• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

(حَيْصَ بَيْص) حامل لواء التجديد في شعر القرن السادس الهجري

رجب عبدالوهاب


تاريخ الإضافة: 17/8/2008 ميلادي - 14/8/1429 هجري

الزيارات: 34868

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر
رسم ابنُ قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) ما يمكن تسميتُه بملامح البناء الفني للقصيدة العربية القديمة، فقرر أن القصيدة تبدأ بمقدمة تشمل ذكر الأطلال ومخاطبتها ليجعل الشاعر من ذلك سببًا لذكر أهلها الظاعنين عنها؛ ثم الغزل لاستمالة القلوب نحوه واستدعاء الأسماع إليه، ثم وصف الرحلة وما تجشمه الشاعر من النصَب والسهر وهول الليل وهجير النهار وإنضاء الركائب ليوجب على ممدوحه حق القصد والرجاء وذمامة التأميل، فيهز أريحيته السمحة، ويبعثه على المكافأة والعطاء[1].

وهذا النموذج الذي قدمه ابنُ قتيبة لبناء القصيدة العربية "يعبر عن ثبات البنية مع اختلاف العصور الأدبية، كما يؤكد نمطية للقصيدة الجاهلية ينبغي أن يلتزم المتأخرون بها ولا يتجاوزون حدودها[2]، وكأنما تحوَّل الشعر القديم بالقياس إلى العباسيين - وغيرهم من الشعراء الذين تلوا العصر الجاهلي - إلى ما يشبه الأم الغاذية، فكل شاعر يتغذى منه غذاءً يختلف سعة وعمقًا"[3].

على أن هذه التقاليد التي ذكرها ابنُ قتيبة وجدت من الشعراء من حاول الخروج عليها في العصر العباسي الأول، على نحو ما كان من بشار بن برد ومسلم بن الوليد، أو على نحو ما تجلى لدى أبي نواس زعيم المجددين في العصر العباسي الذي حاول أن يصوغ لتجديده إطارًا يكون أساسه الصدق الفني والنفسي، والتعلق بمظاهر الحياة الجديدة والشغف بحياة اللهو واللذة[4]، فقدم لنهجه التجديدي صياغة - إذا جاز القول - نقدية عبر إبداعه، فنادى بترك الطلول وتغيير ذلك إلى تقاليد فنية تتناسب والعصر الذي عاش فيه، على نحو ما عبَّر عن ذلك في قوله[5]:
صِفَةُ الطُّلُولِ  بَلاغَةُ  الْقُدْمِ        فَاجْعَلْ صِفَاتِكَ لابْنَةِ الْكَرْمِ
وأتبع ذلك في نفس القصيدة بقوله[6]:
فَعَلامَ   تَذْهَلُ   عَنْ    مُشَعْشَعَةٍ        وَتَهِيمُ  فِي   طَلَلٍ   وَفِي   رَسْمِ
تَصِفُ الطُّلُولَ عَلَى السَّمَاعِ بِهَا        أَفَذُو  الْعِيَانِ  كَأَنْتَ  فِي  الْعِلْمِ

وكأن أبا نواس يدعو إلى ترك التقاليد الفنية التي شاعت في القصيدة منذ العصر الجاهلي، لا سيما تلك المقدمة التي تتحدث عن الطلل، ويقدم للشاعر بديلاً يتناسب وما وصلت إليه الحياة العربية في العصر العباسي الأول من حضارة وتمدن، إنها الخمر التي تغنى بها كثيرًا في شعره.

وبرغم أن دعوة أبي نواس هذه لم تنجح ولم تكوّن مذهبًا؛ لأن أبا نواس نفسه اضطر إلى أن يخضع للتقاليد الشعرية المتوارثة في المدائح لكي يصل إلى رفد ممدوحيه[7]، إلا أنها كانت نواة لتأسيس مذهب جديد يختلف عما عهده الشعرُ العربي منذ العصر الجاهلي، فوجدت صداها في إبداع غيره من الشعراء التالين له، ومنهم أبو تمام الذي كان شعره - على حد تعبير الآمدي - "لا يشبه شعر الأوائل" في مقابل شعر البحتري الذي أتى على مذهب الأوائل، "وما فارق عمود الشعر"[8]، فمثَّل بذلك أبو تمام قمةً من قمم التجديد في الشعر العربي.

ويعد الشاعر الأمير أبو الفوارس شهاب الدين "حيص بيص"[9] سعد بن محمد بن سعد الصيفي التميمي البغدادي، المتوفى ليلة الأربعاء سادس شهر شعبان سنة 574هـ، امتدادًا لمدرسة التجديد في البناء الفني للقصيدة العربية، بل هو نسيجُ وَحْدِه بين الشعراء المجددين والمقلدين، خاصة فيما يتصل بمقدمة القصيدة، إذ هو أكثرهم - فيما يخص مقدمات قصائده - ابتعادًا عن التقليد، والمتفحص لديوانه قلما يعثر على قصيدة يتغزل في مطلعها أو يقف بالطلل، أو يبكي الشباب أو يصف الطبيعة، ومع ذلك أيضًا لا يصف الخمر ولا ينتشي بشربها، ولعل ذلك ما جعل العماد الأصفهاني في خريدته يصدر به تراجمه لشعراء العراق، ويذكر أنه أفضلهم، ويورد كثيرًا من شعره.

إن أغلب مقدمات قصائد حيص بيص يتحدث فيها عن سيفه وجواده وخبرته في الحروب، ويفخر فيها بنفسه وبشجاعته وبطولاته، رافضًا الوقوف على الأطلال، والتغزل في المحبوبة، والشوق إليها، ووصف الخمر والطبيعة، وما ذلك إلا لأنه يرى أن العلا في ركوب الفرس وامتشاق السيف لنجدة من يحتاجه، وهو شيء جديد تلذ به نفسه، فيعلن ذلك صراحة في مقدمة قصيدة يمدح بها شرف الدين علي بن طراد الزينبي نقيب الطالبيين، فيقول[10]:
قَرِّبَا  مِنْي   حُسَامِي   وَجَوَادِي        وَانْظُرَا صِدْقَ ضِرَابِي  وَطِرَادِي
وَدَعَانِي  مِنْ  أَحَادِيثِ   الْهَوَى        فَالْعُلا    بَيْنَ    عِنَانٍ     وَنِجَادِ
إِنْ بَرَى  جِسْمِي  سِقَامٌ  عَارِقٌ        فَبِحُبِّ الْمَجْدِ  لا  حُبِّ  سُعَادِ
لَقَحَتْ   حَرْبُ    بَنِي    فَاعِلَةٍ        جَهِلُوا حَقِّي، وَلَمْ يَرْعَوا وِدَادِي
فَظُبَا   الْبِيضِ   وَأَطْرَافُ    الْقَنَا        طَالِبَاتُ  الثَّأْرِ  مِنْ  نَحْرٍ   وِهَادِ
وَعَلَى    الْحَيِّ    دُيُونٌ    جَمَّةٌ        مِنْ سَفَاهٍ  وَاعْتِرَاضٍ  وَاضْطِهَادِ
لقد تيقن الشاعر الذي يفوح شعره بتفرده بين أقرانه، وينبئ عن نفس عربية أصيلة تتحلى بالشجاعة، وإغاثة اللهفان، ورفض التزلف، تلك العربية التي أكد كثيرًا انتسابه إليها أنه لا طائل من الغزل في المحبوبة أو الوقوف على أطلالها، ففي غزل العلياء التي يطلبها شفاء للمُغرم المتيم، وهو مذهب يتلاءم وشراسته التي عرف بها، ومن ثم لا نعجب منه إذا افتتح إحدى مقدمات قصائده في مدح قرواش بن مسلم بن قرواش العقيلي[11] بقوله[12]:
أَقِمْ يَا حُسَامِي فِي صِوَانِكِ  وَاهْجُمِ        شَرِبْتُ  دَمًا  إِنْ  لَمْ   أُرَوِّكَ   بِالدَّمِ
أَلا   إِنَّ   وَجْدِي   بِالْمَعَالِي   مُبَرِّحٌ        وَأَبْرَحُ مِنْ وَجْدِي بِهَا وَجْدُ مِخْذَمِي
طَوَيْتُ لَهَا  خَمْسًا  وَعِشْرِينَ  حِجَّةً        وَوَاحِدَةً    طَيَّ    الرِّدَاءِ    الْمُسَهَّمِ
أَذُودُ الصَّبَا عَنْ  مَطْمَحٍ  غَيْرِ  مَاجِدٍ        وَأَنْهَى الْهَوَى عَنْ مَوْقِفٍ غَيْرِ  مُكْرَمِ
يَقُولُونَ   جَانَبْتَ    النَّسِيبَ    وَإِنَّمَا        نَسِيبِيَ    ذِكْرى    غَارَةٍ     وَتَقَحُّمِ
وِفَي   غَزَلِ   الْعَلْيَاءِ   لَوْ    تَعْلَمُونَهُ        شِفَاءُ     غَرَامٍ      وَادِّكَارُ      مُتَيَّمٍ
وكأن الشاعر هنا يريد أن يخطط طريقة جديدة بدلاً من النظام الذي رسخ في القصيدة العربية منذ العصر الجاهلي وأكده النقاد، وهو النسيب بما يحمله من عطف القلوب، واستدعاء القبول بحسب ما في الطباع من حب الغزل، والميل إلى اللهو والنساء[13]، بنظام جديد هو ذكر الغارات والحروب والتغني بالسيوف والرماح، وحينها لن يعاني الشاعر - في مطلع قصيدته - وجد امرأة، بل سيعاني وجده بالمعالي، وربما تعاون معه في هذا الوجد سيفه، ويكون تغزلهما ذا سبب حين نعلم أن في غزل العلياء الشفاء.

ومما يأتي في هذا الإطار عنده قصيدة مدح بها الوزير أنوشروان بن خالد، فافتخر في مقدمتها بنفسه، وبكثير من الصفات التي يتحلى بها[14]:
لقَدْ   عَلِمَتْ   زَوْرَاءُ   دِجْلَةَ   أَنَّنِي        وَقُورٌ  إِذَا   خَفَّتْ   حُلُومُ   الْعَشَائِرِ
وَأَنِّي    قَتُولٌ    بِالأَنَاةِ    إِذَا    نَبَتْ        صُدُورُ  الْعَوَالِي   وَالسُّيُوفِ   الْبَوَاتِرِ
وَأَنِّي   غَفُورٌ   لِلسَّفِيهِ   وَآخِذُ   النَّ        بِيهِ     وَمَنَّاعُ     النَّزِيلِ     الْمُجَاوِرِ
أُعِيرُ   الْجَهُولَ   الْغِرَّ   لِيْنَةَ    رَاحِمٍ        وَأَضْرِبُ فِي  رَأْسِ  الْكمِيِّ  الْمُغَامِرِ
وَأَصْدِفُ  عَنْ  هَزْلِ  الْمَقَالِ   تَرَفُّعًا        بِمَجْدِيَ  عَنْ  مُؤْذٍ   لِجَدِّيَ   ضَائِرِ
وَكَمْ مِنْ سَفَيهِ الرَّأْيِ وَالْقَوْلِ أَجْلَبَتْ        فَوَاحِشُهُ   إجْلابَ   هَوْجَاءَ    دَاعِرِ
يَقُولُ  لِيَ   الْفَحْشَاءَ   كَيْمَا   أُجِيبَهُ        فَيَغْدُو  بِقَوْلِيَ   فِي   عِدَادِ   النَّظَائِرِ
كَرَرْتُ  عَلَيْهِ  الْحِلْمَ  حَتَّى   تَبَدَّلَتْ        جَرَائِمُهُ    مِنْ    خَجْلَةٍ     بِالْمَعَاذِرِ
وَحَاجَةِ  مَصْدُورٍ  سَهِرْتُ  لِنُجْحِهَا        وَقَدْ  نَامَ  عَنْهَا   رَبُّهَا   غَيْرَ   سَاهِرِ
قَطَعْتُ   لَهَا   لَيْلِي   سُرًى   وَرَوِيَّةً        فَجَاءَتْ  ومَا  نَمَّ  الصَّبَاحُ   بِجَاشِرِ
فصفات الحيص بيص كما تتجلى في هذه الأبيات هي: رجاحة العقل، والتأني، وسعة الصدر، والشجاعة، والانصراف عن سفيه القول، كما يبدو عريق الأصل، يتحلى بالحلم، ويغيث اللهفان ويسهر على حاجته ولا يدعه حتى يقضيها له، وهي صفات لا تبعد عما ألبسه شعراء العصر لممدوحيهم.

والأبيات السابقة صدّر بها الشهاب قصيدة يمدح بها الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد، وهو يومئذ وزير السلطان محمود بن ملكشاه، وقد نقل العماد بعضًا منها[15]، وإذا وضع في الاعتبار أن عدد أبياتها واحد وستون بيتًا شغلت المقدمة منها أربعة وثلاثين على هذا النحو من الفخر بالنفس والاعتزاز بها، وإبراز الشجاعة، وعلو الهمة؛ أمكن تصورُ أن الشاعر كان يتخذ من أسلوبه هذا نهجًا فنيًا في شعره.

لقد كان حيص بيص شاعرًا فاضلاً مدح الخلفاء والسلاطين والأمراء والوزراء والأكابر، ومع ذلك تجده يشبه المتنبي في اعتداده بنفسه أمام ممدوحه، فشعره - وأغلبه في المديح - يفوح بتفرده بين أقرانه، وينبئ عن نفس عربية أصيلة تتحلى بالشجاعة، وإغاثة اللهفان، ورفض التزلف، تلك العربية التي أكد كثيرًا انتسابه إليها، وإن شكك بعض المؤرخين في ذلك[16]، إذ تظهر ذات الشاعر في مدائحه بارزة غير متوارية خلف أوصاف الممدوح، وتلك ظاهرة واضحة تتكرر بكثرة بين قصائد المديح عند الشهاب، فتراه يفخر المرة تلو الأخرى بشعره وشجاعته، ولا ينسى أصله، يقول أبو الفوارس من قصيدة يمدح بها الوزير أنوشروان بن خالد[17]:
وَدُونَ مَدِيْحِي كُلُّ دَهْيَاءَ لَوْ رَمَتْ        دَعَائِمَ  رَضْوَى  لاسْتَمَرَّ   انْهِيَالُهَا
فَإِنْ  تَجْهَلُونِي   فَالْقَنَا   وَمُجَاشِعٌ        وَعَزْمِي وَحَزْمِيَ وَالْعُلا  وَاحْتِلالُهَا
وَإِنْ صَدِئَتْ أَعْرَاضُهُمْ  فَصَوَارِمِي        بِمَاءِ طُلاهُمْ سَوْفَ يَصْدَا  صِقَالُهَا
فمدائح الحيص بيص - من وجهة نظره - تتأخر عنها كل المدائح (الدواهي) التي لو رمت أركان جبل رضوى لخر الجبل وانهار، وهو الفارس الذي لا يُجهل، وإن كان ثمة جاهل لا يعرف خبره فلينبئه أبو الفوارس، إنه السيف، ومجاشع بن دارم (أحد بني تميم المنسوب إليهم الشاعر)، وهو العزم، والحزم، والعلا واحتلالها، لا تصدأ سيوفه إذا صدئت سيوف الأعداء، بل سترتوي من ماء رقابهم.

ومما تجدر ملاحظته أن الأبيات السابقة لحيص بيص تذكر بأبيات مشهورة للمتنبي في إحدى مدائحه لسيف الدولة، إذ يقول مفتخرًا بشعره[18]:
وَمَا الدَّهْرُ  إِلاَّ  مِنْ  رُوَاةِ  قَلائِدِي        إِذَا قُلْتُ شِعْرًا أَصْبَحَ الدَّهْرُ مُنْشِدَا
فَسَارَ  بِهِ  مَن   لا   يَسِيرُ   مُشَمِّرًا        وَغَنَّى  بِهِ  مَنْ   لا   يُغَنِّي   مُغَرِّدَا
أَجِزْنِي  إِذَا  أَنْشَدْتُ  شِعْرًا  فَإنَّمَا        بِشِعْرِي  أَتَاكَ  الْمَادِحُونَ   مُرَدَّدَا
وأبيات كهذه من المؤكد أن خلفها إحساسًا بقيمة الذات، وترفعًا عن النزول بها إلى درك المذلة والمهانة والسؤال، وقد دفع ذلك المتنبي أن يعد الدهر أحد رواة قصائده، وأصبح الكل يشمر لسماعه، ويغرد بغنائه، ودفع أبا الفوارس أن يرى كل المدائح دون مديحه.

ولعل شراسة الرجل وغرابة أطواره هي ما يفسر اعتداده بذاته، ونزوعه إلى الإعلاء من شأنها في شعره، إذ نقل معظم من ترجموا له[19] أنه كان يتزيّا بزي عرب البادية، ويتكلم باللهجة البدوية الفصيحة، ويتقلد السيف أنّى ذهب، ويكثر الفخر بنسبه إلى أكثم بن صيفي المجاشعي الدارمي التميمي حكيم العرب المشهور، وبين قصائد الشاعر ما يثبت أنه أدرك هذه الشراسة في نفسه فاحتفل بها، ورددها في غير واحدة منها وأمام ممدوحين مختلفي المناصب والأهواء والأمزجة، ورد على من اشتكوا هذه الشراسة، فقال[20]:
شَكَوا شَرَاسَةَ أَخْلاقِي فَقُلْتُ لَهُمْ:        خُشُونَةُ الْبِيضِ مَارَتْهَا  عَنِ  السُّمرِ
لا تَحْسَبُوا شرس الأَخْلاقِ  مَنْقَصَةً        فَمُزَّةُ  الْخَمْرِ  أَشْهَاهَا  إِلَى  الْبَشَرِ
كَفَى  حَسُودِي  جَهْلا  أَنَّهُ   رَجُلٌ        مُعَانِدٌ     لِقَضَاءِ     اللهِ     وَالْقَدَرِ
فالتفرد في الأقوال والصفات والأفعال هو الذي يبرز الشخصية، ويجعلها تتميز عن شخصيات الآخرين كما تتميز بيض السيوف عن سمرها، وكما تتميز الخمر التي يكون طعمها بين الحلاوة والحموضة عن غيرها من الخمور، وهذا التفرد والامتياز لدى حيص بيص هو قضاء الله وقدره، وليس لأحد أن يعاند القدر حتى ولو كان حسودًا جهولاً، ومن ثم تصبح شراسة الأخلاق أمراً معقولاً، وتنتفي أسباب الشكوى منها، ومعنى ذلك أن الشاعر نفسه أدرك قيمة ذاته الشاعرة، وأنه لابدّ لهذه الذات من شيء يميزها، ولو كانت هذه الميزة شراسة الأخلاق أو التجديد في نهج القصيدة العربية.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الأبيات السابقة من قصيدة يمدح بها أبو الفوارس أميرًا للحاج كان يدعى نظرًا[21]، وليس من بين أبيات القصيدة السبعة والعشرين إلا بيت واحد في مدح هذا الأمير، وانفرد الشاعر ببقية الأبيات لنفسه، يفخر بها، ويذكّر بصفاته وشجاعته، والغريب في الأمر أن الممدوح قد أرسل لحيص بيص الجائزة قبل أن ينظم القصيدة[22].

وليس من حسن حظ القصيدة العربية في العصور الذي تلت القرون التالية للقرن السادس أن هذا المذهب لم يجد له أنصارًا غير حيص بيص، إذ لو وجد هؤلاء لتغيرت معالم قصيدة المديح العربية، ولأحرزت تجديدًا في شكلها ومضمونها شبيهًا بما أحرزته على يد شعراء العصر العباسي الأول من أمثال بشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام.

 ---------------------
[1] ابن قتيبة: الشعر والشعراء، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، 1966م، 1/75.
[2] د. يسرية يحيى المصري: بنية القصيدة في شعر أبي تمام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997م، ص 318.
[3] د. شوقي ضيف: فصول في الشعر ونقده، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثالثة، 1988م، ص 57. 
[4] د. محمد أبو الأنوار: الشعر في العصر العباسي "تطوره وقيمه الفنية، دراسة تاريخية تحليلية للاتجاهات الكبرى في الشعر وزعمائها من الشعراء، من بشار بن برد إلى أبي الطيب المتنبي" دار المعارف، القاهرة، 1987م، ص 186. 
[5] أبو نواس: ديوانه، تحقيق إيفالد فاغنر، سلسلة الذخائر (64)، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 2000م، 3/ 265.  
[6] السابق: ص 269.  
[7] د. محمد مندور: الأدب ومذاهبه، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، الطبعة الخامسة، 2005م، 38.  
[8] الآمدي: الموازنة بين أبي تمام والبحتري، تحقيق وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العلمية، بيروت، د.ت، ص 11.
[9] حَيْصَ بَيْص لقب غلب على الشاعر، وسبب تسميته به أنه رأى الناس يومًا في حركة شديدة، فقال: ما للناس في حيص بيص؟ فلقب به وغلب عليه (في ترجمته: العماد الأصفهاني: خريدة القصر وجريدة العصر، القسم العراقي، حققه وضبطه وشرحه وكتب مقدمته محمد بهجة الأثري، مطبوعات المجمع العلمي العراقي، 1375هـ/1955م 1/202 وما بعدها - ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، حققه إحسان عباس، طبعة دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، 1398هـ/1978م 2/362- 365 - ياقوت الحموي: معجم الأدباء، دار الكتب العلمية، بيروت، 1411هـ/1991م 3/368-373 - ابن الأثير: الكامل في التاريخ، طبعة دار صادر، بيروت، 1399هـ/1979م 11/454 - ابن العماد: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت 4/247- 248 - ابن كثير: البداية والنهاية، تحقيق عبد الوهاب فتيح، دار الحديث، الطبعة الخامسة، 1418هـ/1998م 12/322-323 - بروكلمان: تاريخ الأدب العربي، ترجمة السيد يعقوب بكر ورمضان عبد التواب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1993م، 3/22 - د/ على جواد الطاهر: الشعر العربي في العراق وبلاد العجم، دار الرائد العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1405هـ/ 1985م، ص 240 وما بعدها).
[10] حيص بيص: ديوانه، حققه مكي السيد جاسم وشاكر هادي شكر، سلسلة كتب التراث، منشورات وزارة الإعلام العراقية، بغداد، 1974م 1/ 152.
[11] قرواش بن مسلم العقيلي: سليل أمراء بني عقيل الذين خلفوا بني حمدان على الموصل حتى قضى عليهم السلاجقة سنة 489هـ، بعد تخلص قوام الدين كربوقا من أميريها محمد وعلي ابني شرف الدولة مسلم بن قريش، وكان قرواش صغيرًا لم يشتهر، وقد ذكره ابن الأثير ضمن الأمراء الذين استدعاهم الخليفة المسترشد لقتال دبيس بن صدقة صاحب الحلة سنة 517هـ (ابن الأثير: الكامل 10/ 607).
[12] حيص بيص: ديوانه 1/ 107.
[13] ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق الدكتور عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ/ 2001م 1/ 201.
[14] حيص بيص: ديوانه 1/ 101.
[15]العماد الأصفهاني: الخريدة- قسم شعراء العراق 1/ 244، 245.
[16] حيص بيص ديوانه (مقدمة المحقق) 1/35.
[17]السابق: 1/ 85.
[18]المتنبي: ديوانه بشرح عبد الرحمن البرقوقي، المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة، الطبعة الثانية، 1375هـ/ 1938م، 2/ 16.
[19] ابن خلكان: وفيات الأعيان  2/363 - ياقوت الحموي: معجم الأدباء 3/370.  
[20]حيص بيص: ديوانه 1/ 133.
[21] نظر (ت544هـ): أبو الحسن نظر بن عبد الله الجيوشي المعروف بالخادم، كان خصيًا، تولى إمارة الحاج عشرين سنة، وعند وفاته في السنة المذكورة دفن بالرصافة (ابن الأثير: الكامل 11/146 - ابن كثير: البداية والنهاية 12/ 228).
[22]حيص بيص: ديوانه 1/ 132.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


مختارات من الشبكة

  • حول المقال الثاني للأستاذ أحمد أمين (التجديد في الأدب (2)) [3](مقالة - حضارة الكلمة)
  • عوامل تساهم في تجديد الإشراف التربوي(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • إدارة المضمون في العمل الدعوي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • التجديد في أوزان الشعر عند ابن الفرخان (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • التجديد في أوزان الشعر (بين آراء العلماء وإبداع الشعراء) (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الوعي النقدي وحدود التجديد في شعر علي أحمد باكثير(مقالة - حضارة الكلمة)
  • مفهوم الشعر بين التجديد والتبديد(مقالة - موقع الدكتور وليد قصاب)
  • التجديد في الإذاعة المدرسية(مقالة - موقع الموسوعات الثقافية المدرسية)
  • التجديد في الإذاعة المدرسية(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • التجديد اللغوي الشامل(مقالة - حضارة الكلمة)

 


تعليقات الزوار
13- مظاهر التجديد في شعر البحتري
MEHDI - ALJIRIE 21-12-2011 12:25 PM

عدم توفر معلومات عن هذا العنوان
الرجاء توفيرها في أقرب وقت ممكن و شكرا

12- يا ريت
سيف الدين - سوريا 16-04-2010 04:24 PM

يا سيدي الكريم أريدُ دراسة فنية لقصيدة بشار بن برد المدحية والغزلية على هذا الموقع أو على البريد..لأني طالب جامعة ومطلوب منّي ذلك..أرجوك يا دكتور ..انا حامل هذه المادة ..وهي الأدب العباسي ومطلوب أيضاً قصائد أبي نواس في الخمرة..كلها دراسة تحليلية وفنية من الحديث عن العصر والحديث عن الشاعر والحديث عن الأفكار ونقد الافكار والوسائل التعبيرية والفنية من أوان البديع والبيان العربي..لو سمحت ..اجهد فيذلك يا اخي بارك الله فيك

11- etud tres exellente
kalizou - tunisie 10-11-2009 01:17 AM
merci bien pour l'etude
10- الرجوع للزمن الجميل
ابو منه - مصر 29-01-2009 11:21 PM
شكرا استاذ زجب على هذا المجهود
9- دراسة عشرة على عشرة
عبدالله شحاتة 23-08-2008 04:16 PM
تسلم إيدك أستاذ رجب وربنا يخليك للأدب العربى
وإلى الأمام دوما بإذن الله
8- دراسه مميزه
البنا - مصر 21-08-2008 10:59 AM
ألف شكر لحضرتك يا دكتور على الدراسه الأكثر من رائعه والتفرد فى الطرح .
كنت أود من سيادتك أن تلقى الضوء على شعراء اخرين جددو فى قصيدة المديح على غرار الشاعر (حيص بيص) بجانب التركيز على ذلك شاعر .وذلك باعتبار التجديد فى قصيدة المديح ظاهره أدبيه تستحق الدراسه والبحث المتعمقين
ولكن لا شك مجهود رائع ومميز يادكتور
ننتظر منكم المزيد
7- عفوا
أحمد عبد الله - مصر 20-08-2008 04:16 PM
وفقك الله وسدد خطاك، للأسف لم أجد وقتا لقراءة الموضوع كاملاً
6- تفرد الكاتب .. واثراء ادبنا العربى
عصلم عابدين - صحفى - مصر 19-08-2008 12:39 PM
هذا عهدنا بك استاذ رجب فالتفرد في الأقوال والصفات والأفعال هو الذي يبرز شخصية الكاتب، ويجعلها تتميز عن شخصيات الآخرين كما ذكرت بأن بيض السيوف تتميز عن سمرها، ( ... )، وكما أن الشاعر نفسه أدرك قيمة ذاته الشاعرة، وأنه لابدّ لهذه الذات من شيء يميزها، فإنى أدرك قيمة قلمك المبدع وفقك الله أخى للمزيد من القدرات النقدية التى تعمل على إثراء تراثنا الأدبى
5- جزاك الله خيرا
الكيلاني - مصر 19-08-2008 09:56 AM
جزاك الله خيرا
وأعانك الله
ووفقك على تقديم مثل هذه الموضوعات الجميله
4- نحن في حاجة الي قراءة نقدية اعمق
خليفة الدسوقي - مصر 18-08-2008 03:39 PM
حيص بيص لم يكن مجددا دارت عليه حركة النقد فأحدث صخبا لأن التجديد في مجمله يعبر عن إطار تعمل عل إطالة عمره مدرسة أدبية ليست بالمعني المعروف الان ولكن حلقات متصلة الفكر والإبداع
إننا لسنا في حاجة لنقد القديم أو الوقوف عند إطلاله لأنه ولاشك في ذلك كان البداية الحقيقة التي اشتعلت من وراءها بدايات العظماء واننا في حاجة لدراسة لمفهوم البيئة التي انتجت امؤ القيس والتي انتجت غيره لان البيئة معين الشعراء ولابد

أن الحجم الثقافي لأي بيئة هو الدافع لإيجاد ثورة إصلاحية ليس فيها من الفوضى شيئا واعتبر ان هذه القراءة كانت سريعة في أحكامها لم تتأن لتدرس مابين العصور من عظماء غيروا ولابد في المضمون التراثي لاي عصر من العصور وبالتالي القراءة عبرت عن قارءة نقدية جيدة في مبناها وكانت تحتاج لعمق أكبر في البحث لأن الوقوف على القشور لا يفيد البحث ولا الباحث
ولحد علمي أن الناقد رجب عبد الوهاب لديه قدرة لفظية كبيرة تأخذ النقد في منحنى فكري شخصي خاص وإن تسلح باأادوات البحثية في التخريج والضبط لن يخفي أمر أنه يجب القراءة مرات أخرى لأننا أجزم أننا لديه قدرة نقدية كبيرة سيكون لها مكانتها في المستقبل ولابد
1 2 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب