• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | اللغة .. والقلم   أدبنا   من روائع الماضي   روافد  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    أهمية اللغة العربية وطريقة التمهر فيها
    أ. سميع الله بن مير أفضل خان
  •  
    أحوال البناء
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    وقوع الحال اسم ذات
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    ملامح النهضة النحوية في ما وراء النهر منذ الفتح ...
    د. مفيدة صالح المغربي
  •  
    الكلمات المبنية
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    عزوف المتعلمين عن العربية
    يسرى المالكي
  •  
    واو الحال وصاحب الجملة الحالية
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    تسع مضين (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    أهل القرآن (قصيدة)
    إبراهيم عبدالعزيز السمري
  •  
    إلى الشباب (قصيدة)
    عبدالله بن محمد بن مسعد
  •  
    ويبك (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    الفعل الدال على الزمن الماضي
    د. عبدالجبار فتحي زيدان
  •  
    أقسام النحو
    عصام الدين بن إبراهيم النقيلي
  •  
    نكتب المنثور (قصيدة)
    عبدالستار النعيمي
  •  
    اللغة العربية في بريطانيا: لمحة من البدايات ونظرة ...
    د. أحمد فيصل خليل البحر
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

استهلال القصيدة الأندلسية

محمد حمادة إمام

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 11/11/2017 ميلادي - 21/2/1439 هجري

الزيارات: 37239

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

استهلال القصيدة الأندلسية

بالحديث عن الشيب والشباب


افتَتَح العديدُ من الشعراء الأندلسيِّين بعضَ قصائدهم بالحديث عن الشيب والشباب، مثلهم في ذلك مثل المَشارِقة القُدامَى والمحْدثين، وإنْ كان هناك مِن النقاد من لم يُعِرِ استهلالَ القصائد بالحديث عن الشيب والشباب اهتمامًا، ومنهم ابن رشيق[1]، ومن النقاد[2] مَن وَضَع شروطًا في استهلال القصائد بالحديث عن الشيب والشباب، أهمُّها ألَّا يستهل - مثلًا - قصائد المدائح والتهاني بمثل نعْي الشباب، وذمِّ الزمان.

 

والشاهد على تخلية افتتاح قصائد الثناء، والفرح والمرح، بالحديث عن الشيب والشباب من العيب، وجودُه منذ القِدَم، تعبيرًا عما يدُور بالخلَد، وتنفيسًا عما يَعْتَمِل بالنفس، إذ إنه أمرٌ فطريٌّ، تُمليه الأحاسيس، وتسُوقه المشاعر تجاه نفسِه، أو الآخرين.

ولم يكُن للقُدامَى في مواطن كثيرة. "إلا الأبيات القليلة، يقولها الرجل عند حدوث الحاجة.

 

قال أَعصَر بن سعد بن قيس بن عيلان - واسمه منبه بن سعد - وهو مِن قديم الشعر[3]: [من الكامل]:

قَاَلتْ عُمَيرةُ ما لِرأْسكَ بَعْدَما
نَفِدَ الشَّبابُ أَتى بِلَوْن مُنكَرِ
أعُمَيرَ إنَّ أباكِ شَيَّبَ رأسَهُ
مَرُّ الليالي واختلافُ الأعْصُرِ

 

وقال الحارث بن كعب، وكان قديمًا: [من المتقارب]:

أَكَلْتُ شَبَابِي فأفنيتُهُ
وأفنيتُ بعد شُهُورٍ شُهُورا
ثلاثةُ أهْلين صاحبتُهم
فَبَانوا وأصبحتُ شَيْخَا كَبيرا
قليلَ الطعامِ عَسيرَ القيا
م قَدْ تَركَ القيدُ خَطْوي قصيرَا
أبيتُ أُرَاعي نُجُومَ السَّماءِ
أُقَلِّبُ أمْري بُطُونا ظُهُورا

 

وهذا الغزال يَبتَدئ مقطوعة له، أو يفردها، بتقريع وتوبيخ وعذْل الأشيب المُتَصابي اللاهي، الذي بلغ أرذل عمرِه، وما انفكَّ عن غيِّه متعرِّضًا للحِسَان الممتلئات نضارةً وفتاءةً وحسنًا ودلالًا، فالأجمل به أن يرتدع ويَرْعَوي؛ فيقول ناصحًا نفسه، أو بني جنسِه وقرنه[4]: [من السريع]:

بَعْضَ تَصَابيك على زينبِ
لا خيرَ في الصَّبْوة للأَشْيَبِ
أَبَعْدَ خَمْسين تَقَضَّيْتَها
وافيةً تَصْبو إلى الرَّبْرَبِ

... إلخ الأبيات.

 

ولعله حديث نفس إثر نزعة إيمانية انتابتْه، فرأى أنه مِن الجهل والعيب قضاءُ عمره في السفَه والطيش.

 

وهذا ابن هانئ الأندلسي، في مواقف متعددة[5] يَفتَتح قصائد له بالحديث عن الشباب والشيب، ففي موقف شخصي، أو ذاتي، يبتدئ إحدى قصائده - ولو تصنُّعًا - بمدْح المشيب، الذي انتشر انتشارَ البرْق في الرأس، واستبانت آثارُه على باقي عمود الجسد، وهو لا يزال في فتاءته، ومنتصف عمره، فيقول[6]: [من الكامل]:

قَدْ سَار بي هَذَا الزمانُ فأوجَفا
ومحَا مشيبي مِن شَبابي أَحْرُفا
إلَّا أَكُنْ بَلَغتْ بي السنُّ المدَى
فَلَقَدْ بَلَغْتُ من الطريق المنصَفَا
فأمَا وَقَدْ لاَح الصَّباحُ بِلمَّتي
وانجابَ ليلُ عَمَايتي وتَكَشَّفَا
فَلَئن لَهَوْتُ لألهونَّ تَصُّنعا
ولَئِنْ صَبَوْتُ لأَصْبونَّ تَكَلُّفَا
ولَئِنْ ذَكَرْتُ الغانياتِ فَخَطْرَةٌ
تعتادُ صَبًّا بالحِسَان مُكلَّفا

 

أبيات تكشف عن حُبِّه لذوات الجمال والدلال، وتوضح ذمَّه لترَّهات الشبان، ونزغات الشيطان، وحلول الهدى على يد المشيب.

 

لقد جاءت جلُّ القصائد، التي افتَتَحها بنعي الشباب، والتحسُّر عليه، في المدح، مثل مدح المعزِّ لدين الله الفاطمي، أو جعفر بن علي، ولم نجد مِن الأمراء، أو النقاد مَن عاب هذا عليه.

 

وهذا ابن دراج القسطلي (ت 421 هـ) يَستَهل قصيدة له برثاء الشباب، والتحسُّر عليه، فقد أصبح كالسكران مِن هَوْل فقْد نجومه، ولذا فإنه يتمنَّى بصيصًا مِن ضيائه وبهائه، وتنشَّق شميم ريحه، وأريجه.

 

إنه الحنين والشوق إلى الروض، الذي شطَّ مزارُه، وغارت أعذبُ مياهه، فيقول في تصوير حاله بعد شبابه، ووصْف حسْن وجمال مَن أتى على حمى قلبه، وأقام على نحول قدِّه، وذبول غصنه[7]: [من المتقارب]:

نجومَ الصِّبا، أين تلك النجومُ؟
نسيمَ الصَّبا، أين ذاك النسيمُ؟
أما في التخيُّل منها ضياءٌ
أما في التنشُّقِ منها شَميمُ؟
فَيَلْحَقُها من ضُلوعي زفير
ويُدْرِكُها من دُمُوعي سَجُومُ[8]
لقد شطَّ رَوْضٌ إليه أَحِنُّ
وغارتْ مياهُ إليها أَهيمُ
أَوانسُ يُصْبِحُ عَنْها الصَّباحُ
نواعم يَنْعَمُ منها النعيمُ
كواكبُ تُصْغِي إليها السُّعودُ
كواعِبُ تَصْبو إليها الحُلُومُ[9]
لياليَ إذ لا حبيبٌ يَصُدُّ
وعهديَ إذ لا عذولٌ يلومُ

 

يبحث الشاعر عن جمال صِباه، ويفتِّش عن ريحه الطيِّب، فهو الذي بانت ببَيْنِه غانياتٌ كُنَّ أصلَ الضياء، والحسن، والنعيم والبهاء، إنها حِسان يصبح عنها الصباح، وتُصغي إليها النجوم، وتهفو لنسيمها قلوبُ الشباب والشيب، وهذا تصوير لتبدُّل حاله، وتقلُّب زمانه به.

 

وهذا ابن شهيد (ت 426 هـ)، يَفتَتح قصيدة له، في مدح عبد العزيز المؤتمن، ببكاء الشباب، والتحسُّر على مَعاهده، إذ إنه مر عليها فوجدها خلاء، فذكر أيام الصبا والحِسان، فهاج وَجْدُه، ولم يقدر - عندئذ - على عينه الجادَّة في الانصباب والسيلان. فيقول[10]: [من الكامل]:

هَاتيك دَارُهُمُ فَقِفْ بِمَغانها
تَجِدِ الدُّمُوعَ تَجِدُّ في هَمَلانها
عُجْنَا الرّكابَ بها فهيَّج وَجْدَنا
دِمَنٌ ذَعَرْنَ السِّرْب من إِدْمانها

 

ثم يقول:

يا صاحبيَّ إذا وَنَى حادِيكُمَا ♦♦♦ فتنشَّقَا النَّفَحاتِ مِن ظَيَّانها[11]

 

إلى أن يقول:

فَبَكَيْتُ مِنْ زمن قطعتُ مَراحلا ♦♦♦ وشبيبةٍ أخْلَقْتُ مِن رَيْعانها

 

لم يَبق من الديار إلا آثارها، وبَقايا عَبيرها، الذي يَحْمل جمال الشباب، وقد ولَّى بلا إياب، ويُلاحظ وجود أُلفة بين تلك الصورة، وصورة ابن دراج السابقة، وأن هذا الاستهلال جاء في قصائد مديح وثناء.

 

أما الإلبيري، فيَتنَاول في استهلاله، قضيَّة الأشيَب المُتَصابي، والجهول اللاهي، كاشفًا عن حُمقه وسفاهته، بمقارنةٍ بَينه، وبين قرنه الفطن البصير، تُبيِّن أن زينة المرء في التُّقَى، والاستِمساك بأسباب الهدى، ومفاتيح النجاة، فيقول[12]: [من الكامل]:

الشَّيْبُ نَبَّهَ ذا النُّهى فَتَنَبَّهَا
ونهَى الجهُولَ فَما اسْتَفاق ولا انْتَهى
بَلْ زادَ نَفْسي رَغْبةً فَتَهافَتَتْ
تبغي اللُّهى وكأنْ بِها بين اللَّها
فإلى مَتَى أَلْهُو وأَفْرَحُ بالمُنَى
والشيخُ أقبَحُ ما يكُون إذا لَها[13]
ما حُسْنُه إلَّا التُّقى لا أن يُرَى
صَبًّا بأَلْحَاظِ الجآذر والمَهَا

 

إلى أن يقول:

ليست تُنَهْنِهُهُ العِظَاتُ ومثْلُه ♦♦♦ في سِنِّهِ قد آنَ أَنْ يَتَنَهْنَهَا

 

استَخدم الشاعر أسلوب الالتفات، من الغيبة إلى التكلم إلى الغيبة؛ تنبيهًا على خطأٍ وقع فيه مَن وخطه المشيُب وهو: التصابي والجري وراء الكعاب. ويرى د/ الداية أن البيت الثاني تكرَّر معناه في مطلع قصيدة أخرى[14].

 

وهذا ابن زيدون (ت. 463 هـ)، يَستَهلُّ قصيدة له بالثناء على الشباب، ببيان سموِّ منزلته، وشرَف مكانته، لدى مَن هو بحاجة إلى الاهتمام به ورعايته، حتى خَلصَ إلى مدح الوزير الأجلِّ - محمد بن جهور بن محمد بن جهور. فيقول[15]: [من الطويل]:

أما عَلِمَتْ أنَّ الشَّفيعَ شَبابُ
فيقْصُرُ عَنْ لَوْمِ اَلمحِبِّ عِتَابُ
عَلَامَ الصِّبا غَضٌّ يرفُّ رُواؤُه
إذا عنَّ مِن وَصْلِ الحسانِ ذَهابُ
وفيمَ الهوى مَحْضٌ يَشِفُّ صفاؤُهُ
إذا لم يكُنْ منهنَّ عنه ثَوابُ

 

وله قصيدة أخرى، استَهلَّها ببيان زهوه، وزهو محبوبه بالفتاءة والنضارة والشبيبة، وحداثة السن بين الأتراب[16]، وهي التي حيَّرتْه فلم يكد يعرف أيًّا يشكو.

 

وهذا أبو جعفر اللمائي[17] (ت 465 هـ) يَفتَتح قصيدة له، بتصوير أثَر الأسقام والأوجاع والمشيب، في زجْره عن غيِّه، وتأنيبه، ووعظه وتأديبه، موضِّحًا قسوة الليالي والأيام معه، إذ داهمته بالخطوب، وآذتْهُ في المسالك، والدروب بما لم تجْنِ يداه، فمات جده، وشابت روحه، ونزف قلبه، وهو ما زال في ريعان شبابه، وعنفوان مجده، فيقول[18]: [من الكامل]:

أمسَى سَقَامي زَاجِري ومُؤَنِّبي
وغَدا مشيبي واعظي ومُؤَدِّبي
أَوْهَتْ خطوبُ الدّهْرِ مِنِّي عَاتِقي
ثقلًا، وزَعْزَع مَنْكِبَاه مَنْكِبي
وهَمَتْ سحائبُه عليَّ فَغَادَرَتْ
أرضي قرارةَ كُلِّ خَطْبٍ مُعْجِبِ
فأَظَلُّ أُبْصِرُ فيه ما لم أَحْتَسِبْ
جَوْرًا، وأقرأ فيه مَا لَمْ أكْتُبِ
سِنٌّ حَديث تَحْتَ جَدٍّ شارِفٍ
وسَوادُ رأسٍ فَوْقَ قَلْبٍ أَشْيبِ

 

وهذا ابن حمديس (ت 527 هـ )، يَبتَدي قصيدة له بتصوير حاله على يد المشيب، إذ مات شبابه، بولادة شيبه، مبيِّنًا عدم رضاه عن الخِضاب، كفن الشَّعر، وشاهد الزور، تغنى به الغواني، ويبقى لصاحبه البوار، والشقاء، داعيًا الشيب إلى عدم هوى الفتيات، فوَصْلُهن محالٌ مِن صيد العنقاء، فيقول[19]: [من الوافر]:

بَقِيتُ مع الحياةِ وماتَ شَعْري
بشَيبي فالقَذالُ به يُنقَّى
فَشَعْري لا يُكفَّنُ في خِضَابٍ
ولا يَنْفَكُ لِلأَنْظار مُلْقَى

 

إلى أن يقول:

فلا تَهْوَ الفتاةَ وأَنْتَ شيخٌ ♦♦♦ فأبْعَدُ وَصْلُها مِنْ صَيْد عَنْقا

 

وله في مثل هذا الفن والمعنى قوله - أيضًا[20]: [من المتقارب]

نفَى همُّ شَيْبي سُرورَ الشَّبابِ ♦♦♦ لَقَدْ أَظْلمَ الشيبُ لَمْا أضاءَ

 

إلى أن يقول:

أَأكْسو المشيبَ سَوادَ الخِضَابِ
فأجعل للصُّبح لَيلًا غِطاءَ
وكيفَ أُرجِّي وَفاءَ الخِضَابِ
إذا لمْ َأِجْد لِشَبابي وَفَاءَ

 

لقد محا جمالَ وبهاءَ وبشْر الشبابِ، هَمُّ المشيب، الذي أظلم القلب بإضاءته الرأس، ولذا فإنه لا رغبه له في الخضاب، إذ لا يعود به إلى الشباب، الذي مات عنده الوفاء.

 

ولابن خفاجة قصائد، استَهلَّها بالحديث عن الشيب والشباب، مصوِّرًا حالَ المرء في هاتين المرحلتين، منها في مضمار مدح أبي الحسن بن نعيم[21]: [من الطويل]:

تَشَفَّعْ بِعلْقٍ للشَّباب خطيرِ
وبِتْ تَحْتَ ليلٍ، لِلوِصال قصيرِ[22]
وَنلْ نَظرةً من نُضْرةِ الحُسْنِ، وانتعِشْ
بغُرَّةِ رقراقِ الشَّباب غزيرِ
فما الأَنسُ، إلا في مُجَاج زُجاجةٍ
ولا العيشُ إلا في صَريرِ سَريرِ[23]
وإنِّي، وإنْ جِئْتُ المشيبَ لَمُولَعٌ
بِطُرَّةِ ظلٍّ، فوقَ وجهِ غَديرِ
فيا حَبَّذا ماءٌ بمنعرَج اللِّوى
وما اهتزَّ من أيكٍ عليه مَطيرِ

 

يصوِّر الشاعر زهوَه بالشباب، وهيامه به، وبالمجون فيه، باثًّا بين ثناياه حنينَه إلى مَعاهده، خاصَّةً اللوى، وهي دعوة إلى اغتنام أيامه قبل ذهابه، فهذه الصورة تبيِّن أنَّ "الشاعر ينظُر إلى الطبيعة نظرة محبٍّ، وهذه الأبيات تمثل نفسيَّته المحبَّة، التي يتوزَّعها جمال الطبيعة، وجمال الإنسان[24]".

 

وهذا عبد الحق بن غالب بن عطية (481 - 546 هـ) - مِن القضاة - يَستَهلُّ إحدى قصائده بنَدْب أيام الشباب، الذي ملأت ذكْراه خاطره، آخذًا في تصوير جمالها ونضارتها، ومداهمة الخطوب، والمشيب له. فيقول[25]: [من البسيط]:

سُقْيا لعهدِ شَبابِ ظَلْتُ أمرَحُ في
رَيْعانه وليالي العَيشِ أسحارُ
أيامَ روضُ الصِّبا لم تَذْوِ أغْصُنُه
ورونقُ العمْر غضٌّ والهَوى حارُ
والنفسُ تَرْكُض في تضمينَ ثرَّتها
طِرفًا لهُ في زمَانِ اللهوِ إحضارُ
عهدًا كريما لَبِسْنا منه أَردْيةً
كانتْ عُيُونا ومُحيت فَهْيَ آثارُ[26]
مَضَى وأبْقَى بقلبي منه نارَ أَسًى
كُوني سلامًا وبَرْدًا فيه يا نارُ
أَبَعْدَ أَنْ نَعِمَتْ نَفَسي وأصبح في
ليل الشَّباب لصبح الشَّيب إسفار
ونَازَعَتْني الليالي وانْثَنَتْ كِبَرًا
عَنْ ضَيْغَمٍ ما له نابٌ وأظفارُ

 

يدعو الشاعر بالسُّقيا لعهد الشباب، الذي جرى في حلبته زمنًا، ناضر العود، ريَّان القضيب، منعمًا جذلانَ، حتى فارقه تاركًا بقلبه نار الأسَى، لزوال النعيم، وافتراس الليالي له منصرفة متكبرة شامخة عن أسد، كسرَت أنيابه، وقلَّمت أظفاره، وقوله: "كُوني سلامًا وبردًا فيه يا نار"، مِن قوله تعالى: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69].

 

وهذا أبو عبد الله بن عياض (ت 542 هـ)[27]، يصوِّر نُحُوله وسقمه، وكثرة نحيبه وبكائه - حتى ظهر جدولًا ووُرْقًا - لِبَيْنِ مَن غذى بحبه، وطيَّب عشقه، فيقول[28]: [من مخلع البسيط]:

عَرْبدَ بالهَجْرِ والعِتابِ ♦♦♦ نشوانَ من خَمْرةِ الشَّبابِ

 

إلى أن يقول:

أنْحلَ جِسمي هَواهُ حتىَّ
لم يَبْقَ مِنِّي سوى الإِهَابِ
فاعجبْ لِروحٍ بغيِر جِسْمٍ
قَدْ رُكِّبَ الروحُ في الثيابِ
قَصَرْتُ نفسي على هواه
والماء يُغْني عن السَّراب
أبْصَرْتُه جَدْولا وَوُرقا
مِن دَمْعِ عَيني وانتحابي

 

وقوله: "فاعجب لروح بغير جسم" من قول المتنبي[29]: [من البسيط]

كَفَى بِجِسْمي نحولا أنني رجلٌ ♦♦♦ لَولا مُخَاطَبَتي إِيَّاك لم تَرَني

 

وهذا أحمد بن شكيل "ت. 605 هـ"، يندُب حاله في مستهلِّ قصيدة له، ويتبرَّم من المشيب، الذي توالت على يديه نكبات الهموم، وتكاثر اللوام، فسواد شعر رأسه نتاج الهموم، والأسى، والغموم، التي أخذت حظَّها مِن قلبه، ونضير غصنه، ومع هذا لم ولن يرضى بظلم، أو خيانة، فيقول[30]: [من الكامل]:

يا من لُصِبْحِ الشيب كيف تنفَّسَا
في لِمَّتي فَأَجابَهُ ليلُ الأَسَى
لا تحسبنَّ سوادَ شَعريَ نِعْمةً
لَكنْ كَسَتْهُ هُمُومُ قَلْبي حِنْدِسَا
إلَّا يَكُنْ شَابَ العِذارُ ولا انْحْنَى
ظَهْري فَقَدْ شَاب الفؤادُ وقَوَّسا
إنّي لأُغْضِي مُقْلَتي عَنْ لائمي
وأَرى ابْتسامي مِن ضَميري عَبَّسا
ويَلِينُ قَلْبي للخليلِ مَوَدَّةً
فإذا أَحَسَّ هَضِيمةً يَوْمًا قَسَا

لم يشب العذار، ولم ينحن الظهر، بل شاب القلب، وتقوَّس القدُّ.

 

وهذا أبو الحسن بن الفضل[31]، يَفتَتح إحدى موشَّحاته بندْب عمره، الذي أُرغِم في خواتيمه على خَتْمه منفردًا، فاتَّقَدَت بقلبه نار الحسرة، وقتَ أن هجره الحب والهوى. فيقول[32]: [من المتقارب]:

فواحسرتا لِزَمانٍ مَضَى
عَشِيَّةَ بانَ الهَوَى وانْقَضى
وأُفْرِدْتُ بالرُّغْم لا بِالرِّضَا
وبِتُّ عَلَى جَمَراتِ الغَضَى

وكأن شباب الشاعر مقرون بالهوى، فإذا ما بان أحدُهما بانَ الآخر.

 

وهذا أبو الحسن، علي بن موسى بن سعيد العنسي، يقول مصوِّرًا حنينه إلى مسقط رأسه، ومعهد شبابه وأنسه: "ولما قَدِمْتُ مصر والقاهرة أدركتْني فيهما وحشة، وأثار لي ما كنتُ أعهد بجزيرة الأندلس، من المواضع المبهِجة التي قطعتُ بها العيش غًّضا خصيبًا، وصحبتُ بها الزمان غلامًا، ولبستُ الشباب قشيبًا، فقلتُ[33]: [من الرمل]:

هَذهِ مِصْرُ فَأينَ المغْرِبُ؟
مذ نَأَى عَنِّي دُمُوعي تُسْكَبُ
فارقتْه النفسُ جَهْلًا إنَّما
يُعْرَفُ الشيءُ إذا ما يَذْهَبُ
أَيْنَ حِمْصٌ؟ أين أيامي بها؟
بَعْدَها لم ألْقَ شَيْئًا يُعْجِبُ
كَمْ تقضَّى لي بها مِن لَذَّةٍ
حيث لِلنَّهْر خريرٌ مُطْرِبُ
وحَمَامُ الأَيْكِ تَشْدو حَوْلَنا
والمثاني في ذَرَاها تَصْخَبُ
أيَّ عَيْشٍ قَدْ قطعناهُ بها
ذِكْرهُ مِنْ كُلِّ نُعْمَى أَطْيبُ
وَلَكَمْ بالمرج لي مِن لَذَّةٍ
بَعْدها ما العيشُ عِنْدي يَعْذُبُ

 

إلى أن يقول:

بَلْدةٌ طابت وربٌّ غَافِرُ ♦♦♦ لَيْتني مَا زِلْتُ فِيها أُذْنِبُ

 

سكَن الشاعرُ بَلدَينِ، فأخذتْ صُوَرُ معهد شبابه تروح وتغدو أمامه، فأحَسَّ عندئذ بالوحشة والغربة، وأخذ لسانه في سرد بعض مظاهر حُسنه وجماله، معتمدًا في توشية حديثه على القرآن الكريم، فقوله: "بلدة طابت ورب غافر" من قوله تعالى: ﴿ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴾ [سبأ: 15]، وأما قوله " ليتني ما زلتُ فيها أُذنب "، فبيانٌ بأنه بلَد الخير والحُسن والجمال، ومعهد الطيِّبات والحِسان، فهو جمال في جمال.

 

ولأبي الحسن، علي بن الجياني (ت 708 هـ) رسالة شعرية إلى أحد أصحابه بإنكار لما هو عليه مِن لهو وتَصَابٍ، وعدم مراعاته حقوق المشيب[34].

 

وهذا أبو عبد الله بن خميس، يفتتح إحدى قصائده بتصوير وجْده، وحسرته، وشجنه، لفقد الشباب، إذ لم يعُد يتلذذ بطعام أو شراب، وصار يمنِّي نفسه بالمتاب، بعدما ضاع شرخ شبيبته، في خداع وخصومة وعتاب. فيقول[35]: [من الطويل]:

أَنَبْتُ، ولكنْ بَعد طُولِ عِتابِ
وفَرْطِ لَجَاجٍ ضاع فيهِ شَبابي
وَمَا زِلْتُ والعَليا تُعنِّي غريمها
أُعَلِّلُ نفسي دائما بِمَتَابِ
وهيهات مِنْ بَعْد الشَّبابِ وشَرْخِه
يَلذُّ طَعَامي أو يَسُوغُ شَرَابي
خُدِعْتُ بهذا العيش قبْل بلائهِ
كَمَا يُخْدَعُ الصَّادي بِلَمْعِ سَرابِ
تقولُ هُوَ الشَّهدُ المشور جَهالةً
وما هُو إلا السُّمُّ شِيبَ بِصَابِ

 

إلى أن يقول:

وما أَسَفي إلا شَبابٌ خَلَعْتُه ♦♦♦ وشيبٌ أَبَى إلَّا نُصُولَ خِضَابِ

أَسف على تأخير المتاب، وبيْنِ الشباب، وانكسار حدِّ الخضاب عن المشيب.

 

وهذا يوسف الثالث - ملك غرناطة ت. 727 هـ - يَستهلُّ إحدى قصائده بتصوير ذكريات الشباب، حيث خاض فيه لُجَّ الحب، وهو فتى غرٌّ، وربما يُلتَمس له العذر، أما وقد علاه المشيب، فلا عُذر له ولا حجة، ولذا فإنه يُوبِّخ نفسًا علاها مشيب صروف الدهر من غدْر وشيب قبل الأوان، ومع هذا، فلا يزال طالبًا للمعالي والأمجاد، فيقول[36]: [من الطويل]:

لَقَدْ خَاضَ لَجَّ الحُبِّ مِنِّي فَتىً غِرُّ
وشِبْتُ فَشَبَّتْ في ضُلُوعي لَهُ جَمْرُ
وَقَدْ كَانَ لي عذرٌ إِذ الفَوْدُ فَاحِمٌ
فَمَا لي وقد لاَحَ المَشيبُ بِهِ عُذْرُ
وما شِبْتُ من سِنِّ ولكنْ أَشَابَني
صُرُوفُ زَمَانِ سوف يُلْفى به الجَبْرُ
وإنَّ زمانًا قَدْ أَحَال شَبِيبَتي
لأَجْدَرُ أن يُعْزى إلى فعلهِ الغَدْرُ
دَع الدَّهْرَ والأيامَ وارْقَ تَكَسُّبًا
لِنَيْلِ معالٍ عندها يُرْفَعُ القَدْرُ
سَأثْني عناني للمعالي فَإِنَّني
لِيَ الصِّيتُ في الأملاكِ والمحْتِدُ الحُرُّ[37]
عَجِبْتُ من الأيَّام تَمْنَعُ مَقْصدي
ومِن دُون ما تَبْغيه مِنِّي هوى النِّسْرُ

 

تأتي صروف الدهر على البادي والحاضر، وتجُور على سَليل الملوك، والفوارس، فهذا رجل نالت منه غياهب السجن وهمومه، "فمأساة السجن بهمِّها الكبير تتجلى في الشيب، الذي غزا مفارق شَعره، ولما يُجاوز سنَّ الشباب، وبما أن المشيب علامة على مرور الزمن، وسنوات العمر، فكأن همُّ سجنِه يَأكل من حياته السنوات إثر السنوات، دون أن يشعر أو يدري...[38]".

 

وهذا الكاتب، أبو بكر، محمد بن أحمد بن محمد بن شبرين (674 - 747 هـ) يَستهلُّ قصيدته اللامية ببكاء شبابه، وأسفه مِن غدْر الخلَّان والأصحاب باعثًا تحية إخلاص، إلى أهل الوفاء، وأخلَّاء الصفاء، وأنس ليالي الشباب متمنِّيًا قُفوله، وهو مُوقن باستحالة رجوعه، فيقول[39]: [من الكامل]:

ظَعَنَ الصِّبا ومِنَ المُحال قُفولُه
إنْ كُنْتَ باكيَه فَتِلك طُلُولُهُ
قِفْ عِنْدَها خَبْلَ الدُّمُوع ورَجْلها
وانْدُبْ شبابا شَطَّ عَنْكَ رَحيلهُ

 

إلى أن يقول:

أَسفًا عَلَى زَمَنٍ كَريمٍ عَهْدُهُ
وَلَّتْ غَضَارتُهُ وغَابَ سبيلُهُ
ضيَّعْتَ في طَلَب الفضول بُكُورَه
لكن نَدِمْتَ وقَدْ أتاكِ أَصيلُهْ

إلى آخر الأبيات، التي ينبغي على الشيب والشباب تدبرها لتفادي غدْر الأيام وخيانتها.

 

وهذا هو الخطيب العدل "علي بن أحمد بن محمد... أبو الحسن الأحيمر (ت. 750 هـ) يَفتَتح بعض قصائده، بالحديث عن المشيب، وأهله المخدوعين بأماني الدنيا، وحديث الغواني المعسول، اللائي روَّعتْهن الشعرات البيض، والمرء يَعرف حقيقتَهن، ولكنه - عن عمد - عن الوعي يغيب، فيقول[40]: [من الكامل]:

الآن تَطْلُبُ وُدَّهَا وَوِصَالها
مِنْ بَعْدِ مَا شَغَلَتْ بهَجْرك بالَها
وقد اسْتحالَتْ فيك سيماءُ الصِّبَا
حالًا يُروِّعُ مثلُها أمثَالَها
وأتيتَها مُتلبِّسًا بروائعٍ
نُكْرٍ بِفَوْدِكَ أصبحتْ عُذَّالها

 

إلى أن يقول:

جزعتْ لهذا الشَّيب نَفْسي وَهْيَ مَا ♦♦♦ زالتْ تَهَوِّنُ كُلَّ صَعْبٍ نَالَها

توبيخ لمَن تعلَّق بمَن يخدعه، ويَضيق به، وينفر منه.

 

أما ابن الخطيب، فقد أكثرَ مِن استهلال قصائده، بصُوَر للمشيب والشباب سواء لبيان أثر المشيب، وما لازمه مِن جفاء وهجر للتصابي، وخطبة للتعقل والرزانة[41]، أم كان ندبًا للشباب، وبكاءً عليه، وتمنِّيًا لعودته إلى ركابه، مُثْنِيًا عليه، وداعيًا له، وهذا مثل قوله في عيد الفطر عام 738 هـ[42]: [من البسيط]:

عَهْدَ الشَّبابِ سَقَى أيامك الأُوَلَا
سَحٌّ مِنَ الدَّمْع إِنْ شَحَّ الحيَا هَطَلا
وإنْ حَبَا اللهُ حيَّاها مَنْ يَأْتِ حَيًا[43]
يَوْمًا وأَسْعَفَ طالبًا بما سَأَلا
فجاد حيَّك منها غَيْرَ مُفْسده
مُجَلْجَلٌ يَطَأُ الأَوْهَاد والقُلَلا

 

يدعو الشاعر لعهد الشباب، بالسقيا من دمعه، الذي بات أصلًا للغيث، وإن كان بينهما فرق، فدمعه غير مفسد، أمام المطر فمنه المفسد.

ويلاحظ إكثار الشاعر من تكرار الألفاظ المتجانسة، في موطن بيان انصباب المطر وتتابع سيلانه.

 

ولابن زمرك (ت 796 هـ) موشحة زهرية مولدية، في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ استَهلَّها بتمنِّي عودة الشباب، ليتمكَّن من زيارته صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، ثم أثنَى عِنانَ لِسانِه، لتوبيخ النائم في روض الصبا، الكسول عن الجد والاجتهاد في جمع الزاد ليوم المعاد[44].

 

وهذا البسطي (ت بعد 890 هـ)، يَفتَتح قصيدة له بلوم نفسه، التي باتت - بعد الخمسين - هائمة، في أودية الهوى والمجون، نزَّاعة إلى اللغو واللهو، حتى بات شعارها قول الإفك، وهتك الستر، فيقول[45]: [من الطويل]:

إلى كَمْ تَميلُ النفسُ بي للهوى العُذْري
وشَيْبُ عِذاري مُبْطِلٌ في الهوى عُذْري
وتجري إليه، بعدما ذَهَب الصِّبا
وأيامُه عَنِّي، عَلَى المسْلَكِ الوَعْرِ
وَتْرضَى بهِ وَصْفًا ذميمًا يَشينُها
وتَهْتِكُ في اشْتِهارها[46] مُسْبلَ السَّترِ
وَمهْمَا صَرَفْتُ الوَجْهَ يومًا لِعَتْبها
تزيدُ كأنِّي باتبِّاع الهَوَى أُغْرِي
وتأنسُ بالغيدِ الأوانس كالدُّمَى
متى ما بَدَتْ مِنْهُنَّ عاطرةُ النَّشْرِ

 

إلى أن يقول:

ومَهما دَعَتَنْي كَي أَمِيلَ إليهما
أُجاوبُها بالقَولِ في مَعْرِضِ الزَّجْرِ
أيلهو أمرؤٌ مثلي صباهُ قد انْقَضَى
بخمسين عامًا قَدْ تولَّتْ مِنَ العُمْرِ

 

لقد نادى ابنُ زمرك نفسَه، أو قرنه موبِّخًا، وجرى على دربه البسطي، فكانت نفسه برغم وظائفه الدينية، ووصوله إلى سنِّ الرزانة، تتُوق إلى الهوى واللهو، وفي استهلاله باستفهام إنكاري - إلى كم - إيحاء بكثرة ميل النفس عامَّة، ونفسه خاصَّة، إلى الحب العفيف، البريء مما يدنِّس ويَشِين، وهو من معنى قوله تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]، وبين العذري وعذري جناس، وفي قوله:

(أيلهو أمرؤ مثلي) استفهام انكاري تعجُّبيٌّ مِن نفسه، التي أرادت شَيْنه، وإتيانه ما لا يليق بمثله.

 

وله - في مثل هذا الفن - في معنى الأبيات السابقة، قوله[47]: [من الطويل]:

إلى كَمْ إلهي بِالمَتَابِ أُعاهِدُ ♦♦♦ ونَفْسي عليه كُلَّ وَقْتٍ أُجَاهِدُ

 

إلى أن يقول:

وَشَابَ عِذاري واسْتحالَ سَوادُه
وبالموتِ لا شَكَّ المشيبُ يُعَاوِدُ
فهل توبةٌ تمحو من الذَّنْبِ مِا بِهِ
عَليَّ ولا أُخْفِي إلاهِيَ شَاهِدُ

 

استَهلَّ بعض الشعراء الأندلسيين العديدَ من قصائدهم، بصُوَر للشيب والشباب، مما يدل على خطورة هاتين المرحلتين - في نظر الشعراء خاصة - وأهمية البحث في أغوارهما، ونشْر خباياهما، خبايا النفس البشرية، ما يسوء منها، وما يسُرُّ.

 

وكأن الشعراء يريدون الإعلان عن أهمية هذين الطورين من الحياة، وخطورتهما؛ لإيجاد خطوط طيبة يسير عليها أصحابهما.

وليعلم الجميع أن التَّصَابي والمجُون لا ينفع، ولا يدوم طويلًا، بل سرعان ما ينقشع ويتبدد مع أول ريح من ريح الزمن، فيضر صاحبَه ومَن حوله إلا مَن رحم ربي، وحَفِظ.

 

وهكذا ندرك مما سبق، أن استهلال الشعراء الأندلسيين قصائدهم بالحديث عن الشيب والشباب، كان في مجال رثاء الشباب، وندب مَعاهده، ووصْف ذكرياته الجميلة، ومنهم مَن وبَّخ نفسَه المتصابية اللاهية، وإنْ كان هناك مَن دعا إلى التصابي والمجون، وحثَّ على اللهو والعبَث، غير مدرك لعواقب الأمور.



[1] انظر: العمدة لابن رشيق ( 390 - 456 ) حـ 1 / 194، تحقيق وتفصيل، وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 1 دار الطلائع - القاهرة سنة 2006 م.

[2] انظر: عِيار الشعر لابن طباطبا تحقيق د/ محمد زغلول سلام، منشأة المعارف بالإسكندرية د. ت... الصناعتين للعسكري صـ 489 تحقيق د/ مفيد قميحة دار الكتب العلمية بيروت لبنان ط 1 / 1409 هـ = 1989 م، حديث الشباب والشيب... د/ عبد الرحمن هيبة حـ 2 / 634.

[3] انظر: الشعر والشعراء صـ 48.

[4] انظر: ديوان الغزال، تحقيق د/ الداية صـ 39، 40، وتحقيق د/ البنداق صـ 176، 177، المطرب لابن دحية صـ 125، 126.

[5] انظر: ديوان ابن هانئ، خاصة صـ 28، صـ 256، وهما في بكاء الشباب، والتحسُّر عليه.

[6] انظر: ديوان ابن هانئ صـ 187.

[7] انظر: ديوان ابن دراج صـ 271، في مدح منذر بن يحيى بن منذر التجيبي.

[8] السَّجوم والسُّجوم: قطران الدمع وسيلانه وانصبابه قليلًا أو كثيرًا. اللسان: "س. ج. م".

[9] السعود: ثمانية نجوم، وهي من نجوم الصيف ومنازل القمر، تطلع في آخر الربيع وقد سكنَت رياح الشتاء... فأحسَن ما تكون الشمس والقمر في أيامه. اللسان: "س. ع. د".

[10] انظر: ديوان ابن شهيد صـ 165، 166، الذخيرة ق1 ح 1 / 173، 174، ومنها: "شفع الشباب فكنت إلف حِسانها".

[11] وَنَى: التَّواني والونى: ضعفُ البدَن. اللسان: "و. ن. ى"، " الظيَّان: "نبت باليمن يُدبَغ بورقة. وقيل: هو ياسمين البر. الظيان: شيء من العسل. اللسان: "ظ. ي. ن".

[12] انظر: "ديوان الإلبيري صـ 53، 54، نفح الطيب حـ 4 / 318 عدا البيت الثاني وفيه (تنبهه) بدلًا من (تنهنهه)، من قضايا الإنسان في الشعر الأندلسي د/ محمد عويس صـ 42. مكتبة الأنجلو المصرية ط 1 / 1986 م، وله في نفس الفن - الاستهلال بحديث الشيب، في ديوانه، في مواطن متعددة منها صـ 36، 37، 56.

[13] اللهى: جمع لهية وهي العطية، واللها: جمع اللهاة، وهي اللحمة المشرفة على الحلق. اللسان: "ل. هـ. ى".

[14] انظر: ديوان الإلبيري صـ 53، 54، 59: [من الطويل]:

كأني بنفسي وَهْيَ في السكراتِ *** تعالجُ أَنْ تَرْقَى إلى الّلَهواتِ

[15] انظر: ديوان ابن زيدون صـ 21، 22.

[16] انظر: ديوان ابن زيدون صـ 41، في الأدب الأندلسي، د/ جودت الركابي صـ 200.

[17] هو "الوزير الكاتب، أحمد بن أيوب. عَمِل كاتبًا لدى الناصر لدين الله، علي بن حمود. عرَض له داءُ النسمة "ضيق النفس"، وظلَّ مريضًا بها حتى توفي سنة 465 هـ = 1073 م بمالقة، فهو مَن سُخِّرَتْ له فنونُ البيانِ، تسخيرَ الجنِّ لسليمان، وتصرَّف في محاسن الكلام، تصرُّف الرياح بالغمام..."؛ انظر: الجذوة صـ 394 برقم 929، البغية صـ 520 برقم 1521، الذخيرة ق1 ح 2 صـ 132، المغرب حـ 1 / 446، 447، نفح الطيب حـ 3 / 547.

[18] الذخيرة ق 1 ح 2 / 137، 138.

[19] ديوان ابن حمديس صـ 339.

[20] انظر: ديوان ابن حمديس صـ 3، ولابن عبدون (ت 529 هـ) قصيدة في رثاء بني الأفطس استَهلَّها بالتحذير مِن الدهر، وعدم الاطمئنان إليه، انظر: بلاغة العرب في الأندلس صـ 170، 171.

[21] انظر: ديوان ابن خفاجة صـ 103.

[22] "العلْق": المال الكريم، أو النفيس من كل شيء. لسان العرب: "ع. ل. ق".

[23] المجاج: الريق، ومجاج النحل: عسلها. اللسان: "م. ج. ج"، والمراد بمجاج زجاجة: الخمر.

[24] انظر: ديوان ابن خفاجة صـ 103، 104.

[25] انظر: الإحاطة حـ 3 / 540، 541.

[26] في الشطر الثاني، اضطراب؛ وممكن أن يكون (كانت عيونا - محيت - فَهْيَ آثارُ).

[27] هو "الأمير المجاهد، أبو محمد عبد الله بن عياض "وكان من المسلمين غازيًا النصارى، وآلَ أمرُه إلى أن جاء سهمٌ مِن نصراني قتله - رحمة الله عليه - وقد ثار بعده صهرُه المشهور "بابن مرذنيش"؛ بايَعَه أهلُ بلنسية سنة 539 هـ، وهلك سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة". انظر: المغرب حـ 2 / 250، تاريخ ابن خلدون حـ 4 / 166.

[28] انظر: زاد المسافر صـ 137.

[29] انظر: ديوان المتنبي تحقيق د/ محمد خفاجي... صـ 390. شرح البرقوقي حـ 3 / 317: 319.

[30] انظر: أبو العباس، أحمد بن شكيل الصوفي الأندلسي - شاعر شريش صـ 56، 57.

[31] كان في زمن سهل بن مالك (559 - 639 هـ)، الذي قال فيه: يا ابن الفضل، لك على الوشاحين الفضل ". انظر: المغرب حـ 2 / 286، 287.

[32] انظر: أزهار الرياض حـ 2 / 211، ومثل هذا المعنى لابن الصبَّاغ في نفس المرجع حـ 2 / 232، 233، وموشَّحة له صـ 241.

[33] انظر: نفح الطيب حـ 2 / 280، 281.

[34] انظر: الإحاطة حـ 4 / 140، نفح الطيب حـ 5 / 440، 441، وفيه: "والشمطا"، طائل.

[35] انظر: أزهار الرياض حـ 2 / 317: 319، نفح الطيب حـ 5 / 366، 367.

[36] انظر: ديوان ملك غرناطة. يوسف الثالث صـ 62، 63، تجربة السجن في الشعر الأندلسي... صـ 86، 222، وله في مثل هذا المعنى - أيضًا - في ديوانه صـ 147: [ من الطويل ]

ولم يتركوا أوطانهم بمرادهم
ولكنْ لأحوالٍ أشابَت مَفارقي
أنام بها ليلَ التمام تقلُّبًا
وقد سكنت جهلًا نفوسُ الخلائق

[37] في تجربة السجن صـ 222، المعالي، وهذا يضيق به الوزن.

[38] انظر: تجربة السجن في الشعر الأندلسي صـ 86.

[39] انظر: الكتيبة الكامنة صـ 166: 168.

[40] انظر: الكتيبة الكامنة صـ 62، 63، وله فيه مقطوعة أخرى في نفس المجال.

[41] انظر: الصيب والجهام صـ 283، 284، نفح الطيب حـ 6 / 455.

[42] انظر: الصيب والجهام صـ 657، 662، في مثل هذا المعنى، والفن أيضًا، وهناك أبيات في وصف أثر الفراق، وندب الشباب لأبي الحسن علي بن محمد بن عبد الحق بن الصباغ العقيلي الغرناطي (706 - 758 هـ) في نفح الطيب حـ 6 / 258، 259.

[43] هذا الشطر به كسر في الوزن العروضي، ولعلها كما في نسخة: (وإنْ حيا الله حيَّاها مُزَيْنَتَه).

[44] انظر: نفح الطيب حـ 7 / 280، 281، وله من أخرى، مفتتحًا لها بالثناء على الشباب والنيل من المشيب، في نفح الطيب حـ 7 / 264، 265.

[45] البسطي آخر شعراء الأندلس، د/ محمد بن شريفة صـ 220، 221.

[46] هذا في المرجع، والأولى أن يكون إشهارها لئلا يكسر الوزن.

[47] البسطي آخر شعراء الأندلس صـ 220، 221.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • القصيدة الفـائزة
  • القصيدة الماطرة
  • القصيدة الرائية في مدح أهل القرآن للخراساني
  • القصيدة الطويلة (قصيدة تفعيلة)
  • القصيدة القصيرة جدا وإشكالية المصطلح
  • السجن والسجون في الأندلس لمحمد علي دبور
  • مأساة الأندلس وموقف العثمانيين
  • أندلسية - شوقي
  • وسقطت جوهرة الأندلس

مختارات من الشبكة

  • حسن الختام في قصائد ديوان (مراكب ذكرياتي) للدكتور عبد الرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • معايشة مع قصيدة " بكرت مرتحلا " للدكتور عبدالحكيم الأنيس(مقالة - حضارة الكلمة)
  • التهيئة والتمهيد وبراعة الاستهلال(مقالة - آفاق الشريعة)
  • لطائف الأدب في استهلال الخطب (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • الخطيب الدكتور عز الدين مناري: بين روعة الاستهلال وبراعة الارتجال(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الاستهلال في سورة الأنفال: السؤال والجواب ( يسألونك )(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مواكب الشعر ( قصيدة )(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • أبو نواس يمدح العباس حفيد المنصور(مقالة - حضارة الكلمة)
  • جدلية الإبداع والتلقي في القصيدة العربية الحديثة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • مقدمة القصيدة العربية القديمة(مقالة - حضارة الكلمة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب