دعوة المسنين إلى الله تعالى (دراسة تأصيلية)

ملخص الرسالة

دعوة المسنين إلى الله تعالى

(دراسة تأصيلية)

المقدمة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله[1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [الحشر: 18].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 70].

أما بعد:

فإن المتأمل في تناولات الشريعة لجميع جوانب الحياة المختلفة، يجد أنه ما من جانب إلا وأولته اهتمامًا وافيًا، ومن تلك الجوانب: رعاية المُسِنِّين والاهتمام بهم، فمن حقوق المُسِنِّين إكرامهم، ومعرفة قدرهم، ودعوتهم إلى الله، وتقوية جانب الإيمان لديهم، والدعوة إلى الله تعالى مسؤولية عظيمة تجب على جميع أفراد المسلمين، كلٌّ على حسب استطاعته، وتتوجه إلى جميع البشر، مسلمين وغير مسلمين، ولعل هذه الدراسة تفي بشيء من هذا الواجب في بيان أصول دعوة المُسِنِّين إلى الله تعالى.

أولاً: التعريف بمصطلحات عنوان الدراسة.

ورد في عنوان البحث المصطلحات التالية:

١- الدعوة.

٢- المُسِنُّون.

وسيكون بيان كل من هذه المصطلحات على النحو الآتي:

أولاً: الدعوة:

أ- معنى الدعوة اللُّغوي:

لكلمة الدعوة في اللغة معانٍ متعددةٌ، كلها تدور حول: المعاني التالية: الطلب، والسؤال، والنداء، والتجمع، والدعاء، والاستمالة.

فالدعوة: مصدر للفعل الثلاثي "دعا يدعو، دعوةً، والدعوة هي: الطلب؛ يقال: دعا بالشيء: طلب إحضاره، ودعاه إلى الشيء: حثّه على قصده؛ يقال: دعاه إلى القتال: ودعاه إلى الصلاة، ودعاه إلى الدِّين، وإلى المذهب: حثَّه على اعتقاده وساقه إليه"[2].

ب- الدعوة في الاصطلاح:

كلمة الدعوة من الألفاظ المشتركة التي تطلق على الإسلام أو الرسالة، وعلى عملية نشر الدين وتبليغه وبيانه للناس، وسياق إيرادها هو الذي يحدد المعنى المقصود، ومن المعلوم أن الدعوة بمعنى النشر والبلاغ صارت علمًا مستقلاًّ، له موضوعه وخصائصه، وأهدافه وأساليبه ووسائله، وهو بذلك يواكب سائر العلوم الإسلامية، ويفيدها ويفيد منها، ويشاركها في إفادة الإسلام برسم طريق منهجي يكفل له الانتشار والذيوع، ومن المعلوم - أيضًا - أن الدعوة بمعنى الدِّين إذا أُطلقت لا يراد منها إلا الإسلام بتعاليمه"[3]، وبذلك فإن التعريف الاصطلاحي للدعوة بمعنى النشر والبلاغ يغاير تعريفها بمعنى الدين أو الرسالة؛ ولهذا فسيذكر الباحث فيما يلي بعضًا من التعريفات التي عرَّف بها العلماء الدعوة بمعناها الأول والثاني:

الدعوة بمعنى النشر والبلاغ:

قيل: الدعوة قيامُ مَن عنده أهلية النصح والتوجيه السديد من المسلمين في كل زمان ومكان، بترغيب الناس في الإسلام عقيدة ومنهجًا، وتحذيرهم من غيره، بطرق مخصوصة"[4].

وقيل: الدعوة "تبليغ الإسلام للناس وتعليمه إياهم، وتطبيقه في واقع الحياة"[5].

وقيل: إن الدعوة إلى الله هي: "حث الناس على الخير والهدى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليفوزوا بسعادة العاجل والآجل"[6].

وهناك تعريفات كثيرة يصعب إثقال هذه المقدمة بذكرها.

والمقصود بالدعوة في هذا البحث: النشر والبلاغ.

الدعوة بمعنى الدين أو الرسالة:

قيل: إن الدعوة "دين الله الذي بعث به الأنبياء جميعًا، تجدد على يد محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، كاملاً وافيًا لصلاح الدنيا والآخرة"[7].

وقيل: إن الدعوة هي "الضوابط الكاملة للسلوك الإنساني، وتقرير الحقوق والواجبات"[8].

ثانيًا: المُسِنُّون:

أ- المسنُّ في اللغة:

استعمل العرب كلمة "المسن" للدلالة على الرجل الكبير، فتقول: " أَسَنَّ الرجلُ: كَبِرَ، وكَبِرَتْ سنُّه، يُسِنُّ إسنانًا فهو مُسِنُّ، وهذا أَسَنُّ من هذا؛ أي: أكبر سنًّا منه"[9].

كما تستخدم العرب ألفاظًا مرادفة للفظ المسن فتقول: "شيخ"، و"هرم"، و"كهل"، وجميع هذه الألفاظ تدل على كبر السن.

ب- المسن في الاصطلاح:

من المعلوم أن مرحلة المسن نسبية، وتتفاوت من فرد لآخر وقد تعددت تعريفات المسن لدى الباحثين ومنهم من يأخذ بالتعريف الآتي: "المسن هو: من تجاوز عمره الستين"[10].

التعريف الإجرائي لدعوة المُسِنِّين في هذه الدراسة:

الجهود التي يبذلها الداعية لتوجيه الدعوة لفئة مخصوصة، وهم (المُسِنُّون)؛ تثقيفًا للمسلم منهم، وإمالة لغير المسلم منهم إلى الإسلام.

أهمية الموضوع:

لقد جاء الإسلام شاملاً جميع جوانب الحياة، ومراعيًا جميع حالات المخلوقات، وخص الإنسان بكبير عناية من حين كونه نطفة، بل من قبل ذلك، وحتى بعد مماته، فقد خلقه أطوارًا، وأَوْلى كلَّ مرحلة من مراحل عمره عناية فائقة، ولما كانت مرحلة عمر الإنسان الحياتية التي يكون فيها كبيرًا في السن حساسة وتحتاج إلى مزيد عناية، فقد سبق الإسلام إلى التنبيه على ضرورة الاهتمام بها ومراعاتها، سواء من المسن نفسه؛ وذلك بالإعداد المسبق لها بالتعلم والمبادرة بالأعمال الصالحة في بواكر العمر، كما فسَّر بعض السلف الاستثناء في قوله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [التين: 6]، "فإنهم لا يَصِلُونَ إلى حالة الخرف وأرذل العمر"[11]، أو من غير المسن؛ وذلك برعايته والقيام عليه بما يصلح حياته الدنيوية والأخروية، قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [النحل: 70].

وأرذل العمر كما ذكر المفسرون هو "أخسه وأَدْونُه وآخره الذي تضعف فيه القوى، وتفسد فيه الحواس، ويختل فيه النطق والفكر، ويحصل فيه قلة العلم وسوء الحفظ والخرف، وخصه الله بالرذيلة؛ لأنه حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد"[12].

قال الإمام القرطبي - يرحمه الله تعالى -: "وقد قيل: هذا لا يكون للمؤمن؛ لأن المؤمن لا يترع عنه علمه"[13]، كما نقل عن عكرمة قوله: "مَن قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر حتى لا يعلم بعد علم شيئًا"[14].

كل ذلك يدل على أهمية تدارك المسن بدعوته إلى الله تعالى، وتبصيره بأمور دينه قبل فوات الأوان، قال صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال سبعًا، هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا... إلى أن قال: أو هرمًا مُفندًا...))[15]، ولما كانت هذه المرحلة عصيبة فلا عجب أن يتعوَّذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من عذاب القبر))[16].

وقد تزايد في الآونة الأخيرة التنادي بالاهتمام بفئة المُسِنِّين؛ لما ظهر ما يعرف بالأسرة النووية[17]، وتلاشي ما يسمَّى بالعائلة الممتدة[18]؛ مما أدَّى إلى قطع العلاقة بين صغار السن وكبارها، والتقصير في البر بالوالدين، وما ذلك إلا نتيجة للابتعاد عن تعاليم الإسلام وتوجيهاته في التعامل مع المُسِنِّين، فبذلت جهود عملية لخدمتهم، وانصبَّت تلك الجهود على النواحي المادية الصرفة، دون الاهتمام بالجانب الروحي، وهو الغذاء الأهم، والحق: أن هذا الجانب يعد من أهم الجوانب في حياة الإنسان عامة، وفي حياة المُسِنِّين خاصة؛ فكون الإنسان يعيش مرحلة القوة والجَلَد مشغولاً بالدنيا وخدمة غيره من زوجة وأولاد، وجمع حطام الدنيا، ثم يموت وهو مشركٌ، أو مقصر، أو عاصٍ لله؛ فيخسر الدنيا والآخرة عياذًا بالله - فهذه خسارة عظمى، فقد أكَّد الله هذه الحقيقة بقوله تعالى: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 1 - 8].

كما تبرز أهمية هذا الموضوع بالنظر إلى واقع كثير من المُسِنِّين اليوم، الذين كانت ظروف العيش وطلب العلم في الماضي عندهم من الصعوبة بمكان؛ مما جعل كثيرًا منهم على قدر كبير من الجهل ببعض أحكام الدين؛ فهم يحتاجون إلى الدعوة إلى الله تعالى بأسلوب ووسائل مناسبة، وتجلية ما ينبغي أن يتعلموه من الدين بالضرورة، واستئصال ما لدى البعض من مخالفات شرعية قد تقدح في العقيدة التي قد يتوارثها الأجيال.

أسباب اختيار الموضوع:

تم اختيار هذا الموضوع لأسباب عدة، يمكن بيانها في الفقرات التالية:

أ- أسباب عامة:

١- اهتمام الإسلام بالمُسِنِّين ورعايته لهم، وحثه على الاعتناء بهم؛ مما يستدعي تجلية هذا الأمر وجعله أمرًا واقعًا.

٢- التعميم الخاطئ في القول: إن المُسِنِّين لا يجدي معهم النصح ولا التعليم[19]، ومن مخاطر ذلك: الإعراض عن تعليمهم وتعلمهم أحكام الإسلام العامة والخاصة، ونصحهم وتوجيههم إلى ما ينفعهم في أمور دينهم؛ فقد أثبت كبار الصحابة رضي الله عنهم جدارة المُسِنِّين، وأهمية دورهم في مجال الدعوة إلى الله تعالى، سواء كان المسن داعية أم مدعوًّا، فالمسن يكون تأثيره الدعوي أقوى، وقبول رأيه أجدر؛ لما يمتاز به من أصالة الرأي والحكمة والتجرِبة، فإعداد الدعاة من المُسِنِّين أمر مهم في حياة الأمة؛ فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عين الاعتبار؛ حيث أعد القادة منهم كأبي بكر الصديق وعمر وعثمان رضي الله عن الصحابة أجمعين.

ب- أسباب علمية:

١- عدم وجود دراسة علمية دعوية متخصصة في هذا الجانب.

٢- أهمية المساهمة في هذا الموضوع من قِبَل الدعاة إلى الله تعالى؛ حيث إن كل من كتب حول الموضوع لم يتطرق لأمر الدعوة، مع كثرة الدراسات والبحوث العلمية الاجتماعية لهذه الفئة.

٣- ارتباط هذا الموضوع ارتباطًا وثيقًا بتخصص الدعوة إلى الله تعالى.

٤- أهمية معرفة مُعوِّقات العمل الدعوي مع فئة المُسِنِّين وسُبل علاجها.

٥- أمل الباحث أن يفيد بهذه الدراسة كلٌّ من:

أ- القائمين بالدعوة إلى الله تعالى في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد؛ حتى يتسنى لهم معرفة احتياجات المدعوين من المُسِنِّين، والمُعوِّقات التي يمكن أن تواجه دعوتهم.

ب- القائمين بتعليم الكبار في وزارة التربية والتعليم، الذين يفتقرون لمثل هذه الدراسة.

ج- القائمين بالجولات الدعوية في القرى والهجر، الذين تبعثهم وزارة التربية والتعليم لتوعية الناس خلال الإجازة الصيفية، فقد لمس الباحث الحاجة لمثل هذه الدراسة حين شارك في بعض الجولات.

د- القائمين على الجمعيات الخيرية التي تُعنى بالمُسِنِّين، فقد أبدى القائمون عليها حاجتهم لمثل هذه الدراسة.

هـ- القائمين على أمور المُسِنِّين في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.

أهداف الدراسة:

١- استجلاء خصائص فئة المُسِنِّين (الطبيعية، والدعوية)، والتعرف على احتياجاتهم الدعوية، ومراعاة ذلك عند دعوتهم إلى الله تعالى.

٢- جمع النصوص الدعوية المتعلقة بالمُسِنِّين من الكتاب والسنة ودراستها دراسة تأصيلية.

٣- بيان أفضل السبل من وسائل وأساليب تسهم في نجاح دعوة المُسِنِّين إلى الله تعالى.

٤- التعرف على مُعوِّقات دعوة المُسِنِّين إلى الله تعالى، وسبل علاجها.

فهرس المحتويات