• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / اللغة .. والقلم / الوعي اللغوي
علامة باركود

اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة في التجارب

اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة في التجارب
د. أحمد فيصل خليل البحر

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 16/4/2025 ميلادي - 17/10/1446 هجري

الزيارات: 322

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة في التجارب

 

الوقت تمام التاسعة صباحًا في خريف عام 2024، والمكان جامعة يورك وتحديدًا في كينغز مانر (King’s Manor)، وتعني بالعربية نُزُل الملك، والمقصود بالملك هنا هو هنري الثامن وهذا المَعلم التاريخي هو أحد إقطاعياته التي أصبحت اليوم جزءًا من جامعة يورك وتضم عدة أقسام منها قسم دراسات العصور الوسطى. أما الطلبة الذين يدرسون اللغة العربية هنا فهم مزيج متباين من طلبة الدراسات الأولية (البكلوريوس) والعليا (الماجستير والدكتوراة) ممن يحتاج إليها في دراسته وبحثه سواء في التاريخ أو الفلسفة أو الأدب أو الأديان وغير ذلك من العلوم والمعارف. اسم المادة (عربية العصور الوسطى)؛ حيث إن الاسم هنا يلائم ما يدرسه الطلبة في الأقسام المذكورة آنفًا، والحقيقة أنها ليست سوى العربية الفصحى.

 

يدخل الطلاب إلى القاعة الباردة الرطبة؛ لأن البنايات القديمة والأثرية يصعب تدفئتها، وهو ما كان في ما مضى أحد أسباب الوفاة المبكرة عند الإنجليز؛ نظرًا إلى إصابتهم بأمراض الصدر والعظام المزمنة بسبب البرد. وعادةً ما أكون قد حضرتُ إلى قاعة الدرس قبل الطلاب، فأرى في عيونهم وهم يدخلون إلى القاعة فرحًا وإثارة وترقبًا.. تمامًا مثل زبائن مقهى أثري في دمشق ينتظرون الحكواتي ليخبرهم بقية حكاية أسطورية؛ كسيرة أبي زيد الهلالي أو عنترة بن شداد. لكن ما قد ينغص عليهم وعلى جميع الطلاب دون استثناء، صعوبة المادة وتحدياتها، وطبعًا سيرة الامتحانات. وبسبب معضلة البرد وارتفاع تكاليف التدفئة فقد وفرت الجامعة في كل قاعة من قاعات هذا الصرح التاريخي بعض الأغطية كي يستخدمها الطلاب، أما الأستاذ المسكين فقد نصحته الجامعة بعدم خلع معطفه في أثناء التدريس. ورغم ذلك تبقى تجربة التدريس في كينغز مانر ولذتها من أروع التجارب وأجملها. أما ترقبي لرؤية الإثارة في عيون الطلبة فهذه قصة أخرى سأرويها في السطور التالية.

((كينغز مانر في الخريف))

((كينغز مانر في الخريف))


((إحدى قاعات الدراسة في كنغز مانر))

((إحدى قاعات الدراسة في كنغز مانر))


اليوم مضى على عملي محاضرًا للغة العربية وآدابها في المملكة المتحدة عقد ونصف تقريبًا. دَرَّستُ في هذه المدة طلابًا من جميع الأعراق والجنسيات. والمثير للاهتمام هنا أن الطلبة الذين كانوا يختارون العربية لدراستها يرون أنها كانت تجربة فريدة في حياتهم، وبعضهم يشبهها برواية "أليس في بلاد العجائب"، فمنهم من ينسحب سريعًا عندما يصطدم بصعوبة اللغة، أو لنقل براعتها وعبقريتها، ومنهم من تعجبه التجربة وتستهويه؛ فيختار أن يستمر في تعلمها لينزل في جحر الأرنب رويدًا رويدًا فيزداد تعجبًا وانبهارًا عندما يكتشف كم هو عميق هذا الجحر ولما يصل بعد إلى نهايته ليرى بلاد العجائب. وهو ما عنيته آنفًا بقولي إنني أرى في عيون الطلاب شيئًا من بريق الإثارة. فاللغة العربية- بالنسبة إلى كثير منهم ممن لا يعرف عنها شيئًا البتة ولكنه يقرر فجأة أن يخطو هذه الخطوة الجريئة فيتعلمها- عالم جديد لم يسمع عنه من قبل أو بالأحرى آثر تجَنُّبَه؛ إما بسبب جهل الطالب بهذا العالم وإما بسبب هيمنة الصورة النمطية التي يفرضها الإعلام في الغرب التي تصور العرب إرهابيين متخلفين ورجعيين.

 

ولكن يبقى السؤال: كيف ينجح الأستاذ في صنع الإثارة والتشويق والاهتمام لدى متعلمي اللغة العربية؟

إن لتدريس اللغة العربية وآدابها في بريطانيا تحدياتٍ خاصةً، منها ما ذكرته عن الصورة النمطية وهناك تحديات أخرى مثل رهاب الامتحانات، وهو ما يدفع الطلبة إلى الهروب من كل صعب؛ كدراسة اللغة العربية. ولهذا السبب تحاول المؤسسات التعليمية في الغرب أن تصور اللغة العربية على أنها لغة سهلة نافية صعوبتها. كما يعمد بعضهم لنفس السبب إلى تجنب تدريس الفصحى واستبدالها بنماذج أبسط؛ كالعامية المصرية أو الأردنية، أو تدريس نموذج مبسط لما يسمى بالعربية الفصحى الحديثة؛ وهي نسخة مبسطة كذلك من الفصحى تُحجِّم اللغة العربية وتصغرها من حيث عدد المفردات والقواعد. وهو كذلك ما يصب في خدمة إدعاءاتهم أن اللغة العربية ليست إلا لغة حديثة لا يتجاوز عمرها ألف سنة، وأنها ليست سوى لهجة تفرعت من السريانية وغير هذا من خزعبلات هم أنفسهم غير قانعين بها رغم دفاعهم عنها، وسوف نأتي لاحقًا على ذكر هذه المسألة.

 

وقضية صعوبة اللغة العربية وعزوف المتعلمين عنها بسبب ذلك، كانت أحد التحديات التي واجهت أولى الخطوات التي خطاها الإنجليز في تعليم اللغة العربية، وذلك في أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر وتحديدًا في جامعة كامبريدج ثم جامعة أكسفورد. وقد ظهر الاهتمام بتعلم اللغة العربية بسبب ارتباطها بالعلوم والمعارف الموروثة عن الحضارة الإسلامية التي كانت محط أنظار الغرب، فقد درس عدد من المستشرقين اللغة العربية مثل وليام بيدويل (1561-1632) الذي يُعَدُّ من أوائل من أسس لتعليم اللغة العربية في انجلترا[1]، وقد واجه مدرسو اللغة العربية الأوائل في كامبريدج وأكسفورد مثل إدوارد بوكوك الذي كان أسقف حلب والسير توماس آدمز الذي شغل منصب عمدة لندن نفس المشكلة؛ ألا وهي رهبة الطلبة من اللغة العربية وتخوُّفهم من دراستها أو عزوفهم عنها لأسباب أخرى مثل مقتهم للإسلام (جذور الصورة النمطية). ولمواجهة هذا التحدي جرت كتابة مقالات وخطب عن أهمية تعلم اللغة العربية وجمالها وروعة الثقافة العربية والتراث والأدب... إلخ، كخطبة توماس إربينيوس ((عن أهمية اللغة العربية)) عام 1620 [2]. ومثل تلك الخطب والمقالات القصيرة التي تشبه في أيامنا هذه المقاطع المرئية القصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، فعلت فعلها في اجتذاب الطلبة لتعلم اللغة العربية.

((ملصق إعلاني يدعو لدراسة اللغة العربية في جامعة يورك))

((ملصق إعلاني يدعو لدراسة اللغة العربية في جامعة يورك))

 

ومع هذا فإن التحديات اليوم لا تزال قائمةً بصور وأشكال شتى، حتى مع تطور وسائل التعليم وأساليبه. والسبب أن نَفَسَ الطلاب وهمتهم وصبرهم في طلب العلم قد تغير وضعف كثيرًا عن ذي قبل. ومن أهم التحديات التي تواجه الطلبة على مستوى اللغة العربية أمور عدة منها ازدواجية اللغة diglossia بمعنى أن هنالك الفصحى للقراءة والكتابة، والعامية للسماع والتخاطب، وأن اللغة العربية لغة معربة declinable لا لغة مبنية indeclinable كالإنجليزية، فمثلًا كلمة باب door بالإنجليزية لا تتغير؛ ولكنها بالعربية بابٌ وبابٍ وبابًا والبابُ... إلخ. وهنالك أيضًا الحروف الأبجدية نطقًا وكتابة، والأهم من ذلك حفظها ورسوخها في أذهانهم، وذلك من أصعب التحديات التي يواجهونها في بداية طريقهم لاكتساب اللسان العربي. أما فيما يتعلق بالنطق، تطيش ألباب الطلبة في محاولة التمييز بين السين والصاد والدال والضاد والذال والظاء والهمزة والعين والهاء والحاء وغيرها. كما أنهم يعانون كذلك في محاولاتهم التمييز بين الفتحة والألف والضمة والواو والكسرة والياء نطقًا وسماعًا. وأما من حيث الكتابة فإن الكتابة عكس ما يألفون (من اليمين إلى اليسار) صعبة عليهم، ناهيك عن دمج الحروف في الكلمات. هذا كله قبل الدخول في مضمار القواعد والنحو (الجملة الاسمية، والجملة الفعلية، والضمائر المنفصلة والموصولة، والحروف الشمسية والقمرية، وهلم جرًّا). ونحن هنا لا نزال في مستوى المبتدئين!

 

ولأجل كل تلك التحديات صار لزامًا عليَّ كأستاذ أن أبتكر أسلوبًا في التدريس يواجه تلك المعضلات ويحلها. وأظن أن غيري قد فعل مثل ما فعلت. وعندنا في الأدب الإنجليزي مقال للسير فيليب سيدني (1554-1586) وعنوانه ((اعتذار/ دفاع عن الشعر))، وفيه أن سيدني يصف الشعر بأنه وسيلة فريدة في التعلم؛ لأنه يجمع بين التعليم والترفيه teaching through delight إضافة لكونه يتمتع بقدرات التصوير والإمتاع السماعي بالجرس الصوتي وغيره من الأساليب؛ كالقافية والوزن كما أنه أسهل في الحفظ؛ حيث إنه يعلق في الذهن أفضل مما يفعله الكلام العادي.

 

وقد ألهمني مقال السير فيليب سيدني هذا، لكنني أخذت منه الفكرة؛ ألا وهي أنه لا بد من ابتكار وسيلة كان يشبهها أحد أساتذتي بالدواء المغلف بالسكر Sugar Coated Pills، فوضعت لذلك خطة منهج أقسِّم فيه الدرس إلى أربعة أرباع: ربعٌ لمراجعة ما أخذناه في الدرس الماضي، وربع لمادة جديدة، وربع للمسائل، وربع لمادة جديدة خفيفة الوطء على الطالب نختم بها الدرس. وبين هذه الأرباع فترات قصيرة لما أسميتها الفسحة؛ حيث نتوقف لنتكلم في أمور لا تخرج عن سياق تعلم اللغة بل العكس فهي من جنس ما يتعلمه الطالب في المحاضرة وهي في نفس الوقت ممتعة ولا تحتاج إلى إعمال الفكر مثل الكلام عن التاريخ والشعر والعلوم وغير ذلك. والمواضيع التي نطرحها لا تكون عامة وإنما منتقاة بعناية؛ كالكلام مثلًا عن القهوة والشاي وكيف تم اكتشافهما، وما هي عادات شربهما في الدول العربية، ولماذا الخط العربي والزخرفة الإسلامية فن رائج أكثر من غيره كالنحت والرسم، أو الحديث عمَّا يسمى بالإنجليزية loan words أي المفردات المستعارة [3]. ومثل هذه المواضيع تزيد من معرفة الطالب، وترفع مستوى الوعي والإدراك لديه خصوصًا في فهمه لديناميكية اللغة وطبيعتها، إضافة إلى كونها ماتعةً وتعطيه فرصةً لالتقاط أنفاسه استعدادًا لتلقي مزيد من الدروس في قواعد الكتابة والنحو وغيرهما.

 

أما اللغة التي وقع اختياري عليها فكانت الفصحى الحديثة سماعًا ومخاطبةً وقراءةً وكتابةً. والسبب لأن الفصحى وحتى في نسختها المبسطة المسماة بالعربية الفصحى الحديثة modern standard Arabic لا تزال أفضل من تعَلُّم العامية؛ وذلك لكي لا يكون هنالك تضارب بين القواعد في القراءة والكتابة من جهة وبين العامية في المخاطبة والسماع التي لا يُعمل فيها بالقواعد كما ينبغي من جهة أخرى. إضافة إلى أن الفصحى مألوفة لدى الجمهور في الدول العربية، وذلك على عكس العامية التي علاوة على كونها محدودة فإنها قد تشكل بعض الحساسية لدى متحدثها في غير محيطها، كما حدث لبعض الدبلوماسيين الغربيين ممن يتحدث عامية دولة عربية ما في دولة عربية أخرى بينها وبين صاحبة تلك اللهجة أزمة سياسية. وهو ما جعل معظم الدبلوماسيين البريطانيين اليوم يتجنبون العامية ويتحدثون بالفصحى.

 

ومن الأدوات التي أستخدمها في تدريس اللغة العربية والأدب كذلك، وأثبتت نجاحًا، توظيف الترجمة كأداة لرفع مستوى فهم اللغة والتفاعل معها. وهي كذلك تعطي دفعة معنوية للطالب وإحساسًا بالثقة بنفسه وهو يقوم بمهمة الترجمة في مرحلة مبتدئة من تعلمه العربية، فمثلًا يقوم الطلاب في المرحلة المبتدئة بإكمال هذا التمرين في الترجمة من العربية إلى الإنجليزية ثم العكس في غيره وهكذا:

بيتٌ جميلٌ

A beautiful house

البيتُ الجميلُ

The beautiful house

بيتُ جميلِ

Jameel's house

هذا بيتٌ جميلٌ

This is a beautiful house

هذا البيتُ جميلٌ

This house is beautiful

هذا بيتُ جميلِ

This is Jameel's house

هذا البيتُ الجميلُ بيتُ جميلِ

This beautiful house is Jameel's

 

مثل هذه التمارين تعلم الطالب تحري الدقة في إبراز المعنى الصحيح لكل من هذه الجمل والعبارات. ومع تكرارها يمتلك الطالب مهارة التمييز بين الجملة الاسمية والفعلية وبين الصفة والمضاف إليه وهلم جرًّا.

 

وعودًا على النظرية القائلة بأن العربية متفرعة من الآرامية أو غيرها كالسريانية. فإنه من المؤكد عدم وجود دليل مادي ملموس على قدم اللغة العربية، ولا دليل كذلك على الادعاء القائل بحداثتها (وهو ما يتبنَّاه الغرب ولا مناص من تبنيهم لهذا الرأي). فأما حداثة اللغة العربية فتنفيه أدلة ملموسة دامغة وهي عدد المفردات الهائل الذي لا تقابله لغة أخرى بل ولا تكاد تدنو منه، وعدد جذور الكلمات، والتركيب النحوي والصرفي بالغ الدقة والتنظيم بلا منازع، وعدد الحروف الأبجدية وأصواتها والحركات كذلك وأمور أخرى لا يتسع المجال لذكرها.

 

أما عن قدم اللغة العربية، فالمعروف أن عمر أي لغة يُقاس بالعدد التراكمي للمفردات وما ذكرناه في أعلاه من خصائص. وهذا ما قد يجعل اللغة العربية موغلة في القِدمِ حدًّا لم يُبْق لها أثرًا ملموسًا سوى ما ذكرناه، مثلها في ذلك مثل الأنبياء؛ كنوح وإدريس وإبراهيم عليهم السلام، ولولا الكتب السماوية ما عرفناهم لاندثار الأدلة الملموسة على وجودهم. ومما حصل لي أنني مرة تجادلت مع رئيس القسم في هذه المسألة، وهو أستاذ ألمعي ومشهور في علم اللغة والصوتيات؛ حيث إنه سألني في الصباح وكنا نُعِدُّ الشاي معًا في مطبخ القسم: "لماذا تقول للطلبة بأن العربية قد تكون اللغة الأقدم على ظهر الكوكب؟" ثم شرع يعارض هذا الكلام بلا بينة واضحة.. فسألته أنا: "ما معنى آدم؟"، فتفاجأ وتلعثم في إجابته ثم قال: بالعبرية يعني إنسان. أجبته بدوري: "وممَّ خُلِق الإنسان؟"، فأجاب: "من الطين". فأخبرته أنه لا يوجد هذا المعنى لآدم إلا في العربية؛ أي: من أديم الأرض، ولو قارنا بين المعنيين في العربية والعبرية؛ فمن المؤكد أن المعنى الذي تنفرد فيه العربية أدق وأصح ومن ثم فهو أقدم؛ حيث إنه يدل على المادة التي خلق منها آدم وليس على الهيئة التي أصبح عليها كما تشير إلى ذلك كل اللغات ومنها العبرية. وأقسم أنه تعثر وكاد يسقط وهو يخرج من المطبخ فارًّا بجلده.

 

إن ما ذكرناه في أعلاه يدلُّ على بطلان فرضية تفرع العربية من الآرامية أو غيرها. وأزيد على ذلك أن تنوع اللهجات وتعددها في كل لغة أمر طبيعي ولكن يبقى الدليل على اللغة الأم التي تفرعت منها تلك اللهجات أنها مهيمنة من حيث عدد المفردات وأحكامها وتطور تركيبها النحوي والصرفي مقارنة بالفروع. وهو ما يجعل العكس صحيحًا، بمعنى أن العبرية والآرامية لهجات تفرعت من العربية. ويؤيد كلامي هذا عبدالحق فاضل في كتابه مغامرات لغوية؛ حيث يذكر أن قلب العين ألفًا والباء ميمًا كما في كلمتي (آرامي – عربي) أو جعل حرف مكان الحرف الذي بعده كما في (عبري-عربي) هي من الأمور الشائعة في اللغات، خصوصًا في اللهجات المتفرعة من اللغات[4]. ويؤيد ذلك الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله "أول من فُتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل" وهذا يعني أن اللغة التي تكلم بها إسماعيل هي الأم وهي العربية المبينة وأن غيره كأبيه إبراهيم عليه السلام كان يتكلم بأحد فروع تلك اللغة وهي الآرامية.


((السور الروماني الملاصق لكينغز مانر من جهة حديقة المتحف))

((السور الروماني الملاصق لكينغز مانر من جهة حديقة المتحف))


إن أي لغة تنشأ في محيط صحراوي مجدب يكاد يخلو من المدنية.. وكان معظم مُتحدِّثي تلك اللغة أُمِّيين لا يعرفون القراءة والكتابة وفوق ذلك فإن أكثرهم بَدْوٌ متفرقون في الأرض همهم الأعظم الكلأ والماء.. فإن مصير تلك اللغة هو الاندثار أو الاضمحلال بلا شك. ولكن كيف للغة نشأت في مثل هذه البيئة أن تصبح على ما هي عليه، إلا إذا كانت تلك اللغة هي النسخة الأولى archetype أو إن العناية الربانية تعهدتها فحفظتها.

 

أعود فأقول: إن مسيرتي في تدريس اللغة العربية وآدابها في المحافل الأكاديمية البريطانية تجربة متميزة وفريدة، خصوصًا وأن البيئة التعليمية خصبة صالحة للغرس. وقد حضر دروسي طلاب وطالبات لم يعرفوا عن العربية شيئًا من قبل واليوم أصبحوا متخصصين فيها بعد أن أكملوا الدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية. وقد يكون الأستاذ ملقنًا تارة ومعلمًا تارة ومُفهِّمًا تارة أخرى ولكنه لا كان إن لم يكن مُلهمًا. وأختم ببضعة أبيات كتبتها يوم مر على عملي مدرسًا للغة العربية عشر سنين:

عشرٌ من الأعوام عشت معلمًا
للضاد في أرض غزيرٍ قطرها
لم أخلُ فيها من مودة صاحبٍ
ودناء نفسٍ عمّ فيها شرها
ما زلت في هذي الجزيرة راعيًا
لبديعها وكلامها وصروفها
وأذود عنها ضد كل مهتكٍ
بالجهل من أثوابها وستورها
ألوي لسان الأعجمي مقوِمًا
عوجًا به كي تستقيم حروفها

 

وهذه الأبيات تأخذنا إلى موضوع تدريس الأدب، ففي كثير من الجامعات البريطانية ومنها جامعة يورك، تكون مناهج تدريس الآداب ومنها الأدب العربي انتقائية نوعًا وليست موسوعية كمًّا؛ حيث يتم اختيار بضعة نصوص ومن كل نص يتم اختيار نموذج ثم دراسته بعناية وتركيز. والسبب في ذلك يعود إلى أن الطالب يحتاج قبل الدخول إلى معترك دراسة الأدب إلى شيء من اللغة العربية مع مدخل ولو بسيطًا لفهم الثقافة العربية كذلك. وهذا يجري بالتزامن مع دراسة تلك النصوص. وعليه فلا بد من دخول المعترك رويدًا وبرفق لتجنب حصول فجوة في الفهم قد تؤدي إلى شعور الطالب باليأس ومن ثم عزوفه عن الدراسة. فالدراسة في بريطانيا أشبه ما تكون بصناعة التحف الخزفية كالمزهريات والأباريق؛ حيث يتعامل الصانع فيها مع الطين اللزج برقة فلا يكاد يضغط عليه بيده كي لا يفسده بل يلمسه بأطراف أنامله وحسب، وفي مرحلة الدراسات الجامعية وخصوصًا العليا منها يترك للطالب مساحة كبيرة من الحرية كي يكتشف من خلالها نفسه ويتعرف على ذاته وقدراته ليتحول بعدها من مصنوع إلى صانع.



[1] Loop، Jan، Alastair Hamilton، and Charles Burnett. The Teaching and Learning of Arabic in Early Modern Europe. Leiden: Brill، 2017. P40.

[2] Ibid، p34.

[3] Khaleel، Ahmed. How English words entered Arabic through the British Empire in Iraq. The Conversation. https://www.independent.co.uk/arts-entertainment/english-arabic-british-colonial-iraq-language-influence-dialect-a8332536.html

[4] عبدالحق فاضل، مغامرات لغوية، دار العلم للملايين، صفحة 11.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أين تقف اللغة العربية في الألفية الجديدة؟
  • اللغة العربية في مصر قبل الإسلام
  • اعتماد ابن كثير اللغة العربية في تفسيره القرآن الكريم
  • أول مصنف باللغة العربية في فن الإملاء جمع مسائله
  • اللغة العربية في يومها العالمي 18 ديسمبر 2023م

مختارات من الشبكة

  • جهود علماء كلية اللغة العربية في مجمع اللغة العربية (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مجمع اللغة العربية الفلسطيني يصدر كتاب: مقاربات في تيسير اللغة العربية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مجمع اللغة العربية المدرسي رؤية مستقبلية لتعزيز اللغة العربية(مقالة - حضارة الكلمة)
  • اللغة العربية وتكنولوجيا المعلومات في ندوة بمجمع اللغة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • دور اللغة العربية في نشأة اللغة الفرنسية(مقالة - حضارة الكلمة)
  • تأثير تدريس اللغة الإنجليزية في متعلمي اللغة العربية(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • أثر اللغة العربية في اللغة الألبانية(مقالة - موقع د. أنور محمود زناتي)
  • أثر اللغة العربية في اللغة الفارسية(مقالة - موقع د. أنور محمود زناتي)
  • أثر اللغة العربية في اللغة اليونانية(مقالة - موقع د. أنور محمود زناتي)
  • أثر اللغة العربية في اللغة الفرنسية(مقالة - موقع د. أنور محمود زناتي)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب