• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    التأويل بالحال السببي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    الشرح الميسر على الآجرومية (للمبتدئين) (6)
    سامح المصري
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الحال لا بد لها من صاحب
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    البلاغة ممارسة تواصلية النكتة رؤية تداولية
    د. أيمن أبو مصطفى
  •  
    الإعراب لغة واصطلاحا
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    مفهوم القرآن في اللغة
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

الرثاء في شعر باشراحيل (1)

محيي الدين صالح

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 12/12/2010 ميلادي - 5/1/1432 هجري

الزيارات: 26666

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الرثاء في شعر باشراحيل "دراسة أدبية"

مقدمة الدراسة


يَمتاز الأدبُ العربي بكَثْرة الرَّوافد وغزارَتِها، وفي الوقت نفسِه بصفاء المتوارث منه ونقائه، برغم تدفُّقه عَبْرَ مئات السنين، حتى وإن شابَه أو اعتراه ما يكدِّره، فمن اليسيرِ نقده وإظهاره وتفنيده.

 

وما دام الشعرُ ديوانَ العرب - كان كذلك وما زال - فإنَّ الدراساتِ التي تصبُّ حول الإبداعات الشعرية ينبغي أن تَحرصَ تمامًا على العُمق الإنساني، ويَجب عدمُ تسطيح الدَّوافع التي جعلتِ المبدعَ يتفاعل مع أمورٍ بعَيْنِها، ويُعرِض عن أمور... أو أن يُجيدَ إجادةً تامَّة في جوانبَ من إبداعاتِه، رُبَّما لا يصل إلى مُستواها في الجوانب الأخرى.

 

ونظريَّة (مفتاح الشخصية) التي أورثها لنا الأديبُ العملاق: عباس العقاد، من خلال عبقرِيَّاته الخالدة - أرى ألاَّ نُهملها كلما أردنا الغوصَ في أعماقِ الرِّجال، الذين ألقت بِهِم أقدارُهم في دائرة الضَّوء عُرْضَةً للتناوُل والتمحيص طوعًا أو كرهًا.

 

وإذا كان حديثُ المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((المرءُ بأصغريه: قلبه، ولسانه))، وعلى اعتبارِ أنَّ (اللسان هو ترجمان القلب)، كما جاء في الأثر، فإنَّ صُعوبةَ مُتابعة القلب وما حوى باعتباره في منطقةِ شبه المغيبات - يَجعلنا نُقيمُ لحصائدِ الألسنة اعتبارًا ووَزنًا، ونقدره حَقَّ قدره، ونُحاول ذلك ما أمكن، خاصَّة إذا كان صاحبُ هذا اللسان مِمَّن نحسبهم على خير في صدق روايتهم ورُؤاهم.

 

وعندما يكون الكلامُ عن أولئك الذين لا يَرْتجي منهم المتحدثُ أو الكاتب نَفْعًا، ولا يَخْشى منهم ضَرَرًا، فإنَّ المشاعِرَ تتدفق منه أو عنه بصِدْقٍ وعفوية، خاليةً من التملُّق والنِّفاق، وهذه هي حالُ الرِّثاء في الشُّعر العربي في أكثرِ حالاتِه، وليس معنى ذلك أنَّ الكلامَ عن الأحياء مرذولٌ جُملةً وتفصيلاً، ولكنَّ الموازين النَّقْدِيَّة ترجح بكفة المراثي عند المقارنة، فتكون أصدقَ قيلاً، وأفصح تأويلاً لمن أراد أن يدرس النصَّ الإبداعِيَّ من كلِّ جوانبه، إضافةً إلى صاحب النص وإيحاءاتِه وتلميحاتِه بجانب تصريحاته.

 

وهذا هو السببُ الذي جعلني أميلُ إلى دراسةِ المراثي في شعر عبدالله باشراحيل، من بين إبداعاتِه الكثيرة في كُلِّ الأغراض الشِّعْرِيَّة قديمها وحديثها، وثَمَّة سببٌ آخر لهذا التوجُّه الأدبي عندي، وهو أنَّ الوجدانِيَّات المتناثرة في كلِّ قصائده تَمتاز بشفافية الرِّثاء ومُفرداته ونفحاته، ورُبَّما آلامه وأحزانه.

 

أمَّا لماذا باشراحيل بالذَّات، في هذا العصر الذي كاد يَئِنُّ من كثرة الشُّعراء؟ فهذا لا تفسيرَ له عندي، إلا أنْ أعزُوَه إلى تقارُب الاهتمامات والانفعالات الوجدانية بيني وبينه كشعراءَ من جيلٍ واحد، رَغْمَ التباعُد المكاني بين وادي النيل (موطني)، وجزيرة العرب (موطن باشراحيل)، ورُبَّما يُعزى هذا الأمر إلى قولِ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الأرواح جنود مُجَنَّدَة، فما تعارف منها ائتلف...)).

 

وباشراحيل لا يكتفي برثاءِ الأحباب الذين رحلوا عنه، بل يَرثي البلادَ، والقيمَ، والآمالَ، والمعاني، والفضائلَ، وكل غائب يفتقده، كما أنَّه يرثي الزمانَ أحيانًا، ولا يستنكف من أنْ يرثيَ نفسَه إنْ لَزِم، واتجاهات الرِّثاء عنده تستحقُّ التأمُّل، ولا أقول التوقُّف عند كل جزئية، والعاطفة الصادقة والحس الديني عند الشاعر لهما حضورٌ قويٌّ يَجعلك تحترم أطروحاتِه ورُؤاه.

 

أمَّا الشخصياتُ التي يَرثيها باشراحيل، وتوجُّهاتُهم الفكرية أو الأدبية، ومكانتُهم في المجتمع، فذلك أمرٌ له مدلولٌ راقٍ، ويَجب توضيحُه في تفصيلٍ مُناسب، وكذلك هناك أثرُ البيئة، والتنوُّع الأسلوبي، وخصوصية المضامين، والقاموس اللُّغوي، والبحور المُنتقاة، والقوافي المناسبة لجوِّ القصيدة... فكُلُّ هذه جوانبُ لا نَمُرُّ عليها مُرُورَ الكرام، خاصَّة أنَّنا أمام شاعر جعل (الوفاء) حجرَ الزَّاوية في كلِّ إبداعاته، وتعلَّق قلبُه بكُلِّ مَن رأى أنَّه يتصف بالوفاء، وفي ذلك يقول:

إِنَّ الْوَفَاءَ رِدَائِي كَيْفَ أَخْلَعُهُ
وَقَدْ كَفَانِي وَإِنْ ذَمُّوا وَإِنْ مَدَحُوا [1]

 

وأنا في هذه الدراسة لست ذامًّا ولا مادحًا، ولكنَّها جولة أدبية بين القوافي أجوس خلالَها، وأغوص فيها إلى الأعماق، عبر خيالاته، وبواسطة كلماته المجدولة؛ لأستخرجَ ما قد يخفى على مَن لا يُجيدون الغوص، فأقدمها لهم زادًا في رحلتهم نحو دُروب الأدب العربي.

 

هذا، وقد اطَّلعت على ثلاثِ دراسات في شعر باشراحيل اتَّسمت بالموضوعية والجدية والحيدة: الأولى للدكتورة/ إيمان بقاعي، بعنوان: "الالتزام الإنساني في شعر باشراحيل" 300 صفحة، ركَّزت فيها الكاتبة على الوطن عند الشاعر، أمَّا الدكتور/ محمد بن مريسي الحارثي، فقدَّم دراستَه بعنوان: "جدلية الواقع والتخيُّل"، وأشار فيها إلى لوعة الرِّثاء عند باشراحيل، وحِدَّة العاطفة وقُوتِها، ورَكَّز خلالَها على رثائه لأبيه ولعمته، وعَرَّج على بعضِ النماذج الأخرى، إلاَّ أنَّ الدراسة شَمِلت كل قصائد ديوان "قناديل الريح".

 

أمَّا الأستاذة/ غريد الشيخ، فقدمت دراسة مستفيضة بعنوان: "الدلالات الفنية والإنسانية في شعر باشراحيل" في أكثرَ من أربعمائة صفحة، طافت - بل حلقت - في آفاق الشاعر، وحطت عند كل مرفأ من مرافئه، وحلَّلت كلَّ الجوانب الإبداعية عنده، إلا أن الرثاء عند باشراحيل لم يستهلكْ من هذه الدراسة الشائقة سوى (اثنتي عشرة صفحة) فقط؛ رُبَّما لأنَّ الكاتبة كانت تدور في آفاقٍ شاسعة بين قصائدَ مُتنوعةٍ كثيرة جدًّا من إبداعات باشراحيل.

 

ومن المؤكد أنَّ هناك دراساتٍ أخرى في شعر باشراحيل لم أطلع عليها... كما أنَّ هناك دواوين أخرى للشاعر لم تصل إلَيَّ، وبرغم ذلك، فإنَّ ما بين يديَّ من إبداعاتٍ ودراسات أعتبرها كافيةً لتسويغ ما ذهبتُ إليه من ضرورةِ الدِّراسة المتخصصة، أو المخصصة للرثاء عند باشراحيل.

 

وإذا سَلَّمنا بالمقولة التي ترى أنَّ "الرجُل صندوقٌ مُغلق، لا يُعرَف ما بداخله إلاَّ إذا تكلَّم، أو تحرَّك، أو تصرَّف"، فإنَّ باشراحيل في قصائده المتنوِّعة تكلم، وتحرك، وتصرف، فأصبح كتابًا مَفتوحًا يقرؤه الجميع، وكلٌّ يتفاعل مع الأُطروحات التي يجد فيها مبتغاه، أو توافق هواه.

 

ومن خلال الرُّؤى المكثفة في الأغراض الشعرية المتنوعة، يتَّضِح أنَّ باشراحيل إنسانٌ مرهف الحس إلى مدًى بعيد، وفي الوقت نفسه شديدُ الاعتداد بالنفس، مع ما يبدو من تبايُن بين الصِّفَتين، وفي نظرته للأمور فإنَّه يغوص إلى الأعماقِ؛ ليقفَ بقُرَّائه عند بعضِ الجوانب الخافية في أثناءِ الأمر، فلا يكتفي بمدلولاتِ السَّرْدِ للحدث، ولا بظواهر المعاني، وهذا التوجُّه عنده مؤصَّل أكثر ما يكون في قصائد الرثاء، والشواهد على ذلك كثيرةٌ، عرضت بعضَها في فصل (الرمزية في الرثاء) بقليلٍ من التفصيل، وأيضًا في فصل (الرثاء وإسقاطات الألم).

 

ولم يتحفَّظ باشراحيل في عرض مكنوناته من مشاعر ومَخاوف، حتى الهواجس التي راودته بسبب غيابِ رُموز فكرية عن الساحة الإسلامية، لم يُحاول أنْ يحجمها أو يصادِرَها، فهو صريح مع النفس ومع الآخرين، والبُعد الذَّاتي عنده ينال حظَّه كاملاً، كما في رثائه لوالده أو عمته، فهو يوفيهما حَقَّهما بأسلوبٍ يَشي بمدى التقارُب الذي كان بينهما في عَصرٍ ذهل فيه ذوو الأرحام، وتاهوا في معترك الحياة، مع أنَّ باشراحيل ربَّما لا يقصد ذلك؛ حيث لم يصرح به "تأدبًا".

 

وجدير بالذِّكر أنَّ باشراحيل لم يصدر ديوانًا خاصًّا بالمراثي، ولكنَّها قصائد متفرِّقة في مجموعة دواوينه، وهذه المجموعة حوَتْ كلَّ الأغراض الشِّعرية، التي أبْحر من خلالها إلى مَرافئ القُرَّاء، أما ديوان "قلائد الشمس" الذي صدر عام 2002م، فقد خصَّصه كلَّه لقصيدة مطوَّلة يوجِّهها إلى مُثقَّفي أمريكا مُترجمة إلى الإنجليزية والفَرَنسِيَّة، والقصيدة بترجمتَيْهما بين دفتي الديوان، إذًا هي رسالة عبر القوافي تُخاطب الوجدانِيَّات، التي يظن باشراحيل أنَّها قد تتجاوب معه من الأحياء الذين يشاركوننا في التفاعُل مع الأطروحات الأدبيَّة، ومِنْ ثَمَّ لا مكان لأيِّ معانٍ رثائيَّة في هذا الدِّيوان، أمَّا ديوان "وحشة الروح"، إضافةً إلى مجموعة "الأعمال الشعرية" التي تحوي مجموعة من الدواوين التي صدرت في أوقاتٍ مُتفرِّقة خلال رحلته الشعرية، فهي التي تَتناثر فيها كلُّ معاني الرثاء التي تنضح بها وجدانيَّات باشراحيل، سواء كانت قصائد رثاء أم قصائد أخرى.

 

وكأنَّ "باشراحيل" لم يكتفِ بقصائد الرثاء، فقام بإهداء ديوان "وحشة الروح" بما نصه: "إلى شهداء الأمة... من ثورة الجزائر إلى انتفاضة فلسطين"، كما أَهدَى الدواوين الأخرى إلى ذاتِ الرُّموز التي يُكِنُّ لها كلَّ الحب والتقدير (الوالدين، والوطن، والأحباب)، وصاغَ بعض الإهداءات نَثْرًا، وبعضها نظمها شعرًا، وهذا الأسلوب المتنوع في الإهداء دليلٌ على تغلب مَلَكة الشعر على الشاعر.

 

وبالنسبة لقصائد الرثاء، نجد ثلاثَ عشرة قصيدة في ديوان "قناديل الريح"، وقصيدتين في ديوان "وحشة الروح"، وقصيدة واحدة في كلٍّ من ديوان "الهوى قدري" وديوان "الخوف"، بإجمالي سبع عشرة قصيدة، إضافةً إلى بعض الرثائيَّات المبثوثة بين طيَّات قصائد أخرى، أمَّا الشخصيات التي يرثيها باشراحيل، فإنَّها صاحبة مكانة في قلبه بعيدًا عن المجاملات أو الرسْمِيَّات، وهذا واضح في صفاتِهم، ومواقفهم، وتوجُّهاتهم الفكرية والأدبية، وصلاتهم بالشاعر.

 

ولو تحدَّثنا عن الأعمال الشعرية بلُغة أهل الرواية ونقادها، فإنَّ أبطالَ باشراحيل وشخوصه كثيرةٌ جدًّا، وأنا أعتبر أنَّ كثرة الشخوص في العمل الشعري لا يعيبه، ولكنَّه يوضح اتِّساعَ دائرة المبدع، وعلاقاته الوجدانيَّة، وتفاعلاته الاجتماعيَّة.

 

ولعدم معرفتي ببعض الشخصيَّات التي رثاها باشراحيل، فقد استعنت بالأستاذ/ صلاح رشيد؛ لإلقاء حزمة ضوء على هذه الشخصيات ومآثرهم؛ للوقوف على مدى صدق التجربة الشعورية عند الشاعر، وذلك عند صياغة الفصل الخامس من هذه الدراسة تحت عنوان: "شخصيات الشاعر في الرثاء".

 

أمَّا "الرثاء" كمصطلح في الأدب العربي، فإنه تبلور عبر مراحلَ عديدة، بَدءًا من العصر الجاهلي، مرورًا بالعصور الإسلامية المتعاقبة وحتى الآن، وسيأتي تفصيلٌ لذلك في التمهيد، مقرونًا ببعض الشواهد والأسانيد.

 

وإذا سلَّمنا أنَّ من فنون البلاغة والبيان ما يقال عنه "مدح في صورة ذم، أو ذم في صورة مدح"، فهل يُمكن أن نطبقَ النظريةَ نفسَها على الأغراض الشعرية؟ فنقول: إنَّ قصائد الرثاء رُبَّما تأتي في طيَّات الأغراض الأخرى أو العكس؟

 

أطرح هذا التساؤل؛ لأنَّ قصائدَ باشراحيل المتنوعة نجد فيها الرثاءَ قاسمًا مُشتركًا بنسبة ولو قليلة، وكان الرثاء هو (الغائب الحاضر) في كثيرٍ من القصائد التي صِيغَت في أغراض شعرية أخرى، وهذا قد يُسْتَشَفُّ من حساسِيَّته المفرطة في علاقاتِه ووجدانِيَّاته ومشاعره نحو الآخَرين، كما أنَّ ذلك يوحي به التداخُل غير المذموم بين الأغراض الشعرية عند باشراحيل، الذي يُذكِّرنا بالشعر العربي الأصيل في أزهى عُصورِه، سواء كان الشعر الجاهلي أم الإسلامي.

 

ولقد استَطاع باشراحيل من خِلال كلماته المجنَّحة، وقوافيه المحكمة أنْ يفرضَ نفسه على وجدانياتي، كما فرضها من قبل على السَّاحة الأدبية العربية، وإذا أردت أن أقدمَ عنه موجزًا في هذه الدراسة على سبيل التذكير وليس التعريف، فهو:

• الأديب الشاعر الدكتور/ عبدالله محمد صالح باشراحيل، من شعراء المملكة العربية السعودية المعروفين والمتميزين، رئيس مجلس إدارة مستشفى محمد صالح باشراحيل بالمملكة.

 

• عضو في كثير من الهيئات والاتحادات والرَّوابط الأدبية والاجتماعية والإنمائية والعلمية في كثيرٍ من أقطار العالم العربي، وعضو مؤسِّس لمؤسسة الفكر العربي.

 

• أنشأ جائزةً سنوية لتشجيع وإثراء حركة الإبداع العربي، وذلك باسم: "جائزة باشراحيل للإبداع الثقافي".

 

• له أكثر من اثني عشر ديوانَ شعر، (جمع بعض هذه الدواوين في مجلدين كبيرين)، كما أصدر بعض الدراسات الأدبية والمقالات النقدية المتنوعة.

 

• قدَّم أعمالَه للقراء كثيرٌ من الشعراء العرب الكبار، كما كتب عنه كثيرٌ من الدارسين والباحثين.

 

• ترجم بعضَ أشعاره إلى اللغة الفرنسية واللغة اليونانية.

 

وسواء كان الرد على التساؤل الذي طرحته من قبل عن تداخُل الأغراض الشعرية بالإيجاب أو بالنفي، فإنَّني سأسلك بكم طريقًا في بحور باشراحيل حسب قناعاتي النَّقدية (لا أخاف دَرَكًا ولا أخشى)؛ لأن كثرةَ الأودية التي تمرُّ خلالها دروب المبدع باشراحيل لا تُغني عن وادٍ مؤصل أثير لديه، وهذا الوادي يحطُّ باشراحيل عنده رحالَه كلما غدا أو راح بين أغراضه المتنوِّعة، ومن أراد أن يرتويَ من عذب منهله "فليتبعني وراء هذا الوادي".

 

••••


تمهيد

"المرثية والرثاء في اللغة والاصطلاح":

يرتبط المدلولُ اللغوي للمرثية والرثاء بالميت والبكاء، وهما في الأصل مصدر للفعل (رثى)، فيقال: رثيت الميت رثيًا ورثاءً ومرثاة ومرثية، ويدلُّ "رثى" في أصله اللغوي على التوجع والإشفاق؛ يقول ابن فارس: إنَّ اجتماع الراء والثاء والحرف المعتل أصلي في الثلاثي يدلُّ على رقة وإشفاق، يقال: رثيت لفلان؛ أي: رققت، وجاء في اللسان: رثى له؛ أي: رقَّ له... وتوجع، ويقال: ما يرثي فلان لي؛ أي: ما يتوجع ولا يبالي[2].

 

والمرثية والرثاء في اللغة: بكاء الميت، وتَعداد مَحاسنه، فيقال: رثى فلان فلانًا يرثيه رثيًا ومرثية، إذا بكاه بعد موته، ورثوت الميت أيضًا إذا بكيته وعدَّدت محاسنه.

 

وينطوي الرثاء في دلالة أخرى على النُّواح، فكان يقال للنَّائحة: إنَّها تترثى[3]، ورثاء المرأة: النياحة، والمرأة الرثاء، والرثاية: النَّوَّاحة، فالرثاء هو: النواح.

 

ولا نجد ذكرًا للشعر في مدلولهما عند اللغويين المتقدِّمين، أمثال الخليل وابن دريد والأزهري، لكنَّا نراه بدأ بالظهور عند الجوهري، ويتابعه بعد ذلك بقيَّة اللُّغويين؛ يقول الجوهري: "رثيت الميتَ مرثية، ورثوته أيضًا: بكيته، وعددت مَحاسنه، (وكذلك إذا نظمت فيه شعرًا)"[4]، إضافةً من الجوهري على القدماء تلك العبارة الأخيرة، كما أنَّ ابن فارس يضيف أيضًا عبارة: "ومن الباب قولهم: رُثِي الميت بشعر"[5].

 

ولعلَّ هذا الاستدراكَ جاء نتيجةً للحركة النقدية، التي برزت في القرنين الثاني والثالث للهجرة، وأسهمت في تَخصيص مدلول الرِّثاء بالموضوع الشعري؛ أي: إنَّ للرثاء مدلولاً واسعًا هو التوجُّع والإشفاق، أخَذ يتخصص أكثر بالشِّعر وموضوعاته.

 

وقد أخَذ مدلولُ المرثية يرتبط بالقصيدة، أو القطعة الشِّعرية من خلال ارتباطه بالعدد، فيقال: "رثيت الميت بشعر: قلت فيه مَرْثِيَّة، وقد ورَد جمع المرثية على "مراثي"، ولم يرد جمع للرثاء"[6].

 

أمَّا الرثاء، فقد بَقِيَ على دلالته العامَّة، وهي البُكاء على الميت، والإشفاق عليه، ونظم الشعر فيه، فالمرثية إذًا هي القصيدةُ أو القطعةُ الشعرية، أمَّا الرثاء فهو الإشفاق والحزن، وهو أمر معنوي.

 

ولم نجد لدى النقَّاد القدامى تحديدًا وتَمييزًا اصطلاحيًّا واضحًا لمفهوم (المرثية) و(الرثاء)، لكنَّنا يُمكن أن نستشفَّ من خلال الاستعمال الأدبي لهما من قبل النقَّاد أنَّ المقصودَ بالمرثية هو القصيدة، وأنَّ الرثاء هو الموضوع الشعري، فلقد اهتمَّ النقادُ القدماء بالمرثية بوصفها قصيدةً شعريَّة، فاختاروا أجودَها، وجعلوا لأصحابها طبقةً بين طبقات الشعراء، وأشاروا إلى الضَّعيف منها، وبيَّنوا أسبابَ هذا الضعف، كما أنَّهم استَجادوا عددًا من مقدماتِها، وعابوا الأخرى، وتحدَّثوا عن الأساليب والمعاني والأوزان اللاَّئقة بها، واهتمُّوا كذلك بالرثاء بوصْفه موضوعًا شعريًّا بين الموضوعات الشعريَّة الأخرى، وتَحدثوا عن درجة الحزن وعلاقتها بالرثاء، وعن طبيعة المرثي ودَوْره في التأثير على موضوع الرثاء، وعلى معاني الحزن العامة[7].

 

إنَّ المدلول اللغويَّ للرثاء الذي تَعارَف عليه القدماء، أصبح بمرور الزمن يمثِّل المدلول الاصطلاحي له، وهكذا يرى مؤلفُ كتاب "المراثي الشعرية" أنَّ مصطلح الرثاء في الدراسات المعاصرة يعني بكاء الميت وتَعداد مَحاسنه بالشعر والنثر، أو هو موضوع أدبي يقوم في بنيته الأساسِيَّة على الحزن على الميت.

 

وعلى هذا، تكون المرثية هي الأثرَ الأدبي الذي يتَّخذ الرثاء موضوعًا له.

 

ولما للتأبين من علاقة بالرِّثاء؛ نشير هنا إلى معنى التأبين، فقد جاء تحت مادة أبن: وأبَّن الرجل تأبينًا، وأبَّنه: مدحه بعد موته وبكاه، وقال شمر: التأبين: الثناءُ على الرجل في الموت والحياة[8].

 

وجاء أيضًا: وندب الميت؛ أي: بكى عليه وعدَّد محاسنه، يندبه ندبًا، والاسم النُّدبة بالضم، وندب الميت بعد موته من غير أن يقيد ببكاء، وأن تذكر النائحةُ الميتَ بأحسن أوصافه وأقواله[9].

 

وكما نلاحظ، فهذه الألفاظ وإن تباينت طبيعةُ حروفها، فإنَّ معانيها في مُعظمها واحدة، تطلق ويراد بها تَعداد شمائل المرثي وتأبينه، وإظهار اللوعة والأسى والتحسُّر على رحيله عن الحياة، تَحسُّرًا يَملؤه التفجُّع الصادق، النابع من قلب الراثي الوفي لمن يؤبنه.

 

ولا غروَ في هذا، فالرِّثاء غرض قديم وجديد أيضًا؛ لأنه متعلق بوجدان الإنسان، والإنسان الحساس غير مقفرِ الوجدان ولا جافِي الطبع، والأحزان تفجر في الإنسان ينابيعَ ثَرَّة من الفن الصادق.

 

والرثاء يعدُّ من أصدقِ الأغراض الشعرية؛ لأنَّه يخلو من الطمع والحاجة إلى المكافأة، بل ينبع من الإخلاصِ والصدق، إنه لمحة وفاء تشرق في الرُّوح، وتنهمر مع الدموع، وتنساب من الشفاه نشيدًا مثخنًا بالجراح موسومًا بالصدق[10].

 

إذًا الرثاء في الحقيقة: فنُّ تصوير العواطف الملتهبة والقلوب المكلومة، والنفس البشرية إذا كُلِمَت، نَفَّست عمَّا بداخلها من حزن على فقيدها، الذي كان يملأ عليها الدنيا.

 

وقد راجَ هذا الفن رواجًا عظيمًا في شعرنا العربي؛ لأنَّه وثيقُ الصلة بنهاية المخلوق في هذه الحياة.

 

"الرثاء: فلسفة بكاء الذَّات باستدعاء مواقف الراحلين، وتمثل ما بعد الحياة الدنيا، والتحسُّر هو التحسُّر نفسه على فَقْدِ الفرص السانحة للاستعداد من خلال تأمُّل مواكب الآفلين"[11].

 

ولذا كان الرثاء مُقترنًا بالموت، وليس هناك أمة لم تعرفه؛ وعلى ذلك فهو موجود عند كل الأمم، وفي كل العصور، كذلك هو الفن الذي لم يخلُ منه ديوان شاعر ولا شاعرة، حتى اشتهر بعضُ الشعراء والشواعر به، وعُدَّ علامةً بارزة في أشعارهم، أمثال: الخنساء، وجليلة بنت مرة، وليلى الأخيلية، وغيرهن كثير من الرِّجال والنساء، وقد سجَّل مُؤرخو الأدب على مَرِّ العصور تراثًا أدبيًّا ضخمًا من هذا الفن، فأضافوا إلى التراث الإنساني تراثًا تليدًا وطريفًا أثرى الصفحات الأدبية بكمٍّ هائل من القصائد، بل من عيونها.

 

وقد أهمل كثيرٌ من النقَّاد - خاصة القدامى منهم - فَنَّ "الرثاء"، ولم يعدوه فنًّا مستقلاًّ من فنون الشعر، وإنَّما عدوه من باب المديح، فابن رشيق يقول: "أكثر ما يجري عليه أغراضُ الشعر خمسة: النسيب، والمديح، والهجاء، والفخر، والوصف"[12]، ومرة أخرى يعدُّه ركنًا من أركان الشعر، فيقول: "إنَّ الشعر بُنِيَ على أربعة: المدح، والهجاء، والنسيب، والرثاء"[13].

 

ومنهم مَن أهدره جملةً، فقال: "قواعد الشعر أربع: الرهبة، والرغبة، والطرب، والغضب، فمع الرغبة يكون المديح والشُّكر، ومع الرهبة يكون الاعتذارُ، ومع الطرب يكون الشوق، ومع الغضب يكون التوعُّد"[14].

 

وقال ابن سلام: "إنَّ التأبين مدح الميت، والثناء عليه، والمدح للحي"[15].

 

وقال قدامة: "ليس بين المرثية والمدحة فصلٌ، إلاَّ أن يذكر في اللفظ ما يدُلُّ على أنَّها لهالك، مثل: كان، وقضى نحبه، وما أشبه ذلك، وهذا ليس يزيد في المعنى أو ينتقص منه؛ لأن تأبين الميت إنَّما هو بمثل ما كان يمدح به في حياته"[16].

 

وهذه نظرة بلا شك تُغْفِل العنصرَ الوجداني إغفالاً واضحًا، وتَنْسَى الجوَّ النفسي المسيطر على الراثي، وهو بعيدٌ كل البُعد عن جوِّ المدح.

 

تلك على أيَّةِ حال نظرةٌ غير متعمقة، مَبنيَّة على غير تَحليل واستقصاء، يستوي بها أنْ ترثي فقيدًا والقلب مُوجع حزين، وأن تَمدح حيًّا والنفس تفيض بهجةً وسُرورًا، ولا يستوي الأمران؛ ولذا جعلوا فَنَّ الرثاء أصعبَ فنون الشعر؛ لأنَّه أولاً: لا يعمل على رهبة أو رغبة، وثانيًا: لأنَّه يقوم على الصدق والإخلاص، وما أندرهما!

 

وحَصْرُ أسبابِ الانفعال الوجداني - كما هو عند النُّقاد القدامى - في الرغبة والرهبة، يَجعل الشاعر حين ينقطع رجاؤه في الميت أو خوفه منه، يشق عليه أن يرثيه، وهم هنا يُلغون من حسابهم الانفِعالَ بالأسى أو الحزن لفقد عزيز، أو الصدمة التي تهزُّ وجدانَ الشاعر حين يواجه مأساةً بشرية في موت ابنٍ وحيد، أو ابنةٍ، أو أمٍّ... إلخ.

 

ذلك لأنَّ الرغبةَ عندهم كانت تعني الطمعَ في عَطاء حاكم أو أمير، بدليلِ أنَّهم حصروا الرهبةَ في الاعتذار والاستعطاف، وفاتهم أنْ ينتبهوا إلى مُثيراتٍ أخرى للرهبة، كالشجن؛ شجن الفراق، الذي لا لقاءَ بعده، والخوف من وحشة الفراغ الذي يتركه موتُ عزيز، بل رُبَّما فاتهم أن يتلفتوا إلى رهبةِ الموت نفسه[17].

 

ويُروى أنَّ أحمدَ بن يوسف قال لأبي يعقوب الحزيمي: أنت في مديحك لفلان... أشعرُ منك في مراثيك له، فقال أبو يعقوب: كنَّا يومئذ نعمل على الرَّجاء... ونَحن اليومَ نعمل على الوفاء[18].

 

ولقد قالوا أيضًا: "ومن أشدِّ الرثاء صُعوبة على الشاعر أنْ يرثِيَ طفلاً أو امرأة؛ لضيق الكلام فيهما، وقلة الصفات"[19].

 

وهو قولٌ جِدُّ غريب؛ إذ لا نستطيع أن نتصورَ ما هو أفدح على الشاعر وأقسى من انطفاء الحياة في الولد، طفلاً يتفتح للحياة أبعد ما يكون الظن به - في المخلوق الضعيف قاصر النظر - أن يَموت، أو موت امرأة لا تعدو أن تكون أمًّا أو أختًا أو بنتًا أو زوجة.

 

وهذه النظرة قد مُحِيَت تمامًا في الرثاء في العصر الحديث، فنجد الآباء تنقطع نِياط قلوبهم لموت الأبناء، والأزواج لموت الزَّوجات، بل أصبح من هول الفجيعة أنْ خصت المرأة زوجًا بديوان خاصٍّ في رثائها، كما هو عند الشعراء عبدالرحمن صدقي، وعزيز أباظة، والدكتور رجب البيومي، وكذلك خصَّ الابن بديوان رثاءٍ خاصٍّ، كما هو عند الشاعرة سعادة الصباح، وغير أولئك كثير.

 

تطور الرثاء عبر العصور:

كان الرِّثاء عند شعراء الجاهلية من الموضوعات التي تتَّصل اتِّصالاً مُباشرًا وواضحًا بالحماسة، فقد كانوا يرثون أبطالَهم في قصائدَ حماسيَّةٍ يريدون بها أنْ يُثيروا قبائلَهم؛ لتأخذَ بثأرهم، فكانوا يُمجِّدون خلالَهم، ويصِفون مناقبهم، التي فقدتْها القبيلة فيهم؛ حتى تنفر إلى حرب مَن قتلوهم، وكان يُشاركُ الرجالَ في ذلك النساءُ، فقد كُنَّ ما يزلن ينُحن على القتيل؛ حتى تثأر القبيلة له، وقُمنَ بالقسط الأكبر من ندب الميت وبكائه، وكُنَّ يشققن الجيوبَ عليه، ويلطمن وجوهَهن، ويقرعن صدورَهن، ويعقدن عليه مَأتَمًا من العويل والبُكاء، ومن خير ما يُصوِّر ذلك كتاب "مراثي شواعر العرب"؛ للويس شيخو[20].

 

ومن الطريف عند شعراء الجاهلية أنَّ بعضَهم كان إذا أحسَّ داعيَ الموت، ندَب نفسه، ووصَف ما يَصنعه به أهله بعد الموت؛ من ترجيل شعره، ووضعه في مدارج الكفن، ثم لحده ودفنه، وتنسب للمخرق العبدي أو ليزيد بن الخذاق قطعةٌ يُصَوِّر فيها هذا المصير الذي ينتظره، يقول فيها:

هَلْ لِلْفَتَى مِنْ بَنَاتِ الدَّهْرِ مِنْ وَاقِ
أَمْ هَلْ لَهُ مِنْ حِمَامِ الْمَوْتِ مِنْ رَاقِ
قَدْ رَجَّلُونِي وَمَا رُجِّلْتُ مِنْ شَعَثٍ
وَأَلْبَسُونِي ثِيَابًا غَيْرَ أَخْلاَقِ
وَأَرْسَلُوا فِتْيَةً مِنْ خَيْرِهِمْ حَسَبًا
لِيَسْنِدُوا فِي ضَرِيحِ التُّرْبِ أَطْبَاقِي

 

وكانوا يكثرون من تأبين مَن يَموتون في ميادين الحرب، وقد يُضمِّنون هذا التأبين هجاءً لاذعًا لخصومهم، وفخرًا بعشيرتهم ومآثرها وأيامها[21].

 

ولم يؤبنوا أبطالَهم من القتلى فحسب، بل فسَحوا في مراثيهم لتأبين أشرافهم، وإنْ ماتوا حتف أنوفهم؛ فخرًا بهم، واعتزازًا بمناقبهم وأعمالهم ومآثرهم، ونجدهم قد يستنزلون لهم الغيثَ من السماء حتى تصبحَ قبورُهم رياضًا عطرة، ومن رائع تأبينهم مرثية أوس بن حجر لفضالة بن كلدة الأسدي، وأولها[22]:

أَيَّتُهَا النَّفْسُ أَجْمِلِي جَزَعًا
إِنَّ الَّذِي تَحْذَرِينَ قَدْ وَقَعَا
إِنَّ الَّذِي جَمَّعَ السَّمَاحَةَ وَالنْ
نَجْدَةَ وَالْحَزْمَ وَالْقُوَى جُمَعَا
الْأَلْمَعِيَّ الَّذِي يَظُنُّ لَكَ الظْ
ظَنَّ كَأَنْ قَدْ رَأَى وَقَدْ سَمِعَا

 

وكانوا أحيانًا حين يذكُرون الموتَ، يتأَسَّون ويتعَزَّون عنه بأنَّه حوضٌ لا بُدَّ من وُروده، وقد سبقَتْهم إليه الأجيالُ الماضية من ملوك وغير ملوك.

 

وعلى هذا النحو ألَمَّ الشاعر الجاهلي بجوانبِ الرثاء الثلاثة من الندب، والتأبين، والعزاء، وكان رثاؤه غالبًا يتعلَّق بأفراد، وقلما تعلَّق بمجموعة من الفرسان.

 

ولما جاء الإسلام بما يحمله من عقائدَ وتشريعاتٍ، كان له أثرُه الواضح في تطوُّر السلوك الإنساني وسُمُوِّه، وبصورة خاصَّة عقيدته في اليوم الآخر، التي أكسبت المؤمنين صفاتٍ كان الناس يفتقدونها قبلَهم، لعلَّ من أبرزها الفاعلِيَّة بطبيعتها الشُّمولية والأخلاقية، فقد أيقن الإنسانُ بالدَّوْر الذي خُلِق من أجله، وكشف له القرآن سر الحياة والكون، وعلَّمه كيف يسخِّر الطاقات الكونية لتحقيقٍ أمثلَ لواجبِ الخلافة في الأرض، فيتحوَّل المؤمن إلى طاقة فَذَّة في ميدان الفعل والإنجاز... قدرة مذهلة في مجال العطاء والإبداع... شُعلة مُتوهجة يَمتد إشعاعها إلى أعماقِ التُّراث، فيُضيئها ويدفعها إلى آفاقِ العلم، فالمعرفةُ باليوم الآخر هي أقوى باعث على فعل الخير وتَرْكِ الشر، ولم يكن الإسلام ليحركَ الفاعليَّة في الإنسان دون أن يَمنحه الشعور بالسعادة والاطمئنان والأمان؛ ولذا كان المؤمنون دائمًا سعداء قبل أن ينتقلوا إلى الدار الآخرة؛ ليضاعفَ لهم الجزاء، ويكتسب صفة الدوام والخلود، فقد تغيَّر لون الحياة وطعمها بعد أن عرف الإنسانُ غايتها وجدواها؛ إذ كان يظنها خلقت عبثًا؛ ﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ [ص: 27]، فهي ذاتُ قيمة عالية إذا ما استغلت الاستغلال الأمثل في طاعة الله.

 

ولذا أصبح الإنسانُ المؤمن لا يَخشى الموت ولا يقلق بشأنه، بل يُقدِم عليه إقدامًا إنْ كان في سبيل الله، غير مُبالٍ بزينةِ الدُّنيا وبهرجتها، لقد بدأ تغيُّر مفهوم الموت يؤتي ثمارَه في مراثي صدر الإسلام، فنرى الاطمئنان إلى مصير المرثي والرِّضا بقضاء الله - عزَّ وجلَّ - حَلَّ محل الجزع والولولة عليه، والتشاكي من الدَّهر وسبه، والدُّعاء على النفس بالويل والثُّبور، وبدا الشاعر الإسلامي يتحدث عن مصير المرثي وما يتلقاه من تَرحاب وتَكريم في الجنة، ويلتمس الشاعر من الله - عزَّ وجلَّ - أن يُثيبه ويَجمعه مع من يُحب سَوِيَّةً في الجنة.

 

وقد اكتسبت المرثية الإسلامية بذلك حُلَّةً جديدة، تزهو ألوانُها بالمعاني الإسلامية التي تشعُّ رضا وسعادة وأملاً، وأكثر ما يتَّضح ذلك في مراثي شهداء المسلمين.

 

وإدراكًا من الشاعر الإسلامي بخُطورة الشعر وأهميَّة دَوْرِه ودور الشاعر في الإسهام الحضاري، أخَذ هذا الشاعر يسلك مَسلكًا آخَر في مراثيه غير الذي كان متبعًا قبل الإسلام، والذي كان يقوم على إرضاء الدَّوافع الذاتيَّة للشاعر، وخدمة العصبيَّة القبليَّة؛ حيث خرج من دائرته، وأخذ يُسهم من خلال مراثيه في المشاركة في الدفاع عن الإسلام والمسلمين، والخوض في المعضلات التي يتعرَّضون لها، كما أخَذ يسهم في نشر تعاليم الدِّين الإسلامي ومَفاهيمه، وأكثر ما يتضح ذلك فيه مراثي الخلفاء الراشدين، والشهداء، وقسم من مراثي الأهل والأقارب[23].

 

وفي عصر بني أميَّة والعباسيين تطوَّر فَنُّ الرثاء، كما يقول ابن رشيق: "كان من عادة العرب القُدامى أن يضربوا الأمثالَ في المراثي بالملوك الأعِزَّة، والأمم السالفة، والوعول الممتنعة في قلل الجبال، والأسود الخادرة في الغياض، وبحُمُر الوحش المتصرِّفة بين القفار، والنُّسور والعقبان والحَيَّات لبأسها وطولِ أعمارها، وذلك في أشعارهم كثيرٌ موجود لا يكاد يخلو منه شعر، فأما المحدثون فهم إلى غير هذه الطريق أميل"[24].

 

ومع ذلك فقد استمرَّت بعض مظاهر الرثاء واتِّجاهاته القديمة، وإنْ كانت قد أخذت في التضاؤُل والانكماش؛ لتُخلي السبيلَ للمظاهر والاتِّجاهات الجديدة.

 

ومن الاتجاهات الجديدة في الرِّثاء - خاصَّة في العصر العباسي وإنْ كان معظمه في عصر بني أمية رثاءً تقليديًّا - إخراج الرثاء مخرج الفكاهة والضحك؛ حيث اتجهوا بالشعر وجهات جديدة، فخرجوا به عن دائرة الأشخاص إلى آفاق أخرى معنويَّة أو حسيَّة، فإذا بنا نجد مطبع بن إياس يرثي شبابه لا في بيت أو أبيات عابرة ضمن قصيدة، كما كان يحدث في القديم، ولكن في قصيدة كاملة قصرها على هذا الرثاء، ومنها:

إِنِّي لَبَاكٍ عَلَى الشَّبَابِ وَمَا
أَعْرِفُ مِنْ شِرَّتِي وَمِنْ طَرَبِي
وَمِنْ تَصَابِيَّ إِنْ صَبَوْتُ وَمِنْ
نَارِي إِذَا مَا اسْتَعَرْتُ فِي لَهَبِي
أَبْكِي خَلِيلاً وَلَّى بِبَهْجَتِهِ
بَانَ بِأَثْوَابٍ جِدَّةٍ قُشُبِ

 

ثم يتطرَّق الشاعرُ إلى بكاء شيء عزيز كان يَملكه، ويستشعر نحوه الوفاء والمحبة، فيرثيه من مثل رثاء محمد بن أبي كريمة لقميصه الذي بَلِيَ، بل رثوا الحيوانات الأليفة وغيرها، كما فعل أبو نواس في رثاء كلب صيدٍ له لَسَعَتْه حيَّة فمات، في قصيدة طويلة أولها:

يَا بُؤْسَ كَلْبِي سَيِّدِ الْكِلاَبِ
قَدْ كَانَ أَغْنَانِي عَنِ الْعُقَابِ

 

كما بدأ الشعراء بدايةَ القرن الثاني الهجري في رِثاء الأوطان؛ حيث زاد وعيُهم بالرِّباط الذي يشدُّهم إليها، ولعلَّ أطولَ قصيدةِ رثاء في المدن في شعرنا العربي قصيدة الحزيمي في رثاء بغداد، وقد روى الطبري منها مائةً وخمسة وثلاثين بيتًا أتى فيها على تاريخ بغداد كله، وصوَّر منها نكبةَ بغداد أيامَ الفتنة بين الأمين والمأمون.

 

ومِمَّا لا شكَّ فيه أنَّ شعر الرثاء الذي كان يدعو منذ الجاهلية إلى التفكُّر والتدبُّر والنظر في حكمة الكون، أصبحَ أكثرَ انشغالاً بهذه الأمور، وأكثرَ تعمُّقًا بعد انتشار العلوم والمعارف فيما بعد، كما أنَّ الرثاءَ عامة قد أصبح في أيدي الشعراء الزُّهَّاد وسيلةً للتذكير بالموت، وتنبيه الغافلين عن اليوم الآخر[25].

 

ويظلُّ الرثاء فنًّا يستوعب مشاعرَ الحزن والتحسُّر على من مات، قِوَامُه الصدق، ولُحمته الإخلاص، ودافعه الوفاء، حتى غدا من أرقِّ أنواع التعبير، وأعمق ما يُترجِم عن الأحاسيس البشرية حتى اليوم.

 



[1] من قصيدة "فارس الشعر" قناديل الريح، ج2.

[2] مقبول بشير النعمة: "المراثي الشعرية في عصر صدر الإسلام"، ص13.

[3] الزمخشري: "أساس البلاغة"، ص221.

[4] انظر: الجوهري: "الصحاح".

[5] ابن فارس: "معجم مقاييس اللغة"، ص488/2.

[6] مقبول بشير النعمة: مرجع سابق، ص14.

[7] مقبول بشير النعمة: المرجع السابق، ص15.

[8] ابن منظور، ت: عبدالله علي الكبير وآخرين، لسان العرب، دار المعارف، ص1582/3.

[9] ابن منظور: المرجع السابق، ص4380/6.

[10] د. صابر عبدالدايم: "محمود حسن إسماعيل بين الأصالة والمعاصرة"، دار المعارف، ص118.

[11] د. زهران جبر: "آراء في الحياة والموت".

[12] ابن رشيق: "العمدة"، ص77/1.

[13] ابن رشيق: المرجع السابق، ص78/1.

[14] أبو تمام: "ديوان الحماسة"، ص458.

[15] ابن سلام: "طبقات فحول الشعراء"، ص50/1.

[16] قدامة بن جعفر: "نقد الشعر"، ص59.

[17] د. طه عبدالحميد زيد: "فن الرثاء بين الرجال والنساء في العصر الحديث"، ص7.

[18] ابن رشيق: مرجع سابق، ص79/1.

[19] ابن رشيق: مرجع سابق، ص24/2.

[20] شوقي ضيف: "العصر الجاهلي"، ص207، 208.

[21] شوقي ضيف: "العصر الجاهلي"، ص209.

[22] أوس بن حجر: "ديوانه"، ص53.

[23] مقبول بشير النعمة: مرجع سابق، ص31.

[24] ابن رشيق: مرجع سابق، ص131/2.

[25] د. محمد مصطفى هدارة: "اتجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري"، ص464 وما بعدها.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • سياحة في عقول الأدباء والشعراء
  • حداء النواعير في مسامع الشعراء
  • رثاء الشعراء لأنفسهم
  • الروح الإسلامية عند الشعراء السعوديين
  • الرثاء في شعر باشراحيل (2)
  • الرثاء في شعر باشراحيل (3)
  • الرثاء في شعر باشراحيل (4)
  • الرثاء في شعر باشراحيل (5)
  • الرثاء في الشعر العربي
  • غرض الرثاء في شعرنا العربي القديم

مختارات من الشبكة

  • الرثاء تخليدا رمزيا للمرثي في شعر الخنساء(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الرثاء في الشعر العربي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الرثاء ما بين أندلس الأمس واليوم!(مقالة - المسلمون في العالم)
  • أعاصير تستحق الرثاء(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • رثاء صديق(مقالة - حضارة الكلمة)
  • في رثاء الشيخ إحسان إلهي ظهير (شعر)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • من رثاء الأبناء في الشعر العربي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • رثاء الشباب في الشعر(مقالة - حضارة الكلمة)
  • خازن العربية وإمام علوم آلاتها: في رثاء المحقق العالم الجليل محمد شفيق البيطار(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • رثاء طالب علم (قصيدة)(مقالة - حضارة الكلمة)

 


تعليقات الزوار
1- الموضوع
عبد الحميد كردي - 78 11-02-2011 04:55 PM

الموضوع جميل بصراحة ولكن يحتاج لشواهد أكثر

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 22/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب