البنية السطحية والبنية العميقة عند ابن جني

البنية السطحية والبنية العميقة

عند ابن جني

لقد كان ابن جني رحمه الله تعالى من أكثر النحاة واللغويين العرب الذين أولوا البنية العميقة اهتمامهم وعنايتهم الفائقة، والحق أن دراسته لها جاءت في مظاهر شتى؛ ولا تتطابق مع ما ذكره شومسكي، ولكن الجوهر والمضمون متفق في معظمه. فكما قسم تشومسكي بنية الكلام إلى بنية سطحية وبنية عميقة، نجد ابن جني يقول بالظاهر والباطن، والظاهر والأصل، وغير ذلك.

وفي هذا الشأن يقول ابن جني في الخصائص: " ولا يستنكر الاعتداد بما لم يخرج إلى اللفظ؛ لأن الدليل إذا قام على شئ كان في حكم الملفوظ به؛ وإن لم يجر على ألسنتهم استعماله".[1] ونفهم من كلامه أن البنية العميقة أو الباطن غير موجودة في الواقع بل هي في الدماغ مقدرة غير ملفوظة، ويقول:" ما يقوم الدليل عليه مما لم يظهر إلى النطق به بمنزلة الملفوظ به"[2]. ويقول في المنصف:"لا ينكر أن يكون في كلامهم - العرب - أصول غير ملفوظ بها , إلا أنها مع ذلك مقدرة وهذا واسع في كلامهم[3]"، وهذا ما يمكننا اعتباره " البنية العميقة "، ويقول أيضًا في سر الصناعة:" وإذا أمكن أن تتأول اللفظة على ظاهرها لم يسغ العدول عنه إلى الباطن إلا بدليل، والدليل هنا إنما يؤكد الظاهر لا الباطن، فينبغي أن يكون العمل عليه دون غيره"[4]. ومن ذلك قوله في (باب في العدول عن الثقيل إلى ما هو أثقل منه لضرب من الاستخفاف):" اعلم أن هذا موضع يدفع ظاهره إلى أن يعرف غوره وحقيقته، وذلك أنه أمر يعرض للأمثال إذا ثقلت لتكريرها، فيترك الحرف إلى ما هو أثقل منه؛ ليختلف اللفظان فيخفا على اللسان"[5]. وهذا وغيره يمكننا اعتباره "البنية العميقة (الباطن) والبنية السطحية (الظاهر) "، وهذا يؤكد إدراك ابن جني لثنائية البنية في العربية.

ويتحدث ابن جني عن اهتمام العرب بالبنية السطحية، ويعلل لذلك؛ ومن ذلك قوله: "باب في الحمل على الظاهر؛ وإن أمكن أن يكون المراد غيره... هذا يدلك على قوة الظاهر عندهم"[6]. ويقول:" فاعرف بما ذكرته، قوة اعتقاد العرب في الحمل على الظاهر ما لم يمنع منه مانع"[7].

ويعلل ابن جني لاهتمام العرب بالبنية السطحية حيث يقول:" الدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية".[8] وقوله:" ولتحامي الإطالة ما أحذف أطرافًا من القول على أن فيما يخرج إلى الظاهر كافيًا".[9] وقوله: "وإنما العمل على الظاهر لا على المحتمل".[10] ويقول:" فالمعنى إذا أشيع وأسير حكمًا من اللفظ؛ لأنك في اللفظي متصور لحال المعنوي، ولست في المعنوي بمحتاج إلى تصور حكم اللفظي. فاعرف ذلك... "[11].

وذلك لأن: "الاكتفاء فيه بالمسبب من السبب؛ أي: لما عرفت ذلك فكرت في إصلاحه فاكتفى بالمسبب الذي هو العمارة من السبب الذي هو الفكر فيه. قيل: هذا وإن كان مثله مما يجوز، فإنه ترك للظاهر وإبعاد في المتناول، ومع هذا فإنك كيف تصرفت بك الحال إنما أوقعت الفكر في عمارة حاله، بعد أن عرفت ذلك منها، فوقعت العمارة إذًا بعد وقت المعرفة، فإذا كان كذلك ركبت سمت الظاهر فغنيت به عن التطال والتطاول" [12]. ويؤكد ابن جني قوة الظاهر، وعلل لذلك بقوله:" لما لم يظهر ذلك العامل ضعف حكمه، وصارت المعاملة مع هذا الظاهر"[13]. وهذا الكلام يتوافق مع ما يراه البنيويون التقليديون (الوصفيون).

ومن ذلك وغيره نفهم أن البنية السطحية الظاهرة قد تغني عن البحث عن البنية العميقة إذا كان المعنى واضحًا، ولأن التعامل مع البنية العميقة فيه ضرب من الحدس والتخمين، وهذا مما أخذه العلماء على أراء البنيويين التحويليين كما مر بنا [14].

علاقة البنية السطحية بالبنية العميقة عند ابن جني:

يرى ابن جنى أن البنية العميقة أقدم من البنية السطحية؛ حيث يقول: "اعلم أن واضع اللغة لما أراد صوغها وترتيب أحوالها؛ هجم بفكره على جميعها، ورأى بعين تصوره وجوه جملها وتفاصيلها، وعلم أنه لا بد من رفض ما شنع تألفه منها نحو: (هع وقج وكق)، فنفاه عن نفسه، ولم يمرره بشيء من لفظه، وعلم أيضًا أن ما طال وأمل بكثرة حروفه لا يمكن فيه من التصرف ما أمكن في أعدل الأصول وأخفها؛ وهو الثلاثي، وذلك أن التصرف في الأصل وإن دعا إليه قياس، وهو الاتساع به في الأسماء والأفعال والحروف ".[15]

ويرى ابن جني أن العلاقة بين البنية العميقة والسطحية علاقة عضوية قوية؛ ولذلك يقول: " وهذا الظاهر مماس لذلك الباطن، كل جزء منه منطو عليه، ومحيط به".[16] ويقول: " المحذوف للدلالة عليه عندك بمنزلة الظاهر".[17] ومن ذلك قوله:" ولو أظهروا هذا الفعل هنا لما أحال معنى ولا أزال غرضًا".[18] وقوله:" ومن ذلك امتناعهم من إظهار الحرف الذي تعرف به أمس، حتى اضطروا لذلك إلى بنائه لتضمنه معناه، فلو أظهروا ذلك الحرف فقالوا مضى الأمس بما فيه لما كان خلفًا ولا خطأً ".[19] وهذا ما أخذ به علم لغة النص فيما بعد، فهذا نوع من عناصر تماسك النص.

ويفهم من كلام ابن جني أن اهتمام العرب والعلماء بالظاهر أو البنية السطحية لم يمنعهم من معرفة العلاقة العضوية بين البنيتين السطحية والعميقة، وأن المعنى يربط بينهما، وأن البنية العميقة في بؤرة عنايتهم واهتمامهم، فالبنية العميقة والسطحية في نحونا العربي القديم ما هي إلا ظاهرة التقدير أو التأويل للمعنى، وذلك كثير ومشهور.

ويزيد ابن جني الأمر وضوحًا حيث يقول: " فأما إذا لم يظهر إلى اللفظ؛ وكان إنما هو مقدر في النفس، غير مستكره عليه اللفظ، فإنه لا يقبح، ألا ترى أن هنا أشياء مقدرة لو ظهرت إلى اللفظ قبحت، ولأنها غير خارجة إليه ما حسنت؛ من ذلك قولهم: "اختصم زيد وعمرو" ألا ترى أن العامل في المعطوف غير العامل في المعطوف عليه، فلا بد إذًا من تقديره على "اختصم زيد واختصم عمرو"، وأنت لو قلت ذلك لم يجز".[20] ويقول أيضًا:" يدل على قوة مراعاتهم للأصل المغير، وأنه عندهم مراعي معتد مقدر "[21].