الزمخشري: "كانوا يستعجلون ما وُعِدوا من قيام الساعة... فقيل لهم: أتى أمر الله، الذي هو بمنزلة الآتي الواقع المُتيقَّن، وإن كان منتظرًا لقرب وقوعه"[24].

 

ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنَّ جملة ﴿ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ "قرينة لغوية سياقية تصرف الفعل (أتى) عن دلالته على الماضي إلى دلالته على المستقبل، والعدول بالفعل عن دلالته يصرف الفاعل (أمر الله) بدوره عن دلالته، أو بعبارة أخرى يحدِّد دلالته؛ لأنَّ العناصر المكونة للجملة لن تبقى بدون تغيُّر إذا صُرِف عنصر منها عن دلالته الأولى بقرينة ما، و(أمر الله) في سياق هذه الآية (قيام الساعة)، وقد أتى الفعل بصيغة الماضي لتحقُّقِ وقوع الأمر وقربه...

 

إنَّ اختيار المفردات ووضعها معًا في إطار جملة واحدة يقوم بدَور كبير في تحديد دلالة السياق اللغوي، الذي ينعكس بدوره على دلالة المفردات في الجملة"[25].

 

وكأنَّ الزمن المسَيْطر على السياق هو الزمن المستقبل، فيصير البناء الروائي رجوعًا بالذاكرة لمشهدٍ قديمٍ حَدَث منذ زمن بعيد، مع أنه ما زال جنينًا في رَحِم المستقبل؛ ليتمَّ التأكيد على حدوثه، والتحقُّق من وقوعه، وإن تأخَّر به الزمن.

 

قال المرادي: "الأمور المستقبلة لَمَّا كانت في أخبار الله متيقنة مقطوع بها، عبّر عنها بلفظ الماضي"[26].

 

والزمخشري - دومًا - يلتمس الأسبابَ والعِلل لتجاوز النسق القرآني للأسلوب العادي أو المألوف، ويوضِّح قيمةَ ذلك بلاغيًّا وجماليًّا؛ لذلك يأخذ بنا الزمخشريُّ إلى قضية الترتيب في الكلام والأصل فيها، وقيمة تقديم ما حقُّه التأخير، ففي قوله - تعالى -: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 11]، و﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12]، و﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12]، و﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ﴾ [النساء: 12]

 

نلاحظ تَقدُّم الوصية على الدَّيْن في الآيتين السابقتين أربعَ مرَّات، مع أنَّ الدَّيْن مقدَّم على الوصية شرعًا بالإجماع، وما يرتبط بالشرع يتقدَّم ويعلو دائمًا في الموروث الإسلامي، وبذلك خالف خطُّ التنسيق اللفظي خطَّ التنسيق الاستحقاقي (الشرفي)، وفي ذلك يقول الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ قُدِّمت الوصية على الدَّيْن، والدَّين مقدَّم عليها في الشريعة؟ قلت: لَمَّا كانت الوصية مُشْبِهَةً للميراث في كونها مأخوذةً من غير عِوَض كان إخراجها مما يشُقُّ على الورثة، ويتعاظمُهم، ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مَظِنَّةً للتفريط بخلاف الدَّين، فإنَّ نفوسهم مطمئنةٌ إلى أدائه، فلذلك جِيء بالكلمة "أو" للتسوية بينهما في الوجوب"[27].

 

وهنا يُجلِّي الزمخشري مفهومًا دقيقًا للبلاغة من حيث هي، "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، حيث يُصبح الكلام نقطةَ الْتقاء فاعلة بين المتكلِّم والمتلقِّي، كما أنَّ فيه بيانًا بأن البلاغة تتدرَّج من الأقل إلى الأكثر، وأنها تتدرَّج من الأدْنى، وتتطوَّر إلى الأعلى.

 

ويُعلِّل الزمخشري بلاغةَ الالْتفات أو العدول من أسلوب إلى أسلوب بأنَّ فيه إيقاظًا للسامع، وتطرية له، بنقله من خطاب إلى خطاب آخر، ولكنَّ ابن الأثير يأخذ على الزمخشري أنَّ هذا التفسير يتَّسم بالتعميم، ويرى أنَّ كل موطن جاء فيه عدول إنما جاء لنوع خصوصية اقتضتْ ذلك.

 

والحق أنَّ الزمخشري لم يُهْمِل وجهة نظر ابن الأثير، بل يتَّفق معه تمامًا، فقد قال بعد الإشارة السابقة: "وقد تختصُّ مواقعه بفوائد"[28]، إذًا فقد بيَّن الزمخشري أنَّ كل موقع جاء فيه عدول يشتمل على فائدة، أو نكتة بلاغية تُستنبط عند تأمُّل السياق، والمتصفِّح للكشاف يتضح له ذلك بسهولة.

 

ثم يصل بنا الزمان إلى السكاكي (ت626هـ)، فنجده أكثرَ البلاغيين فَهْمًا واستيعابًا لهذا المبحث "المثالي والمنحرف"، حيث نظر لكلٍّ من الإيجاز والإطناب باعتبارهما أمرين نسبيين، من حيث كانَا ممثلين لعدول عن أصْل مفترض، هو "المساواة"، وهي متعارف أوساط الناس[29].

 

فقد يكون ظاهرُ الكلام مطنبًا وهو موجز بالقياس إلى كلام آخَر؛ ولذا فإنَّ تقرير مواضع الإيجاز والإطناب إنما يَرجِع إلى متعارف الأوساط؛ لأنَّ الأوساط في مُتعارفهم "لا يقدرون في تأدية المعاني على اختلاف العبارات والتصرُّف في لطائف الاعتبارات"[30].

 

من ذلك يتبيَّن لنا مدى إدراك السكاكي لطابع الانحراف، والمنحى الفني فيه في كلٍّ من الإيجاز والإطناب، وذلك في ضوْء وصْفه لهما بأنهما نسبيَّان[31].

 

كما أظهر أنَّ الكلام كلَّما فارق الأصل المثالي ازداد جمالاً بظهور التفاوت بين ذلك الأصل المثالي، وبين ما جاء عليه نَظْم القرآن، ففي قوله - تعالى -: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4] جملةُ لطائفَ لا تبرز إلا بمعرفة أصْل معنى الكلام؛ إذ "لا شُبهةَ أنَّ أصل معنى الكلام ومرتبته الأولى: يا ربي قدْ شخت، ثم تُرِكتْ هذه المرتبة لتوخِّي مزيد التقدير إلى تفصيلها في: ضَعُف بدني، وشاب رأسي، ثم تُرِكت هذه المرتبة الثانية؛ لاشتمالها على التصريف إلى ثالثة أبلغ، وهي: الكناية في: وَهَنتْ عظام بدني... ثم لقصد مرتبة رابعة، أبلغ في التقدير بنيت الكناية على المبتدأ، فحصل: إني وهنتْ عظام بدني، ثم لطلب تقرير أنَّ الواهن هي عظام بدنه، قصدت مرتبة سادسة، وهي سلوك طريق الإجمال والتفصيل، فحصل: إني وَهَن العظم مِن بدني... ثم لطلب شمول الوهن العظام فردًا فردًا، قصدت مرتبة ثامنة، وهي ترْك جمع العظم إلى الإفراد لصحة حصول وهن المجموع بالبعض دون كلِّ فردٍ فردٍ فحصل ما ترى، وهو الذي في الآية... وهكذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى أبلغ، وهي الاستعارة... ثم تُركت إلى أبلغ، وهي اشتعل رأسي شيبًا"[32].

 

ويرَى السَّكَّاكي: أنَّ العدول هنا أبلغُ مِن عدَّة جهات: إحداها: إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس؛ إذ وزان (اشتعل شيْب رأسي، واشتعل رأسي شيبًا) وزان (اشتعل النار في بيتي، واشتعل بيتي نارًا)، والفرق نيِّر، وثانيتها: الإجمال والتفصيل في طريق التمييز، وثالثتها: تنكير "شيبًا" لإفادة المبالغة، ثم ترك (اشتعل رأسي شيبًا)، ثم ترك لفظ "مني" لقرينة عطف (واشتعل الرأس) على (وهن العظم مني) لمزية مزيد التقرير، وهي إبهام حوالة تأدية مفهومه على العقْل دون اللفظ[33].

 

ويَبنِي السكاكي قوةَ التشبيه أيضًا على أساس فكرة العدول؛ حيث إنَّه قال: "والحاصل مِن مراتب التشبيه ثمانٍ، أحدها: ذكْر أركانه الأربعة... وثانيتها: ترْك المشبَّه... وثالثتها: ترْك كلمة التشبيه، كقولك: زيد أسد في الشجاعة، وفيها نوع قوَّة، ورابعتها: ترْك المشبَّه وكلمة التشبيه... وثامنتها: إفراد المشبَّه به في الذِكْر، كقولك: "أسد" في الخبر عن زيد، وهي كالسابعة"[34].

 

فقوله: "ذكر أركانه الأربعة"، ثم قوله: "ترك المشبه"، ثم قوله: "ترك كلمة التشبيه"؛ يعني بهذه الأقوال: العدول عن الذِّكْر لغرض بلاغي.

 

وتبدو براعة السكاكي في نقله لمبحث الالْتفات من " البديع " إلى المعاني؛ لاشتماله على خاصية في التركيب يُرَاعى بها مقتضى الحال، كما تتمثَّل براعته أيضًا في إدراكه لعملية العدول، وتوسيع دائراتها فيما مثَّل به من قول امرئ القيس:

 

تَطَاوَلَ ليَلُكِ بِالْإثْمِدِ
وَنَامَ الْخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ

وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ
كَلَيْلَةِ ذِي الْعَائرِ الأَرْمَدِ

وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءَنِي
وَأُنْبِئْتُهُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ[35]

 

فظاهرُ الحديث كان يقتضي البَدْءَ بلسان المتكلِّم، فالعدول هنا ليس بالنسبة لكلام سابق؛ وإنما بالنسبة للأصل الذي يجب أن يكون عليه الكلام، وبهذا يدخل التجريد في مجال الالتفات[36].

 

ولتوضيح ذلك نتأمَّل أنواع الضمائر الثلاثة في الأبيات، وهي كالآتي (مخاطب، غائب، متكلم)، تشير كلُّها إلى شخص واحد، وهو الشاعر نفسه، والضميران في البيت الأول للمخاطب، وهذا هو ما يُسمَّى في البلاغة بالتجريد: (أن يُجرِّد الشاعر من نفسه شخصًا آخر يخاطبه)، وهي طريقة مسلوكة عندَ الشعراء، ولذلك يمكن أن نعدَّها جزءًا من اللغة الشعرية[37]، فهي لا تلفت انتباهَ القارئ أو المستمع الذي تهيَّأ لقراءة هذا اللَّوْن من الشعر أو سماعه، ولكننا نَعدُّ تغيير الضمير في البيتين التاليين سِمتَين أسلوبيتين؛ لأنَّ القارئ أو المستمع للشعر لا يتوقَّع في كل تجريد أن يعقبه الْتفات، ولا في الالتفات الأول أن يعقبه التفاتٌ ثانٍ، ولذلك يمكن أن نمثِّل تركيب هذا النسق الكبير على الوجه التالي:

 

نسق - مخالفة تبتدئ نسقًا جديدًا - مخالفة.

 

ودلالة التجريد والالتفات - معًا في هذه الأبيات - على الاضطراب النفسي واضحة.

 

فليستِ العِبرة في السمة الأسلوبية بأن يكون لها اسمٌ في البلاغة، استعارة أو غيرها؛ إنَّما العِبرة بأن تفاجئ القارئ أو المستمع، ولو مفاجأة خفيفة، وأن تكون لها دلالةٌ مرتبطة بالموقف[38].

 

إنَّ الانتقال المفاجئ من ضمير إلى ضمير مغاير، يُحدِث اهتزازًا في مرجعية الضمير على المستوى السطحي للصياغة، ويُوهِم بتعدُّد الأصوات، وهنا يتمُّ إدخال المتلقي كطرَف مهمٍّ في إتمام دلالة بنية العدول، حيث يقوم بتوجيه الضمائر (والأفعال)، ويُعيدها إلى الوحدة والاستقرار في البنية العميقة، وربما اقتضتْ بنية العدول حذْفَ بعض الدوال لإبراز عُمْق النقلة الصياغية، مما يُحفِّز عنصر التخييل عندَ المتلقِّي، ويدفعه إلى محاولة إعادة الدوال المحذوفة لتكتمل الدلالة... وإذا لم يتنبه إلى هذا العدول عن مقتضى الظاهر، حَدَث خَلَلٌ لديه في مرجعية الضمير، وفقدَ تواصله مع النصّ، وقلَّ بالتالي انفعالُه به، وإدراكه لمراميه وجمالياته؛ لأنَّ بنية العدول المخالِفة لمقتضى الظاهر تُسهم في توليد ثنائية ضدية على المستوى الصياغي مِن خلال الانتقال من الغِياب إلى الحضور الخطابيّ، كذلك يُتيح العدول في الضمائر للمبدع حريةً كبيرة من إضفاء الحيوية على النص، من خلال تعدُّد زوايا الرؤية، والتحولات الدائمة من الذاتية إلى الموضوعية، والعكس[39].

 

وبذلك يتَّضح أنَّ السكاكي يميل إلى توسيع نِطاق البنية المثالية (القاعدة)، التي يمثل الالْتفات عدولاً عنها، فليستِ القاعدة عنده "ما يمثله ظاهر العبارة؛ وإنما يوسِّع دائرة النمط؛ لتشملَ هذا البُعدَ الميتافيزيقيَّ للغة، البعد المعتمد على التقدير أيضًا، إمعانًا في تسجيل الخِلاف، وتعميق فجْوة الانحراف بين المقولة النحوية، والأسلوب البليغ "[40].

 

أما ابن الأثير (ت 637هـ)، فقد تناول فكرة "العدول" من خلال حديثه عن "الالْتفات"، وهو يرى أنَّ حدَّ الالتفات هو العدول، أو "الانتقال مِن صيغة إلى صيغة، كانتقال من خطاب حاضر إلى غائب، أو مِن خطاب غائب إلى حاضر، أو مِن فعل ماضٍ إلى مستقبل، أو مِن مستقبل إلى ماضٍ، أو غير ذلك... ويُسمَّى أيضًا شجاعة العربية"[41]. ومن ثَمَّ جعله خُلاصة علم البيان.

 

وقد قسم ابنُ الأثير الالتفات إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: الانتقال مِن الغَيْبة إلى الخطاب، ومِن الخطاب إلى الغَيْبة؛ وذلك لفوائدَ متعددة، يُحدِّدها سياق الخطاب؛ ولذلك لا يمكن أن تُحدَّد فوائده بجزئية محددة بالتفنن، أو بتطرية نشاط السامع، وإيقاظه للإصغاء إليه، كما يَرَى الزمخشري[42].

 

فمن شواهد العدول مِن الغَيْبة إلى الخطاب قوله - تعالى -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 2 - 5] عدل فيها عن الغَيْبة ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، إلى الخطاب ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾؛ لأنَّ الحمد دون العبادة، ألاَ تراك تحمد نظيرَك ولا تعبده؟ فلمَّا كانت الحال كذلك، استعمل لفظ الحمد لتوسُّطه مع الغَيْبة في الخبر، فقال: الحمد لله، ولم يقلِ: الحمد لك، ولَمَّا صار إلى العبادة التي هي أقْصى الطاعات، قال: إيَّاك نعبد، فخاطب بالعبادة إصراحًا بها، وتقرُّبًا منه - عزَّ اسمه - بالانتهاء إلى محدود منها، وعلى نحو من ذلك جاء آخِر السورة، فقال: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7]، فأصرح بالخطاب لَمَّا ذَكَر النعمة، ثم قال: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7]، عطفًا على الأول؛ لأنَّ الأول موضع التقرُّب من الله بذِكْر نعمه، فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفًا عن ذكر الغاضب، فأسند النِّعمة إليه لفظًا، وزوى عنه لفظ الغضب تحنُّنًا ولطفًا[43].

 

وهذه السورة قد انتقل في أوَّلها من الغَيْبة إلى الخطاب؛ لتعظيم شأن المخاطب، ثم انتقل في آخرِها من الخطاب إلى الغَيْبة[44] لتلك العلة نفسها، وهي تعظيم شأن المخاطب أيضًا، فمخاطبة الربِّ - تبارك وتعالى - بإسناد النِّعمة إليه تعظيمٌ لخطابه، وكذلك ترْك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيمٌ لخطابه.

 

مِن هذا المثال يتضح أنَّ الهدف المعنويَّ الواحد، وهو هنا تعظيم شأن المخاطب، قد اقْتضى في مرَّةٍ العدولَ عن الغيبة إلى الخطاب، وفى مرة أخرى - في النص نفسه - العدولَ عن الخطاب إلى الغيبة، وهذا ما يُؤكِّد أنَّ المنحى الأسلوبي في ذاته لا يرتبط بقيمة ثابتة، أو بدلالة تعبيريَّة حاسمة ونهائية، تكون هي وحدَها الصادقة، وأنَّ المعول في استخدام منحى أسلوب بعينه في سياق بعينه على المعنى أو الهدف المعنوي، الذي يتَّجه إليه مُنشِئ الخِطاب، فإذا كان تعظيمُ شأن المخاطب هدفًا من أهداف منشئ الخطاب، فإنَّ تحقيق ذلك الهدف هو الذي دعاه إلى العدول عن خِطاب الغائب إلى خطاب الحاضر مَرَّة، وعن خِطاب الحاضر إلى خِطاب الغائب مرَّة أخرى[45].

 

ومن شواهد العدول عن ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب قوله - تعالى -: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ﴾ [مريم: 88 - 89].

 

وهذا الشاهد يتعلَّق أيضًا بالعدول عن ضمير الغائب إلى ضمير المخاطَب، ومع أنَّ هذا الأسلوب متحقِّق في فاتحة الكتاب كما رأيْنا، فإننا آثرنا إيرادَ هذا المثال كذلك بمغزًى خاص سيتضح في استخلاصاتنا، "وإنما قيل: ﴿ لقد جئتم ﴾ وهو خطاب للحاضر، بعد قوله: ﴿ وقالوا ﴾، وهو خِطاب للغائب؛ لفائدة حسنة، وهي زيادة التسجيل عليهم بالجراءة على الله - تعالى - والتعرُّض لسخطه، وتنبيه لهم على عِظَم ما قالوه، كأنَّه يخاطب قومًا حاضرين بين يديه مُنكرًا عليهم، وموبِّخًا لهم"[46].

 

فالانتقالُ هنا من الغَيْبة إلى الحضور كان موجهًا بهدف معنوي، لم يكن ليتحقَّق بالقوَّة نفسها إلا عن طريق هذا الانتقال (من المهم - جماليًّا - في هذا المثال ملاحظة أنَّ المخاطب ليس حاضرًا حضورًا حقيقيًّا؛ وإنما هو حاضر على "التمثيل")، وهكذا يكون الانتقال من الغَيْبة إلى الحضور مدفوعًا مرة بهدف معنوي، هو تعظيم شأن المخاطَب، كما هو الحال في المثال الأوَّل، ومرة بهدف توبيخ المخاطَب، كما هو الشأن في المثال الثاني؛ أي: إنَّ الصيغة الواحدة قد تؤدِّي وظيفتَين متضادتين في سياقَيْن مختلفين.

 

وأما العدول من الخطاب إلى الغَيْبة، كقوله - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾ [يونس: 22].

 

"إنَّما صرف الكلام ها هنا من الخطاب إلى الغَيْبة لفائدة، وهي أنه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبَهم منها كالمخبر لهم، ويستدعي منهم الإنكارَ عليهم"[47]، ولو قال: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بها)، وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية، لذهبتْ تلك الفائدة التي أنتجَها خِطاب الغيبة، وليس ذلك بخافٍ على نَقَدةِ الكلام "[48].

 

يجب أن نلاحِظ أنَّ الكلام في مستهلِّ النص موجَّه إلى المخاطَبين الحاضرين (حضورًا فعليًّا أو مفترضًا، فلا أهمية لهذا الآن)، ثُم إذا به فجأة ينحرِف عن هذا النسق ليدخل في نسق الرواية عن الغائبين (هم - فرحوا - جاءهم - وظنُّوا - أنهم - بهم - دعوا)، ولو أنَّ النسق الأول اطَّرد، لجرى الخطاب كلُّه على النحو التالي: هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة، وفرحتم بها جاءتها ريح عاصف، وجاءكم الموج من كل مكان، وظننتم أنكم أحيط بكم دعوتم الله... لكن الخطاب لم يطَّرد على هذا النحو، بل ما لَبِث أنِ انحرف من حالة الحضور إلى حالة الغَيبة.

 

والسبب في هذا الانحراف - كما يرصده ضياءُ الدِّين - هو افتراض أنَّ هناك آخرين - غير المخاطَبين في مستهل النص - يصور لهم المشهد، وليسوا هم المعنيِّين به، فاقتضى الأمر عندئذٍ الدخولَ في نسق الغَيْبة، كما تُحكَى لمستمعين - حاضرين أو متوهمين - تفصيلاتُ حادثٍ قد وقع لشخصٍ ما، أو لأشخاص بأعيانهم، فتُثير عندئذٍ فيهم الدهشة لِمَا حدث، وتمهدهم بذلك لاستنباط العِبرة أو المغزى الأخير للرواية كلها، والمغزى أو المقصد المعنوي الذي تهدف الروايةُ إليه هنا هو استنكارُ أن يقع من هؤلاء المُرْوِيِّ عنهم ما وقع.

 

والحقيقة: أنَّ المخاطَبين في صدر النص قد انقلبوا إلى الغائبين، فأحدث هذا الانقلاب مسافةً يتأملون فيها أنفسهم، وما وقع منهم كأنَّهم آخرون، وعندئذٍ يكونون أقدرَ على الشهادة على أنفسهم، فالمتورِّط في الخطيئة لن يعيَ موقفه وعيًا صحيحًا إلا إذا سلخ نفسه من نفسه، وتأملها من بُعْدٍ مناسبٍ؛ أي: جعلها موضوعًا للنظر، وهذا ما حقَّقه الرجوع من الخطاب إلى الغَيْبة في هذا المثال، أو ما "أنتجه" - بلفظ ضياء الدين - من دلالة[49].

 

القسم الثاني: هو العدول عن الفِعْل المستقبل إلى فِعْل الأمر، وعن الفِعْل الماضي إلى فِعْل الأمر:

"وليس الانتقال فيه مِن صيغة إلى صيغة طلبًا للتوسُّع في أساليب الكلام فقط... وإنَّما يقصد إليه تعظيمًا لحال من أُجْرِيَ عليه الفعلُ المستقبلُ، وتفخيمًا لأمره، وبالضد من ذلك فيمن أُجْرِيَ عليه فعل الأمر"[50].

 

فمن شواهد العدول عن الفعْل المستقبل إلى فعْل الأمر قوله - تعالى -: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [هود: 53 - 54].

 

تتحرَّك الآية الكريمة في سِياق الزمن الحاضر، أو ما يُعرف بـ "حاضر السرد"؛ لأنَّها واردةٌ في سياق حكاية قصَّة نبي الله هود - عليه السلام - مع قومه، ويهيمن على الصياغة طرفان متباعدان: هود - عليه السلام - في معية الله تعالى، وقوم هود وآلهتهم المزعومة، وقد بدأتِ الصياغة باستخدام صيغة المضارع (أُشهِد) حين ذكر لفظ الجلالة (الله)، لإفادة أنَّ إشهاد الله على البراءة من الشِّرْك صحيحٌ ثابت، ووسيلة لتثبيت دعائم اليقين، وشدِّ معاقِد التوحيد.

 

ثم تتباعد المواقِفُ بين الطرفَيْن، وتتسع الهوة بينهما، فيكون الانتقال إلى صيغة الأمر (واشهدوا)، التي تستلزم طرفين: آمِر مطاع، مهيب مفخم (هود - عليه السلام -)، ومأمور ضعيف مهين (قوم هود)، فالانتقال إلى صيغة الأمر أفاد حدوثَ الجفاء التام، والتهاون بدِينهم وآلهتهم المزعومة، والتهكُّم بحالهم، ومعتقداتهم الباطلة.

 

وقد جسَّد "الأسلوب العدولي" بصياغته المخالفة لمقْتضى الظاهر مواقفَ الطرفين المتباعدين، عن طريق ذكر صيغة المضارع التي توضح تشريف الطرف الأول وقوته وعظمته - وهو هود - عليه السلام - ثم العدول عنها إلى صيغة الأمر الدالَّة على حقارة شأن الطرف الثاني - وهم قومه - وبُطلان موقفهم الذليل.

 

قال ابن الأثير: "فإنَّما قال: ﴿ أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا ﴾، ولم يقل: "وأشهدكم"، ليكون موازنًا له وبمعناه؛ لأنَّ إشهادَه اللهَ على البراءة من الشِّرك صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم، ودلالة على قلَّة المبالاة بأمرهم؛ ولذلك عدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجِيء به على لفظ الأمر، كما يقول الرجل لِمَن يبس الثرى بينه وبينه: "اشهدْ على أني أحبك"، تهكمًا به، واستهانةً بحاله"[51].

 

إذًا فاطِّراد النسق هنا - لو تحقَّق - يكفل التوازن بين الفِعلين، ويوحِّد المعنى فيهما، لكن اطراد النسق عندئذٍ يضعهم - في حق الشهادة - على مستوى واحد مع مَن له الشهادة - جلَّ شأنه - ولا يمكن لإنسان - فضلاً عن نبيٍّ - أن يوحد بين شهادة خالقه عليه وشهادة البشر، خصوصًا إذا كان منكرًا لهم أصلاً، فهنا شهادتان، لا شهادة واحدة، وسلكهما في نسق واحد - وإن كان هو النسق اللغوي الأصلي - من شأنه أن يذهب بالتفرِقة الحاسمة بينهما.

 

نحن في هذا النص أمام "إشهاد" "أُشْهِد الله"، و"شهادة"، "اشهدوا"، ولا يملك الإنسان/ النبي إلاَّ أن يُشهد اللهَ - تعالى - على ما في نفسه، أن يكشف له نفسه على حقيقتها، لكنَّه لا يملك أن يأمره سبحانه، أما بالنسبة إلى البشر، فإنه يأمرهم بأن يشهدوا بأنفسهم ما يكون منه؛ لأنَّه لا يجد نفسه أمامهم مطالبًا بأن يشهدهم على ما في نفسه، خصوصًا إذا كان منكرًا لهم، ورافضًا لمعتقدهم، ومستهينًا بهم[52].

 

ومثال العدول عن الفعْل الماضي إلى فعْل الأمر، يقول ابن الأثير: "... وإنما يُفعل ذلك توكيدًا لِمَا أُجْري عليه فعل الأمر، لمكان العناية بتحقيقه، كقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [الأعراف: 29].

 

وكان تقدير الكلام: أَمَر ربي بالقسط، وبإقامة وجوهكم عندَ كل مسجد، فعدَل عن ذلك إلى فِعْل الأمر؛ للعناية بتوكيده في نفوسهم، فإنَّ الصلاة من أوْكد فرائض الله على عباده، ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عملُ القلب؛ إذ عملُ الجوارح لا يصحُّ إلا بإخلاص النية.

 

رأيْنا من قبلُ أنَّ الانتقال من الغَيْبة إلى الحضور يكون مرَّة تعظيمًا لشأن المخاطب، ومرَّة أخرى تحقيرًا لشأنه؛ أي: إنَّ الصيغة الواحدة قد تؤدِّي وظيفتين متضادتين في سياقين مختلفين، وكذلك الأمر هنا في العدول عن نسق الأفعال المطَّرد، حيث يكون الانتقال إلى فعْل الأمر دالاًّ على الاستهانة والاستخفاف بالمخاطَب في مرة، ودالاًّ على العناية والاهتمام به - كما في هذا المثال الأخير - في مرَّة أخرى.

 

القسم الثالث: الإخبار عن الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي، فمثال العدول عن الماضي إلى المستقبل قوله - تعالى -: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحج: 63].

 

ألاَ ترى كيف عدل عن اللفظ الماضي ﴿ أنزل ﴾ ها هنا، إلى المستقبل ﴿ فتصبح الأرض مخضرة ﴾، ولم يقل: "فأصبحت" عطفًا على "أنزل"؛ وذلك لفائدة بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجودُه، واخضرار الأرض باقٍ لم يمض..."[53]، واستمرار الأرض خضراء يشيع البهجة، ويطمئن الناس على دوام أرزاقهم.

 

ورأى السكاكي: أنَّ العدول في هذه الصورة - من الماضي إلى المضارع - يصير أصلاً بلاغيًّا ثابتًا، إذا اقتضى السياق اللجوءَ إليه، فقال: "وإنه - أي: الانتقال من التعبير بالماضي إلى المضارع - طريقٌ للبلغاء لا يعدلون عنه، إذا اقتضى المقام سلوكَه"[54].

 

وأطلق عليها (فندريس) مصطلح "المضارع التاريخي"، وقال: "الماضي يمكن أن يُعبَّر عنه بالحاضر، وهو استعمالٌ شائع في الحكاية"[55].

 

إنَّ صيغة الماضي تخيِّل للسامع صورة حَدَث وقع في لحظة من الزمان وانقطع، وعندئذٍ لا يكون هناك ما يحمله على أن ينهمك فيه؛ لأنَّه انتهى، لكن الانتقال إلى صيغة الفعْل المستقبل تخلق وضعًا جديدًا، إذ "تخيل للسامع أنه مباشر للفعل"[56] - على حدِّ قول ضياء الدين - وكأنَّ الفعل يقع أمامَ ناظرَيْه في حالة حضور.

 

"فالإخبار البلاغي" عن الماضي بالمستقبل يؤدِّي إذًا وظيفةً، ما كان اطراد النسق الماضي ليؤديَها، وتتمثَّل هذه الوظيفة في العدول بالخطاب من مجرَّد الإعلام بالحدث إلى حكاية الحَدَث نفسه؛ أي: تمثيله في صورة حيَّة (وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من السَّرْد الملحمي إلى التجسيد الدرامي)، فالإخبار عن الحَدَث الماضي بفعلٍ مستقبل من شأنه استحضارُ صورة هذا الحدث أمامَ مخيلة المتلقي؛ ليعايشَها بنفسه، فيكون إحساسه بها وتفاعله معها أقوى وأوثق[57].

 

ومن شواهد العدول عن صيغة المضارع إلى صيغة الماضي قوله - تعالى -: ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النمل: 87].

 

يقول ابن الأثير: "إنما قال: ﴿ فَفَزِعَ ﴾ بلفظ الماضي بعدَ قوله: ﴿ يُنْفَخُ ﴾ - وهو مستقبل - للإشعار بتحقيق الفَزَع، وأنه كائن لا محالة؛ لأنَّ الفعل الماضي يدلُّ على وجود الفعل، وكونه مقطوعًا به"[58].

 

هكذا يعمل "الأسلوب العدولي" هذه البلاغاتِ بما يحدث من انحراف في الزمن، فترى المستقبل حاضرًا، ومنحلاًّ في الماضي، كما ترى الماضيَ حالاَّ في الحاضر، ممتدًّا في المستقبل.

 

وبعد، فقد بيَّنَّا جهدَ ابنِ الأثير وتطويره لمصطلح "الالتفات/ العدول" إذ نقل المصطلح إلى مجال أوسعَ من سابقيه، فأحدث بذلك تآلفًا تامًّا بين ثنائية التخير والتركيب، أو المستوى الأفقي والمستوى الرأسي، كما أنه كَشَف عن علاقة العدول بالإيجاز؛ لأنَّ ترابط الأساليب وتلاحقَها، وبحث العلاقة فيما بينها ممَّا يُدلِّل على أنَّ اللغة الأدبية كانت تعتمد على الإيجاز لاستيفاء المعنى، وإشراك المتلقي.

 

وممَّن تَبِع مذهب ابن الأثير في توسيع دائرة العدول ليشمل أنماطًا شتَّى الطوفي[59] والتنوخي[60] وابن النقيب[61] ونجم الدين ابن الأثير[62] والعلوي[63] والسبكي[64] والسيوطي[65].

 

وبهذا يتَّضح لنا: أنَّ البلاغيِّين لا يعتدُّون - غالبًا - من حيث القيمة الجمالية إلا بما يُمثِّل عدولاً عن أصل معنى الكلام؛ بل يمكن أن نخلص إلى أنَّ البحث البلاغي عند العرب يتركز على مقولتين، هُمَا: الأصل المألوف، ثم العدول عنه، مع بيان مراتب العدول وآثارها الجمالية، التي تتصل بالمعنى وتلونه، وتصله بحالة المخاطَب في غالب الأحيان، وبحالة المتكلِّم في القليل منها"[66].

 

كذلك ترى أنَّ كُلاًّ من اللُّغويِّين والنُّحاة والبلاغيِّين قد الْتقَوْا جميعًا حول تصوُّر مشترك لقضية "العدول"، ولم يكن هذا التصور قائمًا على مفهوم اللفظ دون المعنى؛ إذ "العدول" لا يتمُّ إلا لأداء معنى جديد، بل أوغل عبدالقاهر في بيان درجة هذا المعنى، وجعله "معنى المعنى" متساوقًا مع تقسيم الفارابي للغة الخِطاب، فكان معنى المعنى الذي يحدث بفاعلية "العدول" هو فحوى شعرية اللغة عند الفارابي[67].

 

إنَّ ثُنائية اللغة والخِطاب الأدبي في الفكر البلاغي كانتْ تعبيرًا عن تطوُّر الوعي الجمالي، ومقياسًا لمقدار العدول، ومِن ثَمَّ مدى التأثير في المتلقِّي، فمبحث العدول كان تعميقًا لفلسفة التأمل، وتأسيسًا لاستبطان النص وتأويل محاسنه[68].

 

في ضوْء هذا المنظور كان تعريف الأسلوب العدولي بأنه: "انحراف عن قاعدةٍ ما"، أو بأنه: "لحن مبرَّر"، أو هو: "انحراف عن نموذج آخرَ من القول، ينظر إليه على أنه نمط معياري"، أو هو: "مجموع المفارقات التي نلاحظها بين نظام التركيب اللُّغوي للخطاب الأدبي، وغيره من الأنظمة"[69]؛ أي: إنَّ الأسلوب العدولي يُعدُّ لونًا من ألوان الاجتراء على نظام تلك اللغة، بالانحراف عن أنماطها، والانتهاك المطَّرد لتقاليدها وأعرافها، وخروجًا متعمَّدًا على تلك الأعراف، فيتولَّد بواسطة هذا الإجراء من طاقات التعبير والإيحاء ما تَعجِز به اللُّغة في مستواها النمطيِّ السائد عن تحقيقه.

 

وعلى ذلك، فإنَّ "الشجاعة" في هذا المصطلح لا تَعني شجاعة اللغة العربية بالعدول؛ بل شجاعة العدول في تلك اللغة.



[1] هكذا سماه ابن وهب في البرهان (ص: 122). تح/ حفني شرف.

[2] هكذا سماه ابن منقذ "البديع في نقد الشعر" (ص: 200)، وكذلك سماه ابن شيث "معالم الكتابة" (ص: 76).

[3] "حلية المحاضرة" (1/157)، و"العمدة" (2/46).

[4] راجع "معجم المصطلحات البلاغية وتطورها" (ص: 173، 196، 483).

[5] سماه بذلك السيوطي في "شرح عقود الجمان" (ص: 27).

[6] هكذا سماه ابن الصائغ في "إحكام الراي في أحكام الآي"، ونقل عنه التسمية السيوطي في "الإتقان" (3/ 345)، و"معترك الأقران" (1/49).

[7] هكذا سماه الفيروزآبادي في أثناء حديثه عن أصناف الخطابات والجوابات في القرآن، وجعل منه ثلاثة وجوه؛ انظر: "بصائر ذوي التمييز" (1/ 109، وما بعدها).

[8] "أسرار البلاغة" (365) (تح/ ريتر).

[9] "دلائل الإعجاز" (ص: 286، 287) (تح/ شاكر).

[10] فندريس، "اللغة" (ص: 188)، وينظر: "اللغة والإبداع الأدبي" (ص: 20).

[11] "دلائل الإعجاز" (ص: 263، 264)، تح/ شاكر، وينظر: "من قضايا النقد والبلاغة" (ص: 146).

[12] "منهاج البلغاء" (ص: 18، 19).

[13] "دلائل الإعجاز" (ص: 265"، وقارن ذلك بما جاء في "الخصائص" (2/466، وما بعدها).

[14] كتاب "المقتصد في شرح "الإيضاح"؛ عبدالقاهر الجرجاني، تح/ كاظم المرجان، بغداد، دار الرشيد. 1982م.

[15] "أسرار البلاغة" (343).

[16] المرجع السابق ص 100 - 102، وانظر: "قضايا النقد الأدبي" (ص 317 - 319).

[17] "البرهان في وجوه البيان" (ص: 142).

[18] "الوساطة" (ص: 428).

[19] "بلاغة العطف في القرآن الكريم (ص: 151) (بتصرف).

[20] من هؤلاء النقاد د/ صلاح فضل في كتابيه "علم الأسلوب" (ص: 236، وما بعدها)، و "بلاغة الخطاب وعلم النص" (ص: 54 - 69)، و د/ شكري عياد في كتبه "مدخل إلى علم الأسلوب"، و"اتجاهات البحث الأسلوبي"، و"اللغة والإبداع" مبادئ علم الأسلوب العربي"، و د/ محمد عبدالمطلب في كتابيه "البلاغة والأسلوبية" (ص: 150 - 255)، و"قضايا الحداثة عند عبدالقاهر" (ص: 74، 11)، ود/ موسى ربابعة في كتابه "جماليات الأسلوب والتلقي" (ص: 47، وما بعدها)، و د/ شفيع السيد في كتابه "الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي" (ص: 95 - 98، 138 - 142)، ويُنظر: "الانزياح في منظور الدراسات الأسلوبية" (ص: 42، 43).

[21] "جماليات الأسلوب والتلقِّي" (ص: 50، 51).

[22] "دفاع عن البلاغة" (ص: 83).

[23] "الكشاف" (3/301، 302).

[24] "الكشاف" (3/400).

[25] انظر: "النحو والدلالة" (ص: 116).

[26] المرادي: "الجني الداني في حروف المعاني" (ص: 212)، تحقيق طه محسن ، دار الكتاب، الموصل، العرا، سنة 1976.

[27] "الكشاف" (1/508، 509)، وانظر مواضع أخري (1/174، 202، 351، 2/160، 221، 341،423، 449، 3/110، 301، 322، 385، 4/87، 86).

[28] "الكشاف" (1/65).

[29] "مفتاح العلوم" (ص: 133).

[30] السعد - ضمن شروح التلخيص - (3/168، 169)، وراجع: "نظرية اللغة في النقد العربي" (ص: 229، 230).

[31] "نظرية اللغة في النقد العربي" (ص: 230).

[32] "مفتاح العلوم" (ص: 137، 138).

[33] نفسه (ص: 138).

[34] "مفتاح العلوم" (168).

[35] "مفتاح العلوم" (ص: 96، 97)، وانظر: "ديوان امرئ القيس" (ص: 185)، تح/ محمد أبو الفضل.

[36] "بين البلاغة والأسلوبية" (ص: 232).

[37] يرى موكاروفسكي: أنَّ اللغة الشعرية تمتاز عن اللغة العربية بـ"انحرافها عن قانون اللغة المعيارية وخرقها له، فضلاً عما تمتاز به من معجم خاص، وصيغ نحوية سمَّاها الضرائر الشعرية poetisms "، انظر: مجلة فصول "اللغة المعيارية واللغة الشعرية"، تر: ألفت كمال الروبي، مج 5 ع1 /1985م. (ص 41).

[38] "اللغة والإبداع" (ص: 96).

[39] "تحولات البنية في البلاغة العربية" (ص: 317، 318) (بتصرف) .

[40] د/ عبدالحكيم راضي: "نظرية اللغة في النقد العربي" (ص: 250).

[41] "المثل السائر" (2/167، 168)، وانظر: "الطراز" (2/131، وما بعدها)، وقد سبق أن أشرْنا إلى أن ابن جنِّي له فضل السبق في هذه التسمية، راجع ص: 40 من هذا البحث.

[42] "المثل السائر" (2/168)، لم يحدد الزمخشري فائدةَ الالتفات في جزئية محددة كما زعم ابن الأثير، وإنما أطلق فوائدَ الالتفات، حيث قال: "وقد تختص مواقفه بفوائد"، راجع "الكشاف" (1/64).

[43] "المثل السائر" (2/170)، و"مفتاح العلوم" (ص: 96).

[44] اعترض السبكي على هذا الالتفات بأنه ليس في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} ضمير غيبة، حيث قال: "الفاعل في {المغضوب} لم يُذكر بالكلية، فكيف يقال: انتقلْنا إليه على سبيل الالتفات؟"؛ "عروس الأفراح" (1/478).

[45] "جماليات الالتفات" (ص: 892)، د/ عز الدين إسماعيل ضمن "قراءة جديدة لتراثنا النقدي" المجلد الآخر، النادي الأدبي الثقافي بجدة، 1988.

[46] "المثل السائر" (2/171).

[47] "المثل السائر" (2/178).

[48] نفسه (2/178).

[49] "جماليات الالتفات" (ص: 898)، يراجع: "المثل السائر" (2/178).

[50] "المثل السائر" (2/179).

[51] "المثل السائر" (2/179، 180)، و"الكشاف" (2/276).

[52] "جماليات الالتفات" (ص: 899، 900).

[53] "المثل السائر" (2/184، 185).

[54] السكاكي: "مفتاح العلوم" (ص: 139).

[55] ج. فندريس: "اللغة"، ترجمة عبدالحميد الدواخلي، ومحمد القصاص، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، سنة 1950، (ص: 138).

[56] "المثل السائر" (2/183).

[57] "جماليات الالتفات" (ص: 902).

[58] "المثل السائر" (2/185).

[59] "الإكسير في علم التفسير" (ص: 140).

[60] "الأقصى القريب" (ص: 45، 46).

[61] "مقدمة تفسير ابن النقيب" (ص: 202 - 213).

[62] "جوهر الكنز" (ص: 119 - 125).

[63] "الطراز" (2/131، وما بعدها ).

[64] "عروس الأفراح" (1/491 - 493).

[65] "الإتقان في علوم القرآن" (3/258، وشرح عقود الجمان (ص: 30).

[66] "البلاغة والأسلوبية" (ص: 270).

[67] "العدول" (ص: 20).

[68] "فلسفة الجمال في البلاغة العربية" (ص: 256).

[69] انظر في هذه التعريفات وغيرها: "الأسلوبية والأسلوب" (ص: 27)، "علم الأسلوب" (ص: 179)، "دليل الدراسات الأسلوبية" (ص: 37)، "بناء لغة الشعر" (ص: 24 - 25).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • استثمار الأسلوب العدولي (1/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (2/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (4/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (5/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (6/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (7 /11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (9/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (10 /11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (11/ 11)

مختارات من الشبكة

  • استثمار الأسلوب العدولي (8/ 11)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • أفضل أنواع الاستثمار(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الأسلوب الأدبي والأسلوب العلمي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • جمال الأسلوب(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • أثر القدوة وأهميتها في الدعوة إلى الله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفعيل أساليب الإشراف التربوي(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • بحوث في السيرة النبوية (5)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الأسلوب القصصي الدعوي في القرآن(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أساليب إنشائية في الحديث الشريف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أسلوب القاص محمود طاهر لاشين(مقالة - حضارة الكلمة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 15/11/1446هـ - الساعة: 15:5
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب