• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / روافد
علامة باركود

الشعر والشعراء

محمود محمد شاكر

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 21/8/2010 ميلادي - 11/9/1431 هجري

الزيارات: 16128

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أخشى أن يكون أهم أركان الشعر إحساس الشاعر بمعانِيه إحساسًا كاملاً نافذًا متغلغِلاً، لا يدعُ للمنطق العقلي المجرَّدِ عملاً في تكوين شعوره، وليس معنى ذلك أن يَتَعرَّى الشعر من المنطِق العقلي المجرَّد؛ بل معناه أن ينقلب المنطق العقلي - بكماله وتمامه وقوَّته، واستوائه واستقامته - حاسةً دقيقة مدبِّرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتصريفه في وُجوهه على هُدًى لا يضلُّ معه، فلا يشرد عن الغرض الذي يرمِي إليه في التعبير عن الصوَر التي تنشأ لهذا الإحساس، وإذًا فأكبَرُ عمل المنطق العقلي في الشاعر أن يمدَّ الإحساسَ بما ليسَ لَهُ من الاستواء والاستقامة والسدَاد، وكذلك تتداعَى إليه الألفاظُ التي يريدُ التعبير بها مقتَرِنًا بعضها إلى بعض، بحيث لا تخرج هذه الألفاظ في الكلام حائِرَة قلقة، تجول في عبارتها من انقطاع الرباط الذي يربطها بالمعاني التي أحسَّها الشاعرُ، فهاجَتْه فغلبَتْه، فأراد التعبير عنها تعبيرًا صافيًا مهتزًّا متغلغِلاً قويًّا، فيه صفاء الإحساس واهتزازه، وتغلغُله وقوَّته.

 

وأداة المنطق العقلي هي اللغة، والعقل بغير اللغة لا يستطيع أن يستويَ ويتسلسل ويتَّصل، ولا أن تتدفَّق معانيه في مجراها الطبيعي.

 

فالمنطقُ العقلي - كما ترى - هو خِزانة اللُّغة التي تُمَوِّل الإحساس، فهو يتقاضاها ما تستطيع أن تمدَّه به من المادة التي تمكِّنه من الظُّهور والانتقال، فربَّما أخَذ من اللغة ما هو (موصل رديء) للإحساس، وربما أخذ منها ما هو (موصِّل جيد)، يستطيع أن يسري فيه إلى قارئه أو سامعه، فإذا عرفت هذا أيقنتَ أن الشعر يتَّصل أوَّل ما يتَّصل بإحساس قارئه وسامِعه، فيهزه بقدر ما تحمِل ألفاظه من إحساس قائله، فإذا أخفَقَ أن يكون أثره كذلك فمرجِع هذه إلى أحد أمرَيْن:

إمَّا أن الشاعر لَم يُوَفَّق إحساسُه في الاستمداد من لغته ما يطابق الإحساس، ويكون (موصِّلاً جيدًا) له؛ لأن منطقه العقلي لَم ينبذ إليه من مادته ما هو حق المعاني التي يتطلَّبها إحساسه - هذه واحدة.

 

أو لأنَّ مادة هذا المنطق العقلي أفقر من إحساس الشاعر، فهي لا تملك عندها ما يكفي للتعبير عن إحساسه، فهذه أخرى.

 

ولهذه العلة الأخيرة تجد كثيرًا من عامَّة الناس ليسوا شعراء، ومع ذلك فربما كان أحدهم أدق إحساسًا، وأعمق وأعنف، ويكون إحساسه أحفلَ بالمعاني وأغنى، وإنما يقطعُه عن الشِّعر هذه العلَّة، وهي فقر المنطق العقلي من اللغة التي هي مالٌ له، أو انقطاع المنطق العقلي دون الوصول إلى المنطقة التي ينقلب فيها هذا المنطق - بكماله وتمامه وقوَّته، واستوائه واستقامته - حاسَّة دقيقة مدبِّرة تعمل في حياطة الإحساس والقيام عليه وتسديده للغرَض الذي يرمي إليه في التعبير عن معاني الإحساس، كما قدَّمناه آنفًا.

 

وأمَّا الأمر الثاني - الذي يُخْفِقُ بسببه الشعر في التأثير - فمرَدُّه إلى القارئ أو السامع، فإذا كان إحساسُ السامع أو القارئ ضعيفًا بليدًا غثًّا، فمهما يَأتِه من شعر حافل قويٍّ عنيف دقيق العبارة عن إحساس شاعره، فهو لديه شيءٌ فاتِرٌ ضعيفٌ لا يهزُّه ولا يبلغُ منه ولا ينفُذ فيه، وهذا الضرب من العامَّة الذين لا يتأثَّرون بالشعر لا يُعتَدُّ بهم، ولا يُنظَر إليهم، ولكن هناك ضربٌ آخَر يكون بليغ الإحساس، جيد التلقِّي، صالحًا للتأثُّر بما ينتقل إليه من هزَّة الإحساس، فيهتزُّ لها ويطرب، وقد يكون مع ذلك خِلوًا من اللغة التي يعبِّر بها الشعر؛ إذ ليس له منطقٌ عقليٌّ سامٍ متخير للكلام، يختزن اللغة لنفسه إذا فكَّر، ولفهمه إذا حُدِّث أو أُنشِد؛ فهو ربما سمع الشعر الجيد فلم يبلغ منه المبلغ الذي أُرِيد له هذا الشعر، وكَثُر هؤلاء في عصرنا هذا حتى سقط الشِّعر، ولم يحفلْ به إلا قليلٌ؛ وهم لم يكونوا كذلك إلا لفساد التعليم وقِلَّة احتفاله باللغة وبيانها وأسلوب مجازها، ولأن الجُهَلاء والسُّخَفاء هم سوادُ الناس، وفساد الطبائع فيهم راجِعٌ إلى هذين: فمخالطة الجُهَّال تُورِث الجهالة والخبال، وترْك التعلُّم وسوء التعليم ذريعةٌ مُفضِيةٌ إلى الجهْل والبلادة، فكيف - مع هذَيْن - يخلص أحدهم من فقر العقل وبلادة التأثُّر بالشعر البليغ الحافل بالإحساس المشبوب العنيف؟

 

فأنت ترى أن اللغة المتخيرة المرصدة للتعبير عن الإحساس تعبيرًا مسدَّدًا بالمنطق العقلي الذي لا يزلُّ على مدارج المجاز، فتنقطع صِلاتُه بحقائق المعاني التي وُضِعتْ لها هذه الألفاظ اللغويَّة.

 

ثم المنطقُ العقلي الذي يختزِن هذه اللغة، ويستطيع أن يتحوَّل حاسَّة دقيقة مدبِّرة تقوم على الإحساس وتَحُوطه من الضلال، ثم المعاني التي يتمثَّلها إحساس الشاعر حين يهيجه ما يؤثِّر فيه تأثيرًا قويًّا عنيفًا، هذه الثلاثة هي مادة الشعر الجيِّد، فإذا سقط أحدها أو انحطَّ أو ضعف، سقط الشِّعرُ بسقوطه، أو انحطَّ، أو ضعف.

 

وأنا أقول: إن أكثر شعر العصر العربي الحاضِر قد انحطَّ وضعف وسقط؛ لأن أكثر الشعراء قد بلغ منهم العيب مبلغًا أفسد كلَّ ما يُعتَدُّ به من آثار (الشاعرية) التي بقيت فيهم، ولم يخلص لأحدٍ منهم جميع هذه الثلاثة التي ذكرنا، ولكن بقي لشاعرين أو ثلاثة ما يمكن أن يُلحِقهم بأهل المرتبة الأولى من الشعراء العبقريين، وهذه المرتبةُ الأولى إنما نتخيَّلُها ولا نكاد نعرف أحدًا استوى عليها، فملك فيها بيان العربية وشعرها يصرفهما كيف شاء، فيكون في تاريخ اللِّسان العربي عبقرية جديدة كامرئ القيس، ومسلم بن الوليد، والمتنبِّي، وأبي نواس، والبحتري، وأبي تمام، وغيرهم ممَّن يُعَدُّ لسانًا وحده.

 

شاعرٌ!

وأحد هؤلاء الشعراء الثلاثة الذين سيدفعون أنفسهم في مجاز العربية حتى يبلغوا المرتبة الأولى - فيما نتوهَّم - هو (محمود حسن إسماعيل)؛ فهو إنسان مُرهَف الحسِّ دقيقُه، متوهِّجُ النَّفس، سريع التلقِّي للمعاني التي يُصَوِّرها له إحساسه، وإن إحساسه ليُنشِئ له من هذه الصورة والمعاني أكثر ممَّا يستطيع أن يُطِيق صبره، وهو - إذ فقَد الصبر على مطاولة هذه المعاني من إحساسه - تراه يثبُ وثبًا من أوَّل المعنى إلى آخره لا يترفَّق، كأن في إحساسه روح (قنبلة).

 

فلذلك تجد المنطق العقلي في شعره متفجِّرًا أبدًا لا يُبالي، (أوَقَع على اللفظ من اللغة، أم وقع اللفظ عليه)، ولكنه على كلِّ حال منطق يَقِظ حسَّاس بعيد الوَثْبَة، يُحاوِل دائمًا أن يضبط هذا الإحساس الذي لا يهدأ ولا يستقرُّ، وسينتهي - بعد قليل من المصابرة والمرابََطة لإحساس مشاعره - إلى القدرة على مُتابعة إحساسه وكبحه وتزجيته على هدْيٍ واحدٍ مؤتلف غير مختلف، وذلك حين يجتاز الشاعر السنَّ التي هي علَّة التوقُّد الدائم، والاهتزاز المتتابِع، تتابُع البرْق إذا خفق وومَض وضرَب بعضُه بعضًا بسِياطٍ من الضوء في عوارِض السَّحاب، وأمَّا لغته فقد ملَك منها ما يَكفِيه بقَدْرِ حاجة بعض إحساسه، فإذا امتدَّت يده إلى خزائن العربية التي لا تنفد، وتداخَل في أسرار حروفها بالمدارسة الطويلة، وتآمَرَتْ ثلاثتُها على تسنيَة الأبواب له واحدًا بعد واحد، حتى يستطيع أن يستوي على سَرارة[1] المرتبة الأولى للشعر غير مُدافَع.

 

هذا، وإن في كثيرٍ من شعره الذي نشَرَه إلى اليوم ما يجعلني على ثقة - إن شاء الله - من أنه مُدرِكٌ ذلك لا محالةَ، فهو قد استولى على كلِّ ما هو به شاعر، ولا أظن ظنَّ السوء بقدَر الله أن يكون هو قاطِعه دون المنهج الذي تعبَّد بين يديه، ولم يبقَ له إلا قليل حتى يبلغ الذِّروة العليا.

 

قصيدة الزلزال:

وقد قرأتُ قصيدته[2] الأخيرة في (فاجعة تركيا) - كما سمَّاها - ثُم سمعتها، فوجدتُ لزامًا عليَّ في هذا الباب أن أُثبِت بعض رأيي في الشعر والشاعر، ثُم في (محمود حسن إسماعيل) خاصَّة، ثُم في هذه القصيدة، وقبيحٌ أن يجهل مريدو الشعر الجيِّد هذه القصيدة الفذَّة، التي تكشف عن السر المستكن وراء هذا الشاعر، وإذ قد عرضنا مرَّة لبعض الشعر الأسود المظلِم، فلا بُدَّ إذًا من أن نمحو آيته ببعض آيات الشعر المشرِق المضيء.

 

وقد كان (زلزال الأناضول) عذابًا من العذاب الأكبر بأهواله، حتى قالوا: إنه أشدُّ ما عُرِف من الزلازل وأخطرها، وأفظعها موقعًا وأثرًا، وقد كان ما تنشره الصحف اليوميَّة من أخباره هولاً هائلاً مفزعًا، يكاد يجعل الولدان شيبًا، فلا شكَّ إذًا أن يكون هذا الرُّعب الراجف في إحساس شاعرٍ فَزِعٍ (كمحمود)، رجفة يُرعد بها رعدة طائرة مدوِّية مصلصلة مجلجلة.

 

وأنت إذا بدأت القصيدة:

هَاتِ الشَّدَائِدَ لِلْجَرِيحَةِ هَاتِهَا
فَالصَّبْرُ فِي الأَهْوَالِ دِينُ أُسَاتِهَا
وَاحْشُدْ صُرُوفَكَ يَا زَمَانُ فَرُبَّمَا
لَهَبُ العَظَائِمِ شبَّ مِنْ نَكَبَاتِهَا
وَلَعَلَّهَا خَمْرٌ تَدُورُ فَيَسْتَقِي
خَمْرَ الكِفَاحِ الشَّرْقُ مِنْ كَاسَاتِهَا

 

رأيت الأمر والنداء، نداء الفَزِع الطَّامِي بطغيان أمواجه على إحساس الشاعر، فلم يملك إلا إسلام نفسه إلى اليأس، فيستزيد من البلاء ويطلبه، فيقول: "هات الشدائد"، ثم يعود فيقول: "هاتها"؛ ليُثبِت إيمانه بالصبر على هذا البلاء، فهو إيحاء؛ إذ قد يئس أن يصرفَ عن إحساسه ما طغى به عليه هول ما سمع من صفة الزلزال، ويَدُلُّك على أن هذا المطلع قطعة من اليأس، عودتُه إلى الشك في هذه الشدائد الموقدة بنارها ولهيبها، والتي زلزلتْ أمَّة من الناس، فكانوا كما قال الله - تعالى - في صفة زلزلة الساعة: ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 2].

 

فكذلك عاد الشاعر يشكُّ بعد طغيان البلاء عليه أن ينقلبَ كل ذلك الرُّعب الذي اضطرَب به الناس سُكرًا يجرِّئ هذا الشرق المغلوب على الكفاح، في زمنٍ يرمي من أهواله شدائد ترجف بالشرق رجفةً كأشد ما رَجفتْ زلزلة الأناضول، فلذلك قال: "ولعلها خمر....".

هِيَ أُمَّةٌ زَلْزَلْتَ جَنْبَ مِهَادِهَا
وَنَفَخْتَ رِيحَ المَوْتِ فِي جَنَبَاتِهَا

 

وهذا البيت يكاد يكون الحد الفاصل بين يأس الشاعر الذي طغى عليه حتى أنساه رُوح الزلزلة التي كانتْ في إحساسه، وهو نفسه الذي يردُّه مرَّة أخرى فَزِعًا ثائرًا متوثِّبًا تتقاذَفه تهاويل إحساسه في رُعب بعد رعب.

شَوَّهْتَ صَفْحَتَهَا بِمُدْيَةِ جَازِرٍ
الرَّحْمَةُ انْتَحَرَتْ بِحَدِّ شَبَاتِهَا
مَجْنُونَةُ الحَدَّيْنِ لَوْ هِيَ لَوَّحَتْ
لاَنْهَدَّ رُكْنُ الأَرْضِ مِنْ حَرَكَاتِهَا
ذِئْبِيَّةُ الشَّهَوَاتِ جَاعَ حَدِيدُهَا
وَأَرَاقَ جُوعُ الوَحْشِ فِي لَهَوَاتِهَا

 

وهنا موضعٌ يُوقَف عنده، فإنَّ المعنى الذي أرادَه الشاعر والصورة التي نشَأَت من شدَّة إحساسه بِهَوْلِ الزلزلة طغَتْ، فلم يستطع المنطِق أن يضبِط اللغة على قياسها، فهو يُريد أن يقول: إنه يرى هذه المديَة الصَّقِيلة الذئبية الجائعة المهلِكة المجنونة، فيرى على حَدَّيْها وصفحتَيها من فِرِندها وضوئها ومائها ما ينسابُ ويتريَّق ويتلألأ ويرمي بأضوائه، كأنه ضوء جائع يُرِيد أن يلتَهِم كلَّ ما يلقاه، وذلك قوله: "وأراق جوع الوحش في لَهَواتها"، فقوله: "وأراق" هنا لا توافق المعنى، وقد أوقَعَه عليها اختلاط (فرند المُدْيَة) - وهو ماؤها - بالمعنى الذي أرادَه، ولو قال: (يذكي سعار الوحش في لهواتها)، أو ما يُقارِب ذلك لكان أجود، ثم يمضِي الشاعر في تصوير ما تخيَّله - حين فجَأَت الزلزلة الأناضول -:

 

 

وَالنَّاسُ غَرْقَى فِي السُّكُونِ سَجَتْ بِهِم
سِنَةٌ يَنَامُ الهَوْلُ فِي سَكَنَاتِهَا
بَيْنَا هُمُ فَوْقَ المُهُودِ عَوَالِمٌ
غَشَّى ضَبَابُ الصَّمْتِ كُلَّ جِهَاتِهَا
وَإِذَا بِقَلْبِ الأَرْضِ يَرْجُفُ رَجْفَةً
دُكَّ الصَّبَاحُ وَذَابَ فِي خَفَقَاتِهَا
وَانْشَقَّتِ الدُّنْيَا لَدَيْهِ فَلَمْ يَجِدْ
أَرْضًا يُغِيثُ النُّورَ فِي رَبَوَاتِهَا
فَطَوَى المَدَائِنَ وَالقُرَى وَهَوَى بِهَا
فِي سدْفَةٍ تَهْوِي عَلَى ظُلُمَاتِهَا
.........................
......................
وَبَنَى اللُّحُودَ عَلَى المُهُودِ وَهَدَّهَا
فَنَضَا سُتُورَ المَوْتِ عَنْ عَوْرَاتِهَا
زأَرَتْ جِرَاحُ الأَرْضِ فَاهْتَاجَ الرَّدَى
وَتَنَهَّدَ الزِّلْزَالُ فِي سَاحَاتِهَا

 

وإذًا، الذي أتى به في وصف الزلزلة إلى آخِر القصيدة شيء هائل مُخِيف تقشعِرُّ له الأبدان، وتراه متدفِّقًا طاغيًا لا تكاد تقف على كلمة منه إلا مرتاعًا قد قَفَّ شعرك[3] عن هول ما تنقل إليك ألفاظه من معاني إحساسه الثائر المتفجِّر:

أَنْفَاسُهُ لَهَبُ الجَحِيمِ وَخَطْوُهُ
خَطْوُ المَنَايَا السُّودِ فِي فَجَآتِهَا

 

إلى بعض القرَّاء:

وبعدُ، فإن العالِمَ الثقةَ الثَّبْت المحقِّق الدكتور/ بشر فارس قد عَلِمَ فَعلَّمَ، وأنا أشكرُ له ما علَّمني، فأنا لا أحب أن أكون كالذي قِيل في أمره: "لا تُناظِرْ جاهِلاً ولا لَجُوجًا؛ فإنه يجعل المناظرة ذريعةً إلى التعلُّم بغير شكر"، ثم بصَّر (بشر) أيضًا بما كنت أجهل من العروض واللغة والبيان، فأوغَرَ صدري، فنثرت حول قَهْري ما ملكت من نفايَة الكلام، وكذلك طوَّقتُ نفسي به زينةً وحِليةً أتبرَّج بها للناس، أو كما قال، وهو كذلك!

 

فأنا أحمد الله الذي كفَاني شرَّ الغرورِ والخُيَلاء، ولم يجعلني كالجاهلة الخرقاء التي زعموها تأنَّقت بما ليس فيها، ولا هو من طباعها، حتى ضربوا بها المثل فقالوا: "خرقاءُ ذات نِيقة"[4]، والحمد لله الذي لم يجعلني ممَّن يتزيَّن بما ليس تملكه يداه، فقد قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المتشبِّع بما لم يُعْطَ كلابس ثوبَيْ زُور))[5]، والحمد لله الذي جعلني جاهِلاً يعرف أنه جاهل، ومن أين لمثلي العلم؟ أليس قد "ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سوء"، كما قال ابن شُبرمة في رواية بشر فارس عن ابن شبرمة: (بريد "الرسالة" العدد 346).

 

وقد قرَّر الأستاذ بشر أنه بصَّرني بأمور ثلاثة، وأنِّي سلَّمت مرغمًا بأنه بصَّرني بما كنت أجهل من أمرها! وإذا قرَّر الأستاذ بشر فقد وجب عليَّ وعلى الناس التسليم بما قرَّر، أليس ذلك كذلك؟ بلى، ﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ ﴾ [البقرة: 285].

 

ومع ذلك، فمن غَلَبة الجهل علينا أن البحر الذي وضَعَه وسمَّاه (المنطلق)، لا يزال عندنا وعند أصحابنا من علماء العروض هو من (مجزوءة المتدارك)، أدْخَل الشاعر الأستاذ على ضربها العرج أو الفساد أو الخبن أو ما شئت فسمِّه، ثم ألزَمَها ذلك في سائر أبياته، ثم قال: إنه وضع بحرًا، ومن غلَبَة جهلنا أيضًا أننا نعدُّه وزنًا ثقيلاً غثًّا كسائر الأوزان الممكِنَة التي تركَتْها العرب لثِقَلِها على السَّمْع، فلم تُجِزْها في شعرها، ومن غلَبَة جهلنا أيضًا أننا لا نزال ندَّعي أن لن يوجد في أصحاب الألسنة العربية من الشعراء المُجِيدِين مَن يُتابِع النظم على هذا الوزن الجافي من (مجزوءة المتدارك)، وكذلك أهملناه وسنُهمِله.

 

وأمَّا حديث (الزلزلة) فلا نزال نقول: إن كلَّ حرفٍ من حروف العربية ينقل إلى المجاز، فهو يتطلَّب دائمًا حقيقته، وإلا فسد مجازه، فإذا كان أصل الحرف (زلزل)، وحقيقته: أن يزلَّ الشيء عن مكانه مرَّة بعد مرَّة؛ أي: أن ينتقل ويتحرَّك ويسقط ويخرج عن الموضع الذي يستقرُّ عليه، فلا بُدَّ من كل مجاز لهذا الحرف أن يكون ما يقع عليه فعل الزلزلة - أي: نائب الفاعل أو المفعول - شيئًا منتقلاً من مكانٍ إلى مكان، أو شيئًا يجوز أن ينتقل من مكان إلى مكان، فهذا هو شرط المجاز أو الاستعارة في هذا وأمثاله، وإذ ليست الأذن كذلك فقولك: (زلزل الطرب أُذُني) مجازٌ فاسِدٌ؛ لأن الأذُن ثابتة لا تتحرَّك.

 

وإذا قال كتَاب "خلاصة الطبيعة في الصوت" في باب (شرح عمل الأذن): إن الصوت يهزُّ غشاء طبلة الأذن حين تصكُّها الأمواج الهوائية التي يُحدِثها مصدر الصوت، فليس معنى (يهز الغشاء) هنا أنه ينقله من مكانٍ إلى مكانٍ آخر، فإذا كان ذلك كذلك، وكان غشاء طبلة الأذن مثبتًا لا يتحرَّك؛ أي: لا ينتقل من مكانه، وإنما هو اهتزازٌ يلحقه، فليس في الدنيا (ناي) أو غيره يستطيع أن يجعله يتحرَّك؛ أي: ينتقل من مكانه، ولو كان في قلب هذا (الناي) عشرون فرقة من فِرَق (الجازبنْد)، ولو كان ذلك فتحرَّك الغشاء قليلاً عن مكانه لتَمزَّق وانخرَق، وكان الصَّمَم، وإذًا فليس يجوز في العربية أن يُقال: (زلزل الطرب أو الناى غشاء طبلة أُذُني)، وإلا فهو مجازٌ فاسدٌ أيضًا.

 

وأمَّا ما يُقال من أن الزلزلة والطرب على مجاوَرَة في لغتنا، فهو شيء لا أصل له، وهي عبارة لا تؤدِّي إلى معنى، وهو كلام (يدخل بعد العِشاء في العرب).

 

وأخيرًا، فمن عِظَة نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - قوله: ((مَن طلَب العلم ليُمارِي به السفهاء، أو يُباهِي به العلماء، أو يصرِف به وجوه الناس إليه، أدخَلَه الله النار))، ونحن نعوذ بالله أن نخالف عن أمر نبيِّنا، أو نكون ممَّن يستخفُّ بما أُنذِر به، فنُباهِي الأستاذ (بشر) بما نعلم، وإذًا فلست أجعل حديثي هذا إلا للقُرَّاء وحدهم لأضع به عن نفسي أمانة العلم.

حَتَى إِذَا مَا الصَّبَاحُ لاَحَ لَهُمْ
بَيَّنَ سَتُّوقَهُمْ مِنَ الذَّهَبِ [6]
وَالنَّاسُ قَدْ أَصْبَحُوا صَيَارِفَةً
أَعْلَمُ شَيْءٍ بِزَائِفِ النَّسَبِ

 

فأستأذِن القُرَّاء وأستغفرهم، فأنا امْرُؤٌ لا يُحِبُّ أن يُنَصب نفسه لِمَن هو عنده نفسُه أكبرُ من نفسه، والسلام.

 

ابن شُبرمة:

وما دمنا في حديث أمانة العلم فقد رأيت أن الأستاذ المحقِّق (بشر فارس) روى خبرًا عن ابن شبرمة القاضي قدَّمناه آنفًا، وهو: (ذهب العلم إلا غبارات في أوعية سود)، وقد رأيت صاحب "العقد الفريد" (ج1/ص 205 طبعة بولاق أيضًا) قد أورَدَه بهذا النص عينه، وهو يبدو لنا نصًّا عربيًّا مظلم النور.

 

وتحرير رواية الخبر: "ذهب العلم إلا غُبَّراتٍ في أوعية سوء" بضم الغين المعجمة وفتح الباء المشدَّدة، والغُبَّرات جمع غبَّر، وهو آخِر الشيء وعقابيله وما يبقى منه، يُرِيد ابن شبرمة: أن العلم لم يبقَ منه إلا قليلٌ قد وقَع في صدور رجالٍ من الفخار والخزف لا تضيء ولا تقبل الضوء.

 

وقد ورَد هذا الحرف (غُبَّرات) في حديث عمرو بن العاص يقول لعمر بن الخطاب: "إني والله ما تأبَّطَتْنِي الإماءُ، ولا حملَتْنِي البغايا في غُبَّرات المآلي".

 

والمآلي: خِرَق للنساء يكون فيها الدم، وغُبَّراتها بقايا الدم، ومن ذلك أيضًا قول أبي كبير الهُذَلي يصف ابن زوجته تأبَّط شرًّا الشاعر الفاتِك:

حَمَلَتْ بِهِ فِي لَيْلَةٍ مَزْؤُودَةٍ
كَرْهًا، وَعَقْدُ نِطَاقِهَا لَمْ يُحْلَلِ [7]
فَأَتَتْ بِهِ حُوشَ الفُؤَادِ، مُبَطَّنًا
سُهُدًا إِذَا مَا نَامَ لَيْلُ الهَوْجَلِ [8]
وَمُبَرَّأً مِنْ كُلِّ (غُبَّرِ حَيْضَةٍ)
وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ، وَدَاءٍ مُغْيلِ[9]

 

فهذا تحقيق رواية الخبر على التحرير والدراية، فمَن كانت عنده نسخة من "العقد الفريد" طبعة بولاق فليُصححه!



[1] سرارة كل شيء: أكرمه وخياره.

[2] وهي طويلة تَزيد على ثمانين بيتًا، فلذلك لم نستطع أن نستوفي الكلام عنها، وإنما دلَّلنا على منهاجها وروعتها (شاكر).

[3] قفَّ الشَّعْرُ: قام من الفزع.

[4] قال الميداني في مضرب هذا المثل: "يُضرب للجاهل بالأمر وهو مع ذلك يدعي المعرفة".

[5] ((كلابِس ثَوْبَيْ زور)) مثَل، انظر: الميداني 3/35.

[6] السَّتُّوق (بفتح السين وضمها): الزَّيْف البهرج الذي لا خير فيه، وهو مُعَرَّب.

[7] مزؤودة: فَزِعة، نسب إليها الفزع لأنه وقع فيها.

[8] حوش الفؤاد: وَحْشِيُّ الفؤاد حديده، المبطَّن: الضامِر البطن، وهو مدح، السُّهُد: الذي لا ينام الليل، من حذره وتوقَّده، الهوجل: الوَخِم الثقيل، ونسب النوم لليلة لأنه يقع فيها.

[9] مُغْيِل: من الغَيْل؛ وهو أن تُغْشَى المرأة وهي تُرْضِع، فذلك اللبن الغيل، ومنه حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لَهَمَمْتُ أن أنهى عن الغَيْلَة)).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • في الماضي
  • الرأي العام
  • خلفان بن مصبح
  • الاقتباس واستلهام القرآن الكريم في شعر أمل دنقل
  • الفروق اللغوية في الشعر العربي
  • حقيقة الشعر وجوهره
  • آلام الشعر
  • من معين الشعر في طلب العفو والمغفرة
  • شعراء يتعففون في الغزل
  • من نفاق الشعراء
  • الشعر والجذور العقدية
  • الشعر المنشود
  • بين الشعر والشعرية
  • نبذة عن معجم الشعراء للمرزباني (ت 384هـ / 994م)
  • الشعر في نموه التاريخي
  • لمحة عن الشعر في العهد الإسلامي
  • الشعر ودوره في البناء العام
  • الشعراء والصور
  • ما كل موزون بشعر
  • الفن وفلسفة التربية: فن الشعر
  • الشعر الفلسطيني بين الماضي والحاضر
  • زجل
  • إذا كان شعرا ما يقال
  • العلم في واحة الشعراء
  • شعر صار نثرا!
  • تردي الشعر

مختارات من الشبكة

  • الشعر في ديوان جولة في عربات الحزن(مقالة - حضارة الكلمة)
  • مفهوم الشعر عند قدامة من خلال كتابه نقد الشعر(مقالة - حضارة الكلمة)
  • هل كريم الشعر يمنع وصول ماء الوضوء إلى الشعر؟(استشارة - موقع الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي)
  • لماذا الشعر النبطي تجاوز الشعر الفصيح؟(مقالة - حضارة الكلمة)
  • خصائص النبي المختلف عليها (5)(مقالة - ملفات خاصة)
  • الشعر والفلسفة عند النحاة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • من فنون الشعر(مقالة - موقع د. محمد الدبل)
  • إبداع الشعر الملحمي الإسلامي .. شعر أحمد شوقي نموذجا(مقالة - موقع د. محمد الدبل)
  • أثر الموروث الشعري القديم في ديوان الشعر السعودي الحديث(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • زينة المرأة: النمص(مقالة - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب